دروس في الاخلاق الليبرالية.. مقتل طفلين


قاسم علي فنجان
الحوار المتمدن - العدد: 7775 - 2023 / 10 / 25 - 20:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في العادة أكثر المشاهد المؤلمة والمحزنة في الحروب والكوارث الطبيعية هي مشاهد موت الأطفال، فهم الفئة النقية التامة وغير المسؤولة عما يجري او يحدث، سوى كانت الكوارث من صنع الطبيعة او من صنع الانسان ذاته.

عالم اليوم يبدو مضطربا جدا، فالحروب صارت سمته الرئيسية، حروب وحشية تماما، لا رحمة فيها ابدا، أسلحة فتاكة وتدميرية، حرب ليست بمناطق حدودية بين جيشين تقليديين، حرب اجتياحات وتدمير المدن، لا تفرق بين مدني وعسكري، حرب تهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، تطمرهم تحت الأنقاض، حرب منظرها مروع ومفزع.

الغرب "أمريكا-أوروبا" رسم او صنع لنفسه صورة نشرها عبر كل الوسائل "الإعلامية-التعليمية"، صورة انه النموذج للحرية والديموقراطية، وكانت هذه الصورة هي أحد أكثر الملفات التي تجعلهم يتدخلون في شؤون باقي دول العالم، فعبر بوابة الديموقراطية احتلوا بلدانا وأسقطوا أنظمة ودمروا مجتمعات بأكملها.

في الحروب المستعرة في هذا الوقت، وهي كثيرة، تتجلى بشكل واضح الاخلاقيات الغربية الليبرالية، فهي لديها معايير مختلفة بالنظر لهذه الحرب او تلك، فاذا اخذنا مثلا صراعين مستمرين الى هذه الساعة، الصراع الروسي-الاوكراني والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فرغم انهما دمويان جدا، وفيهما تهجير ونزوح، وتهديم مدن، ومناظر مؤلمة كثيرة، وهذان الصراعان فيهما كل الخيارات مطروحة، الان كيف ينظر الغرب الى هذين الصراعين؟

لنتخيل فقط رؤية مشهدين من هذين الصراعين، وهما بالفعل حدثا في الواقع: في كييف صاروخ روسي يسقط على بناية سكنية، تدمر هذه البناية، ويٌقتل من فيها ويٌطمروا تحت الأنقاض، ثم تأتي فرق الإنقاذ للبحث عن ناجين، الاعلام كله يصور الحدث، تنتشل فرق الإنقاذ طفل-ة بعمر الستة أشهر وهو وهي مدماة وتصرخ، مشهد مؤلم جداً.

ثم لننتقل للجانب الآخر، صاروخ إسرائيلي يستهدف بناية سكنية في غزة، يحيلها الى ركام، يٌقتل من فيها ويٌطمروا تحت الركام، ثم تأتي فرق الإنقاذ للبحث عن ناجين، الاعلام المتوفر يصور الحدث، يسمعون صراخ يأتي من تحت الأنقاض، يجدون بالبحث ليخرجوا طفل-ة بعمر الستة أشهر، وهو وهي مدماة وتصرخ، مشهد مؤلم حقا.

الان بعد رؤية هذين المشهدين، لنتخيل-وهو بالحقيقة ليس تخيلا بقدر ما هو واقع أيضا- كيف يتم تناول هذين الحدثين في الاعلام والسياسة الغربية الليبرالية؟

المشهد الأول: "الروس يقصفون السكان المدنيين"، "بوتين مجرم حرب ويجب محاكمته"، "هذا الطفل هو مثال واضح على همجية ووحشية وبربرية بوتين وجيشه".

المشهد الثاني: "حماس الإرهابية تتحصن وسط المدنيين"، "بايدن يبدي حزنه على مشاهد مقتل الأطفال"، "هذا الطفل هو مثال واضح على همجية وبربرية ووحشية حماس والفصائل"، "نتنياهو يطالب بمغادرة المدنيين القطاع ويطالب الجيش بتوخي الحذر".

طيب، الان هذين الطفلين كانا ضحية اعمال الحرب والتدمير، لكنهما صارا مادة إخبارية وإعلامية، تناولهما الاعلام الغربي الليبرالي بحسب البقعة الجغرافية التي يسكنانها، وحسب العرق الذي اتيا منه، وحسب الديانة التي وجدا عليهما، وحسب الجهة التي قتلتهما؛ فمثلا الاخلاق الليبرالية تنظر للطفل الاوكراني على انه قريب منهم عرقا وجغرافية وديانة، وتنظر الى الجهة التي قتلته على انها قوة شريرة استبدادية؛ من جهة أخرى، هي تنظر الى الطفل الفلسطيني على انه مشروع إرهابي، ويختلف عرقيا عن العرق النقي، وان الجهة التي قتلته هي دولة ديموقراطية ليبرالية.

هذه هي المعايير الأخلاقية التي يتبناها الغرب الليبرالي، فبلينكن يذرف الدموع على أطفال أوكرانيا في المؤتمرات الصحفية في بداية الاجتياح الروسي، لكنه هو ذاته يطالب بانزال اقصى العقاب بحق غزة؛ هو ذاته الذي يطالب بمحاكمة بوتين كمجرم حرب، وفي نفس الوقت يشد على ايادي نتنياهو وبن غفير؛ هو ذاته الذي يطالب بعدم السماح لروسيا من الافلات من العقاب على ما ترتكبه من جريمة احتلال الأراضي الأوكرانية، لكنه هو ذاته يدعم بناء المستوطنات وتهجير قطاع غزة واحتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية؛ هو ذاته الذي يقول ان روسيا تخرق القانون الدولي، هو ذاته وفي نفس الوقت يطالب من المجتمع الدولي بدعم إسرائيل للدفاع عن نفسها؛ هو ذاته الذي يطالب الروس بوقف الحرب والعدوان على أوكرانيا، هو ذاته الذي يقول بأنه من الخطأ وقف الهجوم الإسرائيلي على غزة؛ ليس بلينكن وحده ما يقول ذلك، انما هي الجوقة الليبرالية الغربية كلها.

الطفلين لم يكن لهما يد فيما جرى ويجري، ولم يعرفا ان أحدهما سوف تٌذرف الدموع عليه، ويحزن عليه الكثير، ويتحول الى ايقونة، بينما الاخر يذهب غير مأسوفا عليه، لا أحد يذكره او ينعيه، ويتمنى الغرب الليبرالي ان يموت كل اقرانه، وهم بالفعل يحققون هذه الإبادة باسم الديموقراطية وحقوق الانسان، فمرحا لليبرالية والديموقراطية الغربية.

مع كل هذا وقبله فلنا كامل الحق في ان نسأل مع هوميروس في بداية إلياذته: "من اذن من الالهة دفع هذين الى العراك"؟