رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري) 2


سامي الذيب
الحوار المتمدن - العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 20:55
المحور: قضايا ثقافية     

كتاب رائع يستحق القراءة
------------------------
رسالة السلوان
لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري)
----------------------------
القسم الثاني من هذا الكتاب الذي يمكنكم تحميله مجانًا من هذا الرابط
https://www.academia.edu/144829115
-----------------------------
المحشر
--------
عيناي مُثقلتان، أبذل كل ما بوسعي لأفتحهما أو حتى لأرمش بهما، لكنهما تظلان مغلقتين بإحكام وكأنهما أطبقتا بشريط لاصق يمنعني من رؤية ما يدور حولي. أحاول عبثا أن أتحرك في مكاني أو أعدّل من وضعية رقودي، لكن هيهات! فجسدي لا يطاوعني وكأنه ترك لي هذا الوعي الذي استيقظ فجأة. ماذا يحدث، ولمَ لا أستطيع أن أشعر بيدييّ أو قدَميّ؟ أكرر المحاولة، مرتين وثلاث. أحاول الصراخ، عسى أن يسمعني أحد ويأتي ليساعدني وينظر ما بي، لكني لا أقوى على الحديث. حتى الكلام لم يجد له مخرجا من فمي. لساني خانني ولم أعد أشعر بأي شيء، وكأن كل إحساس لدي قد توقف، إلا أن عقلي ما زال يعمل - وليته لم يعمل - ويدرك - وليته لم يدرك - حالتي التي لم أتمكن بعد من استيعابها وإيجاد الوصف المناسب لها. وحده عقلي كالسيف المصلت علي، لا يكف عن الوعي. فجأة، أشعر بخفة تسري في جسدي، وكأن ثقله قد انفصل عن روحي أو كأن وزني لم يعد له وجود، ثم ما ألبث أن ارتفع قليلاً عن مكان رقودي. أستمر في الارتفاع بينما يصلني صوت باب يُفتح وهمسات تتسلل قادمة من الأسفل. شعرت بالأمل واستبشرت خيرا، فهذا سمعي قد عاد للعمل وإحساس بسيط في أطرافي، وما زاد من سعادتي هو أنني بدأت أشعر بالضوء. فتحت عيني ببطء لأتفاجأ بأنني أقترب من سطح ما، عرفت لاحقا أنه سقف الغرفة. ارتفع ثم ارتفع حتى انقلبت على وجهي لا إراديا قبل أن أصطدم، لأجد نفسي معلقًا في الهواء. نظرت إلى الأسفل، فرأيت جسدًا مسجّى على سرير في غرفة ذات رائحة كريهة، رائحة الموت المؤجل. حمدت الله أنّ بعضَ حواسي مازالت تعمل.
أدركت الآن أنني في غرفة داخل مبنى قد يكون مستشفى، خمّنت ذلك بعد أن لاحظت وجود بعض المستلزمات الطبية وملاءات قديمة حول السرير، وشخصَين يبدو من ملابسهما أنهما ممرضَين. لابد وأنني أحلم، فقد قرأت مرة أن الأحلام الأكثر شيوعًا هي تلك التي يطير فيها الإنسان، وكأن الطيران رمز للحرية التي ينشدها المرء للتحرر من قيود آلامه ومآسيه. صوت صرير الباب يخترق أذني، وأنا الذي كنت دائمًا أتحسس من صوت الطباشير على السبورة. لمَ لا يصلحون باب هذه الغرفة؟ يا له من مشفى متهالك. مسكينٌ هذا المريض المسجّى هنا؛ فالجو الخانق في الغرفة يمكن أن يُمرض حتى الأصحاء. فجأة أسمع صوتًا مألوفًا. يدخل شخص ثالث إلى الغرفة، ومعه امرأة أعرفها جيدًا. إنها زوجتي! لكن ما الذي تفعله هنا؟ يتحدث معها الرجل الواقف على يسارها بنبرة باردة، ويبدو من هيئته أنه الطبيب، يتحدثان عن إزالة الأجهزة التي تُبقي المريض على قيد الحياة. تكشف الغطاء عن المريض محاولة أن تتمالك نفسها، ثم تلتفت إلى الواقف بجانبها، مما يتيح لي رؤية وجه المريض. ويا لهول ما أرى. إنه وجهي‫!‬‬‬‬‬‬‬
بقدر ما هو منظر صادم ومرعب رؤية نفسي أسفل مني، إلا أنني كنت على نحو غريب هادئًا وغير مذعور من هول الموقف ولا حتى مرتبكًا. لا أعلم لماذا شعرت بالسكينة في تلك اللحظة وكأنني متفرج لا صلة له بما يرى. ربما لأنني كنت على يقين بأنني أحلم وأدركت حينها ذلك، وكأنني في حلم شفاف. لطالما قرأت عن تجارب الاقتراب من الموت (NDE)، تلك التي يُختطف فيها الوعي إلى عالم بين الحياة واللا حياة، لكن لمْ يخطر ببالي أن أعيش يوما واحدًا منها وأكون شاهدًا عليها. هل أنا بالفعل أمرّ بهذه التجربة الآن؟ وهل هذا يعني أنني حقًا في مستشفى وأن حالتي خطيرة إلى هذا الحد؟ جسدي المسجّى على السرير وتلك الأجهزة والأحاديث الباردة المشوبة بالحذر، وقبل هذا نفسي المعلقة في الفراغ. كل شيء يوحي بأنني بين الحياة والموت. أحاول أن أرجع بالزمن قليلا للوراء وأسترجع اللحظات التي سبقت فقداني للوعي. كل ما أتذكره هو أنني استيقظت هذا الصباح، نشيطا كالعادة وتناولت قهوتي ثم ركبت سيارتي متجهًا إلى عملي، في إدارة الفعاليات الخاصة بمركز الترفيه. هل حدث شيء بعدها؟ ربما تعرضت لحادث على الطريق وفقدت الوعي ونُقلت بعده إلى هذا المستشفى؟ يبدو ذلك ممكنًا واحتماله واردٌ جدا. يزداد أنين زوجتي المسكينة وتعلو أنفاسها وهي تتوسّل إلى الطبيب بعيون دامعة ليمنحني بضع ساعات إضافية قبل أن يزيل أجهزة الإبقاء على الحياة التي تبقي على آخر رمق فيّ.
يغادر الأشخاص الموجودون في الغرفة، لأبقى وحدي. أنا مع أنا، أنا ونفسي. أنا السابح في فضاء السقف، أراقب، وأتأمل، وأتساءل مع أنا الآخر، المسجّى بصمت على السرير. أنا الذي أعي وأفكر وأندهش، مع أنا الذي لا حول له ولا حسّ. أنا الواعي بحالي، مع أنا الغائب عن حالي، أنا الذي ينظر من فوق مع أنا المستلقي في الأسفل. يا ترى من أنا ومن أكون؟ هل أنا ذلك الجسد الذي تركته ممدّدا على السرير، أم هو الشيء الذي انفصل عن الجسد ويطفو فوقه الآن كظل لا مرئي، يعيش الحدث الآني ويفكر به؟ أيُّ «أنا» هو الأصل، وأيهما الصورة؟ وأين تبتدئ الروح وتنتهي المادة؟ يقطعُ سيل تساؤلاتي صوت مواء قطة قادم من زاوية الغرفة. أراها تحت النافذة، ترفع رأسها نحوي وتحدق بي بفضول، لكن كيف وصلت إلى غرفة المرضى وهل تراني؟ يقال إن القطط ترى ما لا يراه البشر. فجأة، أشعر وكأني أهوي سريعا نحو السرير لأعاود الالتحام مع نفسي، كما لو أنني أُجبرت على العودة إلى جسد ضاق بروحي. إلاّ أن سقوطي المباغت يفزع القطة فتقفز على جسدي الممدد وتمشي على صدري كما لو كنت وسادة، ثم ما تلبث أن تقفز ثانية لتدوس بمخلبها على ماكينة ضخ المورفين، مُضاعِفةً الجرعة التي تدخل إلى جسدي. في تلك اللحظة، أبدأ بالارتفاع مجددًا ولكن هذه المرة مخترقًا سقف الغرفة إلى الدور العلوي، وأواصل الصعود. أمرّ عبر غرف المستشفى مخترقاً الطوابق واحدًا تلو الآخر، أرى المرضى المنوَّمين في حالات مختلفة ومفارقات عجيبة؛ بعضهم يضحكون وأهلهم حولهم مستبشرون، يستعدون للمغادرة بفرح وأمل، وآخرون مهمومون مغمومون، يودّعون أحباءهم بالحزن والدموع. مشاهد بين الحياة والموت، متجاورة، متوازية، لا يربطها سوى أنفاس تتردد بين الحناجر. أستمر في الارتفاع صعودا حتى أصل إلى الطابق العلوي للمستشفى، لأخترقه وأصعد نحو الفضاء، متحررًا من كل ما يربطني بالأرض.
تتقلّص معالم المدينة تحت ناظري لكني ما زلت قادراً على تمييز بعضها فيما أواصل الارتفاع. هناك المستشفى الذي صعدت منه وبدأت منه رحلتي هذه، وهناك مبنى هيئة الترفيه التي أعمل بها، وتلك مدرستي التي ارتدتها صغيرًا وحملتْ جنباتُها أولى دهشاتي بالحياة. ظننت لوهلة أن هذا هو المشهد الختامي للحلم، وأن هذه هي اللحظة التي سأستيقظ فيها وأعود إلى جسدي الذي غادرته، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، إذ ما زلت أعلو وأسبح في الهواء متحررا من كل القوانين الطبيعية وليس الجاذبية فحسب. نحنُ في شهر نوفمبر، والجو يزداد برودة كلما ارتفعت. تمنيت لو أنني التقطت معي بعض الملاءات التي كانت بجانب سريري في غرفة المستشفى كي ألتحف بها. فجأة، يخترق صوت محركات نفاثة عنان السماء، فالتفت نحو مصدر الصوت لأرى طائرة تمر كالسهم بالقرب مني وكادت أن تصطدم بي. استطعت أن أميز شعارها ولونها العنابي بل وحتى رؤية بعض وجوه المسافرين، وهم يلتقطون صورًا من خلف نوافذ الطائرة بهواتفهم ليضيفوها إلى ألبوماتهم العائلية. أظنها تابعة للخطوط القطرية. تذكرت حينها رحلة شهر العسل مع زوجتي إلى سويسرا على متن تلك الخطوط، لكنّ الحال مختلف تماماً الآن. كنت وقتها مستلقيا داخل الطائرة في جو متعادل الضغط، أتناول مشروبًا باردًا وأشاهد فيلمًا كوميديًا لهاني رمزي، بينما أنا الآن أحلق بلا جناحين وبلا مقعد وبلا مقصورة ولا حتى اكسجين، أتنقل بين طبقات من السحب الركامية في مقعد لا يمكن لأحد أن يتخيله. المنظر ساحر للغاية، وليس هناك مطبات هوائية تعكّر من صفو الرحلة، ولا أطفال يبكون في الخلف. رحلة صامته لا أعرف وجهتها ولا نهايتها.
أواصل الصعود بخفة نحو طبقات الجو العليا، مارًا بما أظن أنه محطة الفضاء الدولية وبعض الأقمار الصناعية، حتى أصل إلى حافة الغلاف الجوي وأرى استدارة الأرض بوضوح. كروية زرقاء تغلّفها هالة رقيقة كوشاح من نور. أصبح الهواء خفيفًا جدًا بل وشبه معدوم، والسكون يعمّ المكان وكأن الزمن قد توقف. استمر في الصعود وأنا انظر للأرض وهي تتضاءل لتصبح نقطة زرقاء باهتة ثم ما تلبث أن تضمحلّ. حينها يتبدل الفضاء الفسيح حولي وينكمش ليصبح نفقًا طويلًا مظلمًا، يبتلعني بهدوء فأبدأ الهبوط فيه تدريجيًا ثم أجد نفسي ماشيًا على قدميّ بعد أن كنت أسبح في الفضاء. في نهاية النفق يلوحُ نورٌ خافت كشمعة تنادي علي للاقتراب منها، أسير متردّدا نحوه وأنا أشعر بشيء يجذبني اليه. ما الذي يحدث لي؟ هل أنا ميت حقًا، وهل هذي هي روحي التي تسير بعد أن فارقت جسدي؟ ربما أن الأطباء قد أزالوا أجهزة الإنعاش عني بعد أن أقنعوا زوجتي بأن حالتي ميؤوس منها. أم أنني ما زلت أحلم؟ وإن كنت حالمًا، كيف لي أن أعي أنني ما زلت أحلم، بل وأفكر وأنظر إلى نفسي وأراقبها من خارج الحلم؟ ثم ما هو الحلم وما هو الواقع، وكيف يمكنني التمييز بينهما، وأين ينتهي أحدهما ويبدأ الآخر؟ لو كنت ميتًا بالفعل، فلماذا أجد نفسي هائمًا هنا في هذا العالم العلوي؟ هل ستعود روحي إلى قبري الأرضي الذي لم أره بعد، لأواجه فيه الملاكَين اللذين سيستجوباني كما كنت أعتقد دوما؟ تمرّ كل هذه الأسئلة بسرعة في ذهني، ورغمَ كل ذلك أشعر بنوع عجيب من الطمأنينة وأنا الذي ما كنت اظنّ نفسي متماسكاً هكذا. لعلّ ثقتي بربي وأُنسي به تفوق خوفي منه ومن مصيري المجهول. الشيء الوحيد الذي أعلمه يقينًا هو أنني مستمتع بهذه الرحلة حتى الآن، لكني لا أدرى الى متى ستظل هذه الطمأنينة والسكينة ترافقني، والى أين ستحملني خطاها القادمة؟
أصل إلى نهاية النفق لأخرج منه إلى أرض واسعة على مدّ النظر، تربتها بيضاء مشوبة بحمرة تشبه في لونها تلك التي كان والدي يرعى فيها إبله حول فيضة «برودان» قرب قريتنا الرغبة. لكن ثمة فرق شاسع، إذ لا حياة تبدو هنا. مجرد أرض جرداء عابسة كئيبة وبلا تضاريس، لا أودية ولا أشجار ولا طيور. سكونٌ ثقيل مزعج يغلّف المكان، تحت قبة سماوية معتمة، تتمازج فيها درجات الرمادي المكفهرّ ببياض باهت. أتابع السير وحدي، ثم أبدأ برؤية أناس آخرين يسيرون حولي، أفواج من الغرباء، عيونهم شاخصة نحو السماء وهم عراة تمامًا، كما ولدتهم أمهاتهم. أدرك فجأة أنني، أنا الآخر، عارٍ مثلهم. ترتفع حرارة المكان ويزداد عدد الناس من حولي، ثم تبدأ الجموع في التدافع، وكأننا في مشهد من أحد أفلام الزومبي التي كنتُ أشاهدها وأنا أتناول الفشار في صالة بيتي مستلقياً على كنبتي المفضلة. تصاعدت رائحة لهب ودخان أمامنا مع رائحة كريهة من الشواء، حلّت محل رائحة الفشار المكرملة. أحسّ برغبة شديدة في الاستفراغ لعلّني أستريح، ولكن لا أستطيع. يحاول البعض الفرار والانسحاب أو التوقف والرجوع للخلف، ولكن حرّاسًا ذوي أجنحة يرفرفون فوقنا وهم حاملون مقامع من حديد، يمنعون كل من يحاول التراجع. ينخسونهم بغلظة ليعيدوهم إلى المسار وكأننا قطيع من أغنام تُساق نحو المسلخ.
يسوقنا الحرس المجنحون بلا هوادة ويدفعوننا لنقترب من بعض، ونتراصّ لنشكّل صفوفًا متفرقة، ثم ما تلبث أن تبدأ في الاقتراب بعضها من بعض، والالتحام حتى تصير صفًا واحدًا طويلًا ينطلق بسرعة صوب اتجاه واحد. يلوح من بعيد شهبٌ من نور، لكنه ليس نورا يبعث على الطمأنينة، بل لهب ناري عرفت طبيعته قبل أن أراه من شدة الحرارة التي لفحتني، والناس حولي في فزع وهول مما هم مقبلون عليه، نظراتهم مذعورة وأجسادهم ترتجف مما هم مقبلون عليه. نتدافعُ في الصف مقتربين من ألسنة اللهب لأرى هاوية تمتد جوانبها يمنة ويسرة إلى ما لا نهاية، وكأنها وادٍ سحيق تضطرب النيران في قاعه وتتلاطم ألسنة اللهب على جنباته. حرارة اللهب تصل حتى أعلى الهاوية لتخنق الأنفاس، وفي منتصف هذا المشهد المفزع يمتد حبلٌ مشدود مبدأه من جهتنا ولا يُرى طرفه الآخر. يتقدم الصف حتى يصل الناس إلى بداية الحبل المعلّق ليتلقى أولهم نخسة من الحراس المجنحين تأمره بالعبور فوق الصراط الممدود دون أن يمنحوه فرصة للتردد. يعلو الصراخ والعويل فيما يحاول البعض التمسك بمن أمامه أو التشبث بمن خلفه، لكنّ الحراس يفرّقون بيننا ليعبر كل واحد بمفرده، كلٌّ مسؤول عن نفسه، لا رفيق ولا مُعين. تتباين الأحوال على الحبل المشدود. البعض يسير ببطء وحذر ثم ما يلبث أن يتأرجح ويهوي، بينما آخرون يسيرون بثبات وكأنهم تدربوا على ذلك من قبل، وبعضهم ينطلق بسرعة مذهلة كسيارات سباق في حلبة «الفورملا»، وهناك من تطير قدماه عن الصراط وكأنه محمول في الهواء، وآخرون يهوي بهم الحبل منذ أول خطوة.
اقترب دوري ولا مجال للتراجع. خارت قواي وسقط قلبي بين ضلوعي كطائر مذعور في قفص ضيق، واختفى أي شعور بالطمأنينة ظننت أنه رافقني سابقًا. لا ملاذ هنا ولا مهرب، ولا خيار لي سوى أن أقبل بمصيري وأسلّم بقدري المحتوم. حين جاءَ دوري، عضضت ذراعي وصفعت وجهي محاولًا الاستيقاظ من هذا الكابوس المرعب، عسى أن يكون حلمًا مخيفًا. لم تعد ساقاي تقويان على حملي وأوشكت على السقوط إلا أن الحارس دفعني بمقامعه، فانطلقت راكضاً على الحبل بخفة، على غير ما توقعت، كمن يمشي على الجمر في بعض البرامج الوثائقية التي كنت أتابعها. كان الحبل مشدودًا كأوتار العود ودقيقًا كالشعرة، حادًّا كحدّ شفرة الحلاق عبده الذي كنت أحلق عنده قرب بيتنا. لم أكَدْ أحسّ بملمسه، ورغم ذلك، لم أجرؤ على إغماض عيني خشية السقوط. أحاول ان أغمض عيني كي لا أرى ما يوجد في الأسفل من مشهد الجحيم المتأجج لكني أخاف أن أسقط. أركز نظري على الحبل فيما الكلاليب ولهيب النيران الحارقة تحاول أن تنهشني من الجانبين. تقدمت وقطعت مسافة ليست بالقصيرة، وفي آخر الطريق، بدأت أرى نهاية الحبل تلوح من بعيد كوميض أمل ينتظرني لأصل.
حين اقتربتُ من نهاية الصراط، شعرت بأن قدميّ لم تعودا قادرتين على حملي وبأن قواي تنهار، وبدأت خطواتي تضعف وتتعثر، أترنّح يميناً ويساراً، فيما حرارة اللهب المتصاعدة تلفح ساقيّ كلما أبطأت. أدركت حينها أني هالك لا محالة، وأني سأهوي في سقر. سلّمت أمري لله، مستسلما لقدري بينما من خلفي يركضون بجنون. بعضهم يدوس على كتفي أو رأسي ليتخطوني وكأني عقبة في طريقهم، وآخرون يصطدمون بي فتزلّ أقدامهم ويسقطون خلفي في اللهيب، وهناك من يحاول التشبث بي مادّين أيديهم وهم يستغيثون ليتعلقوا بي. أحاول مساعدة البعض ورفعه ليكمل مسيره حتى إذا وجدت أنه سيجرّني معه الى الهاوية أفلت نفسي وأدفعه بعيداً عني خشية أن يسحبني معه. الحبل يتأرجح وأنا أقاوم من أجل الثبات والجموع خلفي تدفعني بلا رحمة وبعضهم يحاول جرّي معه، فيما دعسات الفائزين منهم وفي نشوة النجاة تضغط على كل شبر في جسمي ليتخطوني وهم يقفزون فوقي ليكملوا دربهم وينهون المسير. من بعيد، وعلى الطرف الآخر من الصراط، لمحتُ امرأة جالسة تحت نخلة مثمرة ذكرتني بالنخلة التي زرعها والدي السارح في حديقة بيتنا، من نوع الدخيني الفاخر، ويحيط بالمرأة مجموعة من الجواري حولها وهنّ ينادينها بالصدّيقة. لم يخطر ببالي حينها أي صدّيقة سوى مريم ابنة عمران، فصرخت مستغيثاً بكل ما تبقى فيّ من رجاء:
«الغوث! الغوث! يا أخت هارون!»
رفعت صوتي بما بقيَ لي من رمق وبأقصى ما استطعت، لعلّ ندائي يبلغها وسط هذا الصراخ والعويل. رأيتها من بعيد تلتفت نحوي وهي تشير لإحدى جواريها لتنظر في أمري. وما هي إلا ثوان، حتى وقفت جاريتها عند رأسي، تسألني وأنا أترنّح من الإعياء وحرارة اللهب تكاد تسلخ باطن قدمي.
«من أنت يا هذا؟» تسأل بصوت هادئ وحازم.
أجبتها، وأنا ألهث: «أنا ابن السارح. أطلبُ الغوث من سيدتك بحق جاه ابنها النبي!»
سألتني بعد أن رمقتني بنظرة فاحصة: «وماذا فعلتَ في دنياك كي تستحق شفاعتها؟»
تردّدت قليلا، إذ لم يخطر ببالي سوى عملي في الهيئة، فقلت: «أنا من الذين قال الله فيهم: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر».
أضافت بنبرة تحقيق: «وماذا كنت تعمل بالضبط؟»
«كنت أراقب الناس. في سلوكهم وهيئتهم ولبسهم وحركاتهم وخاصة النساء. أركض بعصاي خلف الفتيات اللاتي يختلطن مع الرجال أو يبدين شيئاً من شعرهن أو طرفًا من بشرتهن لآمرهن بتغطيته، وألاحق الناس وقت الأذان، أسوقهم لأداء الصلاة في المساجد».
سكتت، ثم أدارت ظهرها وعادت إلى سيدتها. مرت لحظات بدت لي وكأنها دهرٌ كامل، ثم رجعت الجارية وعيناها لا تبشران بخير:
«بئسَ ما صنعت يا هذا. لا تستحق شفاعة سيدتي».
شعرت وكأن الصراط يوشك أن ينهار بي، وأن وسيلتي للنجاة قد تبخرت تحت حرارة اللهب. خطرت ببالي فكرة أخيرة، علّها تكون طوق النجاة. صرخت:
«مهلًا! ليس هذا كل ما كنتُ عليه. بل كان هذا ما يفعله رفقتي، أما أنا، فقد كنت مختلفًا عنهم. لم أكن قاسيًا مع من خالفني لا سيما وأني غير مقتنع بما كنت أعمل، كنت أرى الخوف في عيون الناس، وأرحمهم. أتعاطف مع من يمسكون به، وأخلي سبيله، وأسهّل له العودة إلى بيته. سترْت من استُضعف، وساعدت من تعثّر، وكم من فتاة سترت عليها وأخليتُ سبيلها دون عتاب، وسهّلتُ لها العودة آمنة الى بيتها، وكم من شاب دللتُه على الطريق الصحيح دون أن أفضحه. أقسم إن قلبي لم يكن فظّا ولا قاسيا».
عادت الجارية مجدّداً إلى سيدتها، ثم رجعت بابتسامة تنير وجهها زافّةً إليّ خبر قبول شفاعة سيدتها البتول.
تغمرني الفرحة وأنا بالكاد أستطيع الوقوف على أطراف أصابعي، فتطلبُ مني الجارية أن ألتصقَ بها من الخلف كي تحملني. رائحة جيدها أزكى من كل عطور الدنيا التي عرفت. أنستني رائحة الشواء الكريهة أسفلَ مني. أمدّ يديّي وهما ترتجفان لأمسك بها فتقع راحتا يديّي على صدرها ويخفّ رجفان يديي ليزداد رجفان قلبي بعد أن أحسست بثدييها النافرين. تنقل يدييّ فجأة الى فوق كتفيها لتطير بي عبر الصراط إلى الطرف الآخر، وتنزلني عند قدمي سيدتها البتول. جثوت أمام سيدتها الصدّيقة أقبّل الأرض بين يديها، وقبل أن أقدم شكري، سبقتني بكلماتها:
«هنيئًا لك النجاة. امضِ، فقد فُتح لك طريق إلى الجنة».