أفنان القاسم بين التنوير والتجهيل 2


عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن - العدد: 4898 - 2015 / 8 / 16 - 08:28
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أنهيت المقال السابق بهذه الفقرة: " لغريب أن يتجاهل الكاتب كيف أن الناس عندنا صوتوا بالأغلبية الساحقة، عام 1991، في الانتخابات التشريعية، لأحزاب إسلامية على رأسها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، مع أن هذا الحزب الأخير كان لا يتحرج في التصريح بأن الديمقراطية كفر، وأن الانتخابات بيعة، والبيعة مرة واحدة في الإسلام. نعم قد يكون التساهل مع وجود أحزاب دينية جريمة نكراء في حق الديمقراطية وفي حق البلاد تتحملها الدولة، وقد يكون هدف السلطة الانقلاب على الديمقراطية من خلال إخراج الجن من القمقم، ولكن، هذا لا يفسر انسياق شعبنا بهذه الصورة المخجلة وراء أحزاب دينية تكفر قيم الحداثة وتدعو إلى العودة بالمجتمعات إلى عصور الظلام. وهذا ما يجب أن يكون في صميم أي جهد تنويري".
في الفقرة الثانية من مقاله
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=480126
يكتب: "والحال هذه جعلت أمريكا (والغرب فرانسوا ميتيران بالذات الرئيس الفرنسي الاشتراكي بطل حقوق الإنسان) الجزائر لقمة سائغة للعساكر!"
هكذا إذن، هي أمريكا وراء كل مصائبنا.
"وأمريكا على الأسوار تهدي كل طفل لعبة للموت عنقودية
يا هيروشيما العاشق العربي أمريكا هي الطاعون ..
والطاعون أمريكا..
أمريكا وراء الباب أمريكا (محمود درويش)
لكن هل صحيح فعلا أن أمريكا جعلت الجزائر لقمة سائغة للعساكر! كما يرى أفنان. هل صحيح أن أمريكا هي التي أوعزت للجنرالات في الجزائر فألغوا الانتخابات في 11 يناير 1992 وحولوا الجزائر إلى أكبر مجزرة في التاريخ" ظلما وعدوانا فقط؟
حتى في مصر اليوم تقف أمريكا متهمة من كلا الطرفين أيضا: أنصار السيسي يشيطنون أمريكا ويرونها الداعم الرئيسي للإخوان (طارق حجي نموذجا)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=436880
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=436880
وأنصار مرسي يرون العكس تماما. (موقف أفنان القاسم تقريبا عندما تحدث عن مصر وكيف برر الغرب العهر العسكري وصمت عن المجازر).
وهل صحيح أن ما جرى في الجزائر كان أكبر مجزرة في التاريخ؟ وهل صحيح أن أمريكا هي سبب فشلنا الذريع في كل شيء إلى حد عجزنا عن إدارة شؤون القمامة؟
هذا الكلام أبعد ما يكون عما وقع في الجزائر. المسؤولية الأولى والأخيرة يتحملها الجزائريون أنفسهم، وقد تعرضت لجانب من عوامل المأساة في المقالة السابقة. وبودي هنا أن أشير إلى مسؤولية الطبقة السياسية الجزائرية برمتها، في السلطة وفي المعارضة. كان الجميع، إسلاميين وغير إسلاميين (ماعدا بعض الاستثناءات) قد حسموا أمرهم حول المهمة الأولى التي يجب القيام بها في ظل التعددية الحزبية وهي الإطاحة بالنظام القائم (السيستام، كما نقول)، وهذا مشروع ومبرر من مهمة كل معارضة، لكن الجميع أيضا لم يكونوا على وفاق، حد التناقض الفاضح، حول الدولة الجديدة التي يجب أن تخلف تلك المطلوب رأسُها. الجميع كانوا متفقين على أمر واحد وهو الإقصاء المتبادل: إقصاء السيستام وإقصاء الآخرين، مع العمل على استنساخ النظام القائم بحذافيره: في البرامج، في التنظيم الداخلي للأحزاب وهو القائم على الاستبداد، في التوجهات السياسية التي تحدثت عن كل شيء ما عدا الاتفاق على طبيعة الدولة المنشودة. لكن الإقصاء عند الإسلاميين كان يعني النفي بكل بساطة. وعندما طرح أحد الأحزاب الديمقراطية مسألة العلمانية قامت عليه القيامة من الجميع باعتبارها كفرا بواحا أو باعتبارها، في أحسن الأحوال، مطلبا سابقا لأوانه، مع أن الديمقراطية بدون علمانية لا تعني إلا ديمقراطية عرجاء تفتقد لأهم شرط وهو تحقيق المواطنة التامة للجميع قبل إجراء أية انتخابات.
كان التنافس على أشده بين الأحزاب الأكثر تشددا ووعودا وهمية. وبما أن اليسار كان يحتضر بعد سقوط التجربة الاشتراكية بينما القوميون في الحزب الحاكم استنفدوا كل رصيدهم الوطني بعد أن قادوا البلاد نحو الإفلاس، فقد كانت الساحة جاهزة للفكر الإسلامي المتطرف الذي رعته مؤسسات الدولة المشرفة على التربية والتعليم نفسها، عن قصد أو عن غباء مستحكم، لعشرات السنين وازدادت الرعاية في عهد الشاذلي الذي استعان بالإسلاميين حتى صار راسبوتين الجزائر (الغزالي) من خلصائه، لتنظيف البلاد من المعارضة اليسارية والوطنية وتهيئة الأجواء لإجراء التعديلات الهيكلية في دواليب الاقتصاد والإدارة لفرض التوجهات (اللبرالية) والتخلص من القطاع العام عبر الإفلاس والخصخصة.
وليت التنازلات توقفت هنا، فقد جرى التساهل مع كل التجاوزات المتطرفة التي كانت في صلب الخطاب الديني حتى بلغ الأمر حدا جعل قادة الإسلاميين يتجرؤون على إصدار فتاوى بقتل المعارضين ثم بقتل رجال الأمن من شرطة ودرك وجيش. كل هذا كان يجري في غفلة مجرمة من النظام الحاكم والطبقة السياسية غير الإسلامية التي قبلت بالمشاركة في الانتخابات في ظروف تفتقر إلى أدنى شروط الرقابة والشفافية، مع غض الطرف عن كل الانتهاكات التي كان يقوم بها الإسلاميون نحو (أعداء الإسلام) أي نحو كل من يعارضهم (الغريب أن هذا ما وقع في مصر أيضا بعد عشرين عاما فقط). وهو ما أدى إلى ظهورهم بمظهر الطرف الوحيد القادر على هزيمة النظام القائم، وإنقاذ البلاد.
كل هذا حول البلاد إلى لقمة سائغة بين أيدي الإسلاميين الذين كان خطابهم يتزايد تشددا وتطرفا وعنفا مع تزايد جماهيريتهم وتعلق شرائح واسعة بهم باعتبارهم طوق النجاة الوحيد.
بعد ظهور نتائج الدور الأول وفوز الإسلاميين بالأغلبية، عبر قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ عن رأيهم الصريح !!!. قالوا للناس: "استعدوا لتغيير ملبسكم ومركبهم وتفكيركم وحياتكم، ومن لا يعجبه حكمنا، فعليه الالتحاق بفرنسا !!!".
في تلك الحرب الأهلية القذرة فقدت الجزائر عشرات الآلاف من نخبتها في مجالات التعليم والبحث العلمي والاقتصاد والإدارة والطب والفن والأدب وغيرها هاجرت مضطرة نحو بلاد الحرية. وهذه هي المجزرة الحقيقية لو تعلمون.
المجزرة التي وقعت بعد تدخل الجيش ووقف المسار الانتخابي هي مجرد (لعب عيال) مقارنة بالمجزرة التي كان الإسلاميون يتهيئون لارتكابها. كانت المجازر الرهيبة التي ارتكبها النظام الإسلامي الإيراني لا تزال ساخنة، حينها جرت تصفية عشرات الألوف من مناضلي المعارضة العلمانية اليسارية واللبرالية وهم مستسلمون.
من لا يصدق أحيله إلى ما كانت تنشره جريدة الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي فازت بانتخابات 1991 التشريعية الملغاة على لسان علي بلحاج. هذا الرجل بلغ من تطرفه بل وجنونه، وجرأته على كل القوانين والقيم أن أصدر فتوى نشرها في جريدة الحزب أفتى فيها بجواز قتل أعوان الأمن إذا تعرضوا للإسلاميين في زحفهم نحو الاستيلاء على السلطة قبل إجراء الانتخابات التشريعية:
http://urlz.fr/2iZd
ويمكن قراءة بعض المقاطع منها في مقالي:
http://thevoiceofreason.de/article/12391
وفتوى أخرى نشرها في نفس الجريدة يكفر فيها الديمقراطية والحرية وكل القيم الغربية الحديثة التي اعتبرها بدعا يهودية مسيحية خطيرة على الإسلام والمسلمين كما اعتبر المنادين بها كفارا.
http://urlz.fr/2iZp
يمكن قراءة الفتوى الأخيرة في موقعه:
http://www.alibenhadj.net/play.php?catsmktba=367
ولكنها منقوصة بعد أن حذف مواقف كثيرة تدينه اليوم.
تحركت قوى سياسية ونقابية واجتماعية متعددة مطالبة بوقف هذه المسخرة وكان لها ذلك. بينما وقفت قوى أخرى ضد وقف المسار الانتخابي، وكان حزب القوى الاشتراكية القريب من الدوائر النيوكولونيالية الفرنسية بقيادة ميتيران ومباركة الأممية الاشتراكية من أشرس المدافعين عن حق الإسلاميين في الفوز وفي تولي مقاليد البلاد.
كما دعا بعض المثقفين إلى ذلك كنوع من "التقهقر المخصب" (régression féconde)، حسب تعبير عدي الهواري، مع ذلك سارع هو الآخر إلى الانتقال إلى العدوة الأخرى طلبا للسلامة والتفرج من بعيد، ولا يزال هناك. كذلك رأى الحسن الثاني ملك المغرب يومئذ نفس الرؤية عندما اقترح تمكين الإسلاميين في الجزائر من الحكم ليفشلوا وننتهي من شرهم. يعني كما يقول المثل الجزائري: "تعلمْ الحجامة في روس اليتامى".
تضحيات القوى الديمقراطية العلمانية التي وقفت ضد الإسلاميين كانت جسيمة، مئات الكتاب والصحفيين والمفكرين والفنانين جرى ذبحهم، لكنهم قليل من كثير من عشرات الآلاف من الجزائريين البسطاء دفعوا ضريبة الانسياق وراء الإسلاميين سواء بالسكوت أو الولاء أو المعارضة أو حتى الحياد.
من العار أن ننسى كل هذا ونقول مع أفنان القاسم: ""والحال هذه جعلت أمريكا (والغرب فرانسوا ميتيران بالذات الرئيس الفرنسي الاشتراكي بطل حقوق الإنسان) الجزائر لقمة سائغة للعساكر!"
نعم كانت مجزرة. كانت مجزرة بحق الشعب الجزائري أولا، ارتكبها الإسلاميون عن عمد وسبق إصرار، كما فعلوا طوال تاريخهم، وكما يفعلون اليوم في العراق وسوريا، بل وفي العالم الإسلامي ، وكانت أيضا مجزرة بحق الإسلاميين نفذها الجيش. لكن يجب أن نعترف أن الإسلاميين كانوا قد اكتووا بالنار التي أشعلوها مصداقا لقرآنهم: "اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة".
يتبع