- الانفجار


بدر الدين شنن
الحوار المتمدن - العدد: 5654 - 2017 / 9 / 29 - 11:49
المحور: الادب والفن     

من صراخه المفجع المفاجئ .. .. في سيارة الإسعاف .. وبكائه الشدسد .. ومن برودة وارتجاف جسده .. يتبنين أن هذه الحالة التي يمر بها نديم .. لاسمكن حتى هو .. الذي تعرض لزمن من التعذيب الجهنمي المتوحش .. واستطاع أن يخترقه .. ويحافظ على كرامته .. وعلى الكثير من إرادته ..أن يصف عنده الحالة ، ومفاجأتها ، وأن يحدد مسبقاً متى ستحدث ، وماهي محدداتها وخلفياتها بالضبط .

لقد كان انهياراً شديد الصراخ والألم والارتجاف . وأكثر الأمكنة التي أصابها الانهيار كان الراس وأحدث فيه إلاماً ، أشد وحشية من أية آلام أخرى . وأجبر قادة التفكير عنده على الجمود ، أو والتوقف .. وأفلت الإحساس بالمشاعر نحو مركز الصوت في كتلة الأعصاب في الرأس ..

ذهل المرافق في سيارة الإسعاف مما يشاهده أمامه .. وكأنه عملية إعدام أمامه . وسيطر عليه الصمت كالخرس.. بعد أن كان يمازح زوجة المريض ، ليخفف عنها . وأخبر إدارة المشفى المتجه إليه بما يحدث ..و عجز عن أن يشرح معنى هذا الذي يحدث .

أما الزوجة . التي أصاها الرعب .. والحزن .. والارتباك . فكان تقوقل لنديم .. وتكرر قولها .. نديم ماذا يحدث لك .. ولم تكن تملك تلك القدرة .. لتفهم حالة نديم .. التي بدلته من إنسان هادئ .. إلى إنسان خاضع إلى انهيار .. إلى انفجار جنوني .. يتخلله صراخ فظيع .. وبكاء متواتر الشهيق الحاد .. كأن آلة تفتك به .
ومع اقتراب سيارة الإسعاف من المشفى الذي نقلوه إليه .. بدأ نديم يهدأ .. ويئن .. ويواصل البكاء . وراحت زوجته تستغيث بالله .. وتمسح الدموع عن وجهها ، ووجه نديم .
والمرافق يجهز ما ينبغي أن يفعله ، لتسليم المريض ، إلى الجهات المعنية في المشفى .

وضعوا نديم على سري ، وأغلقوا الستائر حوله . وحضر عدد م ن الأطباء والممرضات ، مصطحبين معهم أدواتهم الطبية . واللا فت أن من حضر من الأطباء ، ومن معداتهم الطبية ، أنهم قادمون من قسم الأمراض القلبية ، والمكان الذي وضع فيه نديم هو قسم القلبية . وبا ذلك أن هذا من الطبيعي ، لأن الطبيب في المشفى الأول الذي ذهب نديم إليه وقعت أزمة نديم القلبية أمامه . مما اضطر لعدم الاختصاص ، إحالة نديم إلى قسم القلبية ، ومن ثم إلى مشفى آخر مختص بأمراض القلبية . ومن سوء ءحظ نديم ، أن تهاجمه أزمة عصبية نفسية ، في سيارة إسعاف ، لأول مرة بهذا العنف ، إضافة لمعاناته من الأزمة القلبية . ومن ثم إحالته إللا المشفى الآخر . فأخذ أطباء المشفى الآخر العلاج ، متجاوزين حالته العصبية . والنفسية .

كتب طبيب يتردد عليه نديم منذ سنوات .. منذ أن استقر لاجئاً . وأطلع هذا الطبيب جهات عدة على وضع نديم الصحي في بلده الأصلي .
كتب يقول .. لقد تعرض المريض نديم في بلاده ، إلى ضربات قوية على رأسه ، تسببت له بحالة مرضية دائمة . وهي تتفاقم وتنفجر غي حالات تعرضه للظروف الصعبة .. والأحداث المؤلمة المثيرة . وينبغي تجنبه هذه الحالات .. ومتابعة العلاج بصورة دائمة .

بعد أن تلقى نديم يعضا لعلاج .. واستراح قليلاً .. اختلطت عليه الأمور . إنه ذهب للعلاج لدى طبيب الداخلية .. فحدثت له قبل أن يقابله أزمة قلبية حادة . وفي الطرق لعلاج الحالة القلبية ، حدث معه انهيار عصبي ونفسي . وفي مشفى القلبية ، لم تعالج أمراضه الداخلية . ولم يلتفت إلى ما جرى له في سيارة الإسعاف من حالة عصبية شديدة الألم، ولافتة لمخا طرها في الأيام القادمة .

لكن ما أزعجه ، وتمنى الأخذ بعلاجه ، هو وضعه الصحي والنفسي . الذي كشف انفجاره في سيارة الإسعاف الفظائع الكامنة في سيرورة حياته . وأثارت اعتقاده الراسخ ، منذ أن تعرض لها ، أثناء التعذيب ، أنها ستكون البركان الكامن .. الذي سينفجر يوما ما .. وسيقتله . وقد كان طوال أكثر من ثلاثة عقود يكابد تراكماته البائسة وآلامه .. التي تتأتى من ظروفه في بلاد عامة .. وفي المنفى خارج البلاد .. وهاجس العودة ، للمشاركة في التغيير نحو الأكفأ والأفضل
وترسخت الغربة والمنفى .. ودخلت البلاد في نفق مديد مظلم . وانغرزت سكاكين العدوان والإرهاب ، والخيانة ، في الجسد الوطني ، وانتشر الخراب والدمار ، والهجرة والتهجير . وتكالبت دول بالعشرات لافتراس الوطن وتقاسمه ، واستجرت معها الانفصاليين والانتهازيين والخونة . وبعد سنوات من الحرب والعدوان والإرهاب ، فتحت التحولات الإرهابية العدوانية لحرب داخلية وخارجية جديدة . ومع هذه التحولات فتحت جراح نديم ، وتمزق الجسد وانفجر بداخله قلبه .. وأعصابه .
ولما استطاع سرد ما مضى من تناقضات وصراعات وعذابات وكوارث .. أدرك أنه ليس له أن يفعل شيئاً .

وأمده الأطباء ببعض الأدوية .. الفاقدة الصلاحية في التأثير بعوامل الانفجار القاتل .. وأرسلوه إلى المنزل .. لعلعه ينصفهم بما فعلوه به .. كما ينصف نفسه بما لا يستطيع أن يفعله لبلده .
-لكنه تمسك بالأمل .. بدحر العدوان .. واستعادة ما سلب .. واسترداد الكرامة .. من خلال الشياب .. من خلال الجيل المتفاني وسط الدمار والنار .. ويطلقون الانفجار المعاكس المدمر للعدوان والمعتدين ..
هكذا يفكر نديم في أيامه المريرة المتوالية.. ويحلم الآن .. ويتحرك لعل الحلم .. يصير حمماً .. يصير نهرا حارقاً .. للعتاة والطغاة .