رواية (ماركس العراقي) ح 12


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6803 - 2021 / 2 / 1 - 00:26
المحور: الادب والفن     

وأنا أتناول فطوري البسيط بيضتان وكأس شاي ورغيف من خبز أمي تذكرت شيخي عبد أبو عيون الذي يفخر جدا عندما ينادونه بــ (ماركس العراقي)، لم تنتهي حياتك معي فكل ما سمعته منك وتعلمته دون أن تلقي علي محاضرة أو تكتب كتابا لنقرأه يحضر معي رغم المسافة الزمنية الطويلة، قال في يوم م الأيام وهو يحاور جدي...
هو _ يا سيدي لو كان الإنسان على قناعة دائمة أن التاريخ ليس هو ما نعرفه حتما فهو ذكرى تعيدنا في كل مرة لنفس النقطة التي تهرب منها، التأريخ الحقيقي وهو ما لا نعرفه ونكتشفه فجأة دون مقدمات ملتفا بعباءة الحاضر.
جدي _ وما يعني ذلك؟...
هو _ عندما نبني بيتا ونحن على علم مسبق بالصورة التي يكون عليها ونعيش مرحلة البناء لحظة بلحظة، تقولون عنه أنه تأريخ البناء، الحقيقة هذا ليس تأريخا كما أفهم، التاريخ تلك النقاط التي لم ندركها في مرحلة ما من البناء فتتحول إلى مشكلة لا يمكن إصلاحها.
جدي _ ولكن التاريخ يا رجل هو ما مضى من الزمن يحمل الحدث للماضي ويرينا وجهه كما هو.
هو _ هذا تاريخ الحدث الذي يصنعه الزمن أنا أتكلم عن تأريخ الإنسان من حيث هو كائن عاقل أي تأريخ العقل حين يكون حاضرا فقط دون أن يختبئ بعباءتي وعباءتك.
جدي _ لا أفرق بين الأثنين.
هو _ أنظر للناس اليوم لو كانوا يعقلون تأريخ الزمن ما كرروا ذات الخطأ في كل مرة ويقولون التاريخ يعيد نفسه، التاريخ بالحقيقة زمن تركنا ومضى حيث يتراكم، أما فعل الإنسان الذي يكرره فهو تلك الزوايا التي لا يمكن أن يراها حين تحدث في الزمن ولا يعير أهمية لها إلا عندما تعريه وتخرجه محرجا أمام نفسه.
في وقتها قد أكون فهمت شيئا بسيطا مما دار بين الرجلين أما الآن وبعد يوم كئيب حزين عرفت أن أخطائنا هي تأريخنا الذي نحاول الفرار منه، هذه الفكرة داهمتني فجأة وكأني أكتشفت جزء من تاريخي (خطأي) أنا حين أيقنت أن تكون ذا عقل فأنت تدرك حركة الوجود وتسطرها في صفحات ذاكراك وكأنها منجز، على أي حال علي الآن أن ألحق ما تبقى من محاضراتي قد أحضر أثنان منها إن أسرعت وتركت هذا الخبط والخلط في صباح يوم أخر لا يفترق عن أمس ولا يختلف في التفاصيل.
طارق الذي يبحث عني وجدته ينتظرني في باب القاعة مستغربا تأخري هذا اليوم، دخلنا وقد سبقنا الأستاذ للمحاضرة وجلس كل منا على مقعده، كان الدرس تحديدا في تأريخ القانون بدأ من التدوين الأول وأنتهاء بعصر النهضة، كنت أود أن أطرح نظرية ماركس العراقي على الأستاذ وأقول له أن تأريخ القانون هو بالذات تلك الجوانب المظلمة والظالمة التي لم يستطيع لا القانون ولا الأديان ولا حتى الفلسفات أن تدركها بوقتها، وها هي تطل علينا كل يوم لترسم تأريخ العدالة الأعوج، كتبت السؤال والجواب ولكن تذكرت زميلي عبد الحسين فمن المؤكد أن يجرنا الحديث فيه للظلم والمظالم، صرفت ذهني عن الفكرة ومزقت الورقة ووضعتها في جيبي.
أنتهى اليوم وأنتهت مكابداتي بين مزاح ساخر وتشتيت للزمن وبي رغبة لأملأ الجو صرخا وألعب كالأطفال بكل حرية هنا في حرم الكلية وأقول يا زميلاتي وزملائي أكتشفت أخيرا قانون أو نظرية سموها ما شئتم تقول (أن الحرية أن تفعل الخطأ أو الصح بلا معيار ولا مقياس جاهز، كل شيء مرهون بزمانه ومكانه وحال الناس، أتركوا وجوهكم التي تلبسوها صباح كل يوم وأخرجوا هكذا عراة بدون أقنعة، فالحياة أقصر من أن نتحايل فيها على أنفسنا لنرضي أخرين هم أيضا محتالون على أنفسهم)، كان هذا حديثي مع طارق وفهم مني أني أعاني من هلوسة نتيجة حدث ما، سألني ما بك... لم أرد واعطيته الورقة الممزقة ليقرأها جيدا.. أرتبك طارق ودسها في جيبه وقال أنت تحتاج إلى جلسة شاعرية أعزم حالك عليها اليوم وعلى حسابي في نادي نقابة المعلمين، وافقت فورا وسألته هل هناك خمرة.... قال ولا تحلو السهرات بدون خمرة تعمر الرؤوس بالأفكار.
هذه المرة الأولى التي أجلس فيها في مكان عام محترم وله تقاليده والجو الخاص، مساء وبعد رحلة قصيرة للطوبجي ومنها للوشاش مشيا حيث نقابة المعلمين في المنصور كان حديثنا نحن الإثنان عن نظرية ماركس العراقي (عبد أبو عيون)، كلمته عن الرجل الذي كان، الرجل الذي فجر في مجتمعه الرغبة في أن يكون كباقي المجتمعات يملك الحرية في التعبير كما يملك الحرية في أن يختار سيده وشيخه وكبيره، طارق نموذج للشخص الذي يسمع جيدا ويحاور حين يحتاج لحوار أو جواب، سألني لماذا بالذات هذا الرجل سكن عقلك دون الكثير من الذين مروا في حياتك، قلت لا أعرف ولكن ما أظنه أن الرجل كان أكبر من أن يكون ماركس العراق ربما يكون فيلسوف أو مصلح قتله سوء أختيار الزمن له.
ثملت بشكل مؤكد وصرت لا أعرف الكلام من أين يبدأ ومتى ينتهي فهذه المرة الأولى لي مع تجربة الخمر والسكر والثرثرة الفارغة، قال لي صديقي لا يمكن أن تذهب للقسم الآن نام هذه الليلة عندي ونذهب غدا صباحا للدوام كالمعتاد، كان في داخلي صوت يقول نعم لا بأس وافق فليس هناك وقت أخر لتثرثر أكثر وتخرج المارد الحزين من داخلك، في عالم الخمر تفتح النفس كل سجونها وتخرج الأسرى المعذبون وحتى سجانيهم من طورهم المعتاد، لا بأس نعم سأنام الليلة عندك ولكن بشرط أن تسمح لي أن أثرثر براحتي، وهو كذلك قال ولكن إياك أن تنتهك خط بارليف أو تجتاز جدار برلين فنحن من دول عدم الأنحياز ولا يسمح لنا لا بالحرب ولا بالسلام، ذكرتني بالحرب لقد سلبت مني ما كنت أظنه حلم فوجدته مجرد كابوس لا يملك الأقدام ليبعد عنا..... ولكننا في الحرب ننتصر... قلت وأنا بالخمرة الآن سيد المنتصرين من الأولين والأخرين.
تماما الساعة تشير إلى منتصف الليل والكل نيام دخلنا من الباب الخارجي التي تؤدي إلى غرفة الضيوف حيث جلست أتفرج على مكتبة صديقي، برودة الجو في الخارج ونسائم البساتين التي تهب بين الحين والأخر لطفت من ثمالي وبدأت أعي من جديد ما أنا عليه، أحضر طارق فراش النوم وسألني إن كنت بحاجة لأكل أو أي شيء، شكرا لك صديقي أنا من عادتي لا أحب أن أثقل على أحد ولا أريد أن أسبب لك الإزعاج أو الحرج مع أهلك، قال لا يهم لن تكون الأولى ولا الأخيرة البيت بيتك وسنلتقي مجددا كلما سنحت الظروف، قبل أن يغادر قال ما رأيك أن نذهب غدا إلى سينما بابل تعرض فلما جميلا وددت أن نشاهده معا، كان مسرورا عندما وافقته ومضى وأنا بين الفراش أحاول أن أستعيد كل ما فعلته في سهرة الليلة.
صحيح أني لأول مرة وجدت أن الصعلكة أحيانا دواء لواقع يرفضني وأرفضه ولكن مع سعادتي بالذي حصل كنت اسأل نفسي ماذا لو لم ينتهي الوضع الذي لا نريد وأدمنت الطريق الجديد؟ هل يعد هذا أنتحارا معنويا؟ أم يمكنني الرجوع متى ما شئت الرجوع؟ أسئلة تدور في ذهني وأنا أستمع مرة لحديث النفس ومرة أستمع لأستاذتي الدكتورة واثبة التي تلقي محاضرتها علينا، أحاول أن أجد أجوبة وأحاول أن أفهم الدرس فهذه الأستاذة التي نحرص جميعا على حضور درسها بكل أندفاع ورغبة حقيقية، تشعرنا أن العلم هو من يصنع الإنسان حين يكون عقلك راغب به وساعي له، زميلتي التي نقلت مقعدها لتكون قرب رياض ترمقني بنظرات لا أستطيع أن أخمنها أو أعرف مدلولاتها، ولكنها قد تكون نظرات عتب أو لوم أو حتى فرح بحبيبها الجديد.
اليوم هو الثلاثاء وغدا هو أخر أيام الحضور الجامعي كالعادة وبعده أستراحة (أوف) وموعدنا عصرا عند الساعة الثالثة والنصف مع سينما بابل والفلم المنتظر، بدل أن نقطع جزء من المسافة مشيا، قررنا الذهاب بالباص إلى ساحة النصر ومن هناك نكمل المسافة المتبقية مشيا حتى لا يفوتنا الموعد أو تنفذ التذاكر، فعلا كان الزحام شديدا وما زال هناك نصف ساعة من وقت العرض، حصلنا على تذاكر بشق الأنفس ودخلنا الصالة وصوت فريد الأطرش في رائعته الربيع.
أخذتنا موسيقى الأغنية إلى عالم أخر جميل ترف حد الهذيان، فأطربتنا وكأننا بين غابات جميلة نطل على بحيرة البجع التي شاهدت جزء من تلك الباليه الجميلة من على شاشة تلفزيون بغداد في برنامج السينما والناس، من تلك الليلة أحببت الأدب الروسي والسينما التي ترجمت هذا الإبداع اللا منتهي في روعته، أخبرت طارق عن اقتراحي لو تعرض بعض الصالات هنا بعضا من تلك الأفلام، كالحرب والسلام وأنا كارنينا ووداعا بطرسبورغ وغيرها في الشهر مرة ولو ليوم واحد، قال قوانين السوق لا تسمح فهؤلاء مالكي الصالات جزء من البرجوازية التي يهمها الفن من أجل المال وليس الفن من أجل القيم... بدأ العرض وساد الصمت الصالة إلا صوت الموسيقى التصويرية وحوار أبطال الفلم.
اليوم الأخير لم يكن غير عادي فكل شيء رتيب وممل وإحساس بالضيق والغربة بالرغم من صعلكتي التي أتخذتها منهجا واللا أبالية التي رسمت لنفسي حدودها، ولكن لا شيء محدد يضايقني ولا شيء يمكنه أن يدخل الفرحة إلى نفسي، بالأمس أشتريت رواية فكتور هيجو البؤساء لتكون معي نهاية الأسبوع لعلي أنتهي منها سريعا خلال الأيام التالية، حتى طارق أعترض على شرائها وفضل أن أقرأ رواية العقب الحديدية لجاك لندن قد تؤسس لي رؤية أخرى غير ما كنت أقرأ مسبقا، فقط الاسم هو من جعلها قريبة مني فقد أكون زعيما للبؤساء في يوم من الأيام هذا ردي مع قليلا من السخرية التي يحبها صديقي أن أرد بها على طلباته، فهو يعرف أن السخرية لا تعني إهانة لأحد بقدر ما يقول هو أنها جزء من ردة فعل رافضة للواقع المر الذي لا نقبله كما لا نستطيع أن ننفذ من خلاله، السخرية والتهكم يقول كلاهما تنفيس داخلي لضغط الذات على ذاتها.
وصلت عصرا للبيت والوجوه تترقبني الجارات والجيران والمحل الذي أخرجناه من مقدمة البيت مغلق ليس على العادة، تقدم أحد جيراني أبو فلاح وقدم لي التعازي دون أعرف ما حدث، سألته عمن يقدم التعازي، قال لقد أستشهد أبن عمك وقد ذهبت العائلة منذ الأمس إلى العرب، تجمع بعض الشباب والنسوة يسألوني عن عمره وكيف أستشهد ولماذا لم يخبرك أحد، دوار رهيب أصابني وأخذتني العبرة سريعا وقد كنت أخشى أن يكون طالب هو المقصود، أكد لي أحد الشباب ذلك وقال أنه ذهب مع أهلي يوم أمس وعاد صباح اليوم، اتكأت على أحد الجدران وسلمت كتبي وأغراضي إلى أبو فلاح وعزمت العودة سريعا إلى المدينة ومن هناك أذهب، يا للخسارة الكبرى ... يا للضيم لقد سرقت الحرب خيرة شباب الوطن الشجعان.... جاءت سيارة دون موعد فأكتريتها وسلمت على الجميع بدموع لا تنقطع.
في الطريق حاولت أن أجد أي خطأ فيما نقل لي قد يكون المقصود ليس أبن عمي وزوج أختي فهناك الكثير من أولاد العم وأقاربي في الجيش، لكن كلام عبد الأمير كان واضحا وصريحا إنه أبو ميثاق طالب الفرحان الجاسم، هو... خو نهم هو ومن يكون غيره لا أظن أنه أخطأ في التسمية فهو يعرفه شخصيا وتعرف عليه عندما كان يزورنا في الإجازة الشهرية، كان لي رغبة شديدة أن أفعل أي شيء غير معقول أو خارج ما متعارف عليه، أيضا كنت أرغب بتحطيم ما تقع عليه يدي، هل كل أختيارات الحياة تأتي بالخطأ لتضعنا في دائرة الخطيئة، يا ليتني لم أكن موجودا في هذا الزمن الذي يجري بتخبط شديد لا يعرف ماذا يريد ولا يحسن الأختيار دوما.
قبيل المغيب وصلت بيت عمي وكان الجميع هناك من أعرف وممن لا أعرف لكن الوجوم والحزن الحقيقي سيد المكان، الحزن الذي هد أركان القرية رجالا وشبابا رأيتهم كأعجاز نخل من فرط الألم، كان الشهيد أبو ميثاق واحدا من أطيب شبابها لم يأت بمخزية ولم يقترف حتى صغيرة من الصغائر، أشبه بملاك بشري هادئ الطباع أليف جدا ودود وكأنه بلسم الجراح الصعبة، هكذا يرحل بدون مقدمات ولو أن القول بعدم وجود مقدمات ضرب من التغابي فالحرب المشتعلة هناك هي أم وأب كل المقدمات، لم أستطع أن أتمالك نفسي وأنا أدخل المكان لأعزي الحاضرين ويعزوني، فالموقف أكبر من قضية موت شخص قريب أو محب، القضية لماذا يموت الناس هكذا بالجملة وقواد الحرب في مأمن مما يخشون، وبالأخر هم من سيتقلدون نياشينها ويفتخرون ببطولات الموتى.