حروب الباز


بدر الدين شنن
الحوار المتمدن - العدد: 5751 - 2018 / 1 / 8 - 13:06
المحور: الادب والفن     

سألني زميل معتقل سابق ، باحث في الآ حلام ، وعلاقتها بالماضي ، والواقع ، والمستقبل . ، إن كانت أحلامي ، ما زالت تدور حول ظروف السجن ، وهل أتوقعها في الظروف الراهنة .
قلت له :
- ما زالت كل ليلة ، تأخذني إليها ، او إلىى ظروف ما قبل السجن المؤلمة أيضا . سيما في ظروف الملاحقات الأمنية ، التي طاولت آلامها العائلة . وما زلت أحلم بهم ، أنهم كما تركتهم .. صغاراً .. ضعافاً .. قلقين .. مذعورين .
أجابني :
- أنا بدأت التعامل منذ زمن ، مع أحلام تتعلق بواقعي المعاش الآن .
استغربت حديثه معي عن الأحلام . ورجعت لأحلامنا التي كنا ، نصفها ونفسرها ، بأنها جزء تعسقي من عقوبة السجن ، لا نفع مادياً لنا بشيء ، ولا تعكس غير القلق والهواجس ، والاحتمالات الخاوية .
ثم جاءت الحرب ، التي فرضت على بلادنا منذ سنوات . وفرضت علينا أحلاماً جديدة ، كأنها جزء من هذه الحرب .

بعد انقضاء مدة لابأس بها على الحديث مع الزميل ، فوجئت ذات صباح ، بمعاناتي من أحلام الليلة الما ضبة ... المختلفة ، عن آلاف مؤلفة من أحلام النوم .. وأحلام اليقظة .. في أيام السجن وما بعده . وفكرت أن أفهم أحلامي الجديدة ، وإعادة بناء ما أذكره منها ، وربطها بمصير ولدي ، وحفيدي ، والأقرباء الذين فرقتهم الحرب .
***
أحد ولدي مع عائلته الصغيرة في حلب .. يتنقل غيها من حي مضطرب إلى حي آمن .. وأحياناً يذهب إلى الريف .
وولدي الثاني الأكبر قليلاً ، هاجر إلى مدينة عينتاب التركية .
والأقرباء مشردين داخل البلاد وخارجها .
ورغم أنها مجرد أحلام ، فإنها ذكرتني بلتي في بلد أجنبي بعيد . ولابد لي لأصل إلى ولدي ، من أوراق لثلاث دول متباعدة .. والدروب إليها صعبة وطويلة ومكلفة .
وتوقفت عن التفكير حين اقتحم حلم آخر الحلم الأول .. وأشار إلى وسيلة اتصال خيالية .. مجنونة .. لا تحدث إلاّ بمعجزة ، ولمن لديه خلفيات نوعية في ما ضيه وتاريخ حياته ، التي تكتنفها صلات مع أوساط مثيرة ولافتة . وحاجته الشديدة المعني بها ، هي امتداد لعقيدة مهيبة .. وعمق مأساته يستدعي التعاطف الحارق .
ولما يكون له ارتباط بتلك الخلفيات ، يكون حكماً مشتركاً ببناء المعجزة . ، والتعامل معها بما يشبه السحر لكن أول شيء عملي فيها ، هو ينبغي .. التركيز .. والتماهي .. في شخصيه وشجاعة وكبرياء الباز . وقراءة نصوص البدايات ، والثوابت الخاشعة في تركيبها التاريخي المعقد ، واستلهام تجاربها وإرشاداتها . فهي تتعامل مع التاريخ الخاص والعام ، ومع واقع مشحون بالأخطار والصعوبات ، وتعمل بالقصد والاحتمال . .
***
خلف هذا كله قبيلة عريقة . عندها إمكانات ذات حضور تاريخي .. وشعبي .. وروحي مبارك .. وسياسي ، يؤثر في بنيتها ومحيطها . وفي الشدائد يؤثر في مصير مصر . وقد تجلى ذلك في الحرب الفرنسية على البلاد المصرية ، قبل نحو مئتي سنة ..
وقد استدعت هذه الحرب العدوانية ، شهامة القبيلة ، ونخوة أبنائها ، الذين هبوا مع قوى شعبية وقبلية أخرى ، للقتال إلى جانب أخوانهم المصريين .. ومصر الحبيبة .
ورداً على ذلك ، حمّل الفرنسيون القبيلة مسؤولية كبيرة ، وفرضوا عقوبة الطرد من مصر على عدد كبير من أبنائها .
ويقال أن أهل القدرات الروحية الخاصة في القبيلة ، قد استخدموا صلاحياتهم وأسرارهم الروحية النوعية ، وحولوا مفاهيم الشباب وخبراتهم القتالية إلى أطوار كبيرة ، تمت تسميتهم على إثرها بالبازيين . ليدافعوا عن أنفسهم ، وليهاجروا أقوياء حيث يشاؤون .
بعد أسابيع قليلة ، وصلت مجموعة من البازيين المصريين إلى مدينة حلب ، مستخدمين أحدث وأفضل ما لديهم من أدوات . وبدأوا على طرف المدينة .. جنوب القلعة .. قرب .. باب المقام .. ببناء مقامات سكنية للذين سيلحقون بهم مهاجرين ، بوقت ليس ببعيد .
***
وأقاموا أحياء " المغازلة " نسبة إلى شيخهم الجليل " مغازي " . وأقاموا " زقاق النخلة " نسبة إلى النخلة التي زعوها وسط الحي . وأقاوا " الثلاث بوابات : أي ثلاث أزقة . وقد بهت السكان القريبين منهم ، لسرعتهم ، وخبراتهم . وهؤلاء هم الذين سموا الساحة بين الأحياء ، بساحة البازات .. أو ساحة بزة ..
وفي تلك المنطقة ، مع توالي السنين ، ولدت جذور مجتمع وافد ، تكامل مع من كان مقيماً قبله .. وولدت بازات جديدة .. وقد شاركت مع الأيام مجتمعي البازي المتجدد ، في كل الصعد المتاحة . وحاولت حيث استطعن أن أكون .. متقدماً .. منتجاً .. ومحبوباً. وقد وجدت نفسي منذ صغري ، أتحرك مشاركاً ، في الوسطين النقابي والسياسي . وعرفت في هذين الوسطين ، كيف تبذل الجهود .. والتضحيات .

لكني لم أعرف ، أن هناك مجالات مستغلة مجرمة ، من الصعب تجاوزها بلا ثمن ، أو سلطان . ولابد فيها من مواجهة خصوم لئام ، في الداخل والخارج ، هم طامعون بثروات وأرض البلاد ، التي قد تسل إلى الحروب ، والدمار ، والدماء ، والخسائر الي لا تعوض .
ومن أسوأ ما يتأتى عن الحروب ، عدا التدمير والقتل ، هو التهجير ، والهجرة ، والنفي ، والتشرد ، وتمزيق المجتمع ، والضياع .
***
ولأنه من المؤكد ، أن الأحلام ورموزها ، في نوم أناس من جذور مختلفة .ز لا ترى بازاً واحداً .. ولا تجد رجاء مميزاً .. وإنما إلى حد ما ..
متشابهة . عدت إلى عدد من ملاحظات علم النفس .. وتفسير الأحلام .
ومنذ أ اطلعت قي عدد من الكتب النوعية .. والقصص الشعبي .ز. على أسطورة .. وسطوة الباز .. العملية .. والروحية . صرت أكابد الصعوبات ، في فهم حركة الباز ، الحاملة لشتى الأوصاف ، والأسماء ، والأفعال .. والصعوبات التي قد تحول دون رؤيتي لأبنائي وأحفادي .وأقربائي . وخاصة ابني الأصغر و ولدبه ..الذي كون أسرة وأعد نادياً رياضياً .. ، وابني الأكبر الطموح فبي التعامل مع النص المعبر ، والكلمة الخفيفة الظل . .
وقد تصل هذه الصعوبات ، وأولها ذات الصلة بمنفاي النائي التعيس ، حد الموت قبل السبطرة عليها ..

ولذا علي .. بتصميم .. وكبرياء .. وأداء .. الباز .. أن أخوض دون أوهام الأحلام .. والجري وراء المعجزات الناقصة .. أن أخوض حروبي الثلاث .. المنفى .. وتفكك الائلة وتشتتها .. وحرب الوطن ضد العدوان .