شهدي عطية: دوره النضالي وتعذيبه واستشهاده


أحمد القصير
الحوار المتمدن - العدد: 4622 - 2014 / 11 / 2 - 00:23
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

شهدي عطية: دوره وتعذيبه واستشهاده
الميلاد بالاسكندرية في 20 نوفمبر 1911 – الاستشهاد بمعتقل أوردي ليمان أبوزعبل في 15 يونيو 1960
بقلم: أحمد القصسر

تمهيد:
استشهد شهدي عطية صاحب القامة السياسية والفكرية العالية يوم الأربعاء 15 يونيو1960 نتيجة التعذيب بمعتقل أوردي ليمان أبوزعبل. وكنت زميلا له وتعرضت معه للتعذيب. وقد احتفت "لجنة أصدقاء شهدي عطية" يوم 15 يونيو 2010 بالذكرى الخمسين لاستشهاد هذه االشخصية الوطنية المناضلة والعضو البارز في قيادة منظمة "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" المعروفة باسم "حدتو". كما كان رئيسا لتحرير صحيفتها "الجماهير".
إن توجهات الحركة الوطنية المصرية في أربعينات القرن العشرين إنما ترتبط في واقع الأمر باسم شهدي عطية. وفي السنوات الأخيرة من تلك الحقبة صدر ضده حكم بالأشغال الشاقة مدته سبع سنوات.
دعا شهدي في بداية عام 1947 على صفحات جريدة الجماهير إلى ضرورة تأسيس حزب من نوع جديد، أي حزب شيوعي، تلبية للتطورات الجديدة في الحركة الوطنية. وهي الدعوة التي عارضتها مجموعة "الفجر الجديد" بزعامة أحمد رشدي صالح وابوسيف يوسف. وقالت في اعتراضها أنه لا حاجة لمثل هذا الحزب لأن حزب الوفد موجود.
منذ ذلك التاريخ لم يتذكر شهدي الذين ظلوا طوال نصف القرن الماضي يتحدثون أو يصرخون علنا أو سرا باسم اليسار. ولم تظهر خلال تلك الفترة عن شهدي سوى كتابات نادرة أبرزها ما كتبه أنور عبدالملك ونشره في كتاب "الوطنية هى الحل"، وما كتبه الفنان حسن فؤاد في صباح الخير. كان شهدي عطية عند استشهاده في عمر يقرب من 49 عاما. فهو من مواليد مدينة الاسكندرية في 20 نوفمبر عام 1911. ونود أن نشدد على صحة هذا التاريخ استنادا إلى معلومات أكبر شقيقاته. كما أن بيانات بطاقته الشخصية تؤكد ذلك. وهو ما يعني عدم صحة تاريخ ميلاده المنتشر على الانترنت القائل خطأ إنه من مواليد 1912.
ستظل أدوار شهدي وأعماله باقية في التاريخ على الرغم من أن السنوات التي عاشها لم تكن طويلة. كما أنه قضي أكثر من ثماني سنوات من عمره مسجونا. وكان أول شيوعي يعاقب بحكم مدته سبع سنوات أشغال شافة قضاها في ليمان طره خلال 1948- 1955.

محاكمة أعقبها تعذيب:
جرت محاكمة شهدي ورفاقه عام 1960 بمدينة الاسكندرية مسقط رأسه أمام محكمة عسكرية برئاسة الفريق هلال عبدالله هلال قائد سلاح المدفعية آنذاك. كان شهدي هو المتهم الأول في تلك القضية التي ضمت قيادات وكوادر"الحزب الشيوعي المصري - حدتو". كما كنت شخصيا ضمن المتهمين في تلك القضية. وكان شهدي هو المتحدث باسم حدتو أثناء المحاكمة، وقام بالمرافعة السياسية. وقد رحب خلال مرافعته بصدور قرارات تأميم بنك مصر وشركاته التي صدرت آنذاك، وأعلن أن مثل هذه الإجراءات يمكن أن تساعد على الانتقال سلميا إلى الاشتراكية.

التعذيب:
بعد انتهاء المحاكمة وقبل صدور الأحكام جرى فجر يوم 15 يونيو 1960 نقل شهدى مع رفاقه من سجن الحضرة بالإسكندرية إلى أوردي ليمان أبوزعبل بواسطة لوريات البوليس. وهناك تم استقبالنا بعملية تعذيب منظمة تم الإعداد لها سلفا استشهد شهدى خلالها. وقد أشرف على تلك العملية السفاح اللواء اسماعيل همت وكيل مصلحة السجون. وهو في الأصل ضابط بالجيش تم نقله بعد ثورة يوليو 1952 إلى البوليس. كما أنه صاحب سوابق في التعذيب. وكنت أعرفه منذ أن قاد ضدنا عام 1955 حملة تعذيب همجية في نفس معتقل أوردي ليمان أبوزعبل أثناء إضراب المعتقين عن الطعام احتجاجا على سوء المعاملة. وقام آنذاك بجلدنا رغم أننا كنا في اليوم العاشر من الإضراب عن الطعام.
تعرض شهدي لتعذيب أكثر عنفا وبشاعة بسبب شخصيته القياديه ولأنه الزعيم السياسي لحدتو. فعند وصولنا لمنطقة الأوردي بالقرب من الجبل في الخامسة صباح الأريعاء 15 يونيو1960 تم إنزالنا من اللوريات على بعد حوالي ثلاثمائة متر من بوابة الأوردي. وأجسلونا القرفصاء ووجوهنا في الأرض في ثلاث صفوف يحدها من اليمين خط من الجير الأبيض وخط آخر من الشمال. وأحاطت بنا مجموعة ضخمة من العساكر تحمل الشوم وعدد من الضباط يركبون الخيل وفي أيديهم عصيان من جريد النخيل. ويحمل أحدهم اسم مرجان اسحق بينما يسمى الأخر كمال رشاد. ونفذ هؤلاء الخطوة الأولى في عملية التعذيب. وهى عبارة عن ضرب عشوائي بالجريد والشوم على رؤؤس وظهور المعتقلين علاوة على الشتائم والتهديد. واستمر هذا الوضع حوالي ساعتين.
كان الضرب يزداد كلما احتج أحد المعتقلين. وبعد ذلك بدأت المرحلة الثانية عند سماعنا صوت البروجي إعلانا عن وصول اللواء السفاح اسماعيل همت وكيل مصلحة السجون. تلى ذلك صدور أمر للصف الأول من المعتقلين المكون من ثلاثة أشخاص أن يسجد. ثم صدر أمر آخر بالجري وسط خطي الجير الأبيض في اتجاه بوابة المعتقل. كان الضباط يجرون بالخيل وراء المعتقلين ويقومون بضربهم لدفعهم بسرعة في اتجاه البوابة بينما يقوم صف الجنود علي الجانبين على امتداد الطريق بضربهم أيضا بالشوم.
عند البوابة كان يجلس اللواء اسماعيل همت قائد عملية التعذيب وبجانبه العقيد الحلواني مدير سجن الحضرة بالاسكندرية الذي صاحب نقلنا من الاسكندرية. كما كان يقف بجانبهم الصاغ صلاح طه مدير الشؤون العامة بمصلحة السجون الذي كان الصوت الذي يعلن عن أوامر همت. وبجانب هؤلاء وقف الصاغ حسن منير مدير معتقل الأوردي ومعه الضابط يونس مرعي ومجموعة من السجانة. وتولى الضابطان بأنفسهما تعذيب المعتقلين تحت إشراف اسماعيل همت.
عند وصول المعتقلين إلى البوابة يتعرضوا لمرحلة أخرى من التعذيب بشعة ومجنونة وقاتلة هدفها الانتقام. فقد تم ضرب المعتقلين بطريقة وحشية مسعورة باستخدام الشوم والشلاليت وعلى الأوجه وتغطيس الرؤوس في حفرة مملوءة بالماء عندما يفقد المعتقل وعيه. ويتم مواصلة التعذيب بعد إخراج الرأس من الماء. وقد شاهدت الكاتب والناشر ابراهيم عبدالحليم زميلي في المجموعة التي كنت ضمنها وهو يتعرض لتغطيس رأسه في مياه تلك البركة أو الحفرة. كان التعذيب هو المقصود في حد ذاته. فقد كانت المحاكمة قد انتهت ولم يتبق سوى صدور الأحكام.
جرى كل ذلك ونحن عراة تماما. وتلي ذلك سحل المعتقلين وهم عراة أيضا بجرهم من أرجلهم وإدخالهم من بوابة المعتقل. وخلف البوابة ينتظرهم قاتل آخر مسعور هو الضابط عبد اللطيف رشدي الذي يتولى بنفسه ضرب المعتقلين بشومة وتساعده مجموعة من السجانة.

الاستشهاد:
بعد أن تم تعذيب حوالي أربع مجموعات وفق المراحل التي أشرنا إليها استعجلوا تعذيب شهدي ولم ينتظروا حتى يحين دوره في الصف الذي يحلس فيه. فقد حضر الصاغ صلاح طه مناديا بصوت عال "فين الأستاذ شهدي؟". هنا شعرنا بأن حياة شهدي في خطر داهم.
وسرعان ما انقض العساكر على شهدي وأجبروه على الركوع ساجدا في مقدمة الصفوف. وأخذت عجلة القتل المجنونة في الدوران بوحشية أكبر. لا لشئ سوى أن شهدي هو الزعيم والشخصية القيادية. وهم يعرفون تاريخه. كما أنه كان المتحدث باسمنا أثناء المحاكمة.
كانت تلك هي المرة الأخيرة التي شاهدته فيها حيا. فقد تعرض في كافة المراحل لتعذيب أكثر بشاعة لسبب واحد هو انه كان زعيما وصاحب قامة عالية. لفظ شهدي أنفاسه وسقط شهيدا في المرحلة الأخيرة في كبرياء وشموخ. وعبرت ردوده على الجلادين عن هذا الكبرياء والشموخ. لقد دفع شهدي حياته لأنه كان شامخا ومتفردا.

"أنا شهدي عطية وأنت عارف":
بعد وصول شهدي إلى بوابة المعتقل تعرض لتعذيب وحشي شمل الضرب بالشوم وتغطيس رأسه في بركة الماء أكثر من مرة. وبعد ذلك تم سحله عاريا وإدخاله من بوابة المعتقل. وخلف البوابة تعرض لمرحلة وحشية أخرى من التعذيب قادها الضابط المسعور عبداللطيف رشدي. وواجه شهدي تلك الوحشية بكبرياء. فقد رد على أسئلة وشتائم الضابط المسعور قائلا "أنا شيوعي. وانت عارف يا عبداللطيف رشدي أنا مين". فقال له الضابط كده يا ابن الكلب ... اضربوه وطلب من شهدي أن يقول أنا إمرأة . وهنا رد شهدي قائلا "أنا شهدي عطية وأنت عارف". في ذلك الموقع لفظ شهدي أنفاسه الأخيرة. كان شهدي شامخ القامة شديد الاعتزاز والثقة بالنفس. وفقدت مصر باستشهاده شخصية وطنية رائدة.
كان الشاعر فؤاد حداد رفيق نضال شهدي وأحد كوادر حدتو معتقلا أنذاك في الأوردي. وقام بوصف وحشية ذلك الضابط في قصيدة طويلة نظمها في رثاء شهدي قائلا:
عبداللطيف رشدي فارس راكب حصان الحكومة
راسم على وشه بومه
تمشي وراه الكوارث وتمشي قدامه بومه
حلفت بالشومة ديه .. وبدم شهدي عطية
حلفت بالدم يجري على "حنان" الصبية
ومن بين تأثيرات استشهاد شهدي أيضا علي رفاقه قيام كمال عبدالحليم صاحب نشيد "دع سمائي" ورفيق شهدي في قيادة منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني "حدتو" بنظم قصيدة "شيوعي" التي قال فيها:
نحن عشنا نصنع الثورة .. موثوقي السراح
ما تزل تحصرنا الأسوار في أضيق ساح
جاءت الثورة لم تطلق لنا أرض الكفاح
وخصوم الشعب يمشون على الأرض البراح
ينهبون الشعب باسم الشعب بالقدر المتاح
مثل سوس ينخر الثورة من كل النواحي
تشير هذه الأبيات إلى ما تعرض له المناضلون في حزب شهدي على الرغم من دورهم في صناعة الثورة بينما خصوم الشعب مثل السوس الذي ينخر كيانها.. كما قال كمال عبدالحليم في الأبيات الأخيرة من القصيدة:
ترك العمر لمن يكمله .. نبلا .. وثارا
ترك الحب لمن يحمله .. نورا .. ونارا
كان في ظلمة جلاديه .. عملاقا منارا

ردود فعل أوقفت التعذيب:
أحدث استشهاد شهدى عطية ردود فعل دولية سريعة أدت إلى الإيقاف الفوري للتعذيب وإنقاذ حياة عدد من زملائه الذين تعرضوا معه للتعذيب. فقد كان الرئيس جمال عبدالناصر في زيارة رسمية إلى يوغسلافيا عندما تم قتل شهدي في المعتقل. وأدت ردود الفعل الرسمية في يوغسلافيا ذاتها إلى إحراج عبدالناصر فأمر من هناك بالتحقيق في مقتل شهدي وإيقاف تعذيب المعتقلين الشيوعيين. وقد حضرت النيابة بالفعل إلى المعتقل للتحقيق يوم السبت 18 يونيو 1960. وأثبتت إصابات أجسادنا الناتجة عن التعذيب. وكان عددنا 39 رفيقا لشهدي ومن رفاقه في القضية الذين تم محاكمتهم بالاسكندرية. في لحظة دخول رجال النيابة العنبر وسؤالهم: "مين فيكم كان مع شهدي" تأكدنا أن شهدي قد استشهد. ومن المفارقات أن رئيس النيابة كان زوج أخت زميلنا محمد يوسف الجندي الذي كان ضمن الذين تم توجيه السؤال إليهم. وكان ردنا إننا جميعا زملاء شهدي في القضية وفي التعذيب. وشاهدوا آثار التعذيب على ظهورنا. وبمجرد خروج النيابة من العنبر بكينا شهدي.

إنقاذ حياة جميع المعتقلين:
من جانب آخر تم إنقاذ أربعة زملاء كانت حالتهم خطيرة، وكادوا أن يفقدوا حياتهم. كما افتدى شهدي جميع المعتقلين في الأوردي الذين ظلوا يتعرضون لتعذيب ومهانة وعمليات سخرة يومية لمدة سبعة أشهر سقط خلالها أكثر من شهيد أذكر من بينهم فريد حداد. فقد توقفت المهانة والسخرة والتعذيب والقتل تحت تأثير ردود الفعل على استشهاد شهدي عطية. رحل عنا شهدي لكن ستظل بصماته وتأثيراته باقية على صفحات التاريخ.
في يوم 20 يونيو نشرت صحف الأهرام والأخبار والجمهورية نعيا لشهدي باسم والده عطية الشافعي كتبه الشاعر محمود توفيق. وهو من قيادات حدتو. وتضمن النعي أبياتا من شعر أبوتمام تشير إلى أن شهدي مات نتيجة التعذيب. فالبيت الأول يقول: "فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر". وفيما يلي نص ذلك النعي الذي يستحقه شهدي:

شهدي عطية الشافعي
عطية الشافعي وأسرته ينعون بعد أن واروا عزيزهم فخر الشباب
الأستاذ شهدي عطية الشافعي مقره الأخير ويقولون لمن واساهم فيه:
لن نشكركم. فالشكر لكم في هذا الموقف نكران لوفائكم
وشهدي وذكراه ملك لكم وأمانة في ضمائركم
أما أنت ياعزيزنا الغائب فإننا نرثيك بهذا:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر
تردى ثياب الموت حمرا فما دجى لها الليل إلا وهى سندس خضر
وقد كان فوت الموت سهلا فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنما هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

كان الرئيس جمال عبدالناصر آنذاك لا يزال يجري مباحثاته في يوغوسلافيا مع الرئيس تيتو حسبما جاء بالصحف التي نشرت النعي.
ريادة شهدي السياسية والفكرية:
تم الانتقام من شهدي لأنه كان زعيما ورائدا في السياسة والفكر. وتم استشهاده في ظل حكم تبنى عمليا بنودا رئيسية جاءت في البرنامج الذي طرحه. وجاء ذلك البرنامج الوطني الاجتماعي في كتاب "أهدافنا الوطنية" الصادر عام 1945. وهو من تأليف شهدي عطية وعبدالمعبود الجبيلي زميل شهدي في إدارة "دار الأبحاث العلمية" وفي قيادة منظمة "حدتو".
إن إحتفاء "لجنة أصدقاء شهدي عطية" بمرور خمسين عاما على استشهاده هو إحتفاء بالأدوار التي قام بها في تاريخ مصر النضالي. كما انه إحتفاء بسيد شهداء الحركة الوطنية المصرية في القرن العشرين حسبما قال عن حق عبدالمنعم الغزالي في كلمته في رثاء الزميل شعبان حافظ عضو الحزب الشيوعي عام 1924 الذي توفى بسجن الواحات في ستينات القرن الماضي.
أشرف شهدي عطية خلال 1943-1946 مع زميله عبدالمعبود الجبيلي على نشاط "دار الأبحاث العلمية". وكانت هذه الدار صرحا للتوجهات الوطنية التقدمية. وقد أغلقها اسماعيل صدقي رئيس وزراء مصر في يوليو 1946. كما تولى شهدي الإشراف على تأسيس اللجنة الوطنية للطلبة والعمال التي قادت الهبة الشعبية في عام 1946. وقد أدت تلك الهبة إلى جلاء القوات البريطانية عن المدن المصرية وتمركزها في منطقة قنال السويس.
ينبغي التنويه بأن كتاب "أهدافنا الوطنية" المشار إليه آنفا عبارة عن برنامج وطني واجتماعي تبنته "اللجنة الوطنية للطلبة والعمال" عندما تأسست عام 1946. ولن نغالي إذا قلنا إن أوضاعنا الراهنة تتطلب تطبيق تلك "الأهداف" التي وضعها شهدي عطية وزميله عبدالمعبود الجبيلي منذ أكثر من خمسة وستين عاما.

الاستقلال ومضمونه:
أوضح كتاب "أهدافنا الوطنية" أن الأهداف الخارجية تتمثل في "الاستقلال التام اقتصاديا وسياسيا وعسكريا"، وانه "لن يتحقق استقلال حقيقي إلا إذا قام الشعب عن بكرة أبيه مكافحا في سبيل هذا الاستقلال. لكن لن يتم هذا على الوجه الأكمل إلا إذا أحس كل فرد من أفراد الشعب أن قضية الاستقلال ليست مجرد ألفاظ جوفاء، وليست تخلصا من استعمار أجنبي للوقوع في نير استعباد داخلي، وإنما هو استقلال يسعى ويعمل على رفع مستوى المعيشة للجماهير وعلى زيادة اشتراكها الفعلي في الحكم والنمو المطرد للحريات الاجتماعية والفردية". كما أوضحت "أهدافنا الوطنية" أن الاستعمار يحارب حزب الوفد وأن هذا الحزب هو أقل الأحزاب تهادنا مع الاستعمار. فقد قال شهدي في الكتاب: "كان الاستعمار ضيق الصدر بالوفد كثير التنكر له، إذ يرى في محاربته محاربة للحركة الوطنية، لأن الوفد أقل الأحزاب الحالية تهادنا مع المستعمر وأكثرها استنادا إلى الشعب".

الصهيونية استعمار إرهابي:
اعتبر شهدي أن "الصهيونية هى "استعمار إرهابي مرتبط بالاستعمار العالمي". كما قال "وليس خطرا على قضية فلسطين من الفكرة الصهيونية القائلة بتكوين دولة يهودية". وعلاوة على ذلك أوضح خطورة الصهيونية على الشعوب العربية قائلا: "وليس خطر الصهيونية وقفا على فلسطين وحدها، إنما خطرها يهدد استقلال وحرية جميع الشعوب العربية الأخرى". كما شدد كتاب "أهدافنا الوطنية على أن "حل القضية الفسطينية لا يتحقق مطلقا إلا بنمو الديمقراطية والتخلص التام من الاستعمار والصهيونية".

الحريات الثلاث:
يلاحظ أن بعض الشعارات التي ظهرت خلال حكم جمال عبدالناصر كانت ترديدا لأهداف وردت في كتاب "أهدافنا الوطنية". فقد ربط عبدالناصر بين الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية أو بين الحرية السياسية والحرية الاجتماعية. وفي هذا الصدد نجد أن شهدي كان قد طالب في برنامجه الذي طرحه في "اهدافنا الوطنية" بديمقراطيات ثلاث قائلا: "هذا البرنامج الذي أصبح ضرورة ملحة يجب أن يكون قوامه ديمقراطيات ثلاث: ديمقراطية اقتصادية، وديمقراطية سياسية، وديمقراطية اجتماعية".
وفضلا عن ذلك فإن بعض إنجازات عبد الناصر كانت عبارة عن تطبيق لبعض الأهداف التي وضعها شهدي. ونعني هنا على وجه التحديد الإصلاح الزراعي وتوزيع الملكيات الإقطاعية من جانب وملكية الدولة للمشروعات الكبيرة من جانب آخر.

توزيع أراضي الاقطاعيين وملكية الدولة للمشروعات الكبيرة:
فيما يتعلق بالإصلاح الزراعي قال شهدي في "أهدافنا الوطنية": "إن توزيع الملكية الاقطاعية لا يمكن أن يسمى إجراء شيوعيا أو اشتراكيا، فقد سبقتنا إليه فرنسا في عام1789". كما طالب شهدي بملكية الدولة للمشروعات الكبيرة قائلا "إنها لضرورة اقتصادية ملحة أن تكون نهضتنا الاقتصادية نهضة ديمقراطية صحيحة، وذلك بأن تكون الصناعات المهمة الكبرى ملكا للدولة".
أوضح شهدي في هذا الصدد أيضا أن ملكية الدولة وإدارتها للصناعة ليس إجراءا اشتراكيا أو شيوعيا قائلا: "لا يفتأ بعض الرجعيين يرددون نغمة قديمة وهى أن تأهيل الصناعة في بلد كمصر، أي جعلها ملكا للدولة، إنما هو إجراء اشتراكي أو شيوعي أو غير ذلك من الأسماء، متناسين أن هذا مطلب ديمقراطي قديم أخذت به كثير من البلاد الرأسمالية، وأن الحكومة المصرية بوضعها الحالي تملك مشروعات مهمة كبرى كالسكك الحديدية والتليفونات، ولا يمكن أن تسمى الحكومة المصرية بنظامها القائم حكومة اشتراكية أو شيوعية بأي حال من الأحوال". لقد اتسم برنامج شهدي عطية وعبدالمعبود الجبيلي يالإحاطة بقضايا محورية لا تزال في حاجة إلى معالجة. ويتعلق بعضها بالعمال الزراعيين وبالمرأة والتعصب الطائفي والديني.
على سبيل المثال طالبت "أهدافنا الوطنية" بحق عمال الزراعة تكوين نقابات خاصة بهم عندما قالت "يجب أن يطبق على العمال الزراعيين ما يطبق على العمال الصناعيين من حق تكوين نقابات للأجراء، واتحادات لهذه النقابات، ومن ضمانات اجتماعية مختلفة".

حرية المرأة:
فيما يتعلق بالمرأة قال شهدي عطية "إن ما تتمتع به المرأة من حرية ومساواة لهو أحد المقاييس الرئيسية لحرية الشعوب. فالمرأة المستعبدة لا توجد إلا في مجتمع مستعبد".

محو التعصب الديني والطائفي:
عالج البرنامج الذي جاء في "أهدافنا الوطنية" قضايا التعصب الديني وحقوق الأقليات بشئ من التفصيل. فقد أكد أنه "من واجب أي برنامج تحريري ديمقراطي أن يذكر في وضوح عزمه الأكيد على محو كل آثار التعصب الديني أو الطائفي، وعلى ضمان أكيد للأقليات والطوائف المختلفة بالمساواة التامة في حرية العبادة والعقيدة والثقافة الديمقراطية وكافة الحقوق العامة الأخرى".
وعلاوة على ذلك أوضح البرنامج أنه إذا تمتع الشعب بحقوقه كاملة انمحت مشكلة الأقليات. فقد جاء ضمن "أهدافنا الوطنية": "إن مدى ما تتمتع به الأقليات بشتى أنواعها من مساواة في الحقوق مع الأكثرية الساحقة من سكان البلاد لهو مقياس رئيسي آخر لحرية الشعوب. فليس هناك مشكلة للأقليات قائمة بذاتها معزولة عن مشكلة الشعب نفسه. فإذا كان الشعب متمتعا بحقوقه كاملة انمحت مشكلة الأقليات وتمتعت بنفس الحقوق التي يتمتع بها الشعب".
يشير هذا البرنامج الذي تم وضعه منذ أكثر من خمسة وستين عاما إلى نفاذ بصيرة شهدي عطية وزميله عبدالمعبود الجبيلي. وقد فقدت مصر باستشهاد شهدي عطية شخصية وطنية عظيمة ومناضلا صلبا سعى إلى تغيير وجه الحياة في مصر.
د.أحمد القصير