أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - طارق هاشم في فيلمه الجديد www.Gilgamesh.21 مقاربة في تسخير اللوعة، وتوظيف الألم















المزيد.....


طارق هاشم في فيلمه الجديد www.Gilgamesh.21 مقاربة في تسخير اللوعة، وتوظيف الألم


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1880 - 2007 / 4 / 9 - 10:59
المحور: الادب والفن
    


السدارة الفيصلية ودماء الملوك
يشي عنوان الفيلم الوثائقي الجديد "www.Gilgamesh.21 " للمخرج العراقي طارق "هاشم بأنه موقع أليكتروني قد ينفتح على كمٍ هائل من المعلومات التي تتحدث عن أسطورة كلكامش في القرن الحادي والعشرين. وإذا سلّمنا جدلاً بأنه موقع إليكتروني عراقي بامتياز فإنه سينفتح حتماً على موسوعة الألم العراقي، تلك الموسوعة التي تسلّط الأضواء على مكامن الشخصية العراقية المنغمسة دائماً في إثارة السؤال الفلسفي، ورغبتها الجدية في تثوير ثنائية " الوجود والعدم "، هذا الوجود المؤرِّق، وهذا العدم الذي لا يريح ولا يستريح. يخصص هذا الموقع باباً كبيراً للحزن العراقي، ويتقصاه منذ بدء الخليقة، ويختلق له أسباباً ومبررات تجعلنا نتوهم أو ربما " نقتنع " بأن الحزن صفة عراقية خالصة لا يرقى إليها الشك، ولا تقترب منها الظنون. وعلى وفق هذه المقاربة علينا أن نتأمل هذا الفيلم التسجيلي الذي يرقى الى مستوى الوثيقة التي تدوّن المأساة العراقية عبر لعبة فنية مُفترضة، وتتقصاها مذ كتبت أول ملحمة في التاريخ البشري، أي منذ القرن السادس والعشرين قبل الميلاد تقريباً وحتى الآن. ولكن السؤال المثير للجدل هو: هل نجحت هذه المقاربة بين الملحمة الأولى التي تمتد الى 2600 ق.م، وبين الملحمة المعاصرة المفجعة التي وقعت أحداثها بعد 9/ 4/ 2003؟ وما هي أوجه الشبه والاختلاف بين الملحمتين؟ وهل أفلحت هذه المقارنة بين كلكامش، ملك " أوروك " وسيدها الأوحد بلا منازع، وبين كلكامش المعاصر المَنفي والمُحاصر في كوبنهاغن أو مدينة " الوحشة " كما يقترح طارق هاشم؟ وإذا كان كلكامش الأسطوري يحمل بين طياته ثلثاً من سلالة الآلهة، فإن طارق هاشم يحمل أيضاً ثلثاً من سلالة الملوك، حتى وإن تجسّد هذا الثلث في " سدارته الفيصلية! " في الأقل.
ويبدو أن طارقاً قد حسم الأمر منذ البداية، فلم يأخذ كل خصال كلكامش الذي دوّنته الأسطورة، أو الذي شهدته أوروك على حقيقته. فمن المستحيل أن يقبل طارق هاشم بأن يكون مُغتصِباً للعذارى، ومُنتهِكاً للعرائس في ليلة زفافهن، كما يرفض أن يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. وهاتان الخصلتان " اغتصاب العرائس، واستعباد الناس " هما اللتان أسقطهما طارق من حسابه فرضي بتأدية هذا الدور الذي لا يخلو من مصاعب جمة، وتناقضات خطيرة قد تطيح بهرم العمل الملحمي، وتقوّض بنيته الأخلاقية. ومع ذلك فالفيلم ينطوي على انتقادات حادة لبعض ممارسات القادة والرؤساء والملوك وعلى رأسها القمع، ومصادرة الحريات، وكتم أنفاس الرعية.
مقتطفات مكثفة
يسعى أغلب المخرجين الجادين الى تقديم خلاصة أفلامهم عن طريق انتقاء بعض المقتطفات التي تتضمن لقطات مكثفة، ومركزة، وشديدة الدلالة علها تعكس الجو العام لفكرة الفيلم وثيمته الرئيسة. وقد نجح طارق هاشم، وهو المعروف برهافته، وشاعريته، وحساسيته تجاه المفردة البصرية واللغوية ودلالتهما. وقد أوحى المخرج للمشاهد منذ مفتتح الفيلم بصوت الطائرة السمتية، وحركة العجلات العسكرية، بأن المناخ العام للفيلم هو الحرب الضروس التي تجري رحاها خلافاً للأعراف والتقاليد العسكرية، في شغاف مدينة بغداد، وليس على الحدود العراقية مثلاً. وثمة رنين هاتف متواصل يشي بأن هناك صعوبة جدية في التواصل حتى عبر الماسينجر، فالكهربا " الوطنية " تنطفئ دائماً في العراق. وثمة نتف من حوار عميق الدلالة سيتطور لاحقاً ويهيمن على الفيلم برمته حتى ليمكننا توصيف الفيلم بأنه فيلم وثائقي حواري. ثمة سؤال مهم يثيره طارق " كلكامش " في الاستهلال مفاده: ما الذي يريدونه بعد كل هذا الخراب؟ فيأتي الجواب من باسم " أنكيدو " المرابط في مدينة الموت: " إنهم يريدون أجسادنا وتاريخنا ومقدساتنا، وهم يريدون أن يعبثوا بممتلكاتنا الروحية والمادية والحضارية." وتتناسل الأسئلة وكأنها حاوية بارود تتفجر تباعاً. هل بقيت هناك مفردات حضارية؟ فيرد أنكيدو: إننا نحافظ عليها بالقوة، ونحاول أن نصنع حضارة، وندوِّن تاريخاً جديداً، ونخلق أملاً جديداً، ونبتدع أحلاماً طرية لا تتلوث بمخالب الاحتلال. الشر " هنا في مدينة الموت " يتجسد في كل شيء، وهو أشد ظلمة من أي مكان معتمٍ، غارق في الظلام. وحينما يستفسر كلكامش وهو في مدينة الوحشة والحصار من أنكيدو القابع في مدينة الموت المجاني عن الناس الذين يطاردونه، ويستهدفون حياته، يرد موضحاً: " ليس الثور السماوي هو منْ يطاردنا، إن من يطاردنا هو البي 25، الهمر، سيارات الشرطة، الحرس الوطني. . يطاردونا السنة، الشيعة، الكفرة، السلفيون. ولو أن المسألة متوقفة على الثور السماوي لهان الأمر، فكلانا نستطيع أن نقتل الثور السماوي وندمره. ويمضي الى القول بأسىً: ممكن أن يفقد الانسان مشروعه الحياتي، أو الفني، بسبب شخص ما مجهول في الحرس الوطني يمكن أن يكون متذمراً أو غاضباً، أو مسؤول في الجمعية الوطنية كان قد تعرض للتوبيخ من قبل زوجته وهو في طريقه الى السفارة الأمريكية. كائن من هذا النوع لا يجد غضاضة في أن يقتلك وكأن شيئاً لم يكن! ورداً على السؤال الأكثر أهمية هو إن كانت في بغداد لمسة حضارة أم لا؟ فيأتي الرد سريعاً. هذه حقارة وليست حضارة!
قصة مدينتين
أقام المخرج طارق هاشم معادلاً موضوعياً بين كلكامش الذي يقيم في كوبنهاغن، المدينة الموحشة التي تحاصرها الثلوج، وبين أنكيدو الذي يقيم في بغداد، مدينة الموت التي يحاصرها الأعداء من كل حدب وصوب. وفي كلا المدينتين ثمة إنسان معلّق بين الأرض والسماء، الأول تقتله الغربة، وينتهكه الجليد، والثاني يستحم في شلالات من الدم. كلاهما يريد أن يصرخ بأعلى صوته إزاء صقيع الحياة تارة، وجحيمها تارة أخرى. وربما كانت الانقطاعات المتواصلة للكهرباء " الوطنية " هو العنصر الأساسي للشد والتشويق الذي عشناه على أعصابنا ونحن نترقب طبيعة الحوار الذي تتصاعد دراميته عبر مدار الفيلم الذي بلغت مدته " 52 " دقيقة تتابعت فيه أسئلة كلكامش الى خله وصديقه أنكيدو، فالأول يبحث عن الحياة، والثاني يتلقفه الموت، فيؤجج في صديقه رغبة البحث عن عشبة الخلود لكي يجدد شبابه.
يتمنى طارق أن يكون صوت صديقه باسم أو أنكيدو مسموعاً في كل زاوية من زوايا بغداد، وفي كل شارع من شوارعها. وحينما ينقطع التيار الكهربائي يلعب باسم على الكلمات مجدداً فنعرف الفرق بين الكهرباء الوطنية، واللاوطنية، مثلما ندرك أنه يلّمح الى مفردة اللاوطنية التي بدأت تتجذر يوماً بعد يوم.
تعرية الذات
يعرِّفنا طارق على التاريخ الشخصي له، ويتحدث بجرأة نادرة وكأنه عازم على قول ما لا يُقال، كما أنه يريد في الوقت ذاته أن يحرِّض زميله الفنان المسرحي باسم الحجّار على خرق الثوابت وانتهاكها. يقول طارق إن والده كان " تنكجِّياً " لكنه لم يرث هذه المهنة عنه. وحينما توفي والده، وجد نفسه مضطراً وبتشجيع من والدته، لأن يذهب في العطلة الصيفية للعمل عن أحد " الأسطوات " الذي صادف أن يكون غلمانياً، وذات مرة تحرَّش بهذا الصبي الذي لم يجتز عامه الحادي عشر، وأراد أن يغتصبه، لكن هذا الصبي لم يكن أعزل بالمرة، فقد هرب خلف السياج، وأخذ يرجم دكان الأسطة بالحصى مُعبِّراً عن نقمته على هذا الكائن الممسوخ. وحينما يمازحه باسم بالقول: هل أنت متأكد من أنك أنقذت نفسك من هذا اللوطي؟ فيجيبه بصراحة: أنني أتذكر إنني فلتت، وكما تعرف فإن الواقعة حدثت لي منذ زمن بعيد، فلست أدري على وجه التحديد لأن ذاكرتي مشوّشة جداً. فيرد عليه باسم: أنا لا أتذكر أي شيء من طفولتي. فيأتيه السؤال المستفز مباغتاً: أنت لا تتذكر، أم أنك لا تريد أن تتذكر؟ فثمة فرق كبير بين الحالتين. هنا يستثمر المخرج مشهداً عجيباً لا أدري في أي إرشيف وجده، حيث نرى عدد من الجنود الأمريكان يهتفون بلهجة تهكمية ساخرة ومبتذلة " فكْ إراك "!
بنية التضاد والتناقض
كلما تتصاعد نبرة الغضب لدى باسم في الداخل يهدئ طارق من روعه، ويقول له بأن مهمتنا الأساسية، وسلاحنا الوحيد هو أن نلعن الشر في كل مكان، ونقاتله حيثما يتواجد. فلا غرابة أن يحرِّض كل منها الآخر سواء حينما يؤديان شخصيتيهما الأسطوريتين الممسرحتين كلكامش وأنكيدو أو حينما يتجاذبان أطراف الحديث المتقطع وكأن اللغة العربية لا تستطيع أن تسعف نفسها أمام هذا العبث الكبير الذي يفتك بحياة العراقيين، ولا يجد باسم الحجار وسيلة ناجعة لمواجهة هذه اللاجدوى إلا بالسخرية من اللغة والتهكم على الواقع الحياتي الراهن في ظل الاحتلال. تصل بعض الحوارات الممسرحة حد التشنج فكلاهما لا يريد أن يموت ميتة عابرة. أليس في تكوين كلكامش ثلث إله؟ أما شجاعة أنكيدو فهي تؤهله لأن يخلّد اسمه إذا ما لفظ أنفاسه الأخيرة في ميدان الوغى، ولكن ميتته ستكون مباركة حتماً لأنه ظل يقاتل الشر حتى النفس الأخير. وفي لحظة التوتر ذاتها يؤكد كلكامش بأنه قد ارتقى مع خله وصديقه أنكيدو أعالي الجبال، وقطعا أشجار الأرز، وقتلا خمبابا الرهيب، وفتكا بالثور السماوي، فيأتيه رد مذهول ينطوي على عبارة شديدة الدلالة " هذا أمر مرعب جداً ". ويقابله مشهد آخر يبعث على ذهول المثقف العراقي، ولا يحتاج الى تأويل، وهو مشهد شباب عراقيين يضربون ظهورهم بسلاسل حديدية وكأنه إيغال في جلد الذات، وتكفير عن خطأ اقترفه الأسلاف. وفي بنية التضاد والتناقض يطرح طارق سؤال الحب: هل هناك حُب في بغداد؟ فيتميز باسم غضباً مختصراً الجواب بكلمات معدودة: " بغداد الآن مدينة كونكريتية " وهذه الإجابة تنطوي على سؤال آخر مفاده: كيف يتسرّب الحب من هذه الجدران الكونكريتية الى فضاءات بيوتها وحدائقها ومدارسها؟ فيتهم أنكيدو صديقه كلكامش بأنه لا يرى بعداد جيداً. فباسم أو أنكيدو، لا فرق، يستطيع أن يرى بغداد وهو مغمض العينين، بينما لا يستطيع طارق أو كلكامش المنفي أن يبصرها الا بعينين مفتوحتين عن آخرهما. فالعراقيون في الداخل يتنكبون أحزانهم وانكساراتهم وخساراتهم المتلاحقة، ولكنهم مصرون على الحياة اصرار باسم على تأدية دور أنكيدو على خشبة المسرح، واصرار صديقه الرسام سعد شاكر على أن يرسم وسط أزيز الرصاص، وهدير الطائرات السمتية. فباسم يتأبط موسوعة أحزانه أنى ذهب في مدن العراق التي يرابط فيها، بل أن هذه الموسوعة تكاد تستقر في ذاكرته المشوشة التي أربكتها الحروب المتواصلة، وها هو يحفظ الكثير من وقائعها وأحداثها المروِّعة عن ظهر قلب. فمعدل السنوات الأربع والثلاثين التي عاشها في هذه المدينة الملعونة يساوي " 34 " عاماً من الفقر، والحرمان، والحروب المتواصلة، وما يتخللها من خوف ورعب وفزع كونه هارب من الخدمة العسكرية، ومطرود من معهد الفنون الجميلة لأنه لا يريد أن يموت موتاً مجانياً، ولا يريد أن ينضوي تحت يافطة القطيع الذي يحارب من دون جدوى أو هدف واضح.
تستمر ثنائية التضاد في تصاعدها الحاد، فكوبنهاغن التي يتجول فيها كلكامش المنفي محاصرة بالثلوج، بينما يتجول أنكيدو في بغداد، المحرقة التي تتصاعد فيها ألسنة النيران في كل مكان تقريباً. ومع ذلك فإنه يريد أن يؤدي دور أنكيدو علّه يهدئ ثورة البركان في داخله، ويتخلص من بعض معاناته المؤرقة التي لا ينفع معها أي علاج. وربما يكون المسرح علاجاً مسكِّناً للآلام. فكلكامش يقترح على أنكيدو أن يرتقيا أعالي الجبال، ويدخلا غابة الأرز، ويقتلا خمبابا، ولكن أنكيدو يتساءل: كيف ندخل غابة الأرز وحارسها مقاتل قوي لا ينام؟ ويكاد كلكامشنا المعاصر أن يستسلم لليأس، ويذعن لهذه اللاجدوى الطاغية في كل مكان من بغداد، وليس هناك سوى الأباطيل وقبض للريح. فها هما يؤديان دور كلكامش وأنكيدو على بعد آلاف الأميال عن بعضهما، ويتمنى طارق لو كان صديقه باسم معه على خشبة المسرح الدنماركي لأخذ التصوير شكلاً أخر. غير أن هذه الأمنية تنكأ جرح باسم، وتفتح خزانات عذاباته المتواصلة. فمنذ يوم 9 / 4 / 2003 لم يقف باسم، وهو الممثل المنقطع للمسرح، على خشبة أي مسرح في العراق. ويتساءل بمرارة عن السبب الذي يحول دون وقوفه على تلك الخشبة الساحرة. وهو بطبيعة الحال، لا ينتظر اجابة من صديقه كلكامش، لأنه موقن أن هذه المدينة لا ترتفع فيها خشبة المسرح، وإنما هي مدينة ضائعة يرتفع فيها الكونكريت، والجمود، والغباء، والاحتلال، والجبن، والقتل، والدمار، والتشريد، والتهجير القسري. وفي مشهد لاحق نشاهد جنوداً أمريكيين يضحكون بأصوات عالية متشفية على تفجير هدف عراقي تتناوشه النيران. ربما يتوقع المشاهد بأن حال كلكامش في المنفى قد يكون أفضل من حال صديقه أنكيدو الذي يحاصره الرصاص، لكننا نكتشف بأن كلاهما يعيش في محرقة، والفرق الوحيد بينهما أن محرقة باسم دموية ساخنة، ومحرقة طارق موحشة باردة. وقد اختار طارق دور كلكامش لأن له علاقة بالموت الذي يحيط به من الجهات الأربع. فلا غرابة أن يتفادى كل منهما موته الخاص من دون المرور بفكرة الاستسلام أو الإذعان المهين.
كثيرة هي المواقف المتضادة التي بنى عليها المخرج فيلمه، ولا يمكن الوقوف عندها جميعاً، ولكننا سنكتفي بالاشارة الى أبرز هذه المواقف، وأكثرها دلالة. هناك لقطة تظهر فيها مجندة أمريكية شقراء تردد بعض المفردات العربية الأمر الذي يدفع طارق لأن يسأل باسم الحجار فيما إذا كان يغازل المجندات الأمريكيات الشقراوات، فيأتي الجواب صادماً بصيغة استفهامية: هل أستطيع أن أخرج في بغداد. أنا أعمى، وأنت تتحدث مع ضرير يا طارق! غير أن الشاهد الضرير لم يمت بعد، فلا تزال الأنفاس تصعد وتهبط في صدره، وهو يعلل النفس بالأماني، ويتصور بأن خمبابا الرهيب قد يموت من الغيظ لأننا لا نزال نتنفس. فيعزز كلكامش موقف صديقه أنكيدو " ستعود في الليل شجاعتك ويطاردك الرعب وإذا ما سقطت في النزال فسنخلف من بعدنا اسماً " ولكن طارقاً يخشى بالفعل على صديقه باسم، فالموت المجاني الذي خطف العشرات من أصدقائه قد يختطف أنكيدو أيضاً. فعندما ذهب طارق، أو كلكامش، لا فرق، الى بغداد رأى الناس بأم عينيه وهم يمرون أمام الجثث المسجّاه في الشوارع والأرصفة وكأن شيئاً لم يكن.

مناجاة المجهول والغامض
أي عبث ويأس ولا جدوى تمر به بغداد؟ ثم نسمع كاظم الساهر وهو يناجي بغداد " لا تذرفين الدمع يا عيون بغداد، لا تشتكين لو خانتك بعض الأيام، لا، لا، بعدك عزيزة بشعب العراق، ما يشح دجلة ولا يدوم الظلام." لا أدري الى أي حد نستطيع نوافق باسم وهو يتحامل على كاظم الساهر أو كل من يغني في حب بغداد وتمجيدها. هل صحيح أن دجلة تحوّل الى " شطيَّط " صغير لا يستحق هذه المناجاة؟ وهل صحيح أن المطربين العراقيين والعرب الذين يغنون بغداد إنما هم يتاجرون بأحزانها وآلامها وجراحها كما يذهب باسم؟ وهل صحيح أن بغداد مدينة مجهولة وغامضة ولا يستغورها إلا الذين يعيشون بين ظهرانيها وقت المحن والمصائب؟ فالواقع الراهن الذي يراه باسم هو أشد وجعاً، وأكبر من الكلمات العفنة التي تُطلق جزافاً. ويستمر الحوار لكنه يصل الى ضفة اللاجدوى. فثمة عملية انتحارية فتكت بعدد من العراقيين البسطاء، وثمة أناس من أهل الضحايا يصبون جام غضبهم على الجهة المجهولة التي نفذت العملية الانتحارية " يا قواويد، نعلة على روح أهلكم، شنو ذنبها الناس، كلها تقتلت. ". وبدلاً من أن يعقب باسم على هذا الحادث المروع نراه يسخر من طارق مخاطباً إياه: " الله يساعدكم على العيشة في كوبنهاغن، شلون عايشين هناك! " طبعاً ياباسم هذه المدينة فيها قهر وضيم وتتحول في رأس السنة الى مدينة حرب حقيقية. ويمضي طارق في لعبته مدعياً أن صديقه باسم يكذب عليه، وينقل له صورة مشوهة عن بغداد. فطارق يرى بغداد مدينة آمنة، تكتظ بالفاعليات والأنشطة الثقافية، غير أن باسماً شخص كسول ولا يقرأ، والدليل أنه لم يقرأ حتى ملحمة كلكامش التي بعثها له طارق قبل بضعة أسابيع. فيرد باسم بأنه قد ترك كتبه وأصدقائه وزوجته وأولاده خوفاً من الموت المجاني الذي يحصد الأرواح البريئة التي لا ذنب لها سوى أنها تعيش في مدينة الموت. أنت لا تريد أن تصدق بأن بغداد مدينة مرعبة يتجذر فيها القتل والدمار بشكل يومي، وأنا أبادلك الشعور نفسه بأنك كذاب حينما تقول بأن كوبنهاغن هي قطعة من الجحيم. إن كوبنهاغن مدينة آمنة وهادئة ومسالمة، لكنك لا تستطيع العيش فيها. وبالمقابل فإن طارقاً الذي يشعر بالوحشة المقيتة يتمنى لباسم أن يعيش هذه الوحشة نفسها ليكتشف حجم حاجته الملحة الى بغداد. يشير باسم الى نقطة شديدة الأهمية وهي أن أنظار كل الناس تتجه الى هذه البقعة الساخنة من العالم، والمليئة بالقتل والدمار والحصار، غير أن كلكامش ينفي أن تكون الحياة قد ماتت في بغداد، فيرد عليه خله وصديقه: " إنها لم تمت، ولكنها في طريقها الى الموت لأن الناس من مختلف الأجيال تهاجر بشكل جماعي مخيف.


تسخير اللوعة، وتوظيف الألم
إن ما يريده طارق من باسم أن يسخّر هذه اللوعة الحقيقية ويستثمرها في الحوارات المزمع تمثيلها على خشبة المسرح بين كلكامش وأنكيدو، فيأتي الرد مُحبِطاً بشكل لا يصدق: " لا توجد أية قطعة أدبية في العالم بما فيها ملحمة كلكامش تستطيع أن تعبِّر عن معاناتي الحقيقية. " يبدو أن شخصاً ما في الملجأ الذي يختبئ فيه باسم يسخر من هذا الحوار " الاعلامي التافه " غير أن باسماً يحاول أن يغير دفة الحديث قائلاً له: أن الوضع لا يطاق يا طارق، فالمثقفون الذين أعتبر نفسي واحداً منهم يقولون لي طلِّق زوجتك لأنك " سني " متزوج من " شيعية "! ثم ينفجر باسم حينما يسمع توصيف طارق لهذه الحالة بـ " العدوى الطائفية " فالعدوى بالنسبة الى باسم هي كلمة مرهفة وحساسة وناعمة، لأن الآخرين يوقولون عنها أنها قيء ونفايات. . . وكلمات أخر تحتاج فعلاً الى " ماسْك " وهذه سمة تميز الفيلم عن سواه من الأفلام العراقية. فهو يقول الحقيقة عارية ومجردة حتى من ورقة التوت!
يعود الحوار الى سابق عهده حيث يريد كلكامش أن يقتل خمبابا الرهيب ويزيل الشر من هذه الأرض، وحينما يتركز حديثه على الثور السماوي نكتشف أن بغداد ينتهكها ثور سماوي أمريكي يمرح في شوارعها وساحاتها العامة. وحينما يلتمس باسم الأعذار بأن خمبابا مقاتل يقظ لا ينام يتهمه طارق بأنه يريد أن يبقى في بغداد لكي يشهد على خرابها، ولهذا فهو يرفض أن يغادر كما غادرتها الملايين المملينة! ثم ينفلت حوار جنسي مكشوف بين باسم وطارق لأن باسماً يروج فكرة مفادها بأن جميع الأبواب قد انفتحت على مصارعيها، لكنها إنغلقت على الجوانب الروحية والفنية والثقافية. قهر المرأة العراقية له حصة في هذا الفيلم فهي أشد وجعاً من الرجل العراقي كونها كائن شفاف تريد أن تعبر عن نفسها، وتحقق ذاتها، وتثبت وجودها في هذا العالم الفظ الذي يسوّره الاحتلال. التهمة الأخرى التي يكيلها طارق هي أن صديقه أنكيدو يلعن كل شيء لأن الموت سيختطفه، خصوصاً وأن أشكال الموت وأسبابه قد تعددت . . أولها ظلم القادة والملوك وآخرها الاحتلال. وثمة مشهد صامت لكن العراقيين يعرفون شفراته، فالقاضي رؤوف رشيد عبد الرحمن يومئ في أثناء المحاكمة الى الحرّاس أن أتركوا صدام حسين " جوزوا منّه " ودعوه يتكلم ويقول ما يريد.
الفرح نغمة عراقية مجهولة
يعرب طارق فجأة عن تذمره من هذا الحوار. " بدأت أكره هذا الحوار, لماذا نتمتع بالحزن. لماذا لا نمارس الفرح؟ فيرد عليه أكيدو لأن الفرح نغمة مجهولة بالنسبة للعراقيين، ويعزز هذه الفكرة بأغنية عراقية معروفة " ياريت الشباب يعود يومين يومين وأخبره المشيب شسوه بي." هذا هو رصيدنا من الفرح! ولا غرابة في أن يسمي بعض العراقيين بناتهم بأسماء لافتة للانتباه مثل " آهات، أو مجروحة التي أصبحت معلماً للدلالة على مكان ما مثل " يم بيت مجروحة بنت فواز ". يتمنى طارق أن ينتهي هذا الشريط، بينما سيبقى باسم وحيداً أعزلاً يقابل الجدران الصماء إذا ما انتهى الشريط. يحاول طارق دائماً أن يخفف من غلواء صديقه فيقترح عليه أن يختطفه ويساوم الحكومة الدنماركية عليه، ولا يخلي سبيلة الابعد أن يأخذ فدية قيمتها مليون دولار، خصوصاً وأن هذه الدولة قد شهدت حملة شعواء تمثلت في نشر بعض الرسوم المهينة للنبي " ص "، غير أن باسماً يقترح عليه العكس، وهو أن يقوم طارق باختطافهم ويطالب الحكومة العراقية بإخراج الجيش الأمريكي من العراق، وإلا فإنه سيقتل هذه الحثالات! المشهد اللاحق جندي أمريكي يقتل كلباً عراقياً ويبالغ في رميه بعدد كبير من الرصاصات.
يواصل كلكامش تأكيده بأن أنكيدو يخاف من الموت لأن لديه رغبة في الحياة. ولهذا فهما لم يرتقيا الجبال، ولم يمسكا بالثور السماوي، ولم ينحراه، ولم يقهرا خمبابا الساكن في غابة الأرز. فيرد عليه أنكيدو قائلاً: يجب أن يكون الحوار " سِنة من النوم اختطفتنا، مَسَكنا الثور السماوي ونَحَرنا، خمبابا قهَرنا. " وهذا ما تقوله الحقائق الدامغة. " غير أن طارقاً يوغل في ممارسة ضغوطه الهائلة على أنكيدو القابع في مدينة الموت، حيث الحياة اليومية أكثر قسوة من أي شيء آخر. ومع ذلك فثمة أمل حيث اللاعب العراقي الذي وصفه المعلِّق الرياضي بـ " كاكا العراق " قد حقق هدفاً في مرمى الفريق الخصم، لكن تلك الفرحة العارمة قد تم التعبير عنها بالبكاء أيضاً، لأن البكاء رديف الفرح العراقي. يتوصل باسم الى حقيقة مرعبة مفادها " لا كلكامش ولا أنكيدو، ولا حتى الله يستطيع أن يفهم ما يحدث هنا. ما يحدث في العراق هو أكبر من التصورات، أكبر من الخديعة، أكبر من الشر، أكبر من الألم، أكبر من الهذيان، أكبر من المسرح والسينما والتشكيل والحياة وأكبر من كل شيء." منذ عشرة أيام وباسم لا يستطيع أن يتحرك فهة أسير هذا الملجأ، وأسير هذا الفيلم " اللعبة " وهو يتهم طارق بأنه " خارج اللعبة " لأنه أراد أن يقنع نفسه بأن ما يحدث لبغداد هو مجرد كذبة لا غير! يسأل طارق باسماً عن سبب صمته وغيابه المؤقت فيرد عليه بسخرية مرة بأنه " يخفِّف العرق " وعندها فقط يقول له طارق بأن كلانا محاصر. . أنت في بغداد، مدينة الموت الجميلة، وأنا في كوبنهاغن، مدينة الغربة الموحشة. ويخلص باسم الى القول بأن لقاءهما مستحيل، مثل استحالة تغيير الوضع الراهن لبغداد، وأن يوم اللقاء بعيد جداً وسط هذه الخراب اللعين واللاجدوى المقيتة. يتجسد مفهوم الكوميديا السوداء في الجملة الختامية التي يقولها طارق: " خلص الشريط، خلص المشروع " فيرد عليه باسم " خلص المشروب! ". فتندلع الحرب في كوبنهاغن، وتشتعل سماءها بالألعاب النارية، بينما يتجول طارق في ميادينها العامة مذعوراً وكأن الذي يحدث هو حرب حقيقية تؤكد مزاعمه التي لم يصدقها أحد إلا من شعروا بلوعة الغربة، ومرارة النفي في الصحارى الخضر الموحشة.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في شريطه الجديد - ماريا / نسرين -: محمد توفيق ينجز السيرة ال ...
- تقنية - البوتو - في مسرحية - الراقص - لحازم كمال الدين: تثوي ...
- مونودراما - أمراء الجحيم - إدانة مباشرة لثقافة التطرّف والظل ...
- في المعرض الشخصي الجديد للفنان آراس كريم: كائنات متوحِّدة تس ...
- كاظم صالح في شريطه الجديد - سفر التحولات-: محاولة لتدوين الس ...
- ظلال الصمت - لعبد الله المحيسن وإشكالية الريادة الزمنية: هيم ...
- الخبز الحافي- لرشيد بن حاج: قوة الخرق والإنتهاك للأعراف الإج ...
- الشاعر العراقي كريم ناصر ل - الحوار المتمدن -: الشعر يستدعي ...
- الروائي المصري رؤوف مسعد: يجب أن أخرج بقارئي من المألوف المع ...
- الروائي المصري رؤوف مسعد: أدلِّل النص و- أدلَِعه - مثلما أدل ...
- صباح الفل - لشريف البنداري: الإمساك بالمفارقة الفنية عبر رصد ...
- المخرج التونسي الياس بكار ل :- الحوار المتمدن-: أشعر بأنني ل ...
- الواقعية الجديدة في - العودة الى بلد العجائب - لميسون الباجج ...
- الفنانة فريدة تُكرَّم بدرع المُلتقى الدولي الأول للتعبيرات ا ...
- المخرج ليث عبد الأمير يصغي لأغاني الغائبين
- في باكورة أفلامها الوثائقية - أيام بغدادية -: المخرجة هبة با ...
- عادت - العذراء - و - الصرخة - المسروقة الى جدار متحف مونش
- كتابة على الأرض للمخرج الإيراني علي محمد قاسمي إدانة الإرهاب ...
- درس خارج المنهاج: أخبرنا عن حياتك - للمخرج الياباني كيسوكي س ...
- غونتر غراس يعترف. . ولكن بعد ستين عاماً


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - طارق هاشم في فيلمه الجديد www.Gilgamesh.21 مقاربة في تسخير اللوعة، وتوظيف الألم