الرسالة الأخيرة


بهاءالدين نوري
الحوار المتمدن - العدد: 5089 - 2016 / 2 / 29 - 19:31
المحور: سيرة ذاتية     

الرسالة الأخيرة
- 1 -
القسم الختامي من مذكرات بهاءالدين نوري-
( الجزء الثاني غير المنشور) ينشرهنا في ثلاث حلقات
يطيب لي أن أوجه لكم هذه الرسالة، أيها الناس الطيبون أينما كنتم من سطح كوكبنا, وأياً كانت انتماءاتكم القومية والدينية والفلسفية والسياسية ولون بشرتكم، وقد يكون ما أقدم عليه هنا عملاً غير مألوف، إذ من أنا حتى يحق لي توجيه رسالة إلى الناس في كل العالم؟ غير أن تطور العولمة، بخطى متسارعة قد نقل بعض ما كان غير مألوف بالأمس إلى عداد ما يصبح مألوفاً اليوم؟
إن قاطني كوكبنا يختلفون عن بعضهم في القومية واللغة والدين ولون البشرة، لكنهم بشر جميعاً ولم يكن هذا الاختلاف من صنعهم، بل نشأوا على هذه الشاكلة في مجرى التطور التاريخي العفوي الذي فرق بني الإنسان على شتى بقاع الأرض هرباً من الموت أو من الجوع وبحثاُ عن ظروف أفضل للعيش.
وسواء كنا منحدرين من أدم وحواء أو من القردة فإننا نشكل بأسرنا ما يسمى اليوم "المجتمع البشري". ونرتبط مع بعضنا، وبفضل تقدم المواصلات الميكانيكية والإلكترونية، بروابط لم يحلم بها أجدادنا، ولكننا لم نكف حتى في عصر العولمة عما بيننا من الصراعات الدموية الرهيبة، الموروثة من أجدادنا على امتداد ملايين السنين، ولم تمنع الحضارة البشرية المتمثلة بأهرامات مصر ومعلقات بابل وسور الصين وبرج إيفل وغيرها استمرار هذه الصراعات. وفي القرون الأخيرة حصل نشوء وتطور النظام الرأسمالي مرحلة تأريخية جديدة مقرونة بتقدم كبير للعلم والتكنيك، لكن هذا النظام فشل هو الآخر في إنهاء الصراعات الموروثة، بل زاد من نطاقها ووحشيتها. في القرن العشرين وحده أثار النظام الرأسمالي حربين عالميتين، إلى جانب عشرات الحروب الموضعية، التي فاق عدد ضحاياها، بسبب التكنيك الحربي الحديث، مجموع ضحايا الحروب على امتداد التاريخ في عهود القتال بالرماح والسيوف، فالنظام الرأسمالي لم يوظف التقدم العلمي ـ التكنيكي فقط في خدمة المجتمع البشري، بل وظفه كذلك في سفك الدماء ونشر الدمار. ولحسن الحظ أمكن تلافي حرب كونية جديدة خلال السبعين سنة الأخيرة وتقلص حجم الحروب لكن خطر الحروب لم ينمح للآن والصراعات الدموية لم تختف في عالمنا المضطرب، على العكس من ذلك، فإن ما يجري اليوم على كوكبنا هو لون جديد من الحروب، هو انتشار للعنف والصراعات الدموية بشكل لم يسبق مثيله في تأريخ البشرية، وقد اصطلح على تسمية هذه الحرب الجديدة «الإرهاب» فيما يسميه القائمون بها «الجهاد».
ورغم أن الدافع الأساسي وراء العنف والإرهاب الدموي هو الطموح لدى الفئات الإسلامية المتخلفة إلى استلام السلطة فإن جل الضحايا هم الناس المسالمون الذين لا يشغلون أي مركز في الدولة ولا يحملون أي سلاح، بل هم من الأطفال والنساء والشيوخ وسائر المسالمين، الذين تستهدفهم التفجيرات الإرهابية أثناء عبادتهم في الكنائس والجوامع أو تواجدهم في مدارس الأطفال وفي الأسواق والشوارع والمطاعم والمقاهي وما إلى ذلك. وتجب الإشارة هنا إلى أن بعض الدول، التي تدعي الديمقراطية والحرص على حقوق الإنسان، تمارس الإرهاب المنظم بدرجات متفاوتة.

أيتها الأخوات والأخوة الكرام أينما كنتم!
يسعدني أن أتحدث إليكم عن تجاربي في النضال السياسي الذي كان لي شرف المشاركة فيه طوال عشرات السنين المنصرمة، دفاعاً عن حقوق الشعب، وبالأخص حقوق العمال وأهل الكدح.
في أجواء النهوض الثوري عالمياً ومحلياً، عقب انتصار السوفيت والحلفاء على الفاشية في الحرب الكونية الثانية، بدأت نشاطي الحزبي ـ السياسي وأنا في التاسعة عشر من عمري، بالانضمام إلى الحزب الشيوعي العراقي في ربيع ألف وتسعمائة وستة وأربعين. ولا زلت مقتنعاً بأنني توفقت في اختيار التنظيم السياسي الأفضل لممارسة النضال تحت رايته، لأنه كان حزباً سياسياً نظيفاً ومخلصاً للشعب والوطن ومدافعاً حقيقياً عن مصالح العمال والكادحين، صادقاً في وطنيته وأمميته حريصاً على تربية أعضاءه بروح جهادية عالية، صادقاً في الالتزام بالمبادئ والقيم الأخلاقية. وكان الفضل في ذلك يعود لا إلى الأجواء التي مرت بها الحركة الشيوعية العمالية في تلك الحقبة وحسب، بل كذلك إلى الدور المتميز لمؤسس الحزب وقائده الشهيد الشيوعي الأكبر في العراق يوسف سلمان (فهد)، وأنا مدين لحشع في تربيتي بروح أممية راسخة لم ولن تزحزحها العواصف الفكرية، والسياسية العاتية من طغيان العواطف القومية، فالناس كلهم سواسية، أياً كانت قوميتهم ولغتهم ودينهم ولون بشرتهم، ومدين لحشع في أن أصبحت منحازاً على الدوام إلى المظلومين ضد الظالمين المستغلين أينما كانوا.
لم يتسنَ لي أن أدرس أكثر من الصف الثالث المتوسط مسائياً لكن رغباتي الشخصية في التعلم ساعدتني على أن أنمي مستواي الفكري ـ الثقافي ـ النظري. ومنحتني ممارستي النضالية الخبرة، ومهد لي اندفاعي الشخصي لكي أصبح مبكراً كادراً حزبياً نشطاً ومتفرغاً طوعياً. كنت أحلم بالعدالة الاجتماعية وبالتحرر من الاستعمار المسيطر على وطني العراق وبناء نظام اشتراكي مبني على أسس العدل والمساواة بين الناس، وكما هو الحال في ظل النظام السوفيتي.
وقد تفاعلت مع العمل الحزبي لدرجة جعلت معها الحزب كل شيء في الحياة. لم يبق في ذهني شيء جدير بتكريس حياتي وزهرة شبابي سوى النضال والحزب. ولم يكن في ذهني مكان حتى لشيء من علاقات الحب والغرام أيام كنت في عنفوان شبابي. كان الاهتمام بالنشاط الحزبي وخدمة الحزب هو الواجب الأول وفوق كل شيء. ولم يحدث أن أتهرب من أي واجب أوكله الحزب إياي، ولم أبال بالمخاطر التي كانت تترتب على القيام بتنفيذ واجباتي. كنت أقدس الحزب والواجبات الحزبية وأحرص على مصلحة الحزب كحرصي على حدقة العين.
وقد جنيت ثمار جهودي المكثفة فتوفقت في عملي الحزبي، إذ لم يلبث أن أصبحت سكرتيراً لمنظمة محافظتي. وتلقيت بعد أشهر رسالة من بغداد تدعوني لأسافر إلى هناك. واستجبت للدعوة فذهبت لأجد هناك في انتظاري ما لم أفكر فيه أبداً: "أن أكون سكرتيراً لحشع". يا له من أمر عجيب شاب كردي لا يتقن اللغة العربية ولا يزيد عمره عن 22 عاماً ولم ينتم إلى حشع السري منذ نشوئه إلا قبل ثلاثة أعوام.. وها هو يغدو سكرتيراً للحزب! وأي حزب؟ سري محرم قانونا ومعرض لحملات البوليس المتواصلة، وعُلق على أعواد المشانق سكرتيره وخيرة أعضاء قيادته في شوارع العاصمة قبل أشهر ويقبع الألوف من كوادره وأعضائه في السجون في ظل حكم مستقل صورياً ولكنه بوليسي إرهابي تدير دفته السفارة البريطانية.. نعم أنه حزب مثخن بالجراح، مطارد أعنف ما تكون المطاردة، ونجحت الشرطة في سحق تنظيماته والقبض على مركزه القيادي السري خمسة مرات متتالية في أقل من سنة وسط انهيارات بعض كوادره الذين لم يصمدوا تحت التعذيب الوحشي. ترى، ماذا أستطيع عمله وسط كل هذه الصعوبات وبجيوب خاوية لا تدخل إليها سوى دريهمات من اشتراكات أعضائه وتبرعات أصدقائه؟ ألا يشبه ذلك فيلماً من أفلام هوليود؟ غدوت سكرتيراً للحزب منذ وصولي إلى بغداد، بناءاً على توصية من مسؤول المركز الحزبي الخامس قبل اعتقاله وتحملت أعباء المسؤولية دون تردد فشكلت المركز الحزبي السادس وبدأت العمل مع عدد قليل من الرفاق الذين لم أعرفهم ولم يعرفوني قبل ذلك، كان علينا أن نضمد الجراح ونعيد بناء التنظيمات المحطمة. وعلى الرغم من كل الصعوبات ومن افتقاري إلى المؤهلات القيادية السياسية ـ الثقافية، صمدنا ونجحنا في نهاية المطاف بفضل حماسنا الثوري المقرون بروح الفداء والجهادية العالية أولاً، وبفضل التعاطف الشعبي الكبير الذي شكل لحزبنا الغلاف الواقي وضمن تغذيته المتواصلة بالدم الجديد، بالمناضلين الجدد. وخلال السنوات الأربع التي بقيت فيها على رأس الحزب (1949 - 1953) تعافى وعاد إلى ميادين النضال الجماهيري بشكل غير مسبوق وقاد مئات الإضرابات والمظاهرات العمالية والطلابية والجماهيرية في بغداد وسائر المدن، وعدلنا برنامج الحزب لندخل إليه أربعة أمور رئيسية: إسقاط الملكية وإقامة حكم جمهوري شعبي + الإعتراف بحق تقرير المصير للشعب الكردي + تأميم شركات النفط + توزيع أراضي كبار الملاكين إلى جانب الأراضي الأميرية، على الفلاحين مجاناً. وتوجت سلسلة الفعاليات الجماهيرية في تشرين الثاني 1952 بقيام انتفاضة جماهيرية سلمية لم يسبق مثيل لها في تاريخ العراق. وأصبحنا قاب قوسين من إسقاط النظام الملكي. غير أن النظام تمكن أخيراً من استخدام الجيش وقمع الانتفاضة بالدبابات. وفي نيسان 1953 تمكن الأمن العام من إلقاء القبض عليّ في بغداد. وقدموني في ظل الإدارة العرفية العسكرية إلى محكمة عسكرية ـ وفيت بعهدي أمام المحكمة ودافعت بجرأة عن الحزب وسياسته وتهيأت للموت شنقاً، لكن حملة احتجاجات واسعة داخل العراق وخارجه أرغمت حكام بغداد على استبدال الإعدام بالسجن المؤبد.
نقلت إلى سجن نقرة سليمان القديم لأفاجأ هناك بقيام جمهورية شعبية ترفرف رايتها فوق رؤوسنا ويقف في الباب حارس مسلح بسيف مصنوع من بليت البرميل! وجواباً على سؤال مني قال مسؤول منظمتنا حميد عثمان، الذي كان في وقت سابق مسؤولي الحزبي في السليمانية:
هذه نواة الجمهورية الشعبية في عراق المستقبل.
آثرت الصمت وقلت مع نفسي "إن المجزرة الثالثة ستقع في هذا السجن، بعد أن شهد سجنا بغداد والكوت مجزرتين بين السجناء السياسيين في الأيام الأخيرة، إن لم نتدارك الأمر سريعاً. وجمعت اللجنة الحزبية، بعد أن حللت محل حميد عثمان كمسؤول، وعرضت عليهم الأمر ورجوت العمل على تلافي المجزرة، بالدخول في محادثات مع إدارة السجن وبإلغاء الجمهورية الشعبية، ولاحظت أن الجميع فرحون برأيي عدا حميد وحده. كانوا يخافون الجهر بآرائهم سابقاً كي لا يتهموا بالجبن!
منذ أن اعتقلت انتهى دوري في قيادة الحزب قرابة ست سنوات قضيتها في السجن. وبانتصار ثورة تموز 1958 وخروجي من السجن عدت إلى القيادة كعضو في المكتب السياسي لسنتين، بعدها غضب على السكرتير سلام عادل وأبعدني إلى موسكو بذريعة الدراسة الحزبية. وبقيت مجمداً لثلاثة أعوام. دُعيت في آب 1964 إلى اجتماع (ل م) (اللجنة المركزية) المنعقد في براغ لأبلغ بإلغاء العقوبات الظالمة سابقاً وإعادتي إلى (ل م) وأنتُخبت في نفس الاجتماع إلى المكتب السياسي وعدت في الخريف إلى بغداد سراً، وقُدر لي أن أكون المسؤول الأول بالوكالة في غياب السكرتير، واعتقال عمر الشيخ. فبادرت إلى عقد اجتماع لـ(ل م) ضم الأعضاء العشرة الموجودين في العراق، واقتنعنا جميعاً بأن الخط السياسي الذي رسمه اجتماع آب 964، والذي كنت من الموقعين عليه، مرفوض من قاعدة حشع. وغيرنا سياسة الحزب رأساً على عقب ورفعنا شعار إسقاط النظام الدكتاتوري العسكري بدلاً من محاولة التقرب إليه ومغازلته.
أرجو المعذرة أيها الأخوة والأخوات أينما كنتم من الإطالة في أمور قد لا تعنيكم، لكنها تشكل الخلفية لبعض ما سأذكره .