تشريح مقولات جنت علينا (1)


عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن - العدد: 4909 - 2015 / 8 / 29 - 20:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

تشريح مقولات جنت علينا (1)
"ذهبتُ إلى الغرب فوجدتُ إسلاماً ولم أجد مسلمين ولما عدتُ إلى الشرق وجدتُ مسلمين و لكن لم أجد إسلاماً".
ينسب هذا القول إلى محمد عبده. هناك من ينسبه إلى آخرين. لكن مهما كان قائله فهو يتضمن فخاخا كثيرة يجب تفكيكها. أنا لست معنيا هنا بالنوايا الحسنة التي كانت في صميم جهود هذا المصلح الكبير أو ذاك.
لا شك أن هذه المقولة تتضمن جانبا إيجابيا كون قائلها يحاول أن يعطي للإسلام فهما تقدميا إنسانيا قوامه قيم التمدن والحريات والحكومات المنتخبة المسؤولة أمام الشعوب وأمام ممثليه المنتخبين بنزاهة وحرية التعبير والفكر والبحث العلمي، بعيدا عن قيود الاستبداد السياسي والاضطهاد الديني. لكنه يخفي أيضا حقيقة أخرى مضللة، وهي إيهام الناس بأن تخلف المسلمين لا علاقة له بموروثهم الديني، أو حتى بما فهموه من دينهم مشوها؛ فها هو الغرب، حسب ظاهر وباطن هذه المقولة، يتقدم بعد أن تَخَلَّقَ بأخلاق الإسلام حسب بعض السذج أو بأخلاق ابتكرها وصادف أنها وافقت أخلاق الإسلام، بينما الشرق يتخلف لأن أخلاقه انحطت كونها لم تعد مستمدة من أخلاق الإسلام المُفرَّط فيها.
هي، إذن، دعوة صريحة للعودة إلى التمسك بقيم الإسلام باعتبارها السبيل الوحيد من أجل الخروج من التخلف، وهي دعوة كان رواد النهضة العربية قد عززوها بشعار آخر أكثر وضوحا: "لا يَصْلُح آخرُ هذه الأمة إلا بما صَلُحَ به أولُها".
هل كان عبده قد فهم أسرار تقدم الغرب فهما صحيحا جعله يقول هذه القولة؟ بمعنى هل قيم الغرب الحديثة التي كانت في صميم تقدمه هي أخلاق الإسلام سواء أخذها منه أو توصل إليها من طريق آخر؟ وبمعنى أكثر وضوحا: هل يمكن أن نجد قواسم مشتركة بين قيم الحداثة الغربية والقيم الإسلامية؟ هل يمكن أن نجد قواسم مشتركة بين ما فهمه السلف الصالح من الحرية مثلا، باعتبارها قيمة القيم، وبين الفهم الحداثي لهذه القيمة الإنسانية النبيلة كأسطع مثال يميز الحياة في الغرب، وحظي بإعجاب رواد النهضة؟
الواقع أنه من الصعب أن نجد قاسما مشتركا واحدا بين قيمة الحرية في الإسلام الأول والتي كانت تعني محصورة في صفة الشخص الحر أي غير العبد، وبين الحرية بمفهومها الحديث. بين حرية ذلك المجتمع البعيد الذي تأسس على الإسلام والذي أباح الرق بمختلف مصادره: أسرى الغزوات الإسلامية خاصة، ثم تجارة الرقيق بيعا وشراء، وتواصل هذه الممارسة البغيضة طوال تاريخ الإسلام الطويل، حتى أنها لم تلغ من حياته إلا مؤخرا قبل حوالي نصف قرن فقط تحت ضغط الأمم المتحدة وليس نتيجة تطور داخلي. بين حرية العبد لله وحرية الإنسان الذي حكم على الله بالموت إيذانا بميلاد السوبرمان، بتعبير نيتشه.
هل عرف الإسلام وتاريخه الحرية بمختلف تلاوينها كما شهدها الغرب الحديث: الحرية الدينية، حرية الاعتقاد، حرية الدخول في أي دين والخروج منه، حرية ممارسة الشعائر الدينية، حرية إقامة المعابد الدينية المختلفة، حرية نقد الأديان؟
هل عرف الإسلام وتاريخه الحرية السياسية بما تعنيه من حرية التعبير السياسي والمعارضة وتشكيل الأحزاب والجمعيات ونقد الحكام والتداول على السلطة سلميا.
هل عرف الإسلام وتاريخه المساواة كقيمة سامية كما نصت عليها المواثيق والدساتير الغربية؟ المساواة في الحقوق والواجبات.
هل تطرقت نصوص الإسلام المؤسِّسة لطبيعة الدولة مثلما توصلت إليها المجتمعات الغربية بعد صراع طويل ومرير مع قوى الظلامية والاستبداد، عبر ضبط دقيق متطور لأساليب الحكم وكيفية تولي السلطة استنادا إلى تشريعات حديثة لا هي متعالية ولا هي مقدسة ولا هي فوق النقد، شملت القوانين المنظمة للتداول على السلطة وتنظيم الانتخابات وتقسيم السلطات وتشريع كل ما من شأنه الحد من آفة الاستبداد باعتبارها مصدر كل الآفات؟
هل عرفت دولة الإسلام قيمة المواطنة بما تعنيه من تساوي جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وحق الجميع في المشاركة في إدارة شؤون الدولة مباشرة أو عبر الممثلين المنتخبين، دون اعتبار لدين المواطن أو عرقه أو جنسه أو مذهبه؟
ولا يبتعد المفكر المغربي محمد عابد الجابري كثيرا عن فكرة محمد عبده.
http://www.hurriyatsudan.com/?p=1150
دعا محمد عابد الجابري إلى "تأصيل قيم الحداثة"، كسبيل وحيد لإقناع الناس بتبنيها باعتبارهم المستهدَفين بكل جهد تنويري للخروج من التخلف.
تأصيل قيم الحداثة لا بد أن يتم حسب الجابري ضمن ما أسماه بـ"إستراتيجية التجديد من الداخل"، "إستراتيجية تتحرك على محورين متكاملين: محور النقد وإعادة الترتيب والبناء لتراثنا الثقافي بمختلف منازعه وتياراته، ومحور التأصيل الثقافي لقيم الحداثة وأسس التحديث".
وهذا المشروع حسب الجابري "يتعلق .. أساسا ببناء جسور تنقل "الحاضر" إلى الماضي ليتأصل فيه" ... "يجب أن نعمل على تَبْيِئَة وتأصيل قضايا الحاضر، قيم الحداثة وأسس التحديث، في ثقافتنا وذلك بإيجاد أصول لها تستطيع تأسيسها في وعينا: وعينا الديني والأخلاقي، وعينا الثقافي العام. ونحن نعتقد أن الديمقراطية (بما فيها حقوق الإنسان) والعقلانية (بما فيها الروح النقدية)، لا يمكن غرسهما فكرا وممارسة في المجال التربوي -وهو العمود الفقري لكل تجديد ثقافي يتجه إلى المستقبل- إذا لم يتم تأصيلهما في النظام الثقافي عموما والنظام التربوي خصوصا، أو على الأقل إذا لم تؤطرهما عملية التأصيل هذه".
حجة الجابري بناها على أساس أن "... قضايا حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية والروح العقلانية والنزعة النقدية الخ… وغيرها من القضايا التي تشكل قيم الحداثة وقوام التحديث لم تترسخ ولم تتوطد في النظام الثقافي الأوربي نفسه إلا بعد أن تم تأصيلها فيه، أي بعد أن ربطت بـ "أصول" كُشِف عنها داخل هذا النظام نفسه أو وضعت فيه وضعا، ثم نقلت إلى المدرسة، عن طريق المعلم والكتاب، لتصبح جزءا من نظام التعليم بما فيه الامتحانات".
هذا هو التأصيل الثقافي، إذن، عند الجابري، وهو لا يختلف عن شعار دعاة الإصلاح الإسلاميين: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". وهو لا يختلف أصلا عن دعوات الأصوليات الدينية التي انتهت بمجتمعاتنا إلى هذا الانحدار الرهيب الذي تشهده أغلب المجتمعات العربية الإسلامية عندما انساقت الجماهير كالأنعام وراء باعة الأوهام من الإسلاميين المكفرين لكل القيم الإنسانية الحديثة.
ما هي "الأصول" التي كُشِفَ عنها في الغرب ورُبِطَت بها "قضايا حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية والروح العقلانية والنزعة النقدية الخ… وغيرها من القضايا التي تشكل قيم الحداثة وقوام التحديث" والتي " لم تترسخ ولم تتوطد في النظام الثقافي الأوربي نفسه إلا بعد أن تم تأصيلها فيه". لماذا إذن قاومت قوى الظلام والتخلف في الغرب بشراسة منقطعة النظير لقرون من الزمن حتى انهزمت، مقاومة لا يضاهيها إلا ما ترتكبه القاعدة وداعش وبوكو حرام في مجتمعاتنا من جرائم تواصلت قرونا من الزمن؟ لماذا تعرضت حركة التنوير الغربية للمقاومة لو أنها فعلا كانت تعمل على تأصيل القيم الحديثة بالقيم القديمة في التراث اليهودي المسيحي كنظير للتراث الإسلامي الواجب التأصيل معه عندنا، حسب الجابري؟
طبعا لا بد أن نشير هنا إلى أن عصر الأنوار في الغرب قد عاد إلى العصرين اليوناني والروماني للتأصيل معهما، وهما عصران وثنيان، لا سبيل إلى مقارنة موروثهما السياسي والثقافي بالموروث الثقافي اليهودي المسيحي الإسلامي والتأصيل معه. بل لا سبيل لمقارنة القيم الإنسانية التي أبدعاها مع همجية الحياة التي سادت في العصور التي هيمنت عليها الأديان (السماوية).
يقول الجابري: "إن نقل قيم الحداثة وعناصر التحديث إلى المجتمع العربي -وهو العملية التي بدأت منذ قرن أو يزيد- نقلا ميكانيكيا بدون تأصيل، جعل وجودها وحضورها فيه يعاني مما نعرفه من نكوص وانتكاس، بل إن عدم تبيئة تلك القيم في نظامنا الثقافي، وبالخصوص في الجانب التربوي منه، هو من العوامل الأساسية في الانشطار الذي يعبر عن نفسه من خلال الازدواجية المترسخة في مجتمعنا وثقافتنا…".
هل صحيح أن رواد النهضة العربية فعلوا هذا؟ هل صحيح أنهم نقلوا قيم الحداثة نقلا ميكانيكا بدون تأصيل؟
العكسي هو ما حدث فعلا، وقولة محمد عبده عينة من ذلك. التذبذب والتردد والتراجع الذي كان الميزة الطاغية على كل جهود التحديث عندنا هو الذي أفشل كل المحاولات التي قام بها مفكرو هذه المنطقة المنكوبة بتراثها الديني خاصة. فأغلب المفكرين الذي تجرؤوا وفعلوا هذا تراجعوا و(تابوا) عن صنيعهم، وانخرطوا في التأصيل على طريقة الجابري بعد أن اصطدموا بقوى التخلف المسنودة من شعوب جاهلة مغلوبة على أمرها، ومع ذلك باءت كل الجهود بالفشل.
يقدم لنا الجابر مثالا: "مسألة حقوق الإنسان التي تستأثر اليوم بالاهتمام على نطاق عالمي.. ليقول: "فعالمية حقوق الإنسان لا تصطدم ولا تتناقض لا مع الوضع الاقتصادي ولا مع الوضع الاجتماعي، ولكنها بالمقابل تصطدم بالخصوصية الثقافية عندما ينظر إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه نتاج الحضارة الغربية وحدها. والتأصيل الثقافي لقيم الحداثة المعاصرة بالنسبة لنا نحن العرب يقتضي في هذا المجال إبراز عالمية حقوق الإنسان في كل من الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية، أعني كونها تقوم في الثقافتين على أسس “فلسفية” واحدة".
وهذا ما يقوله عتاة الإسلاميين أعداء كل القيم الغربية الحديثة، ولعل هذا ما جعل القرضاوي يعجب أيما إعجاب بالجابري مصداقا للمثل العربي القديم "وافق شن طبقة".
http://el-bahith.blogspot.com/2011/05/blog-post_25.html
قول الجابري "التأصيل الثقافي لقيم الحداثة المعاصرة بالنسبة لنا نحن العرب يقتضي في هذا المجال إبراز عالمية حقوق الإنسان في كل من الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية، أعني كونها تقوم في الثقافتين على أسس “فلسفية” واحدة". فيه قدر كبير من الغرور والنرجسية.
فهل يمكن أن نجد في ثقافتنا العربية الإسلامية القديمة ما يسند هذا الموقف؟ هل يمكن أن نجد فيها ولو النزر اليسير من أية حقوق إنسانية مزعومة يمكن أن تكون علامة على عالمية جديرة بهذا النعت؟ كلا.
هل أبدع هذا (السلف الصالح) قيما مثل حرية التعبير، حرية الاعتقاد، حرية الإلحاد، حرية الإيمان، المواطنة؟ بل هل أبدع ما يقترب منها ولو من بعيد مثلما أبدعته الحضارة اليونانية والرومانية مثلا والتي عاد التنويريون الغربية للتأصيل معها؟ قد نساير دعاة التأصيل لو أن هذا التأصيل لم يكن موجها لربطنا بالتجربة الإسلامية فقط، ودعوا إلى العودة والاستفادة من كل التجارب التي أبدعتها حضارات هذه المنطقة المترامية الأطراف والتي يعتبرها الإسلاميون جاهلية جهلاء بعد أن قضى أسلافهم عليها وعلى أديانها ولغاتها وثقافاتها، آخرها ما تفعله داعش في العراق وسوريا تجاه تراث حضارات راقية سادت قبل الإسلام، لأنهم يعتبرون التجربة الإسلامية نهاية التاريخ.
بقي أن أعرّج على موقف آخر على النقيض يرفض أي تأصيل أو ربط لقيم الحداثة الغربية بما يمكن أن نجده في تراثنا مما يشبهها أو يقترب منها. هذا ما يقوله السلفي أبو إسحاق الحويني المصري
https://www.youtube.com/watch?v=nZvrbvIbE1A
هذا الداعية السلفي سفه مقولة محمد عبده واعتبرها خاطئة من أساسها. قال في مستهل هجومه عليها: (ويؤسفني أن بعض من ينسبون إلى العلم (يعني محمد عبده) قال قولة اتخذوها مثلا الآن، قال: ذهبت إلى الغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، وعدت إلى بلدي، فوجدت مسلمين ولم أجد إسلام". ثم يقول: "أين هو الإسلام اللي في الغرب أصلا؟ هل الإسلام هو العمل؟ هل الإسلام هو التقدم الحضاري؟ بس؟ هو دا الإسلام؟ دا كل الموبقات عندهم، عندهم الزنا واللواط والسحاق والقتل وأكل أموال الناس بالباطل"
هذا الداعية سبق له أن دعا المسلمين إلى تأصيل حاضرهم بماضيهم من خلال الدعوة إلى العودة إلى الجهاد وممارسة الرق، معتبرا الجهاد متعة والرق دخلا اقتصاديا للمسلمين، وكأنه انحطاطا من المظاهر التي عابها على الغرب:
https://www.youtube.com/watch?v=L0uwpq8sEzU
فأحدث فضيحة في أوساط السلفيين وتعرض للاستهجان والضغوط، فعاد يعتذر، لكنه عذر أقبح من ذنب:
https://www.youtube.com/watch?v=Z5LF8nDZTq4