الملياردير الأمريكي والصياد المكسيكي


عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن - العدد: 4904 - 2015 / 8 / 22 - 17:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الملياردير الأمريكي والصياد المكسيكي
هذه القصة نعثر عليها في مواقع كثيرة في إنترنت، حيث هناك إجماع على العبرة المستخلصة منها، وهي إدانة موقف رجل الأعمال الأمريكي باعتباره رمز الجشع والطمع والاستغلال والأنانية والتهافت على جمع المال، وهناك إجماع على التعاطف أو الإشادة بموقف الصياد المكسيكي كرمز للقناعة والطيبة والتواضع والعناية بذويه والمحيطين به. أنقل القصة من أحد المواقع ثم أعلق عليها علها تثير مزيدا من النقاش المثمر:
"جلس ملياردير أمريكي– في أواخر عمره– أمام بيته الشتوي الخاص على أحد انهار المكسيك.. لفت نظره اقتراب صياد مكسيكي بسيط من الشاطئ، وبدأ بمراقبة الصياد المكسيكي، فرأى مركب صيده في غاية البساطة، وكذا الأدوات التي يستعملها في الصيد، وقد اصطاد كمية محدودة من السمك جعلها بجانبه، فناداه – الملياردير الأمريكي – ليشتري منه بعض السمك، ويتحدث إليه، وعندما جاء الصياد اشترى منه بعض السمك، ثم سأله: كم تحتاج من الوقت كي تصطاد كمية مثل هذه؟
أجابه: ليس كثيرا.
الأمريكي: إذن لماذا لا تقضي وقتاً أطول حتى تصطاد أكثر، فتكسب أكثر من ذلك؟
الصياد: ما اصطاده يكفي حاجتي وحاجة أسرتي بالفعل !!
الأمريكي: ماذا تفعل ببقية الوقت؟
الصياد: أنام نوماً هادئاً، وأتناول الطعام مع زوجتي، وألعب مع أطفالي، وأمرح في الحقول الخضراء والشواطئ، وألهو مع أصدقائي في الليل، نغني ونستمتع بحياتنا، ونلعب بالقيثارة ونشرب خمرا، فنحن نعيش حياتنا.. أنا حياتي مليئة بغير العمل.
قال له رجل الأعمال: سوف أنصحك يا صديقي، فأنا حاصل على شهادة في إدارة الأعمال من هارفارد: يجب أن تتفرغ أكثر للصيد حتى تزداد كمية ما تصطاده ..بعد فترة من الزمن، عندما يتحسن وضعك المادي، تشتري مركباً أحدث وأكبر من هذا القارب البسيط .. يمكنك بعد فترة من الزمن، مضاعفة عدد القوارب عندما تزداد أرباحك ..سوف تجد نفسك بعد مدة من الزمن صاحب أسطول بحري كبير ..حينها تبيع السمك إلى الموزعين، وترتاح بدلاً من بيعك للناس كما تفعل الآن، ثم بعدها تنشأ مصانع لتعليب السمك خاصة بك، وبعد فترة من الزمن، يمكنك التحكم بكمية إنتاج السمك وتوزيعه، ثم تنتقل من هذه القرية إلى مكسيكو، لوس أنجلس، أو ربما نيويورك، ومن هناك تشرف على إدارة أعمالك.
سكت الصياد قليلاً ثم سأل رجل الأعمال الأمريكي:
ولكن كم من الوقت يتطلب كل هذا النجاح يا سنيور؟؟
رد الأمريكي ضاحكا: بين عشر وعشرين سنة !!!
فقال الصياد: وماذا بعد ذلك؟؟!!
قال الأمريكي: بعد ذلك؟ هنا نصل إلى الأهم. عندما يحين الوقت، يكون بوسعك أن تدخل شركتك إلى البورصة وتربح الملايين0
رد المكسيكي: الملايين؟ ثم ماذا؟
قال الأمريكي: حينها يمكنك أن تتقاعد، تسكن قرية صغيرة على الشاطئ، تنام القيلولة ملء جفونك مع زوجتك، تلهو مع أطفالك، تصطاد للمتعة، وتقضي لياليك في الشرب والعزف على القيثارة مع أحبابك..."
هنا تنتهي القصة كما هي في المواقع غير العربية. لكننا نجد في المواقع العربية والإسلامية إضافات على لسان الصياد المكسيكي من قبيل:
http://vb.elmstba.com/t221197-3.html
"فقال الصياد المكسيكي البسيط مندهشاً: هل تعني أن أقضي 20 عاماً من التعب والجهد والإرهاق والعمل المتواصل، وعدم الاستمتاع بالحياة، والحرمان من زوجتي وأطفالي، وترك الخروج مع أصحابي، وإهمال صحتي، لأصل في النهاية إلى ما أنا عليه الآن يا سنيور؟"
أو من قبيل:
http://happiness-hb.blogspot.com/2013/07/story-about-real-happiness.html
"فابتسم الصياد وهو يقول في هدوء: "هل تريد مني أن أقضي ما يقرب من 20 عاماً من عمري كادحاً في عمل متواصل .. لا أرى أبنائي وزوجتي إلا قليلاً .. لا أستمتع بوقتي ولا بصحتي ولا حتى بأموالي. كل ذلك أضحي به لأصل في النهاية إلى (ما أنا عليه أصلاً)"؟!!!. ثم أكمل في حماس: "إن كانت السعادة الحقيقية كما قلتَ أنت في الاسترخاء وراحة البال والوجود في وسط الزوجة والأبناء والاستمتاع برفقة الأهل والأصدقاء. فأنا الآن أعيش هذه السعادة الحقيقية ولا أجد سبباً يجعلني أرجئها 20 عاماً".
ومن قبيل: "إنتهت القصة والعبرة هي آخر كلمات الصياد إقرؤوها ثانية وتأملوها، فقد أعطى درساً لهذا الرجل الغني وللكثيرين من أمثاله ممن يعتقدون أن السعادة فقط في جمع الأموال في هذه الدنيا الفانية، يجمعون المال ويرجون التمتع به مع أنهم قد يرحلون عنه ويستمتع به غيرهم وهذا يذكرني بقول الشاعر:
وذو حرص تراه يلمّ وفراً لوارثه ويدفع عن حماه
ككلب الصيد يمسك وهو طاوٍ فريسته ليأكلها سواه

"فهؤلاء الذين يجمعون المال ويستمتع به ورثتهم مثلهم كمثل كلب الصيد الذي يمسك فريسته وقد يكون جائعاً ولكن يأكلها أسياده".
ثم يحيلنا صاحب هذه العبرة المغرضة إلى "قصيدة رائعة"، كما وصفها للشيخ القرضاوي يتحدث فيها عن السعادة" ويدعونا إلى قراءتها والاستمتاع بها ويسأل "الله أن يسعدنا جميعاً في الدنيا والآخرة".
http://happiness-hb.blogspot.com/2013/07/happiness-poem-of-garadawi.html
أقول بأن هذه العبرة مغرضة لأن صاحبها يتعمد تشويه الحقائق حتى تستقيم عبرته المستخلصة من القصة. فهو إذ يقول على لسان الصياد: "هل تريد مني أن أقضي ما يقرب من 20 عاماً من عمري كادحاً في عمل متواصل .. لا أرى أبنائي وزوجتي إلا قليلاً .. لا أستمتع بوقتي ولا بصحتي ولا حتى بأموالي. كل ذلك أضحي به لأصل في النهاية إلى (ما أنا عليه أصلاً)"؟!!!
إنما يتعمد لَيّ أعناق الحقائق. فهل رجل الأعمال الأمريكي هو بالضرورة من هذه الشاكلة، عدا الشواذ وهم موجودون في كل الطبقات والشرائح الاجتماعية وفي كل زمان ومكان. أما عدا ذلك فإن أقل الناس استمتاعا بالحياة هو الصياد المكسيكي ومن على شاكلته. الفقراء في العالم الثالث يعيشون حياة بائسة، يتناسلون بكثرة، تفتك الأمراض والمجاعات والآفات الاجتماعية وأخيرا السيدا وحمى الإيبولا بهم وبأطفالهم، تنخر عقولهم الخرافات، تقض مضاجعهم كوابيس العفاريت والشياطين ونيران جهنم الوهمية، هم عرضة لكل أنواع الاستغلال وهم عادة ما يلقون في نار جهنم الدنيوية من حروب وفتن وصراعات عشائرية وطائفية همجية.
طبعا قصة الصياد المكسيكي ورجل الأعمال الأمريكي رمزية، وهي موجودة حتى في حكاياتنا الشعبية. وهي تعبر عن ثقافة الخداع والنفاق أو تبرير العجز أو مواساة النفس المنهزمة، وهي حيلة يلجأ إليها المحتالون لتمرير خطاب أيديولوجي يسعى لاستغفال الناس وجعلهم يرضون بوضعهم البائس ويتلذذون بأغلالهم يحسبونها جواهر، بل ويحرصون على البقاء فيه ويصمون آذانهم عن كل النصائح ويفوّتون على أنفسهم وذويهم كل الفرص السانحة لتحسين أوضاعهم. وهي من جانب آخر تعبر عن جحود تجاه فضل الناجحين على البشرية. أقول هذا دون أن أقلل من قيمة النضال ضد الجشع والطمع والاستغلال بشتى صوره ودون التقليل من ضرورة النضال لحماية الطبيعة من الاستغلال المفرط وتهديد الحياة على كوكبنا. لكني ضد الأيديولوجيات الخلاصية التي تبشر الناس بمجتمعات مثالية تشيد بأخلاق الخضوع والخوف والاستسلام والقناعة والصبر في الدنيا، باعتبارها قيم نبيلة وشرطا للفوز بالآخرة، بينما هؤلاء المخلِّصون، كما خبرناهم دائما، كثيرا ما يستغلون البسطاء من الناس الذين يصدقون هذه الحكايات ليركبوهم ويشيدوا على ظهورهم جناتهم الخاصة العامرة بكل ما لذ وطاب، مثلما يفعل رجال الدين عندنا، على شاكلة القرضاوي.
هنا أكون في حاجة إلى طرح بعض التساؤلات:
نحن نعرف أن الحضارة البشرية صنعها أمثال رجل الأعمال الأمريكي. بدأت هذه المغامرة منذ غابر الأزمان. بدأها إنسان صار ذا ثلاثة أبعاد (الماضي والحاضر والمستقبل) أراد تحسين وضعه المعيشي الراهن والتفكير في مستقبله ففكر ودبر واكتشف وابتكر واخترع حتى تراكمت كل هذه المعارف والتقنيات المدهشة بين أيدينا اليوم وتسارعت وتيرتها التقدمية مع ظهور حركة المحتجين (البروتستانت). نحن نعرف، إلا من يماري في ذلك، أننا صرنا اليوم أفضل بكثير من أسلافنا علما وعملا وثقافة وأخلاقا، رغم أننا لم نتخلص بعد من الكثير من طبائع التوحش المترسبة في ثقافاتنا وأدياننا، ولكن هل بوسعنا أن نعيش اليوم بدون منجزات هذه الحضارة؟ هل بوسعنا أن نستغني عن الكهرباء ووسائل النقل والتواصل والعلاج والراحة وعن ألف وسيلة ووسيلة مفيدة حولت بيوتنا إلى متاحف. لماذا تهفو قلوب المكسيكيين إلى الهجرة إلى أمريكا إذن، كما تهفو غالبية شعوب العالم المتخلف إلى الهجرة إلى البلدان المتقدمة، لو أن مثلهم الأعلى هو حكمة هذا الصياد: القناعة والتواضع والرضا بالقليل وعدم القلق على المستقبل.
القرضاوي في قصيدته الطويلة التي يبدأها بذم الغنى:
قـالوا: السعادة فـي الغنـى فأخو الثـراء هو السعيـد
الأصـفـر الـرنـان في كفـيـه يلـوي كل جـيـد
يرمـي به شـركـاً يصيـد من الرغائـب ما يصيـد
وبـه يـديـن له الـعصي وقد يـليـن لـه الحـديـد
فـإذا أراد… فـكـل مـا في هـذه الـدنيـا يـريـد
وإذا تـمنـى الشـيء جاء كما تـمنـى… أو يـزيـد
والنـاس خلـف ركابـه يـمشون فـي حضـر وبيـد
.................................................... الخ.
ليخلص إلى إسداء النصيحة لنا:
إن السعـادة: أن تـعـيـش لفـكرة الحـق التـليـد
لعقـيـدة كـبـرى تـحـل قضيـة الكـون العتـيـد
وتـجيـب عما يسأل الحيران فـي وعــي رشـيـد
من أيـن جئت؟ وأيـن أذهب؟ لم خلقت؟ وهل أعـود؟
هو نفسه لم يعمل بهذه النصيحة. فهو عشق بعد أن تجاوز سن الستين بكثير، بعد عشرة طويلة مع زوجته الأولى التي أنجبت له 7 بنين وبنات، لكن يبدو أنه مل حياته الزوجية خاصة وأنه ثراءه يبيح له التمتع بالحياة فأحب فتاة جزائرية وأصر على الزواج منها رغم معارضة والدها وبقي لها بالمرصاد حتى توفي الوالد وقد نظم القصائد في معشوقته وتزوج بها وهي في سن أصغر بناته ولما قضى وطره منها رماها رمي الجيفة للكلاب، وهو قد جمع من الأموال ما يحسده عليه قارون، نقرأ في بعض المواقع أن ثروته تقدر بثلاثة ملايير دولار، فمتى يعتبر بما فعله بيل غيتس باعتباره رمزا لرجل الأعمال الأمريكي؟
http://urlz.fr/2k86
شخصيا مثلي الأعلى ليس الصياد المكسيكي، مثلي الأعلى هو الإنسان الفضولي الحر صانع الحضارة، محب الحكمة والمعرفة، مكتشف غوامض الطبيعة والكون، المتمرد على المألوف من الأفكار والعادات والتقاليد المتكلسة التي تسعى لخداع الناس باسم القناعة كنز لا يفنى وباسم التواضع الزائف وباسم المساواة المخاتلة.