أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد صبيح - الانشوطة















المزيد.....



الانشوطة


خالد صبيح

الحوار المتمدن-العدد: 1923 - 2007 / 5 / 22 - 07:04
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة

حول قضيب المروحة السقفية المعقوف كان السقف متشققا متساقط الدهان وملطخ ببقع رطوبة أخذت أشكالا هولية متشابكة، خرائط، رؤوس حادة الأطراف لكائنات خرافية. أزعجه كالعادة لون الدهان الأخضر على الجدران ورغم ذلك مضى، بيد مرتجفة، لكنها ثابتة الحركة ومليئة بالتصميم يثبت الحبل ذي الانشوطة في قضيب المروحة. عتمة الغرفة المسدلة الستارة القاتمة على الشباك الوحيد جعلت من جو الغرفة المشبع بالرطوبة يبدو أكثر احتمالا. فالجو مازال يفح بالحرارة رغم إنثيال الخريف البطيء. الضوضاء مستمرة في الزقاق. صراخ الأطفال وهم يلعبون بفوضوية مألوفة ينبئ بحياة مستمرة خارج الغرفة وكانت أصوات النساء وهن يتبادلن التحايا والأحاديث العابرة تتناهى إليه وسط اللغط والصراخ. الزقاق يمضي بحياته اليومية المألوفة غير آبه لما يحدث في الغرفة ذات الشباك الخفيض المزخرف. امسك بعنق الانشوطة وسحبها بقوة مختبرا قوتها متثبتا من قوة احتمالها لثقل جسده. كان يقوم بعمله كمن احترفه، كمن كرره مرات عديدة. لقد فكر كثيرا في العملية حتى أتقنها في مخيلته وصارت تفاصيلها معروفة ليديه. اقترب ممتعضا من الشباك وألقى نظرة على الخارج بعد أن أزاح الستارة قليلا فتسلل خيط مثلث طويل ونحيل من الضوء أضاء شحوب وجهه وألقى بظل جسده على الأرض ومده إلى الزاوية الأخرى من الغرفة. أسدل الستارة فعادت العتمة الندية إلى الداخل. جلس عند الطاولة الصغيرة قرب سريره وحدق في قصاصة صغيرة موضوعة هناك. استلقى على الفراش. ورغم إن ظلال العتمة جعلت وجهه يبدو أكثر سمرة إلا أن شحوب وجهه وارتجاف شفتيه كانا ظاهرين بوضوح. نهض وردد بصوت خفيض بدا غريبا له، لم يكن صوته الذي ألف سماعه، كان صوتا أخر مختلف، لشخص أخر من زمن أخر. صوتا اختزن كل قرفة ويأسه:

ـ كفى .. كفى انه شيء سخيف ولا يحتمل.

صمت مرة أخرى وقد استغرقته فكرة ما فانسكبت من عينيه نظرات شرود وذهول. امتدت يده إلى حافة السرير لتلامس حبلا قصيرا ذو انشوطتين ضيقتين... امسك بالحبل بتشنج ظاهر ونظر للمرة الأخيرة إلى صورته المؤطرة والمعلقة على الجدار وهمس.
- لحظات... لحظات فقط.

***

فزعة كانت أمه ولا تستطيع أن تصدق ما ترى. دموعها شآبيب ناعمة تنهمر على خديها بصمت فحجبت عنها وجوه البشر من حولها. ،ووسط شعورها الحاد بالذهول والحيرة والحزن التقطت أذناها صوته الرخيم المنكسر وهو يناديها وسط هذا اللغط الحائر، كان صوته مختلطا، مشوشا، متداخلا ومتحولا إلى كتلة صوتية هائلة الطنين، ثقيلة وصلدة. إحساسها بالفجيعة كان أقوى من أن يجعلها تصرخ أو تبكي أو تفعل أي شيء. فقط جلست على السرير تحدق بذهول مبلل بالدموع إلى اللاشيء. استحضرت بومضة سريعة كل أيامه الطويلة. حينما كان صغيرا يلعب بنزقه المعهود وحتى بلوغه سن الشباب حيث تسرب إليه الاكتئاب من غير أن تستطيع معرفة السبب، وكثيرا ما ساءلت نفسها بحيرة وحرقة عن سر ألمه الصامت وحزنه الكظيم. وحينما ألحت عليه بالسؤال. كانت تريد صادقة مساعدته وتخليصه من آلامه لكنه كان يتحصن أبدا بصمته وطمأنها في النهاية مع ابتسامة مغموسة بالأسى بان لاشيء هناك وان كل شيء على ما يرام. إنها فقط متاعب العمل ولاشيء آخر. كان يجهد نفسه بالتفكير الصامت ويحبس آلامه وأحزانه. يحنو على شقيقاته، رقيقا ودودا معهم جميعا. أدركت للحظة كم كانت تحبه وكم تشعر بافتقاده وكم تتمنى أن تراه ألان وتلمس يده وتسمع صوته الخفيض يناديها.
ـ يمّه!.
كبر إحساس الفقد ألممض وصار كتلة ثقيلة تضغط وتضغط بإلحاح على صدرها وفجأة انفجر صوتها الحبيس بعويل غريب وأهوج لا يحمل طابعا بشريا. ورغم إحساسها بالدوار وبغمامة معتمة من حولها استطاعت أن تدرك أن هناك أياد احتضنتها ووجوه باكية اقتربت منها.

***
" كنت عائدا للتو من المدرسة حينما سمعت الصراخ."
قال سالم تلميذ السنة الأخيرة في الثانوية.
" رغم إننا في الخريف إلا أن الشمس كانت لاهبة وكنت أقول لنفسي ساخرا: أي صيف حارق كان إذن إذا أعقبه هكذا خريف؟ وحين دخلت البيت ألقيت بدفاتري وكتبي على الطاولة الصغيرة في الغرفة وناديت على أختي الصغيرة لتطلب من أمي أن تقدم لي الغداء فقد كنت جائعا وتعبا بعض الشيء فلم يخلو يومي ذاك كالعادة من المناقشات المرهقة ذاتها: أين نحن؟ ماذا سنكون؟ ذات الأسئلة تتكرر بتناسل غريب ولكني اشعر في أعماقي دائما بالراحة والسرور والاعتزاز بنفسي لأني أخوض في هكذا نقاشات. هممت بخلع قميصي فأوقفني صراخ وعويل عند جيراننا. بيت المعلم أو أستاذ مجيد كما نسميهم في الزقاق. هرعت راكضا دون وعي، ربما لان عادات الطفولة لم تفارقني بعد. كان الأطفال كالعادة أول من وصل إلى المكان لأنهم أبدا ومهما يقسو الجو لا يكفون عن اللعب في الزقاق. لم يبدأ الزحام في البيت بعد حينما وصلت إلى الباب وكنت أول من دخل البيت من الرجال. كان الباب مفتوحا وشقيقة الأستاذ مجيد قربه تصرخ بوجه اسمر شاحب ومفجوع. عند جهة اليمين قرب الباب الخارجي مباشرة كانت غرفة الأستاذ مفتوحة. توقفت عند الباب برهة لم أتبينها ولكنها بدت لي طويلة للغاية لشدة ما أثار الموقف في نفسي من أفكار وأحاسيس. كان المشهد غريبا ومخيفا وعصي على الوصف. كرسي ملقى وسط الغرفة ومن فوقه قدما الأستاذ مجيد متدليتين والتقط بصري في صعوده إلى الأعلى يديه المضمومتين معا باسترخاء في رباط سائب أمام جسده ورقبته متدلية من انشوطة مربوطة بقضيب المروحة المعلقة بالسقف الحائل. للحظة لم استطع التفكير بما يجب أن افعل. وما أن دخلت إلى وسط الغرفة حيث كانت أمه جالسة على السرير تنظر بطريقة غريبة إلى اللاشيء، فظننت للوهلة الأولى إنها تنظر صوبي، حتى دخل رجلان من سكان الزقاق وفورا امتدت يداهما لتحمل ثقل جسده، فقد كانا يأملان بإنقاذه، وامتدت يداي تلقائيا، وبعد أن تنبهت وخرجت من ذهولي، إلى الجسد المتدلي ورفعت الكرسي الملقى على الأرض واعتليته واستعنت بطول قامتي وحاولت فك الحبل بيدي فقط، فلم افلح، ولكني تنبهت إلى أني يجب أن أرخي الانشوطة، وفعلت ذلك، رغم خشونة الحبل على يدي، بعد أن رفع الرجلان ثقل الجسد. أنزلنا الجسد وعندها امتلأت الغرفة وباحة البيت بالجيران من الرجال والنساء وبعض الصبية الذين تسللوا ومدوا رؤوسهم من بين الأجساد ثم فروا هاربين مذعورين من المشهد. بعد أن وضع الرجلان الجسد الهامد على السرير لم استطع أن أتمالك نفسي أكثر. شعرت بالألم يعتصرني حين التفت فرأيت أمه ساهمة، واجمة بلا حراك. تسللت هاربا، وعند الباب، وقبل أن أتشمم الرطوبة ويصفعني لفح الشمس، سمعت صرخة مفجوعة من امه فازددت انقباضا وانتابني إحساس غريب غامض لم استطع فهمه ولم اكترث لتفسيره. كان بيتنا خاليا حينما عدت إليه. وجدت صينية الطعام على الطاولة فصدت نفسي عن الأكل. لم استطع أن أفكر في أي شيء. وشعرت أن الصراخ والضوضاء يضغطان على أعصابي. فكرت: انه من البشاعة وليس من العدل أن ينهي الإنسان حياته بهذه الكيفية ويؤلم الآخرين. وكم فاجئني الموت حينها. كم كرهت رائحته رغم إني أتعرفها للمرة الأولى. وخرجت من البيت لا الوي على شيء.

****

توقفت سيارة نقل صغيرة متسخة الحواف بالغبار والوحل الجاف فأسرع إليها جواد مع بعض المنتظرين فتحركت بدوري ووجدت إن جوادا قد احتفظ لي بمكان إلى جانبه ولولاه لبقيت انتظر كثيرا فانا لااحب التدافع مع الآخرين في زحام نهاية الدوام.
واصل الركاب أحاديثهم بعد أن تحركت السيارة . أصخت السمع إلى شابين صغيرين أسمرين نحيلين يتحدثان عن مباراة بكرة القدم ويشتمان الحكم (البغدادي) المنحاز أبدا ضد فريقهم ومدينتهم. همس لي جواد:
ـ رجع الأفندي يلح علي ويهددني.
فهمت أن المقصود مدير المدرسة.
ـ بشرفك عشرين سنة بالتعليم وبعدني حتى معاون مدير ما صرت وهو صار له سبع سنين بس وصار مدير مدرسة وبالمركز بعد.
لم أحر جوابا فواصل هو كلامه.
ـ أليست كارثة في أن نعاني لان كل ذنبنا هو أننا لسنا منهم أو معهم.
ابتسمت له متضامنا بغير ما حاجة لإظهار ذلك فهو يثق بي ويعرف من أني متعاطف معه.
ـ مجيد! أنا اعرف بماذا تفكر ولكن صدقني إنهم لن يتركوك أنت أيضا سيأتي الدور عليك قريبا، هم ألان مشغولون بنا نحن أصحاب الماضي المخيف لهم.
ـ ولكني لااتدخل بأي شان فلماذا سيضايقونني.
ـ تأكد يا مجيد من إنهم لن يتركوا دابة تمشي على الأرض بسلام إذا لم تنخرط معهم. هم لا يريدون فقط التعليم والجيش أن يكونا مغلقين لهم كما يدعون بل يريدون المجتمع كله. وسترى..
ثم أردف:
ـ أنا وصلت تفضل معي للغداء.
وهتف بالسائق:
ـ راس الشارع.
شكرته على دعوته الشكلية. وحين توقفت السيارة ودعني وهبط منها.
تابعته بنظراتي. كان أشيبا نحيفا يحتفظ ببقايا وسامة متشبثة بسيمائه رغم القلق والهموم التي تحيط بحياته. دلف إلى الزقاق القريب محييا بعض الأشخاص ولمحت قبل أن تنعطف السيارة صبيين صغيرين وفتاة اصغر يهرعون إلى حضنه.

رغم إن تلك لم تكن المرة الأولى التي يتحدث بها جواد عن هذه الأمور إلا انه جعلني مشدودا للحظات وترك بعض التوتر على أعصابي لم استطع التخلص منه إلا بإصغائي إلى حديث الشابين الصغيرين بحماستهم التي لا تفتر عن كرة القدم.
كان جواد يعرف من انه سيرضخ في النهاية وانه يخسر وقته وأعصابه بلا طائل فهو قد صار يدرك من أن زمن التمرد والمغامرة ذهب مع أيام الشباب وان الظروف تغيرت كليا ألان ولا يستطيع لاهو ولا غيره على العناد والمواجهة لان زمن البطولات قد ولى حسبما يؤكد هو نفسه لكنه لا يريد إن يستسلم من غير معركة ما يخوضها ليبرر، لنفسه على الأقل، هزيمته المقررة سلفا، معركة يعرف تماما انه سيخسرها ولكنه ينتظر فقط أن يأتي أوانها لااكثر.

كنت أتصور دائما أن هناك شيئا ما جذابا وذو معنى خاص يحصل عليه المرء حينما يغامر بحياته وسنوات شبابه من اجل الآخرين. وان الإنسان قد يستطيع أن يحقق ذاته من خلال انغماره بشؤون الغير. وربما تكون تلك أفضل حالات تحقيق ألذات.. ربما!!. كنت أعتقد أن ذلك يمكن أن ينقذ الإنسان من ارهاقات الضجر والإحساس المرير بعدمية ولا جدوى أي شيء في الحياة. لكن...
ابتسمت حينما رددت بداخلي أن ( لاشيء يهم) تلك العبارة التي أنقذ بها نفسي من فكرة الحياة وفكرة الموت ومن رطوبة الجو الخانقة.

لا زال الجو يبث حمما متقطعة من الحر. وحين دخلت البيت كان قميصي مبتلا وجسدي ما يزال ينز عرقا. استقبلتني أمي مبتهجة بعودتي فوافقت على اقتراحها بجلب الطعام إلى غرفتي.

**

رمل الصحراء ندي ورطب ولفح شمسها حارق. رجال برؤوس حليقة تكدسوا في شاحنة كبيرة صدئة وسط توهج لون الشمس النحاسي في الصحراء. أفواههم تمتلأ بغبار الرمل الصحراوي. في الجانب الآخر عند الفراغ الواسع حيث تحيط بالفضاء خطوط سديمية كانت تقف بلامبالاة شجيرة وحيدة معزولة ومجدبة تلهو وتلتصق بأسفل جذعها بقية من كيس بلاستيكي ترفرف بجزع قرب ورق جريدة اصفر مجعد يصطفق مع خفق الريح. ثمة رجال عراة معلقون على مشانق بأعمدة كهرباء خشبية وقد تيبست أجسادهم. وقف احد المارة بلباسه الداكن ووجهه المكفهر وسط الصحراء الصفراء الخالية وهتف مشيرا إلى رجل معلق على عمود منعزل متخشب الجسد مثل الآخرين ويعتمر عمامة سوداء وثياب متسخة مبقعة ولحيته مخضبة بالشيب وبغبار الرمل:
ـ هذا هو زعيمهم.
عادت الشاحنة ذات المعدن الصدئ مرة أخرى أمامي وحين اتجهت نظراتي المرهقة إلى حيث ابتعدت ببطء بزغت من وسط السديم جارتنا بثينة وهي تصرخ وتمزق ثيابها فكشفت عن جسد ممتلئ وبض تلون بسرعة خاطفة وصار جسدا لرجل اسود يركض بارتباك وصوته الابح يصرخ بي أن أساعده ثم فجأة صمت وسكن جسده وصار وجهه وجه جواد واخذ يبكي مذعورا يائسا وحزينا وسط زنزانة رطبة ومظلمة رغم إنها كانت مكشوفة وسط وهج الشمس الصحراوية الحارقة واخذ يهتف:
ـ عطشان!
وأراد مني أن اسقيه ماءا. كانت خلفه ببضع خطوات بركة ماء عذبة وصافية وكنت أريد أن اصرخ بان الماء هناك وراؤه لكن صوتي لم يخرج وازداد صراخي لكن جواد لا يسمعني ونظراته لي تمتلأ بالعتاب والاستنجاد ثم أحنى رأسه يائسا وأخذت تهبط عليه شيئا فشيئا عتمة سمراء ثم اخذ يقترب مني هدير مكتوم...

ودخل صوت المروحة الرتيب إلى أذني فشعرت بثقل لساني وجفاف فمي وشدة عطشي. وللحظة لم أتعرف على المكان وحين رفعت المنشفة الصغيرة من على وجهي ومسحت بها العرق المتصبب من على وجهي ورقبتي أدركت بارتياح عميق من أنني لاازال في غرفتي. فناديت على شقيقتي الصغيرة بصوت واهن طالبا ماء.
كان حلما ثقيلا وغريبا رغم أني اعتدت على الأحلام الثقيلة والكوابيس.
جاءتني شقيقتي بقدح ماء بارد وقالت:
ـ أمي تقول أين ستشرب الشاي؟
أجبتها بتثاقل من وطأة الحلم الثقيل وبقايا النعاس.
ـ سوف لن اشرب الشاي اليوم أريد أن اتحمم وسأخرج بعدها.
ـ هل ستذهب إلى العشار؟
سألتني بلهفة.
وأين سأذهب إذن؟ لماذا تسالين؟
أريد أن تجلب لي ألوان رسم زيتية، فقد جمعت بعض النقود.
ابتسمت لها وحضنتها وأنا أسير معها الى خارج الغرفة. كانت صغيرة وناعمة وابتسامتها عذبة فلثمت خدها وقلت:
ـ طيب. اجلبي لي المنشفة إلى الحمام!.

**
بدأت الشمس تهبط متحولة إلى اللون الأرجواني مؤذنة بالغروب ووقفت كهالة، ملوثة باللون الأحمر والغبار، خلف راس تمثال السياب فألقت بوجهه في عتمة مبكرة. أدرت ظهري للتمثال وانحدرت بمحاذاة شط العرب تجاه الكورنيش حيث المقاهي مكتظة بالرواد. كان ضجيج الجالسين مكتوما فالصيف يأذن بالرحيل. في الجانب الآخر عبر مياه الشط الداكنة تكاثف النخل ملتفا على بعضه متعانقا في غابة مضفورة من الأخضر الداكن المغموس بخصل شقراء نحيلة من أشعة الشمس الغاربة.

لطالما ارتبط النخل بمشاعر خاصة في خيالي. هسيس سعفاته في ليالي الشتاء حين تداعبه رياح الشمال الباردة، يستدعي عندي إطارا خاص يناسب فخامته بطقسية لذيذة من ملابس ونظرات شاردة.

جلست على حافة الدكة الإسمنتية الطويلة الممتدة بمحاذاة الكورنيش محاولا الاسترخاء. لم يستقر تفكيري عند لحظة معينة من زمن عمري الفائت فقد كنت أتنقل بعشوائية بين مفترقات الزمن المرتبكة، الهاربة بلا مبالاة أمام زحف الخريف الداكن. لم أر في قاطرة عمري محطة تبعث الدفء ولذة الوجود كما هي محطة طفولتي القصيرة العابرة الحافلة بعبق المواسم، خضرة الربيع السارح وشمس الخريف تخطو متثاقلة بحنو حزين شفاف. لم تعد أمامي الآن خيارات كثيرة كما في زمن الطفولة، فالحياة صارت قطعة واحدة، طبقة واحدة مداها مغلق بنقطة مبهمة لا اعرف أين تنتهي. لم يعد شيء ما يثيرني ويجعلني أعيش من اجله. فالآمال تبخرت وتبددت لهفة الرغبة بالعيش. تحولت حياتي إلى شيء لا يطاق ولولا قلقي على أمي وأخواتي لأنهيتها منذ زمن بعيد. لااريد لهم أن يتعذبوا بسببي...

لكن يا للحيرة فالحياة عبء ثقيل.

اخذ الليل يقترب ويغالب الغروب البطيء. وهبت على الشاطئ نسمات مشبعة برطوبة النهر. سمعت همهمات أصوات تقترب وضحكة ترتفع وتقفز من بين نثار الكلام والضجيج المكتوم المتناهي لسمعي من المقهى القريب فتعرفت على صاحب الضحكة وقبل أن أفكر في تغيير مكاني تجنبا لصاحبها سمعت نداءا باسمي تصاحبه ضحكة مرحة. واقترب جبار من مكاني. كان برفقته شخص لا اعرفه. عرفني عليه لكن هذا لم يلبث أن اعتذر وغادر بعد قليل لأنه مرتبط بموعد وعليه أن يسرع. شعرت بذنب فسالت جبار إن كان لقاؤه المفاجئ بي قد سبب الإزعاج لصديقه فأجاب انه التقاه هنا بالصدفة وانه كان يعرف من البداية من انه كان يجاريه لااكثر.

ـ كنت أفكر في العودة إلى البيت ولكنني حين رايتك غيرت رأيي.

عرفت أن لا مفر من جبار فهو سيجالسني من غير ما استئذان.
ـ يااخي اشعر بضيق اليوم.
قال لي وسحب منديل من جيب بنطاله واخذ يجفف وجهه المندى بعرق ناعم.
كان جبار ممتلئا يقترب من البدانة اسمر بشاربين ناعمين يطوقان شفتيه الممتلئتين.
سألته مجاملا كيف قضى نهاره بعد الدوام فقال.
ـ ذهبنا أنا وحمزة إلى حي الطرب.
أجبته بلا مبالاة.
ـ أما تكف عن الذهاب إلى هذه الأمكنة ومن صحبة حمزة.
فقال ضاحكا:
ـ لا..
ثم أردف كمن يجيب على سؤال ملح:
ـ ذهبت لأفرغ سمومي أم تريدني أن احتفظ بها في داخلي لتقتلني كما تفعل أنت.
وضحك رابتا على ظهري بمرح فضحكت لضحكه.
ثم أضاف:
ـ لماذا لا تجرب ثانية معنا أم انك حرمت الذهاب إلى هناك؟.
ـ أتريدني أن أتقيء ثانية وأفضحك ونكون أضحوكة للناس من جديد؟.
ـ يااخي تلك كانت حالتك الأولى وربما تكون قد صدمت، مع إنني لم اصدم حينما ذهبت في المرة الأولى.
ـ وتلك ستكون حالتي الأولى أيضا. في أي وقت سأذهب ستكون هي المرة الأولى وستنتهي بالقيء والفضيحة.
ـ ولكنك يجب أن تحاول. صدقني انك لو نجحت فستعتاد الذهاب إلى هناك وستتخلص من كل الهموم.
ـ لكنه مكان مبتذل وأنا لم أحببه.
ـ ستحبه حينما تعتاد عليه. ثم إن النيك لذة يااخي حرام تحرم نفسك وأنت شاب.
فقلت بمزح اعتدت أن أتبادله مع جبار:
ـ ولم كل هذا الحرص علي؟.
ـ صدقني يااخي أنا احبك واشعر بقدر الآلام التي تعيشها في داخلك. صدقني يا مجيد جميع زملاؤنا يعرفون حالتك وهم يتعاطفون معك وكم يتمنون لو إنهم يستطيعون مساعدتك.
ـ حتى صاحبك حمزة.
أجاب ضاحكا:
ـ صحيح حمزة بعثي بس هو إنسان طيب ويقول انه يدافع عنا جميعا في المنظمة عندهم.
ـ ومن يحفر لجواد إذن؟
أجاب فورا:
ـ المدير.. وأنت والجميع يعرف هذا.. ثم يااخي ماذا يريد جواد أن يصنع؟ الم يعرف إن زمن البطولات ولى وانه صاحب عائلة وعليه أن ينتبه لنفسه ومستقبله؟ فهو وكلنا لم نعد ملك أنفسنا لنبدد أرواحنا كما نشاء.. كل منا لديه قيوده وأشياءه التي تضيق عليه.
قلت بسخرية مرحة:
ـ وأنت ماذا لديك يقيدك؟
أنا عندي نفسي، روحي، أليس من حق نفسي وجسدي علي أن امتعهما واشبعهما. ولماذا علي أنا أن أضحي في حين سينعم الآخرون بالنعيم والرفاه ويواصلون الحياة وأموت أنا من اجل أهداف وأشياء غامضة غير قابلة للتحقق.
ـ أنا لااناقشك فانا نفسي لاامارس السياسة ولااؤمن بها حتى. وأنت تعرف ذلك لكنني يااخي أريد أن يبقى الناس أحرارا فيما يفعلون ويفكرون. لماذا على الإنسان أن يدفع حياته أو مستقبله ثمنا لقناعاته؟ .. ما علينا ليس هذا موضوعنا.
ـ بل هو موضوعنا الأكبر يا مجيد فقد عرفت من حمزة أن هناك نوايا للضغط عليك لكي تنتمي لهم.
ـ ولماذا أنا بالذات ولماذا لايضغطون عليك أنت.
أجاب وطيف شعور بالمرارة باد على وجهه:
ـ أنا ضغطوا علي وانتهى الأمر..
حين نظرت في عينيه وسط العتمة أردف.
ـ لقد صرت واحدا منهم؟ نعم أنا بعثي الآن. أنت تعرف أنا وغيري مجبرون والا سيضيق علينا ونحارب بأرزاقنا ونحرم من كل شيء.
ـ وماذا سأفعل أنا؟
لم أكن بسؤالي لا مبال تماما.
ـ لا ادري ولكنني أنصحك بان تفعل كما فعلت أنا وكما يفعل الجميع الآن... مجيد كلنا نعرف انك لا تهتم بالسياسة وانك شخص في طريقك، وأنا كذلك وأنت تعرف ذلك ولكنهم لا يدعون أحدا وشانه وصدقني أني لو لم أثق بك واحبك لما تحدثت إليك بهذا الكلام أنت تعرف إن الأمر فيه خطورة ولم تعد الأشياء كما كانت في السابق.

شعرت بخناق خفي يضيق على صدري وبان لون العتمة يتسرب إلى داخلي ويضغط بشعور ممض بالكآبة على أعماقي بقدر اكبر مما يفعله عادة الهبوط المتأني للغروب الحزين. صرت كمن يبحث عن شيء لا يعرفه ولا يستطيع العثور عليه ويصر على أن يحتفظ فقط بلوعة البحث المضنية.
ـ اعرف.. ولكن كيف يمكنني أن أتخلص من هذا الوضع؟
ـ ليس أمامك أي خيار فحتى صاحبك جواد راح (يبرطها) ويصير مثل ما يريدون منه.

مرة أخرى جواد.. رجل أضاع كل شيء، وما بناه لا يريد أن يتخلى عنه ولكنه لا يستطيع أن يكمله فتاريخه الشخصي الذي نسجه بالتضحية بأيام شبابه الحلوة يتسرب من بين يديه بلا بطولة ولا حتى نفس انتهازي يقنعه ويبرر له انحداره المرتقب.
لكن من منا يستطيع أن يصنع مصيره في هذه الأيام ليكون مسؤولا عنه؟؟.
ـ يااخي جواد إنسان طيب ومخلص.
قلت بمرارة كمن يأمل بسماع كلمة تنجده وتخلصه من المأزق الذي يقترب منه.
ـ وماذا ؟ انه شيوعي أو على الأقل انه ليس معهم وهذا يكفي فلايمكن لأحد أن يبقى على الحياد.
ـ وهل تعتقد أن هناك بعض المخاطر علي أنا أيضا؟.
سخرت في داخلي لسذاجة سؤالي رغم إدراكي لعفويته. فمن منا في هذه الأيام بغير خطر ما يتهدده؟ وما يحزنني هو أنني لست خائفا ولكني في الحقيقة اكره الانشداد إلى قضايا تافهة ولا تعنيني.
ـ لا. لحد الآن لا.. فهم يعرفون انك غير مرتبط بأي جهة ولكن أنا أيضا مثلك لكنهم لم يدعوني وشاني وسوف لن يدعوك وشانك كذلك.

اخذ انقباضي يشتد أكثر وشعرت إن دائرة الحياة الضيقة أصلا بدأت تتقلص أكثر الآن. ولم استطع أن احدد ماذا علي أن افعل ولم أفكر بشيء فانقباض نفسي أغلق تجاويف دماغي ورماني في تيه فشعرت بوهن وفتور وهبوط نفسي حاد.
أدرك جبار ماحل بي من انقباض فحاول أن يرمم الموقف وقال:
ـ هيا لنذهب إلى هذا البار( أشار بيده لمبنى عبر الشارع) لنشرب قنينتين بيرة فقد يخفف ذلك من عناء هذا الكلام..
ثم أضاف مبتسما
ـ واعتذر لما سببته لك من إزعاج.
ـ لا لا أبدا. لاشيء هناك.. ولكني لااطيق الآن أي مكان مزدحم.
ـ على العكس. ففي مثل تلك الحالات عليك بالهروب وسط جموع الناس فهناك ستنسى خوفك وقلقك.
ـ صحيح لكن ليس في هذه المرة.

اسمع مجيد! اليوم أربعاء. مارايك أن نذهب في يوم الجمعة إلى حي الطرب؟.
ـ لا.
كانت إجابتي جازمة منعت جبار من إلحاحه المعتاد. إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يضيف:
ـ ولكن يااخي في مثل ظروفنا ليس أمامنا إلا هذه الوسائل لمواجهة كآبة الأيام.
ـ وهل أنت مكتئب يا جبار؟

تحسس قليلا من سؤالي. أدركت ذلك من سحنة وجهه التي تغيرت للحظة ثم عاد إلى هدوء وجهه الذي يقترب أحيانا كثيرة من تعبير البلادة.
ـ صدقني مثلك أو أكثر ولكنني اكسر السوداوية بالضحك والسخرية والحياة العابثة.. أنت سيد العارفين يا مجيد فافعل مثلي.
نفثت تنهيدة قصيرة ببطء وقلت:
ـ لا ادري يا جبار ماذا علي أن افعل ولكن يبدو إننا نختلف في الطبائع والقدرات فانا لااستطيع أن أتكيف مع هذا الوضع وهذه الحياة ولا ادري كيف سيكون وضعي في قادم الأيام.

في طريق العودة كانت السيارة مليئة بالركاب بعضهم صامت وآخرون يتحدثون بأصوات خفيضة فيما بينهم.

أخذت أفكر بذهول وحرقة وشرعت أمام نفسي بوابة الأسئلة المرة مرة أخرى.

" ماذا علي أن اصنع لكي أغير في أشياء حياتي واجعلها مقبولة للعيش. هاأنا أصاب بالحيرة وأنا أراقب أصدقائي وزملاء عملي وهم يعثرون في كل يوم وكل مناسبة على سبب ودافع يجعل تشبثهم بالحياة مبررا وإقدامهم عليها مقبولا. فلماذا لا اصنع مثلما يصنعون؟ لم لااتزوج كما يفعل الآخرون وانشغل بهموم الحياة اليومية؟. لماذا لا اغرق نفسي بما هو متاح من لذات ولآخذ الحياة ببساطة كما يفعل جبار. لم لااتعلم منهم ومن نفسي؟ لماذا أغلق نفسي في قمقم مغلق من اجترارات مكرورة لهموم ليست شخصية؟ ألا اقضي على نفسي بهذه الطريقة؟.. لكن لماذا كل هذا ومن أين جاءتني بذرة القلق والرفض هذه..

وفلتت مني زفرة مسموعة:
اوووف.

***

أن تريد موت ولدك لأنك تحبه هو أمر مرعب وعجيب في هذا الزمن!!.

كانت فجيعتي بموته كبيرة جدا. اكبر من أن احتملها. وما خلت إنني سأستطيع العيش من بعده ولم يخطر على بالي أبدا في أية لحظة من أن موته سوف يسبق موتي. وكنت في قرارة نفسي أشفق عليه حينما أتصور في خيالي كيف انه سيحزن لموتي وأتمزق في داخلي بفكرة اينا سوف يموت قبل الآخر. ولكن ماارعبني والمني، أنا أمه التي تحبه بلا حدود وأرادت له أن يعيش أطول عمر ممكن، لاسيما حين أفكر في الأمر بوضوح، هو انه، رغم فجيعتي بموته وبالطريقة التي تثير الألم التي أنهى بها حياته، فقد أثار ذلك لدي إحساس غامض وخفي بالراحة وشعور بالتخفف من عبء ثقيل سقط عن كاهلي، نعم.. تلك هي الحقيقة!! عبء كان يثقل علي لدرجة يجعل فيها حياتي وكأنها دوار وسط جحيم لا يطاق. نعم أنا أمه التي تحبه وفجعت بموته لدرجة أني لم اعرف كيف اعبر عن ألمي وحزني، قد شعرت ببعض الراحة من انزياح هم كبير كان يسببه لي بقاء ابني على قيد الحياة، ابني الذي أحبه بطريقة لا يفهمها إلا من كان لديه ولد مثل ولدي مجيد. نعم فقد تخففت من ثقل القلق وأوهام اليقظة التي كانت تروعني وتكاد تحيل أيامي إلى سلسلة متصلة ثقيلة ومتماسكة من القلق والحزن القادم لا محالة. فقد كنت أتصور أبدا مصيرا غامضا ومؤلما سينتهي إليه ولدي, وهو ما حدث بالضبط.. كنت أراقب حزنه الكظيم وصمته الهادئ الذي خرب كل كياني وجعلني أحار في تفسيره. ورغم إن صمته وحزنه الهادئ هما أكثر الأشياء التي أحببتها فيه إلا أني كم كنت أتمنى أن يكون مجيد شخصا آخر بصفات وطبيعة أخرى، كأن يكون ولدا عاقا، أو إنسانا سافلا أو شريرا أو مستهترا أو أي شيء سيء يمكن أن يضعه الله في ابن سيقل حزن أمه عليه إذا ما جاء يومه قبل يومها. أو أن يكون مثل ابن يتمنى أهله موته ليستريحوا من عذابات بقائه في الحياة مضاعفا همومها عليهم.

لكن مجيدا لم يكن هكذا. وهذا كان سر عذابي.

حين يكون خارج البيت اقضي الوقت أفكر في عودته سالما. ورغم إني اعرف انه طيب ومسالم ولكن شعور داخلي بالقلق يلفني عندها ولااستطيع السيطرة عليه. واعرف أيضا إن إظهار شعوري وقلقي ولهفتي عليه حين يعود سيزعجه فأتظاهر باللامبالاة وكان أمر خروجه وعودته هما أمر عادي لا يقلقني. لاانام قبل أن اطمئن على عودته إذا ما صادف وتأخر خارج البيت. لا يريبني شيء في سلوكه. اعرف استقامته وجديته. واعرف أن ليس هناك من يمكن أن يكن له الضغينة فانا أتصور إن جميع الناس لا يمكنهم سوى أن يحبونه. فمن يكره إنسانا بهذه الوداعة والطيبة؟. ولكن اعرف أيضا إن الشر في أيامنا هذه ليس قليلا وان أولاد الحرام كثيرون وهذا سبب كاف ليجعل الإنسان يقلق حتى على الملائكة. لم افهم أشياء كثيرة فيه فقد كان يبدو لي دائما وكأنه ليس كما الآخرين. فالشباب في سنه يأخذون عادة طريقة مألوفة في حياتهم. بعضهم يعمل في السياسة وهؤلاء يكونون أقوى من أن تقلق عليهم أمهاتهم وآخرون يعيشون حياة اللهو والعبث وهؤلاء أيضا يكون لديهم قدر من الشطارة قد يخيف أهلهم ولكنه لا يجعلهم يعيشون في دوامة لانهائية من القلق مثلما هو حالي. هذه كلها تصرفات واضحة وحين تكون الأشياء واضحة يستطيع الإنسان أن يتصرف معها بوضوح ولكن الغموض هو ما يقلق ويكون أكثر مبعثا للألم والخوف المبهم.

لم يكن ولدي مطيعا كما تحب الأمهات أن يكون عليه أولادهن، ولكنه لم يكن مشاكسا. فهو لم يرفع صوته في وجه احد حتى انه لم يصرخ بأخواته الصغار. لم يكن فظا بل كان رقيقا خفيض الصوت لكنه لم يكن مرحا كأنما هناك أمر ما يلزمه أن يكون حزينا رغم إن وجهه بشوش وليس بعابس. وطالما كنت أتصوره شخصا راض عن الحياة فهو لا يتذمر ولا يعترض على شيء حتى بدا وكان الحياة هذه لا تعنيه في شيء وبدا كمن يعيش لعالم آخر، لحياة أخرى بعيدة وغير مرئية. لديه معارف كثيرون لكن ليس لديه أصدقاء إلا عدد قليل جدا وهؤلاء فرقتهم معه شؤون الحياة وبلاويها. لكني دائما أفكر في لو إن ( سامي)، صديق طفولته، كان قريبا منه مثل أيام زمان لما انتهى إلى هذا المصير المؤلم ـ الموت منتحرا ـ وقبله تلك العزلة الغريبة عن الحياة والعالم التي اختارها. حين أساله يبتسم ويقول إن كل شيء على ما يرام وفي بعض الأحيان حين لا يستطيع إخفاء قدر الألم الداخلي الذي يعانيه يتعلل بان هناك بعض متاعب العمل الروتينية فالتدريس يوتر الأعصاب كما اعتاد هو أن يفسر الموقف لي. كان في الأيام الأخيرة ينعزل كثيرا في غرفته وحين اشتاق إليه( فقد كان شعور الاشتياق إليه ينتابني دائما وفجأة ) واذهب بأي ذريعة لأطل عليه في غرفته فأجده سارحا ومستغرقا بسهوم وأدرك من تعبير وجهه وذبول نظراته انه لم يكن غارقا في أفكار بل في لجة أحاسيس قاتمة وحزينة. ومع انه يحاول أن يخفي ذلك بابتسامة تقفز لثغره فور أن يباغت بي لكن ذلك لا يخفي عن عيني المدربتين على فهم أعماقه ملامح الكدر البادية على وجهه. ولكنني مهما تشاءمت وخفت وذهبت بي أفكاري، التي سودها القلق، في تصور أشياء عن كيف سيكون مصيره في حياتي وبعد مماتي، إلا إنني لم أكن أتصور أبدا انه سيقوم بهذا الفعل المؤلم له ولنا وينتحر...هكذا وببساطة. ينهي حياته بهذه الكيفية من غير أن يفكر حتى في أمه ولا بمقدار الألم والحرقة اللذان سيخلفهما موته فيها؟. اهكذا تفعل بأمك المسكينة يا مجيد؟ تقتل نفسك أمامها وتتركها في حسرة اللوعة والفراق وقسوة أن تعايش فكرة أنها لن تراك وترى ابتسامتك الحلوة وتلامس يدك.

بعدما مات مجيد منتحرا وبعدما استوعبت حقيقة موته( هل حقا استوعبت ذلك؟) صرت الآن مطمئنة عليه فانا اعرف الآن انه يرقد هناك هادئا ومرتاحا في قبره وينتظر مطمئنا أن نلحق به لنلقاه هناك في فردوس الله.

***

كان صباحا استثنائيا داكنا. نهار خريف يتثاقل في خطواته كمن لا يريد القدوم. غيوم تتناثر بثقل وكثافة ونسمات ثقيلة مشبعة برطوبة خانقة تهب فتهسهس معها وريقات الأشجار، المترنحة القلقة، على أغصانها. توقفت عند الباب عربة حمل خشبية قديمة يجرها حصان متهالك حائل اللون وقذر. كانت العربة متآكلة الأطراف ومنبعجة في عدة مواضع. هبط منها بتثاقل وروية رجل مسن بلحية بيضاء منسية أو مهملة يصحبه فتى مراهق عابس الوجه، صامت، بادي التذمر كأنما هناك شيء ما يضايقه. حمحم الحصان في نفس اللحظة التي اقترب فيها من صاحب العربة المسن رجل ملثم بكوفية مرقطة، زادت من كلاحة بشرته السمراء دشداشة داكنة الزرقة كان يرتديها. أشار الملثم إلى كوم صغير من أعمدة مجوفة وقطع حديدية صغيرة وصدئة تكورت ملمومة بقربها على الأرض خيمة كبيرة باهتة الدكنة.
ـ الله يساعدك! تلك هي الحاجيات.
أومأ الرجل موافقا بصمت وبخشوع ظاهر.
ـ سيكمل الأولاد تفكيك وإنزال الأعمدة المتبقية. انتظر قليلا.
ـ الله يرحم الموتى جميعا.. كان شابا... استغفر الله ولا اله... هه..
فاختنق العجوز صاحب العربة بعبرة تحولت إلى نشيج صامت.
اقترب منه شاب نحيف ونشط بعدما تبادل بضع كلمات مع رجل آخر يقف بصمت قرب بقايا هيكل المأتم وينظر في الفراغ. دس بيد الرجل صاحب الحصان ورقة نقدية وأغلق عليها يده. انتبه الصبي إلى الموقف فهبط من العربة وبدأ بمساعدة ثلاث رجال كانوا يسحبون أعمدة وسجادة أرضية قديمة زرقاء متآكلة الأطراف.
قال الملثم للمسن:
ـ سلم لي على حجي عباس وقل له إني سآتي إليه في المساء.
ـ هو أيضا يبلغك تحياته ويقول لا تشغل نفسك بأي شيء فهو يعتبركم أهله ومصابكم مصابه.
ـ يرحم والديه.
ـ ووالديك... والجميع انشاءالله.
ـ أجمعين.
بدأت السماء تنث رذاذا ناعما من المطر حينما شرع الرجال الثلاثة يساعدهم الصبي النحيل بوضع الأشياء الثقيلة في العربة. كان الحصان يتحرك مهتزا في مكانه ويرتج بعجز ظاهر مع حركة الثقل الذي يلقى في العربة ويرفس بإحدى قائمتيه الخلفيتين الأرض.
الهدوء مخيم تماما على المكان.
اقترب سالم من مجموعة الرجال، مرتديا قميصا ابيضا وسترة زرقاء وحاملا بيده رزمة من الكتب المدرسية والدفاتر، ورفع صوته بالتحية مقتربا من الرجل الملثم فصافحه واعتذر بصوت واضح على انه يتأسف لأنه مضطر للذهاب إلى المدرسة. احتضنه الرجل الملثم ولثم خده.
ـ أشكرك يا بني فقد قمت بالواجب وأكثر ولولا مساعدتك لما سارت الأمور كما يجب.. فأنت تعرف أن الجميع مرتبك وحزين..
أراد أن يواصل فقاطعه سالم خجلا.
ـ لا عمي!... هذا اقل واجب أقوم به فأهل أستاذ مجيد هم مثل أهلي.. وأنا اعتذر لأني لااستطيع أن اتاخر أكثر عن المدرسة فقد تغيبت ثلاثة أيام وأنت تعرف... يع...
فقاطعه الرجل بان احتضنه مرة أخرى ولثمه على خده.
اكتمل جمع أشياء المأتم من أنابيب وأعمدة وسجاد في العربة وركب العجوز والصبي. هز العجوز لجام الحصان فاهتز هذا في مكانه ثم لوى رقبته وتحرك مترنحا ببطء. رذاذ المطر مازال يهمي فحرف الرجل العجوز وجهه عن اتجاه الرذاذ وهو يسحب اللجام بوهن يماثل وهن الحصان في سيره. وصار الصبي الجالس فوق كوم الأشياء يسمع إيقاع صوت الحوافر الخافت على الأرض. وفيما العربة تبتعد متهادية الحركة شعر الصبي بالنعاس وقبل أن يغمض عينيه ليقبض على حلم من أحلام يقظته الجامحة دخل في دائرة بصره المغبشة سالم وهو يغادر المكان بخطو عجول ثم لحظ احد الشبان الثلاثة يأخذ دراجته الهوائية رافعا يده بإشارة التحية. وكان آخر ماحتفظت به عينا الصبي قبل أن يغمضهما على حلمه هو الرجل الملثم يرمي من يده علبة ثقاب صغيرة إلى ساقية المجاري الحجرية التي تتوسط الزقاق ثم راح كل شيء يبتعد ويضيق ويتضبب رويدا رويدا مع انغلاق عيني الصبي الناعستين.



#خالد_صبيح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قتلة الحلم
- بشتاشان مسارقضية
- من قانا الى تل ابيب
- مغامرة ام مقامرة
- مالايمكن تحقيقه
- ذاكرة الانصار الشيوعيين
- حكومة المالكي والتحول في مسار الواقع السياسي
- إختلافاتنا البهية
- بشتاشان ذاكرة التاريخ
- ربطة العنق التي ستخنق العراقيين
- سيف البغي
- صفعة على خد ناعم
- من هو رجل أمريكا القوي في العراق؟
- ماقالته الانتخابات
- معبر الانتخابات الى الهزيمة
- الانتخابات العراقية... منتصرون ومهزومون
- صحوة الدائخ
- المصالحة الوطنية... ماساة ام مهزلة؟
- نظرة في الدعاية الانتخابية
- محنة الناخب العراقي وسؤال الشرعية


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد صبيح - الانشوطة