د.عبدالخالق حسين
منذ الإعلان عن تشكيل مجلس الحكم العراقي يوم 13 تموز نسمع تصريحات وصرخات متكررة من قبل مسؤولين رسميين وإعلاميين عرب، ومن مختلف المستويات يطعنون بشرعية المجلس وقد فرضوا أنفسهم ناطقين رسميين نيابة عن شعبنا، يزايدون على العراقيين في وطنيتهم ليفرضوا عليهم ما يريدونه من نوع الحكم لبلادهم. واتفق هؤلاء وحتى بدون لقاء فيما بينهم، على أن أية حكومة عراقية لا تعتبر شرعية ما لم تكن منتخبة من الشعب العراقي، ويجب أن يحصل ذلك الآن، وكأن الحكومات العربية كلها منتخبة واكتسبت شرعيتها من انتخابات حرة وعادلة وأن حكومة صدام حسين التي ينتقدونها على استحياء وبشكل عابر، كانت شرعية ومنتخبة من قبل الشعب.
وقد انضم إلى هذه الجوقة بعض العراقيين وخاصة أولئك الذين وقفوا إلى جانب النظام قبل سقوطه تحت مختلف المعاذير، وآخرون برزوا بعد سقوطه ينظمون المظاهرات الصاخبة تحت واجهات دينية ضد قوات التحالف التي حررتهم من جور صدام وكانوا قبل ذلك لم نسمع لهم صوتاً بل كانوا صامتين صمت المقابر إلى أن تفضلت عليهم قوات التحالف فأسقطت لهم النظام الجائر وحررتهم من السجن الكبير، وعندها وبدلاً من تقديم الشكر والامتنان لمحرريهم، برزت شجاعتهم ضد هذه القوات وضد مجلس الحكم ويخططون لتشكيل ما يسمى ب(جيش المهدي) ولا ندري لماذا لم يشكلوا هذا الجيش أيام صدام حسين لتحريرهم من جوره.
نعم، إن الحكومة المنتخبة هي الحكومة الشرعية الصحيحة التي تمثل الشعب، ولكن هل الظروف الحالية التي يعيشها العراق ملائمة لإجراء الانتخابات البرلمانية؟ الكل يعلم أن العراق يعيش ظروفاً استثنائية وفي هذه الحالة فإن مجلس الحكم الوطني قد تم تشكيله وفقاً لهذه الظروف ولا يمكن غير ذلك، وهي الخطوة الأولى الممكنة في الإتجاه الصحيح لتليها خطوات أخرى للعمل على توفير الظروف المناسبة لإجراء الإنتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة الديمقراطية المنتخبة من قبل الشعب. فبدلاً من رعاية هذه النبتة، نراهم يحاولون اقتلاعها وإجهاض التجربة الرائدة.
فالإعلاميون العرب لم يسمحوا للعراقيين مجالاً لإلقاط أنفاسهم ويستردوا عافيتهم، فقد احتجوا على ما يسمى بشرعية مجلس الحكم ولم نسمع منهم هذا الإحتجاج من قبل على أية حكومة استثنائية في البلاد العربية وحتى تلك التي اغتصبت السلطة عن طريق الإنقلابات العسكرية وضد حكومات منتخبة كما حصل في إنقلاب الترابي-البشير، العسكري في الثمانينات ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة في السودان وغيره .
فهل هؤلاء الذين يصرخون ضد مجلس الحكم الوطني ويطالبون بحكومة منتخبة، صادقون في دعواتهم؟ أنا أشك في ذلك، وأقل ما يقال عنها أنها قول حق يراد به باطل. فلو أمعنا النظر جيداً في أقوالهم الأخرى لعرفنا أنهم حتى ولو تشكلت حكومة ديمقراطية منتخبة من قبل الشعب في انتخابات حرة وعادلة وتحت إشراف الأمم المتحدة، لما تخلصت هذه الحكومة من الطعن بشرعيتها، لأننا نسمع من الآن مثل هذه الأصوات ضد الحكومة العراقية المنتخبة مستقبلاً بحجة أنها ستتم بوجود قوات التحالف التي عن طريقها حصل إسقاط حكم صدام حسين وليس عن طريق الشعب العراقي وكأن نظام صدام لم يأتي للحكم بواسطة الدعم الأجنبي.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد نتذكر جيداً ما حصل ضد العراقيين من قبل الإعلاميين العرب الذين يتصرفون وكأنهم في حالة عداء تاريخي مع أهل العراق وبذريعة الحرص على مصلحة شعب العراق. كلنا نعرف ما عمله هؤلاء ضد العراق بعد ثورته في 14 تموز 1958، فراحت أبواق الدعاية المصرية الناصرية بقياد أحمد سعيد، بوق صوت العرب ومن ورائه الأبواق العربية الأخرى تشن الحملات المسعورة ضد حكومة الثورة بقيادة الزعيم الوطني الراحل عبدالكريم قاسم ولم يتركوا له مجالاً لتحقيق أهداف الثورة ومنها توفير الأجواء المناسبة للإنتخابات البرلمانية، فأغرقوا البلاد في صراعات دموية بين مختلف الفئات مدعومين من دوائر المخابرات الأجنبية إلى أن نجحوا في اغتيال الثورة وقيادتها الوطنية بإنقلابهم يوم 8 شباط 1963 الأسود الذي مهد الطريق لحكم صدام حسين. ولكن لحسن حظ الشعب العراقي، أن في هذه المرة ونظراً لتغيير اصطفاف القوى والمصالح في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، نجد الدولتين العظميين، أمريكا وبريطانيا، تقفان إلى جانب شعبنا وضد محاولات خصومه التخريبية.
عندما قلنا لهم أن مستقبل العراق بعد صدام مثل مستقبل ألمانيا بعد هتلر، رفضوا هذه المقارنة وقالوا أن ألمانيا كان لها تاريخ عريق في الديمقراطية والصناعة والعراق ليس كذلك. ولكن تعالوا نتحاسب، إن ألمانيا هذه لم تجر فيها الإنتخابات إلا بعد ست سنوات من سقوط النازية. فلماذا تطالبون العراقيين بإجراء إنتخابات بعد سقوط صدام مباشرة وإلا تعتبرون حكومتهم غير شرعية؟
فلو راجعنا تاريخ الحرب العالمية الثانية التي حررت أوربا من النازية والفاشية واليابان من الدكتاتورية العسكرية، لوجدنا أن هذه البلدان لم تشكل فيها حكومات وطنية إلا بعد ست أو سبع سنوات. بينما تم تشكيل مجلس حكم وطني إنتقالي في العراق بعد ثلاثة اشهر فقط من إسقاط الفاشية الصدامية. وهذا يعني أن الأمور تسير في العراق بتحسن وبوتيرة متسارعة.
إن العراق يسير الآن بخطى متزنة، في وضع الأسس الصحيحة للديمقراطية من القاعدة إلى القمة وليس العكس. فنسمع عن تشكيل الإدارات والمجالس المحلية في النواحي والأقضية والمحافظات عن طريق الإنتخابات وتحت إشراف ممثلين عن مختلف الشرائح الإجتماعية، رجال القانون، ورجال دين وشيوخ عشائر ومثقفين وغيرهم. وحتى رؤساء الجامعات وعمداء الكليات والمعاهد العلمية تم انتخابهم بصورة نزيهة لا يمكن الطعن في نزاهتها.
والآن يعمل المخلصون من أبناء شعبنا على تشكيل مؤسسات المجتمع المدني، نقابات وجمعيات واتحادات ومنتديات ثقافية وغيرها والتحضير لإجراء انتخاب اللجان لقيادتها.
أما الإنتخابات البرلمانية، فهي الخطوة الأصعب وتحتاج إلى تحضير شروطها لتهيئة الأجواء المناسبة لممارستها وفسح المجال أمام أبناء الشعب العراقي لاختيار حكامهم بصورة صحيحة وغير متسرعة.
شروط الإنتخابات البرلمانية
الإنتخابات البرلمانية لها شروط وبدون توفر هذه الشروط لا يمكن إجراءها وإلا تكون إنتخابات شكلية وعلى إستعجال يمكن الطعن بنتائجها كما هي الحال في معظم بلدان العالم الثالث. إذ يجب وبعد كل هذه الكوارث، بناء العراق الجديد على أسس علمية رصينة وبخطوات متزنة وعلى أفضل ما موجود في العالم المتحضر من أنظمة حديثة. ومن هذه الشروط، بعد توفير الأمن والإستقرار وسحق فلول النظام المقبور وإعادة المجرمين إلى السجون، وتوفير الخدمات الأساسية، كما يلي:
1-بناء وسائل إعلام مؤثر لمخاطبة الشعب في نشر ثقافة الديمقراطية وروح التسامح وقبول التعددية والرأي الآخر، بحيث يتمكن المرشحون والأحزاب السياسية في التواصل مع الجماهير لطرح برامجهم الإنتخابية وتعريف أنفسهم ومناهجهم ورؤاهم السياسية.
2- إصدار مسودة الدستور الدائم وطرحه على الشعب وإشباعه بالمناقشات الجادة من خلال الندوات والصحف والبرامج التلفزيونية وبمشاركة واسعة من قبل الجماهير واتخاذها فرصة لنشر الوعي السياسي الصحيح.
3- إصدار قانون الإنتخابات والإستفادة من تجارب الدول العريقة بالديمقراطية مثل الدول الغربية.
4-إجراء إحصاء سكاني صحيح وتحديد الدوائر الإنتخابية. كما يجب معرفة عدد العراقيين في الخارج وتوفير الفرصة لمن يرغب منهم في المشاركة في التصويت والترشيح.
لا شك أن هناك شروطاً أخرى ولكن أهمها هي المذكورة أعلاه وبدون توفير هذه الشروط، لا يمكن إجراء إنتخابات برلمانية صحيحة يحترم الشعب نتائجها. والخطوات الجارية الآن من قبل مجلس الحكم صحيحة وترمي في هذا الإتجاه وبمساعدة أصدقاء شعبنا الذين ساعدوه في تحريره من النظام الفاشي المقبور.
ونحن واثقون من نجاح شعبنا وقواه الوطنية في تحقيق الديمقراطية ونجاحها وذلك لما يتمتع به من إمكانيات بشرية وثروات مادية هائلة. وعليه نطالب الأشقاء العرب أن يكفوا عن شعبنا ويتركوه لحاله ليضمد جراحه فهو أعرف بشؤونه وأحرص على مستقبله منهم. فليس من مصلحة الشعب العراقي وشعوب المنطقة تحريض العراقيين على محاربة قوات التحالف التي حررتهم من أبشع نظام دموي، كما جاء في مقالة السيد فرج أبو العشة، الشرق الأوسط، 1/8/2003 قائلاً: " وفي ظني سيكون من المفيد للشعب الأمريكي ولشعوب العالم، تحول العراق فعلا إلى فيتنام جديدة لتمريغ غرور أمريكا في وحل الشرق، كي تفيق من هلوسات عظمتها لتكتشف ان لا مكان لروما جديدة في القرن الواحد والعشرين!" فهل هذا كل ما ننتظره من أخوتنا في العروبة لمساعدة العراقيين في بناء دولتهم الجديدة؟ وماذا كان مستقبل الألمان واليابانيين لو قاوموا الحلفاء بعد تحريرهم؟ أيها الأشقاء، اتركونا لحالنا رجاءً. فأهل العراق أدرى بمصالحهم.