الثورات العربية 4: العصر العربي الجديد


عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن - العدد: 3648 - 2012 / 2 / 24 - 13:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الثورات العربية 4: العصر العربي الجديد
نور الدين بوكروح. كاتب وسياسي جزائري، وزير سابق، مرشح سابق للرئاسيات.
نشر المقال بالفرنسية في
http://www.lesoirdalgerie.com/articles/2012/01/26/category-cat-41.php
ترجمة عبد القادر أنيس
الثورات العربية لا هي أُجْهِضت ولا هي اغتُصِبت، هي فقط شكلت فرصة سنحت لألئك الذين كانوا يترصدونها، منذ عشرات السنوات، للخروج من الظل. ما حصل للعرب لا هو ربيع ولا هو شتاء ولا هو شيء آخر يمكن أن يُعبَّر عنه بخصوصيات فصل من الفصول. إنهم فقط يدخلون عهدا جديدا هو لحظة مأساوية ومثيرة في نفس الوقت حيث يتم الفصل في الخيارات الحاسمة والمشاكل العويصة. ما لم يفعله المفكرون الحداثيون، العلماء أو الساسة في القرن الماضي، يتوجب على الشعوب أن تفعله باقتطاعه الآن من لحمها حيا.
على كل حال، هذا ما فعلته الأمم الأخرى. الثورات لم تنته في البلدان التي تم فيها التصويت وأعطى الأغلبية المطلقة أو النسبية للتيار الإسلامي، سوف تتوسع، إلى هذا الحد أو ذاك، لتشمل بلدانا عربية إسلامية، وحتى إلى غيرها، في أفريقيا وفي آسيا. قد يكون هناك استراحة تتريث فيها البلدان التي لم يحدث فيها شيء لتراقب نتائج وصول الإسلاميين إلى السلطة.
الفصل الأول للثورات العربية كان انتفاضة الشعوب في العديد من البلدان في وقت واحد، الفصل الثاني كان سقوط النظام، والفصل الثالث الانتخابات. الرابع سيكون وضع الإسلاموية محل اختبار. الجديد هنا ليس في وصولها إلى الحكم، فهي في الحكم دائما في ممالك الخليج، وهي في الحكم في الأزمنة الأخيرة في إيران وأفغانستان. في هذه البلدان، كان الإسلام السياسي يمارس في إطار حكم مطلق، لا يقبل المعارضة. الجديد، هو أن الإسلام السياسي، مع الثورات العربية، سوف يُمارَس في مجال مفتوح، في مناخ حرية التعبير، مع أحزاب منافسة ووسائل إعلام حرة. من وجهة النظر هذه، فإن انتصار الإسلامويين في انتخابات تونس والمغرب ومصر هو شيء رائع. فالشعوب التي تحررت هي الآن أمام اختبار منشود، مرهوب أو مؤجل منذ الاستقلال. لقد حان الوقت لمواجهة الوضع مهما كانت المرارات التي يمكن تجرُّعها. الآن، بعد أن خرج العفريت من القمقم وهو يقبع داخل الأسوار، يجب مواجهته. إنه الامتحان الأكبر الذي ينتظر الإسلامويين والذي تمكنوا من التملص منه إلى حد الآن لهذا السبب أو ذاك. يجب فقء الدُّمَّل مرة واحدة وإلى الأبد ومواجهة المشاكل، حيثما وُجدت، بدل مواصلة تسويفها أو الاضطرار إلى القيام بها والفأس على الرأس. لقد حان الوقت لتجاوز الارتهان الإسلاموي بإعطاء الأحزاب التي تتبنى الإسلام السياسي الفرصة لإبراز ما هي قادرة عليه. إذا برهن الإسلامويون على أنهم محترِمون للقوانين الجمهورية، وأنهم لن يزجوا ببلدانهم في طرق مغامِرة جريا وراء الأوهام، وأنهم يوفون بعهدهم بجلب العدالة والرخاء، حينئذ سوف يحكمون مادامت هذه رغبة التصويت الشعبي. لكن، إذا فشلوا في تحسين مصير مواطنيهم، أو أخلوا بالحريات المحققة مؤخرا، يومئذ سوف يطردون من الساحة السياسية، إن لم يكن بثورة، فهو بانتخاب في غير صالحهم. قد تمر البلدان المعنية بفترات عدم استقرار، توترات، وحتى عنف، لكن إذا توجب المرور من هنا، فمن مصلحة شعوبنا أن تفعل ذلك في أقرب وقت ممكن.
وعندما يتم امتحان الإسلام السياسي حتى نهايته، فإن عواقبه، سواء أكانت إيجابية أم سلبية، سوف تحرر الذهنية المسلمة، وبهذا التحرير فقط يبدأ تاريخ الجهود الحقيقية لأقلمة الإسلام مع العالم الحديث. أما إذا خيبت الحكومات الجديدة آمال شعوبها، فسوف يندثر الإسلام السياسي من عقول الناس بوصفه علاجا قادرا على حل مشاكل المسلمين. إذا تمكنوا من إطلاق ديناميكية تنمية وصعود في العالم كما يفعل ذلك منذ عدة سنوات حزب العدالة والتنمية التركي، فسيكون ذلك لأنهم فعلوا كما فعل هذا الحزب. لكن هذا الأخير إنما فعل ما فعل لأنه كان يتحرك في إطار دولة الحق الديمقراطي والعلماني واقتصاد لبرالي. إذا كانت إشادة الأحزاب الإسلاموية بحزب العدالة والتنمية التركي صادقة، فما عليها إلا استلهام مساره. إذا حدث وأعادوا في بلدانهم بعث إنجازاته الاجتماعية الاقتصادية وأظهروا تسامحه واحترامه للآخرين، حينئذ يمكن للإسلام السياسي أن يتطلع إلى السلطة في أي بلد في العالم. وعندما تتم هذه التحولات، فلن تجد من يشكك في انتصاراته الانتخابية لأنه سيصير حركة سياسية قادرة على الذوبان في الديمقراطية.
لكنه من التعسف المبكر، مع ذلك، أن نقارن الأحزاب الإسلاموية مع أحزاب الديمقراطية المسيحية الغربية، لأننا لم نر أيّاً من زعمائها يعد بالتطبيق الحرفي لتعاليم العهد القديم أو الجديد فيما لو وصل إلى السلطة، ولا عمل على توحيد الكنيسة مع الدولة. إنهم ديمقراطيون تماما وليس لهم من المسيحية سوى استلهام أخلاقي غامض. الأمريكيون من جهتهم، مشهورون بالمكانة التي يولونها للدين في حياتهم، لكن قوانينهم يشرعها الكنغرس وليست مملاة من الكهنة والقساوسة حاملي الإنجيل.
إن الشعوب التي قدمت تضحيات من أجل استعادة حريتها عليها أن تعرف السبب الذي قامت به من أجل ذلك وماذا يجب أن تفعل بهذه الحرية. عليها أن تختار أيَّ عالم تريد أن تعيش فيه: أهو عالم استبداد الأشخاص، والرجال المرسلين من العناية الإلهية أو رجال الدين، أم هو عالم ينبثق عن السير الحسن لمؤسسات ديمقراطية متينة وشفافة، عبر مساهمة كل فرد لخير الجميع، والاعتماد على النفس بدل انتظار المدد الأرضي أو السماوي. هل تريد شعوبنا أن تظل عامة ورعية خاضعة لهداية عشوائية لراع محمود أو مشؤوم، أم تريد أن تتحول إلى فاعلة لمصيرها؟ يتوجب عليها أيضا، في حالة بعضها، أن تصفي مسألة تعايشها المريرة مع أولئك الذين يتقاسمون معها الأوطان وينتمون إلى معتقدات وولاءات أخرى، مثل المسيحيين والشيعة. إلا إذا فضلت الحرب الأهلية وتفكيك البلاد كما فعل الإسلامويون في السودان، أو كما يمكن أن تفعل طائفة بوكو حرام في نيجريا.
لن تتوقف مرحلة ما بعد الثورات عند تولي الأحزاب التي فازت في أولى الانتخابات السلطة. ما نحن إلا في بداية عهد جديد سوف يشهد إقرار حياة سياسية جديدة ستوضح مع الوقت الأفكار والأشياء. ومع الوقت، سوف يتم استخلاص دروس، وتشكيل أحزاب، وعقد تحالفات، وبروز مجتمع مدني، وهيئة ناخبة تَرشُد بفضل نتائج انتخاباتها، كما سوف تتخلص العقول المسحورة مما مسها من سحر. الشجاعة التي أثارت مئات الآلاف من الأشخاص وحرية التفكير والتعبير التي انتزعت في خضم ذلك لن تتلاشى لا لشيء إلا لأن تيارات سياسية دينية قد وصلت إلى السلطة. إن أولئك الذين ثاروا ضد الدكتاتورية وواجهوا وسائل القمع الهائلة سوف يعودون إلى فعل ذلك إذا اقتضت الضرورة. لقد كانوا بالآلاف، أولئك الذين تواصلوا عبر الشبكة العنكبوتية، وسوف يصيرون بعشرات ومئات الآلاف. كان التوانسة يقولون أثناء ثورتهم «Un clic est plus fort qu’un flic» أي نقرة بالماوس أقوى من شرطي. وسائل الإعلام التي تحررت مؤخرا لن تطأطئ رأسها، الشبيبة المتواصلة لن تقبل بالقيود، النساء لن يقبلن بوضعية القاصرات. إذا كان هذا ممكنا سابقا فلم يعد ممكنا الآن. أولئك الذين وجدوا الشجاعة في أنفسهم للتمرد على الاستبداد المزمن سيجدون الشجاعة للثورة على الاستبداد الديني أو الدولة الشمولية. لن يقبلوا أن الأب الذي قتلوه يتم تعويضه بزوج للأم يفرض عليهم نفسه. وسائل الإعلام، الغيورة على حريتها الجديدة، سوف تدافع عن خطها الإعلامي وعن التعددية التلفزية. نقابات القضاة التي انخرطت في الثورة سوف تشترط وتحصل على استقلالية العدالة.
في المعارضة، سوف تعرّف أحزاب المعارضة بنفسها وهي تقف بالمرصاد للحكومة، وهي تقدم أداءها المضاد، وهي لا تتنازل للإسلاموية عن أي شيء يمكن أن يهدد مكتسبات الديمقراطية، وهي تقترح قوانين، وهي تبرهن للرأي العام أنها بديل موثوق فيه وكفء. وشيئا فشيئا، ستجد التجاوب الضروري لدى مواطنيها، وتمس فيهم أوتارا جديدة وستنتهي إلى استمالة البعض منهم إلى صفوفها. في هذه الحياة السياسية الجديدة المتحررة من الخوف والحظر، سوف تهتم الجماهير بالحوار السياسي، وتصدق ما ترى، وتشكل أحكامها الخاصة وتتحرر بالتدريج من الثقافة الثيوقراطية. المثقفون، الصحافيون، الفنانون والسينمائيون سوف يعبئون قدراتهم وعبقريتهم للمساهمة في هذه التوعية وفي بث مزيد من العقلانية في أوساط الجماهير. وسوف يسفر هذا كله عن أن الدين إيمان والسياسة هي فن الإدارة، وأن الله لا شأن له بأفعال الساسة، وأنه لم يكلف أحدا وأنهم لا يعبرون إلا عن أنفسهم. هذه هي الديناميكية الفكرية والسياسية التي سوف تقتحمها الشعوب العربية، بما فيها تلك التي لم تمسسها الثورة. هذه الشعوب تنظر بانتباه إلى هذه التجربة الجديدة التي تعنيها وتقع على عاتقها بنفس الدرجة. بهذه الطريقة، وشيئا فشيئا، سوف يتحول المواطنون العرب مثل غيرهم من مواطني البلاد الأخرى. من حقهم أن يؤمنوا، وأن يصلوا ويصوموا أو يحجبوا نساءهم، بشرط أن يحترموا قواعد اللعبة الديمقراطية، والمجال العام وحريات الآخرين، والأقليات العرقية و/أو الدينية، والأجانب والمعاهدات الدولية.
الجمهورية عبارة عن جمعية، عن عقد اجتماعي، عن تفاعل بين الحقوق والواجبات. إنها إطار حياة مرن، متكيف، مصمم لامتصاص صدمات التغيرات والتحولات والتقدم وحتى كوارث الطبيعة والتاريخ. هنا لا تأتي الحلول من لدن العناية الإلهية، بل من العمل والمساهمة اليومية لكل واحد في المجهود المشترك. لقد صادقت الثورات الجارية على يقظة الوعي العربي المسلم ضمن الأحجام التي عبرت عنها الانتخابات. الشعوب التي قامت بها لم تدخل إلى الديمقراطية، بل إلى عهد جديد يمكن أن يوصلها إلى الديمقراطية. هذا العهد الجديد سيبدأ بالمواجهة بين حراس الثقافة الثيوقراطية وحراس الدولة الديمقراطية، وسيتأكد مع تحديد معالم حياة دستورية تأخذ القيم الإسلامية بعين الاعتبار ولكن أيضا بتنوع المعتقدات، والآراء السياسية والعرقية. هذا العهد الجديد عبارة عن عصر، عن فسحة من الوقت خلالها يجب تجميع الشروط الضرورية، الواحدة بعد الأخرى، لإقامة حياة وطنية مسالمة ومتمدنة. كل تجربة جارية في العالم العربي الإسلامي ستكون مصدر إلهام، كل تجربة تفضي إلى بر الأمان سوف تتحول إلى سابقة، وكل سابقة ستجنح للتحول إلى قيمة، والكل يقدم للمسلم تصورا جديدا عن العالم. هذه التحول سيقود إلى ممارسة إسلام مستنير، متسامح، كما عرفه أسلافهم. المهم أن الطريق صار سالكا، وأن نتخذ لنا مكانا في المحور، وأن ننظر بعيدا أمامنا، فوق أكتاف المستبدين والعلماء الظلاميين لأن بينهم مستنيرين أمثال الشيخ ابن باديس أو الإبراهيمي في الجزائر. سيكون هذا، على المدى البعيد، المكسب الأكبر لهذه الثورات، عندما تكون قد صالحت الرجل العربي مع الحداثة، وباقي الكون. الوعد المنتظر من هذا المكسب هو أهم من الإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية. وهذا ما يجب، حاليا، أن نعده ضمن مكسبنا التاريخي. العهد الجديد سيفرض نفسه، فسير التاريخ يمليه ومثال المسلمين من غير العرب كما في تركيا وماليزيا وإندونيسيا التي قطعت شوطا كبيرا في طريق الحداثة والديمقراطية يبرهن عليه. سوف ينبثق عن هذا التلاقي ثلاثة تحولات: تحول التيار العصراني، وتحول التيار الإسلاموي وتحول الوعي الشعبي. لقد بدأت هذه التحولات منذ قرن، خاصة في الجمهوريات، لكنها عُرقِلت من طرف الاستبداد الذي كان يهمه الجمود عند هؤلاء وأولئك.
لقد اعتنق التيار التحديثي في نهاية القرن التاسع عشر إيديولوجيات انتهت إلى إبعاده عن غالبية الشعب، وعن مصالحه وقيمه: الماركسية، العلمانية (إيران الفهوية وتركيا الكمالية)، البعثية، اللبرالية... هذه الأيديولوجيات التي خدمت قضية التحرير والكفاح ضد الاستعمار تم تحويلها فيما بعد إلى أحزاب وحيدة وأحزاب مطية تستخدم كواجهة للاستبداد. الجمهورية والتعددية السياسية لم تكن سوى خدعة، كانتا تخفيان أنظمة تسلطية ضارية، كانت تسير منطقيا نحو إقامة ممالك أسرية. كما أن الإسلام السياسي الجذري، باعتباره مسخا عنيفا للثقافة الثيوقراطية، قد راكم على مر السنين خيبات ومكبوتات الشعوب وانتهى إلى تنصيب نفسه بديلا لفشل النخب الحداثية المدنية والعسكرية. ولهذا، وعندما قلبت الثورات العربية موازين القوى لصالح الشعوب، سارعت هذه الأخيرة إلى صب فوائدها في جراب التيار الإسلامي المنعوت بالمعتدل، باعتباره، حسب رأيها، لم يكن طرفا في قرن من الإدارة التحديثية ذات النتائج غير المقنعة.
فبنظرته المختلفة للسياسة وللشؤون الدولية، وخطابه الجديد ووجوهه الجديدة، كان يبدو لهم أنه سيحدث التغيير بصورة مثلى. واليوم، فإن الأحزاب الإسلاموية التي تولت المسؤولية وواجهت الحقائق الداخلية والخارجية، هي الآن مجبرة على اتخاذ صورة أحزاب حكم أو تتلاشى كفاعلة سياسية. الشعوب التي استرجعت كرامتها وحريتها، ستستعيد الثقة في نفسها وتدخل أكثر فأكثر في الحياة السياسية، مُطوِّرة بهذه الطريقة حسها النقدي ومفهومها للواقع. "الأغلبية الصامتة"، تلك التي لا تصوت وتتشكى فيما بعد من اختيار الآخرين، ستفهم أهمية صندوق التصويت في حياتها الخاصة وسيكون عليها أن تنخرط في انتقاء الأحزاب والأشخاص الذين سيديرون البلاد. وعندما يقوم كل طرف بهذه الجهود وينجز هذه التحولات، فإن القوى التي تنشط المجتمع سينتهي بها المطاف إلى التلاقي في تسويات ويقبل بعضها البعض ضمن لعبة التداول.
هناك خطر، أكثر فداحة من العودة إلى القرون الوسطى، يحوم فوق الشعوب العربية التي تحررت أخيرا، هو خطر الفوضى. إذا تواصلت القلاقل أكثر مما يمكن احتماله، وراحت الحكومات تتعاقب كأنها في حلبة عروض الفروسية (الروديو) حيث يتناوب الفرسان على صهوات الخيول الحرونة لكي يُلقَى بهم مباشرة على الأرض، هنا الخطر على الثورة. لقد تم كسر الديناميكية الاقتصادية في تونس ومصر ولن يكون بالوسع تعويضها بديناميكية جديدة في القريب العاجل. سيتطلب الأمر من أجل ذلك وقتا أطول. لكن، إذا تعرض الموقف الاجتماعي والقيم والمعاملات إلى هزات عنيفة، فستتأثر بذلك الاستثمارات المحلية والأجنبية، وهو ما يعرض للخطر عودة هذه القطاعات إلى حيويتها مثل السياحة، ويزيد في مفاقمة الوضع، فما نعرفه عن الإسلام السياسي هو نفاد صبره لإحداث التغيير في الأخلاق والمعاملات.
الشعوب تنتظر أكثر من السلطات الجديدة مما لم تكن تفعله مع السابقين. فالأوائل ليسوا مدينين بشيء لها بينما الأخيرون مدينون لها بكل شيء. فحرية التظاهر أو الدخول في الإضراب قد فرضت نفسها، ووسائل الإعلام فتحت للجميع، وبرزت مطالب هائلة للوجود، مرعدة مزبدة. قبل أسبوعين استقبل منصف المرزوقي برفقة الوزير الأول الجديد في القصرين بصيحات "ارحل" (dégage !). لقد كانا قد ناديا، في وقت سابق، المضربين والمحتجين إلى "هدنة لمدة ستة أشهر" لإعطاء الحكومة الجديدة فرصتها. كان المرزوقي نفسه قد لوّح بخطر "الانتحار الجماعي" إذا لم يستعد الاقتصاد عافيته بسرعة ولم يعد الناس إلى نشاطاتهم. إننا، في تونس، إزاء الحكومة الثالثة أو الرابعة منذ رحيل بن علي، بينما في مصر توقف عدها منذ سقوط مبارك. في ليبيا، لا تعترف وحدات من الثوار بقرارات المجلس الوطني الانتقالي وترفض تنفيذ أوامره. لا تريد التخلي عن سلاحها وتطالب بالمشاركة في الهيئات القيادية. نشبت مواجهات هنا وهناك لا تبشر بخير. في هذا البلد، حيث لم يكن موجودا سوى القذافي وكتابه الأخضر العبثي، وحيث يجب أن يبنى كل شيء من العدم.
المسلمون هم في عام 1432، بينما الروزنامة العالمية تسجل 2012. ولنفهم صعوبة تأقلمهم مع الديمقراطية، يجب إعادتهم إلى العصر الذي كانت فيه البلدان الأوربية تخرج من العصر المسيحي لتدخل الأزمنة الحديثة في شكل دول قومية، هناك في مكان ما في عصر سافونارول (1452-1498) الذي كان قد أسس في فلورانسه دولة ثيوقراطية قبل أن ينتهي مشنوقا ثم محروقا بسبب تزمته. ولا يجب أن نحكم على الشعوب التي تحررت مؤخرا بمقارنتها فقط بالبلدان الأوربية، بل بمقارنتها بالشعوب العربية أو غيرها، التي لم تثر على الاستبداد. في نظر هذه الأخيرة، فهي قد خطت خطوات عملاقة للحاق بالألفية الثالثة.
ن. ب.

انتهى