نقاش حول النظام الاشتراكي في الإنتاج والإدارة


بهاءالدين نوري
الحوار المتمدن - العدد: 4800 - 2015 / 5 / 8 - 08:51
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

نقاش مع الاستاذ بهاء الدين نوري - السكرتير السابق للحزب الشيوعي العراقي حول النظام الاشتراكي في الإنتاج والإدارة



السؤال: ما النظام الاشتراكي في الإنتاج والإدارة؟

إن مصطلح الاشتراكية يشتمل على مجموعة مختلفة من الإيديولوجيات الفلسفية والسياسية، فحاول مثلا روبرت أوين في بداية القرن التاسع عشر تأسيس تعاونيات اشتراكية داخل المجتمع الرأسمالي وفصلها عن النظام السياسي والاقتصادي للرأسمالية. ويدافع أنصار الدولة الاشتراكية عن الامتلاك القومي للوسائل الإنتاجية من خلال احتكار السوق والتخطيط المركزي للاقتصاد يوجهه حزب الحاكم في الدولة، فيما تبنى الاشتراكيون - الديمقراطيون تدخل الدولة في تنظيم رأس المال عبر إعادة توزيع الضرائب ضمن اقتصاد السوق.

أما في القرن التاسع عشر، ظهرت حركة فريدة من نوعها قدمت تجربة مختلفة عن هذه التجارب كلها، فبنهاية القرن التاسع عشر حدث تناقض واضح بين الاشتراكية والرأسمالية وطرح التاريخ على بساط البحث نظامًا بديلًا يعتمد على الملكية الجماعية وهذا النظام هو الكومونة. فما الكومونة؟

حسب ما نقل الينا معاصري الكومونة، باشرت ثورة الكومونة بتنظيم الإنتاج الاشتراكي مباشرة بعد هدم القاعدة المادية للسلطة السياسية، أي بعد الإطاحة بالجيش الدائم، والشرطة، والإدارة البيروقراطية، وسلطة الكهنة، ونقل الإدارة إلى المنتجين أنفسهم. وهكذا فحسب تجربة الكومونة، فإن النظام الاشتراكي في الإنتاج هو ببساطة الاستعاضة عن إدارة الدولة المتمركزة القديمة بإدارة المنتجين الذاتية في كل مكان.

إذًا، ما النظام الاشتراكي في الإنتاج وفي الإدارة؟ هل هي تعاونيات اشتراكية لروبرت أوين، أم امتلاك الدولة القومية للوسائل الإنتاجية أم تنظيم الرأسمال من قبل الدولة أو الإدارة الذاتية للمنتجين أنفسهم؟

الجواب:

رفاق الاعزاء في الكومونة / تحية نضالية

ترا أي لي في سياق العرض الذي قدمتموه عن تعاونيات ربرت أوين وعما فعلته كومونة باريس وما فعلته لاحقا الدولة السوفيتيتة. انكم تريدون لونا من المقارنة بين هذه النماذج الثلاثة من الانتاج والادارة في الاشتراكية. واذا كان الامر كذلك فانني لا ارى وجاهة في مثل هذه المقارنة لأن هناك تباينا كبيرا بين هذه الاحداث من حيث الزمن والظروف. فتعاونيات أوين استندت كفكرة على المفاهيم الاشتراكية الطوبوية قبل ان تتبلور الاشتراكية العلمية، وكان من المستحيل انتصار هذا اللون من الاشتراكية على أرض الواقع. وقامت ثورة الكومونة في زمن معاصر لكارل ماركس، وبدأت باستلام السلطة وكانت مأثرة تاريخية عظيمة لكادحي باريس. ولكنها حدثت في وقت لم تنضج فيه الظروف لمثل هذه الثورة، كما ذكر ماركس. ولهذا السبب لم تستطع الكومونة البقاء اكثر من بضعة اشهر ولم تفلح في تقديم تجارب كثيرة لدعاة الثورة الاشتراكية، بخلاف السلطة السوفيتية التي انبثقت من ثورة اكتوبر 1917 وكتب لها البقاء سبعين عاما وخاضت شتى الوان الصراعات ضد الرأسمالية واحرزت الانتصار العسكري ضد ثورة الردة وضد جيوش 14 دولة امبريالية في غضون ست سنوات من الحرب التي فرضت عليها، كما خرجت ظافرة في الحرب الكونية الثانية (1939) ولكنها خسرت في جولة الصراع اللاعسكري خلال سني ما بعد الحرب الثانية وسقطت الدولة السوفيتيتة عام 1991.

ان دراسة التجربة السوفيتية تؤكد ان ثورة اكتوبر كانت ثورة اشتراكية شكلا ومحتوى وسارت قدما في البناء الاشتراكي وعبر طريق غير مسبوق في التاريخ. الا انها حملت منذ البداية نقاط ضعفها الكبرى، بل معول هدمها اللاحق في حالة عدم تصحيح الاخطاء المقترفة، وقبل كل شيء خطأ اتخاذ التجربة الروسية "قوانين عامة" للثورات الاشتراكية في العالم كله.

انني لا استطيع تصور قيام الاشتراكية دون تحويل الملكية الخاصة (الرأسمالية) إلى ملكية عامة اجتماعية-اشتراكية. فالملكية العامة هي الاساس المادي للانتقال شكلا ومحتوى. ومن البديهي ان يصبح الانتاج عندئذ اشتراكيا ويصبح الانتاج والتوزيع متجانسين، أي ينتج الجمهور جماعيا ويتوزع المنتوج على المنتجين جماعيا، بدلا من ان ينتج الجمهور ويستاثر أفراد رأسماليون بمحصول الانتاج. وفي هذه الحالة يصبح من الطبيعي ايضا ان يضطلع بالاعمال الادارية ممثلو الجماهير انفسهم في الوضع الطبيعي، الذي تكون فيه الديمقراطية سائدة في المجتمع. غير ان الوضع لم يكن على هذا المنوال، بل على العكس من ذلك، قسمت الديمقراطية بصورة مصطنعة إلى ديمقراطية برجوازية واخرى بروليتارية. وهذه الاخيرة كانت في التطبيق العملي عبارة عن حرية النشاط فقط لانصار النظام ومنع كل لون من المعارضة. وهذا أوجد الغطاء للبيروقراطيةوأقام سدا أمام المطالبة بالاصلاخات وأمام المبادرات والابداعات وساعد على اشاعة الجمود العقائدي في الدولة السوفيتية ووفر الحماية للفاسدين وهيأ الاجواء لاعادة بناء الرأسمالية من جديد في رحم الاشتراكية وفندت الحياة نفسها فكرة الاستحالة لعودة المجتمع من الاشتراكية إلى الرأسمالية. وبتعبير أوضح فقد قاد التمسك بالجمود العقائدي الاتحاد السوفيتي إلى الاصابة بأمراض خطيرة، وهي ما اصطلح على تسميتها بالستالينية، وعقد برجنيف هذا المرض اكثر في عشرين عاما من وجوده على راس الحزب والدولة حتى وصل الوضع إلى نتيجته المنطقية في 1991 وعادت الراسمالية إلى السلطة على انقاض الاشتراكية.

ان عملية الانتاج بذاتها هي هي، سواء في ظل الراسمالية أو الاشتراكية.غير ان التغير الجوهري انما يحدث في علاقات الانتاج. ففي ظل الرأسمالية يكون الانتاج جماعيا والتوزيع فرديا في كل مشروع انتاجي اذ تكون الملكية فردية والمالك يضع يده على كل المنتوج، في حين يكون الانتاج والتوزيع في ظل الاشتراكية جماعيا لأن الملكية تعود للمجتمع أو لقطاع معين من المجتمع. وتختلف القضية بالنسبة للادارة اذ لا يشترط ان يكون هناك شكل واحد موحد ، بل يمكن تغيير شكل الادارة تبعا لتغير الوضع.

وبودي الاشارة إلى نقطة اخرى: طريق الانتقال إلى الاشتراكية. ففي مرحلة تاريخية طويلة كان استخدام العنف للانتقال إلى الاشتراكية هو الطريق الوحيد كما اوضحت الوقائع التاريخية. ففي روسيا تمكن البلاشفة من الوصول إلى السلطة عبر ثورة مسلحة لاسقاط النظام الرأسمالي. وفي سائر بلدان العالم لم يشهد التاريخ انتصارا سلميا للثورة حتى نهاية القرن الماضي. لكن العولمة وما أتت به من ايجاد المقومات للتقدم الحضاري المعاصر قد خلقت ظروفا مناسبة للانتقال إلى الاشتراكية عبر صناديق الاقتراع وقد يتأتي على انصار الانتقال السلمي أن يثابروا وينتظروا مزيدا من الوقت. ولكنني اتوقع هذا الانتقال في الحقبة التاريخية اللاحقة.

ملاحظة: اعرف ان هذه الأمور تحتاج إلى المزيد من الاسهاب. لكن وضعي الصحي لم يسمح لي بذلك. فاعتذر.