عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر


أحمد القصير
الحوار المتمدن - العدد: 4747 - 2015 / 3 / 13 - 22:47
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني     

حوار أجرته مجلة الثقافة الجديدة بالقاهرة مع أحمد القصير المناضل الشيوعي عن حدتو والحركة الوطنية المصرية وعن الإخوان المسلمين
عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر ::
آجرت إحدى مجلات وزارة الثقافة هذا الحوار معي بناء على طلب رئيس تحريرها . ولدى المجلة نسخة تحمل كل صفحاتها توقيعي- أحمدالقصير.
000
فيما يلي نص الحوار:
+ في حوار أجرته مجلة الثقافة الجديدة مع الدكتور أحمد القصير أحد رموز منظمة حدتو وأحد أقطاب اليسار المصري منذ الأربعينات وحتى الآن في محاولة منها للتعرف على تاريخ اليسار في مصر وتأثيراته على الواقع المصري اجتماعيا وسياسيا وثقافيا والموقف من التيارات الأصولية التي وصفها أثناء الحوار بأنها جماعات غير وطنية . وبدأنا معه الحوار بالسؤال حول منظمة حدتو . ما هي ؟
+
- نحتاج أولا تحديد ما هو المقصود باليسار. فأحداث السنوات القليلة الماضية أوجدت خلطا وتشوشا حول بعض المفهومات ومن بينها مفهوم "اليسار" ومفهوم النضال الوطني الذي تم استبداله بكلمة مضللة هي كلمة "الناشط السياسي". وهي كلمة تخفي هوية هذا "الناشط" ونوعية أهدافه. فهي تضع من يناضل من أجل الوطن وحريته ومن يسعى إلى غرض مشبوه في خانة واحدة، ولا تفرق بينهما. ومن جانب آخر ظهر يساريون وأحزاب يسارية مزيفة تجاهلوا كلية القضية الوطنية والاستقلال الوطني ولا يعرفوا أنه لا حرية بلا وطن.
دعنا نبدأ بما أفهمه عن مفهور اليسار الذي انتميت إليه وناضلت في صفوفه. واستند أيضا في ذلك إلى مسار الحركة الوطنية في مصر. وعلى سبيل المثال كان في حزب الوفد في أربعينات وخمسينات القرن العشرين جناحا يساريا من أبرز شخصياته عزيز فهمي ومحمد مندور السياسي والناقد الأدبي المشهور. كان هناك تنظيم "الطليعة الوفدية" الذي صدر عنه مؤخرا كتابا عن هيئة قصور الثقافة. وبشكل عام لا يوجد يسار إلا ارتباطا بالوطنية، أي التحرر الوطني. وهو ما يمثله اليسار الماركسي، أي الشيوعي متمثلا بوجه خاص في منظمة "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" المسماة اختصارا "حدتو". وتعبر هذه التسمية في حد ذاتها عن سمة أساسية لليسار. ولعبت هذه المنظمة الشيوعية أدوارا محورية في تاريخنا الوطني ستظل باقية وممتدة في التاريخ.
لكن تم ويتم حتى الآن التعتيم على هذه الأدوار ومحاولة طمسها وإخفاءها عن الرأي العام. ويتحمل المؤرخون بوجه خاص مسؤولية التقصير وابتعادهم عن تناول هذا الجانب الرئيسي في تاريخنا الوطني. وعلاوة على ذلك هناك دوائر مختلفة عملت بدأب على التعتيم على هذا التاريخ وتشويهه بل وتزويره. ومن أمثلة ذلك أكاذيب ترددت حول الكفاح المسلح الذي نشب في منطقة قناة السويس ضد قوات الاحتلال البريطاني عام 1951. فقد زعموا مثلا أن جماعة الإخوان المسلمين شاركت في ذلك بينما الحقيقة عكس ذلك. فقد قابل حسن الهضيبي مرشد الإخوان الملك فاروق وأبلغه بأن الإخوان لن يشاركوا في "كتائب التحرير" ضد الانجليز. وخرج بنفسه وأعلن ذلك. وهذا ما تم توثيقه في كتابات المؤرخين خاصة عبدالرحمن الرافعي.
لابد أن نذكر أن "حدتو" كانت عنصرا رئيسيا في ذلك الكفاح المسلح. وسقط من أبنائها شهداء. وللأسف لم نشهد في يوم ما أي احتفاء بالشهيد "عباس الأعسر" عضو حدتو وابن محافظة الشرقية والطالب بجامعة الاسكندرية الذي استشهد في ذلك الكفاح. ولا شك ان اليسار نفسه يتحمل مسؤولية التقصير. فقد أهمل إحياء ذكرى أبطاله.
+ ماذا قدم اليسار المصري للمصريين؟
- أولا – قام أبناء حدتو وعلى رأسهم شهدي عطية بتأسيس "اللجنة الوطنية للطلبة والعمال" وهي التي نظمت وقادت الهبة الشعبية التي بلغت ذروتها في 21 فبراير 1946. ولم يشارك الإخوان المسلمون في تلك الهبة بل وقفوا ضدها. كما وقفوا مع الطاغية اسماعيل صدقي رئيس الوزراء الذي قام بحملة تنكيل بزعماء تلك الهبة الشعبية. ووقف الإخوان في جانب رئيس الوزراء وبايعوه، وامتدحه أحد قادتهم منافقا اسماعيل صدقي وفي حضوره قائلا: واذكر في الكتاب اسماعيل إنه كان صادق الوعد رسولا نبيا.
ثانيا - كان زميلنا شهدي عطية هو الذي قام مع عبدالمعبود الجبيلي عام 1945 بوضع البرنامج السياسي الاقتصادي الاجتماعي للمرحلة في كتاب "اهدافنا الوطنية".
ثالثا - أدت تلك الهبة التي نظمها وقادها الشيوعيون إلى جلاء القوات البريطانية عن القاهرة والاسكندرية واختفت معسكرات الجيش البريطاني من ميدان الاسماعلية أي التحرير حاليا.
رابعا- قام اليسار الماركسي متمثلا في منظمة حدتو بتعبئة الجماهير خلال 1950-1951 لإلغاء معاهدة 1936 التي كانت تربط مصر ببريطانيا. وقامت أيضا بتنظيم الكفاح المسلح عام 1951 ضد القوات البريطانية. وفي هذا المجال تعاون معها جمال عبدالناصر بتزويدها بالسلاح. وقام ضباط حدتو بدور هام في هذا الصدد من بينهم الضابط أحمد حمروش وكان عضوا قياديا بحدتو.
خامسا- شاركت حدتو في التحضير لثورة 23 يوليو. وقام أبناؤها بصياغة برنامج تنظيم الضباط الأحرار وطباعة منشوراته. ومن بنوده ذلك البرنامج:
1- إقامة جبهة وطنية ضد الاستعمار والقصر الملكي. 2 - عدم الاشتراك في الأحلاف العسكرية. 3 - إقامة حياة برلمانية. 4 - تحقيق عدالة اجتماعية.
سادسا- شاركت حدتو في تنفيذ الثورة، وأصبح يمثلها في مجلس القيادة يوسف صديق وخالد محي الدين. لكن حدث خلاف بين حدتو وعبدالناصر عندما اتخذ مجلس قيادة الثورة القرارات التالية في منتصف يناير 1953: 1- إلغاء انتخابات برلمانية كان من المقرر أن تجري في فبراير 1953. 2- حل الأحزاب السياسية. 3- تحديد فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات. وبدأت الصراعات. وشكلت حدتو جبهة وطنية ديمقراطية من أجل إعادة الحياة البرلمانية. وكان محمد نجيب قد أعلن في ديسمبر 1952 إلغاء دستور 1923. وعلى إثر تشكيل حدتو تلك الجبهة تم التنكيل بحدتو والقبض على قادتها وكوادرها واعتقالهم وتعذيبهم بالسجن الحربي. حدث ذلك بعد أن قرر مجلس قيادة الثورة في نوفمبر 1953 محاكمتهم أمام "محكمة الثورة". ولكن حدثت تطورات في فبراير1954 قامت محمة الثورة على إثرها بتحويل القضية إلى محكمة عسكرية.
وفي مارس 1954 اجتمع ضباط حدتو بسلاح الفرسان وطالبوا بعودة الحياة البرلمانية واضطر مجلس قيادة الثورة في اليوم التالي، أي 25 مارس أن يتخذ قرارات تقضي بعودة محمد نجيب للرئاسة وأن يشكل خالد محي الدين وزراة تقوم بإجراء انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور. لكن بعض القيادات الوسطي من الضباط عملت بترتيب مع عبدالناصر على إلغاء هذه القرارات. وكادت أن تقوم حرب بين أسلحة الجيش. وعندما تم إلغاء تلك القرارت استقال خالد محي الدين من مجلس قيادة الثورة. وكان يوسف صديق قد استقال في مارس 1953 عندما تم حل الأحزاب وحدوث اعتقالات لبعض الضباط.
ومع ذلك كانت حدتو هي بطلة تنظيم المقاومة وتوحيد فصائلها في بورسعيد بعد تأميم قناة السويس ووقوع العدوان الثلاثي في 1956. إذن هناك تاريخ وطني يتم التعتيم عليه. وأنا أحمل اليسار أيضاً مسئولية عدم الاهتمام بإبراز هذا الدور. كما أغفل إبراز دور شخصيات رئيسية من بينهم أدباء وفنانين ومثقفين. عندك على سبيل المثال كمال عبدالحليم صاحب نشيد "دع سمائي" وأحد القادة الرئيسيين في منظمة حدتو. وكان مسئولاً عن مكتب الأدباء والفنانين. ونذكر أيضاً فؤاد حداد وديوانه "حنبني السد"، وصلاح جاهين وديوان "كلمة سلام" و" وموال عشان القنال". هذه الأعمال تحتاج إلى إعادة نشر من جديد. هناك حاضن شعبي للتطورات السياسية وللفنانين والأدباء والمبدعين الذين شاركوا في العمل الوطني دون ان يعرف الناس أن هؤلاء كانوا مناضلين أشداء في صفوف اليسار الماركسي ممثلا في حدتو. وعلى سبيل المثال كنت معتقلا مع فؤاد حداد لمرتين. الأولى مدتها حوالي ثلاث سنوات والثانية أكثر من خمس سنوات.
التاريخ الذي تحدثت عنه عبارة عن تراث وطني وبدونه لم يكن في الإمكان أن تحدث التطورات التي نعيشها الان. أعني دفاع المصريين عن الهوية الوطنية الذي شهدته مصر في ظل حكم الإخوان. علينا الاحتفاء بهؤلاء. فهم الذين احتفوا أيضا برموز مصر. وإذا استعرضنا أعمال فؤاد حداد نجدها تحتفي مثلا بمحمد عبيد الضابط الشهيد في معركة التل الكبير في مواجهة قوات الغزو البريطانية عام 1882، وأحمد عرابي زعيم الثورة العرابية الذي مجده فؤاد حداد بشعره قائلا:
اصحي يا مصر يا عياشة
ادي رغيف العيش
لأحمد عرابي باشا
أمير لواء الجيش.
•+ بعد مرور ما يزيد عن 60 سنة من الأحداث الكبرى لليسار لماذا تحول إلى مجرد يافطات ومكاتب صغيرة.
- سأحاول أن أتعرض لهذه المسألة. لكن أود أولاً أن أضيف بعض الكلمات عن دور اليسار الماركسي في الحياة الثقافية والفنية. في مجالات الصحافة والإخراج الصحفي أحدث اليسار برموزه الكبار تطوراً رئيسياً. وعلى سبيل المثال: عن طريق مجلة – صحيفة أسبوعية اسمها "الكاتب" كان رئيسها يوسف حلمي وسعد الدين كامل ظهر صلاح جاهين وفؤاد حداد وعبدالرحمن الشرقاوي، أي أن الشعر المرتبط بالوطن ارتبط بهؤلاء، دعنا من كمال عبد الحليم الذي كان الرائد. ويمثل هؤلاء ثلاثة أشكال من الشعر. كمال عبدالحليم برز في منتصف أربعينات القرن العشرين وأضفى على القصيدة الجديدة طابعها السياسي الثوري. وهو أحد ثلاثة ابدعو القصيدة العربية المعاصرة، وهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وكمال عبدالحليم. كما ان عبدالرحمن الشرقاوى هو صاحب قصيدة "من أب مصري إلى الرئيس ترومان" التي سار على منوالها صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي ثم امل دنقل وآخرون. وكانت "دار الفن الحديث" التابعة لحدتو هي التي نشرت قصيدة من اب مصري. وقام بتقديمها ابراهيم عبدالحليم عضو لجنة حدتو المركزية. أما فؤاد حداد وصلاح جاهين فقد أحدثا قفزة في شعر العامية الذي كان رواده ابن عروس والنديم وبيرم.
علينا أن نعرف مثلا أن اسماعيل صدقي رئيس الوزراء قرأ بمجلس الشيوخ في عام 1946 أبياتا من شعر كمال عبدالحليم منبها أعضاء المجلس بأن هذا الشعر يعني أن الثورة قادمة. وكان ذلك في اعقاب الحملة الأمنية التي شنها ضد القوى الوطنية ومن بينهم كمال عبدالحليم ومحمد مندور وآخرين. وإلى جانب هؤلاء لابد ان نذكر الشعراء المناضلين الأخرين من أبناء حدتو خاصة محمود توفيق وعبالرحمن الخميسي.
الأدباء الماركسيون صفحة ناصعة. ولا يمكن تصور الثقافة المصرية بدونهم. وفي مجال القصة والرواية الواقعية لا يمكن أن نغفل الرواد في هذا المجال وأولهم ابراهيم عبدالحليم وعبدالرحمن الشرقاوي ولطيفة الزيات ويوسف ادريس. وينضم إلى هؤلاء زميلنا الشاعر النوبي محمد خليل قاسم مؤلف رواية "الشمندورة" عن النوبة. أما التطور الصحفي الذي أقصده فهو الذي أحدثته "الكاتب" و"الملايين" و "الغد" . وهي صحف ومجلات اصدرتها حدتو. وكان فرسان هذا العمل أبناء حدتو من الفنانين التشكيليين حسن فؤاد وعبدالغني ابوالعينين وزهدي وجمال كامل واخرين. حسن فؤاد وضع مع عبدالغني ابوالعينين ماكيت مجلة صباح الخير. وهما وراء تميز مؤسسة روز اليوسف. حسن فؤاد هو الذي كتب سيناريو فيلم الأرض. وكانت الرسوم بريشته عندما تم نشر رواية الأرض في صحيفة المصري. كما اسس مركز الفيلم التسجيلي الذي تولى إدارته فيما بعد سعد نديم أحد ثلاثة كبار في مجال إخراج الفيلم التسجيلي في مصر. ولحسن فؤاد تجارب ثقافية هامة أثرت في حياة كثير من المثقفين ولا يتم ذكرها. وأعني بذلك ثلاثة إصدارات من مجلة "الغد". وكان رئيس تحريرها. وتعتبر مجلة الغد علامة جديدة في مجال الثقافة. الإصدار الأول كان في 1953. وتم مصادرة المحلة بعد خمسة أعداد. والإصدار الثاني في 1959 وتم مصادرتها سريعا. وجاء الإصدار الثالث عام 1985. وتوفي حسن فؤاد بعد عددين من هذا الإصدار الثالث. وكنت عضوا في مجلس تحرير هذا الإصدار مع الكبار: الأديب ابراهيم عبدالحليم والفنان التشكيلي زهدي والصحفي الشهير صلاح حافظ والأديب شريف حتاتة والشاعر كمال عبدالحليم وآخرين. إلى جانب ذلك أحدث حسن فؤاد أيضاً تغييراً في إخراج الكتاب. ويظهر ذلك في أول طبعة عام 1951 من ديوان "إصرار" الصادر عن دار الفن الحديث. وفي اصدارات "دار الفكر" وفي أعمال آخرى مثل الطبعة الرابعة من ديوان إصرار أيضا عام 1983. لا يمكن تصور الصحافة المصرية ولا إخراج الكتاب دون أن نذكر أيضا الفنانين التشكيليين زهدي وجمال كامل وصلاح جاهين وعبدالغني أبوالعينين وآخرين. كان جميع أؤلئك الرواد طلائع ونماذج للمثقف العضوي.
وشملت الإسهامات الفنية لليسار الماركسي أيضاً الفيلم الروائي والفيلم التسجيلي علاوة على جانب ثالث هو نشر الثقافة السينمائية. ربما لا يعرف الكثيرون أن حدتو عن طريق "دار الفكر للنشر" شكلت في منتصف خمسينات القرن العشرين "لجنة نشر الثقافة السينمائية" بعضوية صلاح أبوسيف وسعد نديم وعبد القادر التلمساني وآخرين، وشكلت أيضا لجنة لكتابة تاريخ السينما المصرية بعضوية المخرجين أحمد بدرخان وأحمد كامل مرسي وكامل التلمساني وعبدالقادر التلمساني. وهذه اللجنة لم تواصل عملها بسبب اعتقالات يناير 1959 وصدور قرار جمهوري بإغلاق دار الفكر. لكن لجنة نشر الثقافة السينمائية استطاعت أن تنشر كتابات عديدة. وكان لها تأثيرها ولا زال دون أن يعرف الناس مصدرها. وقد نشرت دار الفكر أعمالا مترجمة ومؤلفة عن الثقافة السينمائية. وقد أحسنت الهيئة العامة للكتاب عندما أعادت مؤخرا نشر كتاب كامل التلمساني "سفير أمريكا بالألوان الطبيعية" الصادر عام 1957 وهو عن دور الفيلم الأمريكي في تزييف الوعي.
أيضاً في مجال حماية التراث الفني. هناك حقيقة لا يعرفها الكثيرون تتعلق بالتراث الفني لسيد درويش. أبناء حدتو هم الذين أحيوا تراث سيد درويش ونشروا ألحانه عن طريق يوسف حلمي. وهو شخصية سياسية، وكان من كبار المحامين والصحفيين وهو أيضا كاتب قصة. فهو الذي أسس "جمعية أصدقاء سيد درويش"، وما زالت قائمة حتى الآن. كما كتب دراسات عن سيد درويس قرأت البعض منها في أعداد الإصدار الثاني لمجلة "الغد". وعلاوة على ذلك كنا أول من تغنى بنشيد "بلادي بلادي".. كان ذلك داخل المعتقلات قبل أن يصبح نشيداً وطنياً. ونفخر بهذا. كنا نحتفل بالمناسبات الوطنية داخل المعتقلات بترديد هذا النشيد لسيد درويش. وعندما كان يتم ترحيلنا من معتقل إلى آخر نغني في الطريق بلادي بلادي، هذا التاريخ غني ونحن نعتز به. ولكن للأسف الشديد يغيب عنه المؤرخون والمثقفون والأجيال الجديدة من اليساريين الذين يتم انتقادهم لأنهم انقطعوا عن هذا التاريخ الذي يعتبر من العناصر الرئيسية للوجدان المصري.
• + نعود إلى سؤالنا السابق وهو ما الذي حدث لليسار في مصر وأين كان عندما صعد التيار الراديكالي إلى السلطة.
- هنا توجد عدة عوامل من بينها التغيرات التي حدثت في المجتمع وفي البيئة الاجتماعية والتي أصابت العقل العام. فقد تم تفكيك الاقتصاد، وأصيبت الحياة العقلية والثقافية بالخلل. وكان لذلك الوضع تأثيراته السلبية على اليسار بوصفه من مكونات المجتمع المصري. وقد حدث الخلل بفعل عوامل عديدة. ومن بينها التأثيرات السلبية لهجرة المصريين إلى بلاد البترول في الجزيرة العربية والخليج. وعلاوة على ذلك هناك اجراءات الرئيس السادات الذي أطلق جماعة الإخوان المسلمين لنشر الفكر المتخلف السلفي ولمحاربة اليسار. وأطلق هذه القوى الظلامية داخل الجامعات لضرب المناضلين الاشتراكيين بالجنازير، وأطلق أيضا أجهزة الإعلام لنشر الغوغائية والغيبيات والتشوش العقلي. كما قام بتجريف الحياة السياسية والثقافة والمثقفين. وسيطرت الغوغائية على الشارع. ولم يقاوم اليساريون بالشكل الكافي هذه العملية التدميرية الممنهجة التي واصلها حسني مبارك. لكني أتذكر الموقف الشجاع للروائي يوسف ادريس الذي نبه لهذا الخطر، وكتب قائلا "تعالوا ننظف مصر".
ومن العوامل الذاتية لضعف اليسار الماركسي تحول عدد من البعثيين والناصريين وانخراطهمم في النشاط الحزبي لليسار الماركسي دون الخلاص من خلفياتهم الفكرية ودون انصهار فكري ونضالي في بوتقة العمل الشيوعي. وللأسف يتولى الآن بعض هؤلاء المتحولين رئاسة أحزاب يسارية لا صلة لها بالتاريخ النضالي الذي تحدثت عنه. وقد كتبت منذ فترة وجيزة عن هذا الأ"مر، وأوضحت أنه من بين أسباب ضعف اليسار وانقسامه وعائق أمام وحدته. بل قلت تحديدا: المتحولون إلى الماركسية من البعث ومن توجهات أخرى أحد عوامل تفتت اليسار المصرى وعائق أمام وحدته وأحد أسباب تباين مواقفه السياسية وتخبطها، ووصل الأمر ببعض هؤلاء المتحولين إلى حد التحالف مع الإخوان. وإلى جانب ذلك عمل هؤلاء على عزل الأجيال الحديدة عن التاريخ النضالي السابق. ويعتبر هذا العزل وانقطاع الأجيال الجديدة عن النضال السابق من أبرز عوامل ضعف اليسار الماركسي حاليا. فهو يحرمهم من الخبرات النضالية التاريخية، ويحرمهم من الاعتزاز والفخر بذلك التاريخ الذي هو عبارة عن تراكم الخبرات. لكن الأجيال الجديدة تتحمل أيضا مسؤولية ذلك الوضع الذي يضعهم في حاله من التحليق في الفراغ والسير وراء أوهام بأن هناك ثورة مستمرة.
وأود أيضا الإشارة إلى حزب التجمع. قام بأدوار هامة وتعرضت للمحاصرة. وتركيبته جعلته يبدأ كجبهة وليس حزبا موحد الفكر. وبالتالي حدثت صراعات وانشقاقات، وخرج منه البعض. وكان ذلك من أسباب ضعف اليسار. ومع ذلك كان نوابه في البرلمان أذكياء وشجعان ولهم تأثير رغم ضآلة عددهم.. ولكي لا نظلم التجمع لا يجب أن ننسي أنه واجه محاصرة ومصادرة ثم هجوماً ليس بريئاً على الإطلاق وبشكل مركز هدفه ضرب اليسار وإضعافه وليس بدوافع وطنية. وحدث مؤخرا الانقسام. وكان أهم أسبابه الصراع حول التحالف مع الإخوان من عدمه. وأسس الذين انقسموا عن التجمع حزبا تحالف مع الإخوان والأتباع والفروع مثل عبدالمنعم ابوالفتوح، وشارك الاشتراكيون الثوريون في تاسيس هذا الحزب مع أنهم يعملون على هدم الدولة. إذن لابد أن نضع الأمور في نصابها.
• + من هم الاشتراكيون الثوريون؟
- بالنسبة للاشتراكيين الثوريين علينا أن نعرف أنهم جماعة تابعة مرتبطة بحزب العمال البريطاني الاشتراكي. ويتبنون فكرة هدم الدولة الوطنية. إذن فكرهم يلتقي مع الفكر الإخواني الذي لا يعترف بالدولة الوطنية، ولهذا يوجد تحالف بينهم وبين الإخوان منذ نشأتهم. وقد تابعت شخصياً مؤتمرهم السنوي الذي كان يتم في نقابة الصحفيين ويرعاه الإخواني محمد عبدالقدوس، ويحضره شخص بريطاني اسمه "كريس هارمان". وهم يعتبروه بمثابة المرشد. وهذا الشخص توفي في القاهرة في بيت أحد الاشتراكيين الثوريين عقب انعقاد مؤتمرهم في نقابة الصحفيين عام 2009. وقام هذا الشخص بتأليف كتاب عنوانه "النبي والبروليتاريا" ونشره الاشتراكيون الثوريون بزعامة كمال خليل، وقاموا بتأبينه واعتبره كمال خليل في خطبة التأبين مناضلا عالميا عظيما.
• + في ظنك ما هي الأخطاء التي وقع فيها الماركسيين المصريين من بعد مجيء عبدالناصر حتى وقتنا هذا؟.
- ليست أخطاء بل عوائق.. هناك عوائق داخلية وخارجية، الداخلية أحد بنودها هو انقسام اليسار علاوة على بدعة أخرى روجتها مختلف الدوائر سواء رجعية أو استعمارية أو عناصر من داخل الحركة الشيوعية، وهي عناصر فاقدة الرؤية زعمت أن تحالفنا مع عبد الناصر وتأييدنا لقيام ثورة 23 يوليو 1952 كان خطأ ويستحق الإدانة. وقال أيضا هؤلاء الذين انتقدوا موقفنا المؤيد لثورة يوليو أنها ليست ثورة وطنية ولكن انقلابا أمريكيا. والغريب أن هؤلاء أصبحوا فيما بعد وزراء عند الرئيس السادات. ولا تزال تلك الرؤية الخاطئة والمتخبطة تمثل أحد المشاكل السلبية الموجودة الآن، وهي التي جعلت بعض اليساريين أو من يدعون ذلك يتناسوا القضية الوطنية إلى درجة أن بعض الموجودين على الساحة الآن ردد ولا زال يردد شعار الإخوان "يسقط حكم العسكر". ويتجاهل هؤلاء أن جيش مصر يخوض حربا دفاعا عن وجودها.
• + نحن معنيون بفكرة عودة اليسار بعد هذه الثورة العظيمة هل هذا ممكن ؟
- لن يعود إلا بالارتباط بالقضية الوطنية وحماية الدولة وحماية الهوية المصرية وبعد التصدي للقوى المعادية للقوى الوطنية، أي التصدي للذين يعملون على هدم الدولة والانتقاص من هويتها. وإنجاز ذلك يتطلب قوى جديدة. ويتطلب الأمر وقتا.
• + اليسار الماركسي والإخوان المسلمون من أين كان تمويلهم؟
- فيما يخص التمويل. تمويل الإخوان عن طريق الحكومات الرجعية وبلاد البترول العربية وأوربا خاصة الانجليز. أما اليسار ففي الماضي كان يتم الإنجاز وعمل أعمال باهرة بتمويل ذاتي. لذلك أنا لا أعتبر أن الذي يحصل على تمويل وتدريب الآن، سواء كانوا جمعيات أو أحزاب يسارياً. هؤلاء ينتحلوا صفة اليسار ويسيئوا إليه. ولدينا أحزاب نشأت بعد الثورة ولم يخرج منهم أحد ينادي مثلا بتجديد الخطاب الديني ولم ينتقدوا الفكر السائد؟ وقد دعوتهم شخصيا أكثر من مرة لتجفيف منابع الإرهاب عن طريق خوض معركة لتوحيد التعليم وتخليص العقل المصري من الازدواجية الناتجة عن وجود تعليم ديني أزهري وتعليم مدني بوزارة التربية والتعليم. وقلت لن يتخلص العقل المصري من التشوش ولا من منابع الإرهاب إلا بإلغاء التعليم الأزهري في كافة المراحل وضم كل المعاهد والمدارس الأزهرية إلى وزارة التربية والتعليم وتدريس مناهج الوزارة بتلك المدارس والمعاهد علاوة على فصل جميع كليات العلوم الإنسانية والعلوم الطببيعية عن جامعة الأزهر والإبقاء فقط على كليات أصول الدين والشريعة وما شابه ذلك. ولم يستجب أي حزب ربما حزب التجمع هو الذي التفت إلى هذه القضية، لكن لم يبذل أي جهد لخلق حركة جماهيرية لعمل هذا. ولن تتخلص مصر من منابع الإرهاب ومن التفكير المزدوج إلا بهذه الإجراءات.
• + أين اليسار الآن من الحركات الجماهيرية؟
- اليسار ضعيف نتيجة عوامل تاريخية وأخرى آنية. ولا توجد الآن قوى يسارية قوية وهي تحتاج لإعادة بناء من جديد. وهناك محطات تاريخية جاءت مع فترة لاحقة بعد نهاية المرحلة الثانية للحركة الشيوعية عام 1965 وبداية تأسيس المرحلة الثالثة للحركة عن طريق ظهور "التيار الثوري".
• + ما هو الحل لإعادة اليسار إلى المشهد من جديد؟
- يمكن القول بأنه يمر بحالة ضعف وانعدام وزن. فاليسار يجب أن يكون قلب الحركة الوطنية والديمقراطية. وهذا غير موجود الآن ونحتاج لبنائه وأن يحاط بالقوى الوطنية والقوى الديمقراطية معاً، فالضعف والتشوه أصاب المجتمع أي الجميع ولم يصيب اليسار فقط. وأحد أسباب ذلك هو تجريف الحياة السياسية بصفة عامة في عصر السادات ثم في وقت حكم مبارك ودعمهما للإخوان والسلفيين.. كما أن الشخصيات الوطنية السابقة أمثال شهدي عطية وسلامة موسى ومحمد مندور ولويس عوض وعبدالرحمن الشرقاوي وكمال عبدالحليم ولطيفة الزيات وغيرهم لم يعد لها مثيل، وظهر بدلا منهم شخصيات كرتونية متأثرة بالعولمة وليبرالية تابعة للغرب. وذلك علاوة على اختراق المجتمع من دول البتررول والدول الغربية. كما أن أمثال جمال حمدان صاحب كتاب "نهضة مصر" لم يعودوا موجودين الآن لسبب ذاتي وسبب موضوعي.
• + بعد سقوط القطب الشرقي الاتحاد السوفييتي وظهور العولمة وسيادة الموجة الرأسمالية الكبرى وسياسة الانفتاح الاقتصادي هل تجاوز الواقع فكر اليسار؟.
- الفكر الإنساني والتطلع للعدالة سيظل خالداً ما بقي الإنسان على الأرض. وهو ربما يخفت أحيانا لكنه لن يموت. نعم انهيار الاتحاد السوفييتي أكيد له أثر، لكن سيطرة أمريكا لن تدوم بسبب تأثير عوامل دولية ومحلية. وتعتبر ثورة 30 يوليو 2013 من العوامل التي تساهم في إعادة التوازن الدولي وإضعاف الهيمنة الأمريكية على العالم وذلك علاوة على دور المحور الدولي روسيا والصين. ومن المميزات التاريخية للشيوعيين المصريين صفة الاعتماد على الذات في نشاطهم ونشر فكرهم. فلم يتلقوا دعماً من أي جهة. وكانت حدتو تتخذ قرارات ومواقف تتعارض مع الفكر الشيوعي السائد في العالم. بل إن تأييدنا لثورة 23 يوليو تم في ظل معارضة للشيوعيين في العالم خاصة في أوروبا.. تعامل الماركسيون المصريون بوطنيتهم الرافضة لتلقي أية مساعدات أو دعم. هذا هو تاريخنا. ومن يتلقى الآن تمويلا خارجيا تحت أي مسمى أو تحت ستار حقوق إنسان أو تدريب أحزاب ونقابات ليس يساريا ولا وطنيا.
+ في ظنك ما هي المحطات الرئيسية في تاريخ تطور اليسار وماذا بعد حدتو ؟
- المحطات الرئيسية ذكرتها في البداية، وحدتو تعتبر القلب النابض للحركة اليسارية. وظهرت مرحلة تالية بتأسيس ابناء حدتو "التيار الثوري" في مارس 1965 ثم ظهور جماعات أخرى في سنوات لاحقة. وتوسع التيار الثوري سريعا. وتعرض للاعتقال مرارا من بداية 1966 حتى 1987. وتم اعتقالي شخصيا مع 25 زميلا من أوائل 1969 حتى أبريل 1971. وبغض النظر عن ضعف اليسار هناك حقائق مستمرة معنا عن الدور العظيم لليسار المصري، وعن ثقافتنا الوطنية الراسخة التي تشكل حائط صد لحماية الدولة والاحتفاء بالوطن. هذا دور لليسار الشيوعي باقي وراسخ بيننا وأسهم في تشكيل الوجدان العام. على سبيل المثال ألم يتأثر الوجدان العام بنشيد "دع سمائي" و "موال عشان القنال" ؟ ألا زلنا نردد شعار العدالة الاجتماعية الذي وضعته حدتو منذ الأربعينات؟ صحيح اليسار ضعيف الآن لكن دوره التاريخي وإنجازاته مستمرة في الحياة الثقافية وفي الوجدان. والأفكار الكبرى لا تنعزل عن السياق التاريخي. والتدهور الذي أصاب مصر ومحاولة تقويض الدولة المصرية أثر على الجميع بما فيها الأفكار الكبرى والمفكرين. تم تجريف المفكرين في سياق تجريف الحياة المصرية بأسرها.
+ ما هو الفرق بين الماركسيين – الشيوعي المصري – التروتسكيين – الاشتراكيين الثوريين ؟
- أولا بدأ الحزب الشيوعي المصري قويا عند تأسيسه في المرحلة الثالثة في بداية السبعينات بابناء حدتو أساسا ثم انتابه الضعف بتلاشي القيادات التاريخية، ولم يتم خلق قيادات واعية جديدة تحقق التواصل الفكري والنضالي. لكن رغم ضعفه الراهن هناك أساسي بينه وبين "الاشتراكيين الثوريين" الذين هم أنفسهم تروتسكيين. ولكن بداخلهم انقسامات. وهم فوضويين ولا يعنيهم الوطن مثلهم مثل الإخوان.
• + من هم الرموز المهمين والأساسيين الحاليين من أبناء اليسار نستطيع أن نعتبرهم قادة اليسار الآن؟
- غير موجودين الآن. وقد يوجدوا في المستقبل.
+ التيار الثوري من الذي أسسه؟
- أسس "التيار الثوري" أربعة أشخاص كنت واحدا منهم. وتم ذلك في 14 مارس 1965. والأربعة هم: كمال عبد الحليم، ومحمد عباس فهمي، وطاهر البدري، وأحمد القصير.
• + لماذا هتف اليساريون باسم عبد الناصر وهم في السجون؟.
- هذا الكلام غير حقيقي، ولم يحدث نهائيا. وهذه من المغالطات الكبرى حتى أن البعض ردد زورا أن شهدي عطية مات وهو يهتف لعبد الناصر. هذا كلام فارغ وغير حقيقي. وأنا كنت معاصرا لهذا الحدث، وشاهد عيان عليه.. كنت معتقلاً مع شهدي وتم تعذيبي أيضا. وتحدثت عنه أيضا يوم 15 يونيو 2010 في الاحتفال بالذكرى الخمسين لاستشهاد شهدي عطية. كان أحد الضباط القائمين بالتعذيب يسأل شهدي وهو يموت "انت مين انطق باسمك" قال له في كبرياء: "أنا شهدي عطية وانت عارف". هل هذا تسميه هتاف بعبد الناصر؟ لم نهتف. كان موقفنا هو تأييد المواقف الوطنية لعبدالناصر. ومثال ذلك وقوف شهدي عطية في المحكمة عام 1960 يعلن تأييدنا لقرارات عبدالناصر بتأميم بنك مصر وشركاته التي صدرت آنذاك . وأوضح أن هذه القرارات تساعد على الانتقال السلمي إلى الاشتراكية.
• + هل كان عبد الناصر ماركسياً أو إخوانياً ؟
- لا هذا ولا ذاك.. لكن عبدالناصر كان متفقا مع حدتو من قبل قيام الثورة على برنامج وطني اجتماعي محدد. وبنود ذلك البرنامج هي: محاربة الاستعمار ومعارضة الأحلاف العسكرية وإقامة حياة برلمانية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
• + هل قام اليسار المصري بتقديم أي وجوه للبرلمان المصري أو في الحكومات المتعاقبة؟.
- كانت هناك تجربة ناجحة للتيار الثوري داخل اليسار في بداية السبعينات.. درسنا الخريطة السياسية وتوصلنا إلى إمكانية دخول البرلمان بعضو في دائرة قصر النيل مهما كان اسم هذا الشخص. واقترح زميلنا زهدي الفنان التشكيلي ترشيح قباري عبد الله ليمثل التيار الثوري. وأصبح نائباً لدائرة قصر النيل لدورتين. وكان أحد أبطال المواجهة مع السادات ومعارضته لكامب ديفيدـ كما قام قباري بالتوقيع مع خالد محي الدين لتأسيس حزب التجمع. وكان الأمر يقضي بتوقيع عضوين بالبرلمان.
ودخل البرلمان أيضاً عناصر أخرى منتمية لليسار الماركسي. وهم أحمد طه عن دائرة الساحل، وهو قياده عمالية تاريخية لحدتو من الأربعينيات وله كتابات هامة وكان عضوا في اتحاد العمال العالمي، ثم أبو العز الحريري من الحزب الشيوعي المصري في الإسكندرية والبدري فرغلي من حزب التجمع في بورسعيد. والأربعة دخلوا البرلمان تحت بند عمال ولكن دورهم البرلماني كان شديد البروز والأهمية. وهم من أصحاب أهم وأخطر الاستجوابات في تاريخ البرلمان المصري. وأعتقد أن استجواباتهم مسجلة في كتاب أصدرته هيئة قصور الثقافة مؤخراً. أما الحكومات فلم يدخلها ماركسيون إلا في عهد السادات الذي عين يساريين وزراء كانوا يعتبرون أن ثورة يوليو انقلابا أمريكيا. وهدفه هو إضفاء شكل خادع غير حقيقي على نظامه.
• + أخيراً ورغم تزامن نشأة الإخوان مع اليسار المركسي هم وصلوا إلى الشارع بينما تراجع اليسار .. لماذا؟
- أولا - من الخطأ المقارنة بهذا الشكل. والإخوان تم تصعيدهم للحكم. كما لا يمكن اعتبار أن الإخوان والحركة الشيوعية كانوا على مسار واحد. فالمسار والتوجهات مختلفة. نحن نشأنا وناضلنا ضد السلطة والانجليز. أما الإخوان فقد نشِأوا في حضن السلطة والقصر الملكي وتعاونوا مع الانجليز, كما وقفوا دائما ضد الحركة الوطنية واستخدمهم الملك والانجليز ضد حزب الوفد وضد الحركة الوطنية. ولم يحدث أن قال الشيوعيون أنهم مع الإخوان، بل كان التاريخ صراع دائم بينهما منذ الأربعينات. وفي 1946 دخل الوطنيون السجون بينما صفق الإخوان للحكام الطغاة. وعبدالرحمن الناصر عضو اللجنة المركزية في حدتو هو الذي ألف كتابا في أربعينات القرن العشرين عن جماعة الإخواني بوصفها تنظيما فاشيا إرهابيا. وقد نشر الكتاب آنذاك تحت اسم مستعار.
ثانيا – كان الصدام بيننا وبين الإخوان دائم الحدوث في الشارع ايضا نظرا لاختلاف المواقف والتوجهات.
ثالثا- عندما تم تنظيم أول مظاهرة مليونية في مصر يوم 14 نوفمبر 1951 بعد إلغاء معاهدة 1936 واندلاع الكفاح المسلح ضد الانجليز في منطقة القنال لم يشترك الإخوان المسلمون في المظاهرة. وكانت صامتة وتم تسميتها "موكب الشهداء". وكان المشاركون هم الشيوعيون وتحديدا منظمة حدتو وحزب الوفد وزعيمه مصطفى النحاس رئيس الوزراء آنذاك، والحزب الاشتراكي بزعامة أحمد حسين، وممثلين للعمال والطلبة والقضاة ورجال الدين والجامعة وللمرأة بل وللجاليات.
رابعا - الإخوان من بين الدوائر المشبوهة التي عملت دوما على تشويه تاريخ الشيوعيين والتعتيم على دورهم في الحركة الوطنية والحياة المصرية. وقد انتقدت أيضا المؤرخين الذين امتنعوا عن دراسة ذلك الدور. وهذا تقصير في حق الوطن ذاته. كما بلغ التشويه والتزييف أحيانا درجة غريبة حينما ردد الراحل أحمد فؤاد نجم كلاما خاطئا عن الشهيد الشيوعي عباس الأعسر الذي سقط في عمليات الكفاح المسلح ضد الانجليز. فقد زعم أن عباس الأعسر كان إخوانيا. وردد هذا الكلام الكاذب في قناة تلفزيونية أيام حكم الإخوان.
الكلام عن تزامن النشأة غير دقيق. أوضحت أن الإخوان نشأوا في حضن السلطة عام 1928، أما الحزب الشيوعي المصري فقد تأسس قبل ذلك في بداية العشرينات. وعارضته السلطة بوحشية. وسجنتهم خاصة وزارة سعد زغلول وتم محاكمتهم. فالبداية مختلفة. والمسار مختلف. والأهداف مختلفة. أهدافنا مغايرة لأهداف الإخوان. فنحن مع التحرر والتقدم والمساواة والمواطنة والحفاظ على الهوية الوطنية بينما يسعى الإخوان للعودة بالمجتمع إلى الخلف وتدمير الدولة الوطنية. كنا نتصادم دائما. ولو قرأت الكتب التاريخية بما في ذلك كتابات طارق البشري ستجد تأكيدا لما أقول.
وأذكر أن زملاؤنا في سجن الواحات في منتصف خمسينات القرن العشرين كتبوا موضوعا عن جماعة الإخوان وتاريخها الإرهابي وأرسلوه إلى زملائنا في فرنسا ليترجموه وينشروه باللغات الأجنبية. ولا ننسى أن الإخوان فرحوا بالعدوان الثلاثي 1956 وهتفوا قائلين "لا عدوان إلا على الظالمين". إذن عندما نقول إن الإخوان جماعة غير وطنية فهذا يستند إلى وقائع تاريخية. وعلى العكس من ذلك فإن اليسار الماركسي أسهم في الدفاع عن الوطن وفي تشكيل الثقافة الوطنية والوعي والضمير والوجدان العام.
د.أحمد القصير- فبراير 2015