الفساد، والفئة البرجوازية الكبيرة وعلاقتها براس المال الاجتماعي في العراق


مؤيد احمد
الحوار المتمدن - العدد: 7531 - 2023 / 2 / 23 - 00:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الفساد، والفئة البرجوازية الكبيرة
وعلاقتها براس المال الاجتماعي في العراق


مع احتلال العراق من قبل الدولة الامبريالية الامريكية وسقوط النظام البعثي الفاشي والاتيان بـ "سلطة الائتلاف المؤقتة" تحت إدارة الحاكم بول بريمر، ممثل الحكومة الامريكية، ومن ثم مجلس الحكم، وكذلك طوال فترة الاحتلال المباشر والحكومات المتعاقبة خلال تلك الفترة والتي تلتها ولحد الان، فان السياسة الرسمية الاقتصادية لقوى الاحتلال والتيارات البرجوازية الإسلامية والقومية الحاكمة، طوال كل هذه الفترة، تركزت على تحويل الاقتصاد الرأسمالي في العراق الى نمط اقتصاد الرأسمالية الليبرالية الجديدة (الرأسمالية النيوليبرالية) وترسيخه بشكل شامل وسريع وعميق .
اصدر بول بريمر مئة قرار اثناء فترة سلطة الائتلاف المؤقتة ومجلس الحكم، قسم كبير منها إجراءات اقتصادية لإنجاز هذا التحول في اقتصاد العراق. ان قسما من هذه القرارات لم تنفذ بسبب وجود المعارضة لها خوفا من مواجهتها برفض جماهيري، من ضمنها اصدار مجلس الحكم لـ "قانون الاستثمار الأجنبي" في 20 أيلول 2003 والذي عُرِض بموجبه "كل ما تملكه الدولة من منشآت للبيع والخصخصة...(1)" .
هذا، ولم تتردد الحكومات المتعاقبة في العراق بنقل كل ما بالإمكان نقله الى العراق مما نفذتها البرجوازية الامريكية والغربية من السياسات والقوانين والإجراءات في ميدان توطيد الرأسمالية النيو ليبرالية الممولة (Neoliberal financialised capitalism) في بلدانها وعلى صعيد العالم خلال اكثر من عقدين قبل احتلال العراق؛ من ضمنها تجارب خصخصة الصناعات والخدمات الأساسية العامة، الغاء القيود على أسعار البضائع، إرساء استقلالية البنك المركزي، إصدار قانون المصارف، فتح "البنوك الإسلامية"، تقليص ميزانية النظام التعليمي والصحي العام والخدمات الأخرى الأساسية وكسر قوة النقابات والمنظمات العمالية ونضالاتها الموحدة.
وفي هذا السياق،" تم العمل وبشكل ممنهج على فتح السوق العراقيى على مصراعيه لاستيراد جميع المواد الزراعية والصناعية من أول يوم للاحتلال تحت ذريعة توفير البضائع للعراقيين، بالتزامن مع زيـادة الرواتب وخلق ٰمفاهيم استهلاك وتحويل المجتمع الى مجتمع استهلاكي. ولتثبيت الاقتصاد الريعي لم تتم فيه اية محاولة لتأهيل وإعــادة تشغيل المشاريع الاقتصادية الصناعية والزراعية والخدمية..... وأصرت الحكومات العراقية المتعاقبة على منع الاستثمار الحكومي في تأهيل مشاريع القطاع العام ..(2)".
فضلا عن ذلك، عملت السلطات عمدا على خلق الازمات فيما يخص توفير الدولة للخدمات الأساسية من الماء والكهرباء والصحة والتعليم العامين والخدمات الاجتماعية، وذلك كجزء من حملة نشر الأوهام والدعاية السياسية لتبرير خصخصة المؤسسات الحكومية التي تقوم بتقديم هذه الخدمات.
لم تتوقف الحكومات العديدة التي شكلتها أحزاب وقوى النظام السياسي القائم من حكومة اياد علاوي الى حكومات الجعفري والمالكي والعبادي وعبد المهدي والكاظمي، وسوف لن تتوقف حكومة محمد شياع السوداني الحالية كذلك، عن هذا النهج وتطبيق هذه السياسات، لا بل حاولت كل واحدة منها وستحاول الحكومة الحالية أيضا، تعميق وتوسيع مديات هذه السياسات.
ان الأحزاب البرجوازية القومية الحاكمة في إقليم كوردستان بدأت بتنفيذ السياسات النيو ليبرالية الاقتصادية حتى قبل اسقاط النظام، ولكن لم يكن بإمكانها تطويرها بشكل واسع وشامل إلا بعد ان فُتِحت الأبواب على مصراعيها لتقاسم عائدات النفط، على أساس المحاصصة الطائفية والقومية، والنهب الفاضح للحصة الخاصة بالإقليم من قبل الحزبين الحاكمين الفاسدين الميلشياتيين الـ بارتي والـ يه كيه تي.
ما تجدر الإشارة اليه هنا هو ان قوى النظام استمرت في تنفيذ تلك السياسات خلال جميع المراحل والأوضاع السياسية والأمنية المأساوية التي مر بها العراق؛ اثناء معارك القوات الامريكية والحرب الطائفية والعمليات الإرهابية وحرب داعش واحتلالها لثلث أراضي العراق. وكل ذلك بالتنسيق الممنهج وبالرضوخ لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين الرامية لإزالة العوائق امام رأسمالية السوق الحرة في العراق و"إعادة هيكلة الاقتصاد" وفقها.
استمرت قوى النظام وداعميها من الدول الإمبريالية الغربية ومؤسساتها الدولية بـ حملة "إعادة هيكلة الاقتصاد" تلك طوال العقدين الماضيين، وطرحت ونفذت سياسات ومشاريع قوانين وآخرها "الورقة البيضاء" بهذا الخصوص. كما وشنت ولا تزال هذه القوى ومدافعو راس المال والرأسمالية، من أحزاب المعارضة القومية والدينية والنيوليبرالية وحتى قسم مما يسمي نفسه باليسار، وكذلك التيارات الفكرية البرجوازية ومثقفو هذه الطبقة، وبشكل متزامن مع هذا الهجوم لـ"إعادة هيكلة الاقتصاد"، حملات دعائية متواصلة مناهضة للاشتراكية والمساواة الاقتصادية بين المواطنين. كل ذلك وهم يتذرعون بكون الموديل او النمط الاقتصادي النيوالليبرالي هو النمط الاقتصادي السائد والناجح عالميا، وبكون "النظام الاشتراكي" قد فشل في تحقيق النمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية للسكان. من المعلوم انهم كانوا ولا زالوا يقصدون بذلك نظام "رأسمالية الدولة" للكتلة الشرقية والنظام البعثي في العراق.
بدأ المشاورون الاقتصاديون الرسميون للنظام وذلك القسم من خبراء الاقتصاد البرجوازيين المتشبعين بروح الخنوع لسياسات وموديلات الاقتصاد الرأسمالي النيو ليبرالي، بالتطبيل لهذه التحولات الاقتصادية الرأسمالية النيو ليبرالية وهذه الحملات لإزالة العوائق امام السوق، وبالتالي امام راس المال الخاص وحركته كي تكون غير مقيدة بالضوابط. فماذا سيحصل من وراء تراكم راس المال ونمو الاقتصاد الرأسمالي في العراق بهذا الشكل و وفق هذا النمط الغارق في الفساد من آثار اجتماعية مدمرة؛ من افقار وازدياد رقعة البطالة وتدهور الرفاهية المعيشية والصحية والتعليمية والثقافية لغالبية السكان، لم ولن تشكل شيئا يبعث على القلق لديهم، وذلك لان الصورة الوردية السائدة لدى هؤلاء، او بالأحرى الصورة التي يريدون ان يوهموا بها الجماهير، بخصوص نمو الاقتصاد الرأسمالي، خالية من التناقضات، وهم يريدون ان يفهّموننا بان هذا النوع من النمو الاقتصادي نفسه كفيل بان يتغلب، وخلال آلية السوق واطلاق ايدي راس المال، على الآثار "السلبية" الاجتماعية التي تتمخض عن هذا النمو.
وفيما يخص الفساد المستشري في كامل بنيان النظام المحاصصاتي وآثاره المخربة على الاقتصاد وعلى تدمير معيشة غالبية السكان، فهؤلاء الاقتصاديون الرأسماليون يرونه كعوارض ثانوية يمكن التغلب عليها، اذ هم يعتبرونه مرض قابل للعلاج مع مرور الزمن وعبر تحقيق النمو الاقتصادي الرأسمالي وتوطيد اركان رأسمالية السوق الحرة.
ان حجتهم في ذلك هي ان الرأسمالية وقاعدتها الاجتماعية من البرجوازية المتوسطة "ديمقراطية"! بطبيعتها، لذا سيوفر هذا النظام الاقتصادي آلية للمحاسبة؛ اذ ستضع السلطات "المنتخبة من قبل الشعب"! حدا لهذا المرض. فهم يبررون الرأسمالية النيوليبرالية، والفساد والهجوم الاقتصادي المدمر على معيشة ومقدرات الانسان في العراق الملازمين لها، باستخدام نفس هراء وخرافات البرجوازية الامبريالية والليبرالية ومدافعي الرأسمالية العالمية المعاصرة، وبدون التطرق الى ما خلقتها هذه الرأسمالية، وباعتراف قسم من الاقتصاديين البرجوازيين انفسهم، من ازمة كارثية باتت تهدد غالبية البشرية بسبب وسعة الفقر المدقع والحرمان وعدم المساواة الأسطورية بين الانسان والحروب والدمار وصعود الفاشية وحدوث كوارث بيئية مهلكة.
لاتزال ذكريات امرار قانون خصخصة انتاج النفط وبيعه حية في اذهاننا حينما حاول البرلمان العراقي، أي ما يسمى ببرلمان "المنتخبين من قبل الشعب"! سنة 2018 إمرار هذا القانون من خلال تأسيس "شركة النفط الوطنية" والذي بموجبه يتحول انتاج النفط وبيعه الى "شركة وطنية" تُحوِل 90 بالمائة من إيراداتها الى الدولة بشكل ضريبة وغيرها من الطرق الملتوية النيو ليبرالية لخصخصة انتاج النفط. هذا القانون الذي فشل بريمر ان يمرره في حينه اغتنم البرلمان العراقي، وبعد 15 سنة، الفرصة كي يمرره من جديد. لقد رفضته المحكمة الاتحادية بذريعة عدم دستورية القانون ولكن وبالأساس نتيجة خوف هذه المؤسسة وقوى النظام من ان يؤدي تطبيق القانون الى احتجاجات جماهيرية واسعة.
خلاصة القول، انه تم شن اكبر هجوم على أوضاع ومعيشة الجماهير في العراق خلال العقدين الأخيرين عن طريق السياسة الاقتصادية الرسمية للنظام وحكوماته المتعاقبة التي لسيت سوى السياسة الاقتصادية النيو ليبرالية وذلك بهدف إرساء النمط الاقتصادي النيو ليبرالي؛ أي ذلك النمط وتلك السياسات التي دمرت اقتصاديات مجتمعات وبلدان كثيرة ونفذت اكبر هجوم على معيشة ورفاهية البروليتاريا العالمية. لقد ظهرت الرأسمالية النيوليبرالية العالمية منذ البداية في السبعينات من القرن الماضي للرد على ازمة النظام الرأسمالي نفسه آنذاك حيث استهدفت تشديد اضطهاد الطبقة العاملة والحط من رفاهية ومستوى معيشة هذه الطبقة واخضاعها لآليات السوق وتقليص دور الدولة في تقديم الخدمات العامة المجانية للمواطنين وكسر قوة الاتحادات والنقابات العمالية.

الاستراتيجية الاقتصادية للبرجوازية
وعامل النضال الطبقي
ان الشيء الأهم في كل هذه المسارات الاقتصادية هو تشخيص عنصر النضال الطبقي فيها. من المعلوم، ان الاقتصاد على العموم والاقتصاد الرأسمالي على وجه التحديد، ليس منفصلا عن علاقات الطبقات والتناقض الطبقي والنضال بين هذه الطبقات، وبالتالي ليس منفصلا عن توازن القوى الطبقية في كل طور من اطوار عملية تطور الرأسمالية. ان البرجوازية العالمية والمحلية والمدافعين عن مصالح هذه الطبقة وممثليها لا يدخلون النضال بين الطبقات كعامل في رسم السياسة الاقتصادية والمشاريع الاقتصادية سوى بالشكل الذي يريدون ان ينظموا به هذا النضال ويتحكموا به. انهم ينظمون ويأطرون النضال الطبقي الدائر بين العمال والرأسماليين وبين العمال والدولة في اطار قوانين الملكية البرجوازية أولا، ومن ثم من خلال قانون العمل بهدف خلق أجواء مناسبة لعملية اضطهاد العمال او ما يسمونه هم "عملية الاستثمار". هذا بالإضافة الى مؤسسة الدولة بأكملها والتي هي، ومن حيث الأساس، أداة اضطهاد الطبقة البرجوازية الحاكمة ضد الطبقة المضطهَدة.
لذا نرى ان البرجوازية الحاكمة ومستشاريها الاقتصاديين والبنك وصندوق النقد الدوليين يحسبون الحساب في خططهم الاقتصادية للصراع الطبقي ويدخلون عامل النضال بين الطبقات في استراتيجيتهم الاقتصادية. لذا نراهم يستمرون في العراق باستخدام قانون النظام البعثي الفاشي في منع العمال من تشكيل النقابات في القطاع الحكومي من جهة، ومن جهة أخرى، يقومون بتأطير هذا الصراع والنضال وتنظيمه من خلال قانون العمل الحالي المعمول به. بالرغم من ذلك استطاع قسم من الناشطين العمال النقابيين في العراق ان ينجحوا في إدخال بعض الفقرات لصالح العمال في القانون وذلك بالرغم من مقاومة ممثلي النظام.
ومما تجدر الإشارة اليه هنا ايضا، هو انه وبسبب ميلان كفة ميزان القوى الطبقي بين العمال والبرجوازية لصالح الأخيرة في إقليم كوردستان بدرجة كبيرة، فان البرجوازية القومية الحاكمة هناك والغارقة في العداء للاشتراكية والحركة العمالية، ليس فقط منعت ولا تزال تمنع تشكيل النقابات المستقلة العمالية، بل حتى لم تنفذ قانون العمل الذي تعمل به الحكومة المركزية. حكام الإقليم يحاولون بدل ذلك فرض قانون عمل خاص بالإقليم مطرزا وفق متطلبات البرجوازية الكردية وبالأخص البرجوازية الميليشية الفاسدة الحاكمة وراس المال الأجنبي و"استثماراته" في الإقليم والمضادة حتى النخاع لمصالح العمال.
كما هو معلوم، فإن احد التبريرات الأيديولوجية التي كانت البرجوازية العالمية ومختلف مدافعو وممثلو الرأسمالية النيو ليبرالية يبررون بها الهجوم المنظم والمتواصل على الطبقة العاملة ومنظماتها النضالية والنقابية، هو إزالة كل احتكار امام آليات السوق، وبالأخص منع تدخل الدولة والنضال الجماعي للعمال ونقاباتهم في هذه الآلية؛ وهم يحرضون ضد دور النقابات والنضال الجماعي للعمال بهذه الصورة المخادعة أي يعّرفون النضال النقابي كاحتكار يعيق عمل السوق الحرة لبيع العمال لقوة عملهم "كأفراد احرار" وينشرون الأوهام في صفوفهم وصفوف السكان تمهيدا لفتح الطريق لتنفيذ قوانينهم المضادة للعمال ونقاباتهم.
في العراق، لم تحتاج قوى الاحتلال والتيارات البرجوازية الحاكمة الى بذل جهد كبير لإيهام المجتمع وجماهير العمال واقناعهم بخططهم الاقتصادية المعادية للعمل النقابي والنضال الجماعي المنظم للعمال، اذ ان النظام البعثي قد انجز لهم هذه المهمة قبل ذلك عام 1987 وذلك بإلغاء العمل النقابي في المنشئات والمؤسسات والصناعات الحكومية بذريعة تحويل العمال الى موظفين. علينا ان لا ننسى ان النظام البعثي كان من السباقين في تنفيذ السياسات النيو ليبرالية في أواخر الثمانينات في العراق من خلال خصخصة بعض المشاريع الصناعية الحكومية ومنع العمل النقابي في القطاع العام ولكن في ظروف وأوضاع سياسية واقتصادية وعسكرية مختلفة آنذاك.
وعليه، لم يعد ضروريا لقوى الاحتلال والنظام الحالي ان تقوم بشيء غير استمرار العمل، بدون أي خجل، بقانون النظام البعثي وابقاءه في استراتيجية ترسيخ آليات السوق والرأسمالية النيو ليبرالية، وبالتالي منع أي عمل منظم نقابي او نشاط جماعي للعمال في القطاع الحكومي، مع ما يترتب عن ذلك من معاقبة الناشطين العمال في القطاع الصناعي والقطاعات الخدمية على أي احتجاج ونشاط منظم يقومون به ضد نهب وبيع الشركات وتسريح العمال وغيره من الإجراءات التعسفية ضدهم. وهذا ما ينسف ببساطة حجج القوى الحاكمة والمدافعين عن نمط الاقتصاد النيوليبرالي في العراق حين يقولون بان الرأسمالية "ديمقراطية" ! وهم، في الوقت ذاته، ينفذون قوانين الفاشيين المضادة للعمال لإرساء "الرأسمالية الديمقراطية "!.

الفئة البرجوازية الكبيرة
وراس المال الاجتماعي والتحول النوعي في علاقة الاقتصاد بالسياسة
في الوقت الذي كان العراق يعيش دوامة مآسي الاحتلال والاقتتال الطائفي والعمليات الإرهابية وصراع الميليشيات، ويتحول بشكل متزايد الى ساحة لحسم الصراعات الجيو سياسية والعسكرية والجيو اقتصادية بين الدول الامبريالية والإقليمية المختلفة، بالأخص أمريكا وايران، ظلت الجماهير تعاني من مآسي هذه المسارات السياسية والعسكرية والأمنية. ففي خضم هذه المسارات ومآسيها باتت معاناتها تشتد اكثر فاكثر بسبب الفقر والمرض والعوز واتساع رقعة الاُمية وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية وازدياد البطالة وقلة الخدمات الاساسية بسبب سياسات الدولة الاقتصادية والتحولات الاقتصادية الرأسمالية النيو ليبرالية التي شهدتها البلاد .
بشكل متزامن وكوجه آخر "للعملية السياسية" ونفس هذه المسارات تمخض نظام سياسي عسكرتاري وميليشي في البلاد تحت حكم الأحزاب والقوى الميليشية للإسلام السياسي الشيعي بالدرجة الأساس تشاركهم فيه الاحزاب القومية الكردية الميليشية وقوى التيار القومي العربي في المناطق الغربية. ونتيجة عشرين عاما من النهب المنظم لثروات البلاد وتوزيع عائدات النفط بشكل أساسي فيما بينهم وفق نظام المحاصصة وعبر آليات توزيع الحكم وإدارة شؤون الدولة على ايدي تلك الأحزاب والتيارات الحاكمة، ظهرت بشكل متزامن فئة برجوازية كبيرة عميقة الجذور وذات شبكة معقدة من المحيطين بها داخل النظام وعلى صعيد المجتمع. ان هذه الفئة التي هي أساسا من أوساط القراصنة السياسيين وأصحاب الميليشيات والمتنفذين في السلطة وقادة الأحزاب وعوائلهم وحواشيهم من الرأسماليين الكبار يملكون الان، ليس الملايين من الدولارات بل عشرات المليارات من الدولارات تربط فيما بينهم مصالح طبقية رأسمالية عميقة بالرغم من النزاع المستمر بينهم على مستوى السياسة والولاء لهذه او تلك من القوى الدولية والإقليمية والصراع على تقاسم الثروة والسلطة.
تحيط بهذه الفئة من البرجوازية الكبيرة شبكة واسعة من الوكلاء والرأسمالين الاخرين من كل شاكلة ولون يأخذون بأيديهم جل مفاصل الاقتصاد الرئيسية والمشاريع الاقتصادية الحكومية. ان عمليات غسل الأموال وسرقة المليارات وتهريبها لدعم النظام في ايران او استثمارها من قبل هؤلاء بعد ان يتم غسلها في عملية معقدة من معاملات خارجية وداخلية، باتت تأخذ ابعادا خطيرة قل مثيلها في عالم الفساد ومهددة للمجتمع ورفاهية الجماهير بشكل كارثي.
ان استثمارات الطغمة الحاكمة وحواشيها في ميادين تنفيذ العقود والمشاريع الحكومية المدنية والعسكرية والتجارة الخارجية و الداخلية او غسل الأموال عن طريق تنفيذ مشاريع العقارات والمولات والاستثمارات في الخدمات والصناعات والاتصالات والنقل والقطاع الزراعي داخل العراق وبالارتباط مع الوكلاء، وكذلك وبشكل فاضح الاستثمار المالي في البنوك والمؤسسات المالية المحلية والعالمية، جعلت تخلق ليس فقط أصحاب أموال محدودين بل فئة رأسمالية كبيرة. هذه الفئة باتت تستثمر في القطاعات الاقتصادية المختلفة واصبح دوران راس مالهم وحركته وتراكمه يتجلى بوضوح تام ويتجسد كراس المال التجاري والصناعي( الزراعة والاتصالات والنقل يعتبر جزء من الصناعة) والمالي.
ان القاعدة الاجتماعية لراس المال وحركته لا تنحصر في هذه الفئة من البرجوازية الكبيرة انما تتفاعل وتتشابك مع راس المال الموجود على صعيد المجتمع، الذي ينتج نصف "الناتج القومي الإجمالي" للبلاد، في الميدان التجاري والصناعي والمالي.
الخوض في تفاصيل هذه العملية المعقدة من حركة راس المال وتراكمه وتحولاته النوعية في السوق المحلية وارتباطاتها العالمية يحتاج الى القيام ببحث اقتصادي مفصل مدعوم بالإحصائيات والذي هو خارج هدف واطار هذا المقال.
ما اريد ان القي الضوء عليه هو نتائج ما تمخضت عن عملية التحول الاقتصادي الرأسمالي ونمطه النيو ليبرالي في عموم العراق خلال عشرين سنة الماضة من نشوء فئة رأسمالية كبيرة من أوساط قوى النظام، والتأكيد على ان هذه الفئة تحتكر مفاصل الاقتصاد وترتبط فيما بينها بروابط وثيقة عابرة للتقسيم "المكوناتي" الطائفي والقومي، دع جانبا اندماجها براس المال المحلي الناشط في القطاعات الاقتصادية المختلفة. ان المصالح الاقتصادية الأساسية التي تربط هذه الطغمة الحاكمة، افسحت المجال واعطت الامكانية لاحتواء الصراعات التي تنشب بين حين وآخر فيما بين اجزائها المكونة لها، كما راينا ذلك في الصراع بين جناحي النظام أي الصراع بين الصدريين وقوى الاطار او بين البارتي و الـ يكيتي او الصراعات فما بين القوى القومية والطائفية الأخرى المؤلف منها النظام.
ان القاعدة الاجتماعية لراس المال والطبقة الرأسمالية واسعة ومتجذرة ووطيدة داخليا، كما وان عملية اضطهاد الطبقة العاملة في عموم العراق عبر استثمار راس المال في مختلف النواحي الاقتصادية مستمرة وبدون توقف. ان الأموال المسروقة من خزينة الدولة والمتحولة الى رؤوس أموال في الاقتصاد لا تشكل جسما غريبا في تركيبة راس المال الاجتماعي على صعيد المجتمع انما تشكل الجزء المحتكر الذي بإمكانه إيجاد علاقة من نوع خاص مع الرأسمال الخاص في مختلف القطاعات الاقتصادية والدخول في دوران راس المال بوصفه الجزء الاكبر من راس المال الاجتماعي على صعيد البلاد. من المعلوم، ان راس المال لا يحاسب نفسه من اين اتي تراكمه الاولي فيما أذا اتى باللصوصية او القرصنة او نهب عائدات النفط كي يتحول الى راس مال مستثمِر.
ان الفساد والرأسمالية النيو ليبرالية في العراق متشابكتان بحيث لا ينفصل الواحد عن الاخر لذا فإن تأثير الفساد ودور الفئة الرأسمالية الكبيرة التي تمخضت عنه في تركيبة راس المال الاجتماعي لا يغيران شيئا جوهريا من خصائص الرأسمالية في العراق من حيث كونها نظام طبقي متناحر.
ان النظام الاقتصادي الموجود والسائد في العراق هو النظام الرأسمالي وذو نمط الاقتصادي النيوليبرالي، وما يمنح شكلاً مشخصا للنظام الرأسمالي هذا هو حركة رأس المال في سوق يعيد فيه رأس المال الكبير، المستحوذ عليه من حيث الأساس، إنتاج نفسه بشكل منظم بالارتباط مع السلطة ومشاريعها الاقتصادية والعسكرية والسياسية ويؤمن لنفسه موقعا احتكاريا في سوق رأس المال والصراع بين اجزاءه المختلفة التي يتكون منها رأس المال الاجتماعي. يدور هذا الصراع حول توزيع فائض القيمة المنتجة وكذلك الكامنة والمنتجة في المستقبل، على صعيد المجتمع، فائض قيمة تُنتج من خلال اضطهاد الطبقة العاملة في عملية "استثمار" رأس المال في مختلف الميادين الاقتصادية في السوق الداخلية للبلاد بالأساس وتوزع فيما بين رؤوس الأموال المختلفة على شكل الربح في الصناعة والتجارة وشكل ريع في العقارات والفائدة في العمليات المالية.
كل هذا يعني أن جوهر الرأسمالية في العراق هو نفسه جوهر الرأسمالية في أي بلد آخر، أي أن رأس المال الاجتماعي في العراق ليس سوى علاقة تناحرية واستغلالية بين راس المال والعمل على صعيد المجتمع ككل وبالتالي بين أصحاب راس المال والطبقة العاملة، وان لجميع فئات راس المال الاجتماعي سواء كانت كبيرة او صغيرة مصلحة مشتركة في اضطهاد الطبقة العاملة. وعليه، فإن الحديث عن رأس المال "الوطني" و"غير الوطني"، والمنتجات "الوطنية" و"غير الوطنية"، وفي نهاية المطاف شعار "الوطنية" و"النضال الوطني" لا معنى له بالنسبة للطبقة العاملة باستثناء خصائصها الطبقية البرجوازية وبوصفها مفاهيم مصممة لتضليل النضال الطبقي المستقل والموحد للعمال وللمضطهدين وللحيلولة دون تبنيهم مفاهيم الاشتراكية والأممية البروليتارية.
ان التحولات الاقتصادية النيو ليبرالية، فتحت الأسواق امام منتوجات الدول المختلفة، وبالأساس ايران وتركيا، دمج اقتصاد البلاد بحركة راس المال العالمي واستثماراته المتنوعة، وبالأخص في مجال انتاج وبيع النفط والغاز وانتاج الطاقة والاتصالات والمواد الانشائية وغيرها، وكذلك ضخ عائدات بيع النفط الهائلة في خزينة الحكومة المركزية وإقليم كوردستان والتي هي اكثريتها ريع، تشكل بمجملها تحولات اقتصادية متعددة الابعاد والتي خلقت اندماج راس المال المحلي بحركة راس المال العالمي وعواصفها المختلفة ونظامها المالي بشكل اكثر جذرية و وسعة مما سبق.
على أثر هذه التطورات والتحولات الاقتصادية، فان العلاقة الديالكتيكية بين الاقتصاد والسياسة واقصد هنا العلاقة بين النظام السياسي القومي والإسلامي والواقع الاقتصادي الرأسمالي النيوليبرالي الذي يحافظ عليه ويحميه هذ النظام، بات يتخذ شكلا آخرا وطورا متقدما يمكن تسميته بتحول نوعي بحيث يؤثر العامل الاقتصادي على النظام السياسي بشكل مباشر وبصورة اكثر وضوحا من ذي قبل، أي يؤثر على إعادة انتاج النظام السياسي الحالي وبنيانه المحاصصتي والتقاسم الطائفي والقومي بشكل منظم.
بعبارة أخرى، بعد ان تمت التحولات الاقتصادية النيو ليبرالية عن طريق النظام السياسي وقوى الاحتلال، فقد وصلت هذه العملية اليوم، وبعد عشرين سنة من هذه التحولات، الى طور اخر اعلى، ومتقدم وهو اعتماد النظام السياسي اكثر فاكثر على الواقع الاقتصادي الجديد وحتى استناد عملية إعادة انتاجه على هذا الواقع الاقتصادي. باعتقادي، ان تراجع الصدريين ومشاريعهم الشعبوية غير المتطابقة مع مستلزمات حركة وتراكم راس المال بشكله المشخص الحالي في العراق، وتوفر الاحتياطي المالي الهائل للدولة نتيجة زيادة انتاج النفط والسعر المرتفع الحالي للنفط، هما من العوامل التي اسرعت بتحقيق هذا التحول النوعي في علاقة الاقتصاد بالسياسة. لاشك، بان هذه التطورات تحققت بالرغم من التعقيدات الجيو سياسية والصراعات الايديولوجية الدينية والصراعات على تقاسم الثروة والسلطة وبالأخص بين الصدريين والاطار المستمرة بأشكال مختلفة.
القاعدة الاجتماعية لرأس المال داخل أي بلد لها بعد عالمي حيث ان رأس المال المحلي مرتبط بحركة رأس المال العالمي. وفي هذا السياق، تتمتع البرجوازية في الصراع ضد البروليتاريا، في اي بلد ومن ضمنه العراق، بالقوة الاجتماعية العالمية لرأس المال، خاصة عندما تريد البروليتاريا التحرر منه بشكل ثوري. تنعكس هذه العلاقات العالمية المترابطة والمتشابكة لراس المال في الصراعات الدائرة في السوق العالمية وفي السياسات الجيوسياسية والاستراتيجية والحربية، والتي تعاني البشرية المعاصرة على اثرها اشد المعاناة.

السمة الطبقية العمالية للنضال الثوري
ففي ظل هذه الأوضاع والتحولات الاقتصادية والاجتماعية باتت جماهير الطبقة العاملة المفقرة والمهمشة تتعرض لتأثيرات انخفاض سعر صرف الدينار العراقي امام الدولار الامريكي وبالأخص في الآونة الأخيرة، وأصبحت تلمس بلحمها ودمها، وعلى حساب تدني مستوى معيشتها ورفاهيتها، الآثار الاقتصادية للفساد والرأسمالية النيو ليبرالية في البلاد. لقد أصبحت هذه الجماهير، وتحت ضغط الواقع، مجبرة كي لا تستغني عن الخوض في تفاصيل معنى سعر صرف العملة ودور النقود وتهريب وغسل الأموال في الاقتصاد الرأسمالي.
بالرغم من تركيز ابحاث البرجوازية في التعامل مع الاقتصاد من باب حسابات الربح والخسارة وكلفة الإنتاج وغيرها من المقولات والمعادلات الرياضية الاقتصادية وتعقيدات الرزم والموديلات المالية وغيرها من الامور التكنيكية الاقتصادية، يبقى الاقتصاد السياسي مرتبطا بالصراع الطبقي ضمن أي تشكيلة اقتصادية اجتماعية رأسمالية في أي بلد كان.
ان ميزان القوى الطبقية بين البروليتاريا والبرجوازية يشكل عاملا مهما في تحديد سمات الوضع الاقتصادي والمعيشي بالنسبة لجماهير العمال والكادحين والمفقرين. ان السياسات النيو ليبرالية لم تأت بسبب أفضليتها الاقتصادية للنمو و"تنمية" المجتمعات وما شابه ذلك من الأكاذيب التي تنشرها البرجوازية العالمية، بل أتت نتيجة ازمة راس المال والنظام الرأسمالي العالمي، ولمصلحة تقوية وتزايد تراكم راس المال. وفي العراق تم فرضها عن طريق الاحتلال وقوى النظام كونها سياسات اقتصادية مطرزة لفرض نمط معين من الاقتصاد الرأسمالي.
ان تغيير توازن القوى الطبقي بين العمال والبرجوازية الحاكمة لصالح الأول، هو الكفيل بالرد على ما تفرضه الرأسمالية النيو ليبرالية من بؤس ودمار على الطبقة العاملة. ان تنفيذ السياسات النيو ليبرالية وفرضها على العمال والكادحين، رافقه وسيرافقه على الدوام، توجيه الضربات المتتالية للنضال الطبقي الموحد للعمال والجماهير المفقرة، فلا يمكن الرد على هذه الهجمات المنظمة للبرجوازية الحاكمة سوى بالمزيد من الاصرار والثبات على الدفاع عن المصالح الطبقية المستقلة للعمال وتوحيد وتقوية صفوف النضال بوجه الطبقة الحاكمة. وهذا ما يؤثر على تغيير المسارات الاقتصادية ويعدلها لصالح طبقة الشغيلة والمحرومين بالرغم من بأس البرجوازية الحاكمة.
لكل طبقة من الطبقتين الاجتماعيتين الاساسيتين في المجتمع الرأسمالي، أي البرجوازية والبروليتاريا، بديل اقتصادي مختلف. ان بديل البروليتاريا الاشتراكية العالمية هو اسقاط راس المال، الغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، تحرير العمل الاجتماعي من الشكل المقيد الذي يتخذه في المجتمع الرأسمالي كراس المال، وإعادة ثمرة قوة العمل الى المنتجين الاحرار المباشرين المتعاونين ضمن آليات مجتمع مبني على حرية الفرد والمساواة الاقتصادية بين الافراد.
ان الصفاء الحاصل في العلاقة بين الطبقات في العراق والاستقطاب الطبقي المتزايد على أرضية التحولات الاقتصادية والاجتماعية الرأسمالية النيو الليبرالية فيه خلال عقدين من الزمن، وتفاقم التضاد المضطرد بين مصلحة العمال والكادحين وغالبية الجماهير وبين الطبقة البرجوازية وقواها وتياراتها واحزابها الحاكمة القومية والإسلامية، لابد وان يؤثر على سمات النضال السياسي الثوري في المجتمع عموما.
وعليه فلم يعد ذلك ممكنا بالنسبة للشبيبة الثورية أن تحقق الانتصار على البرجوازية الحاكمة ونظامها السياسي الميليشي والفاسد اذا بقى نضالها السياسي، حتى وان يكن راديكالي وثوري، في فلك السياسة المجردة والتحولات الفوقية السياسية بمعزل عما يجري من صراع بين الطبقات في العراق، وبدون الدفاع عن وتامين استقلالها الطبقي بوصفها شبيبة عاملة وجزء من طبقة اجتماعية لها بديلها ونضالها الاشتراكي.
كما وان الحركة النسوية التحررية والمرأة العاملة والكادحة في نضالها الطبقي ونضالها ضد الاضطهاد المفروض عليها لابد وان تؤمن استقلالها الطبقي كامرأة عاملة وجزء من نضال اجتماعي وطبقي اشتراكي كي تنتصر.
ان تطور الصراع الطبقي للعمال والكادحين نساء ورجالا، الذي لا يتوقف في المجتمع البرجوازي وأي تغيير جدي لميزان القوى بوجه البرجوازية الحاكمة لصالحهم وفرض الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية عليها سيفتح الطريق امام المزيد من التطور على المسيرة النضالية التحررية وتقوية أفق وبديل التيار الاشتراكي داخل صفوف جماهير العمال.
وعلى هذا الطريق فقط سيكون بإمكان الأفق الاشتراكي والاممي البروليتاري والحركة الاشتراكية لهذه الطبقة ان تكون قدوة المسيرة التحررية للصفوف الواسعة لمجمل الجماهير المحرومة والتحررية في العراق لكسب الحرية والرفاهية والمساواة، والخروج من المأزق الذي يواجه المجتمع في ظل الرأسمالية وممثليها الاسلاميين والقوميين. 8/2/2023
_____________________________________________________________________________________
1) رأسمالية الليبرالية الجديدة( النيو ليبرالية) -فؤاد قاسم الأمير – حزيران 2019 -ص 27
2)المصدر نفسه ص 28