أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - أحمد الفيتوري - بورتريه توينبي















المزيد.....

بورتريه توينبي


أحمد الفيتوري

الحوار المتمدن-العدد: 1706 - 2006 / 10 / 17 - 10:03
المحور: سيرة ذاتية
    


شاهدت من بعيد المؤرخ الانجليزي الشهير أرنولد تويني خارجا من مدرج أحمد رفيق المهدوي ، كأنه مل الجلسات المطولة لمؤتمر تاريخ ليبيا القديم ؛ خاصة بعد أن ألقي محاضرته وارتاح ، انحرف باتجاه البحر عند الكورنيش تنسم الهواء الرطب فارتخت مشيته ، جال في المكان وكأنه يصيخ السمع لطائرات بلاده وهي تدك ميناء المدينة ، تفطن للبحر وأخذ يرسم بورتريه مدينة ناهضة عن كثب من تحت ركام غزاة تبادلوها في مطاحنات ومشاحنات وغارات لا تعد ، هذا جعله يقول لنفسه : ما أقل الحكمة التي تسير هذا العالم . شرع يخط لوحته التي سيهديها لزوجته من هنا : في بنغازي يغدو منظر البحر مبهجا ، فالبحر المتوسط المشهور بزرقة مياهه ليس أشد منه زرقة في هذا المكان . وبالمقابلة يكون منظر البر متشابها وكئيبا ، فالأرض الأفضل من شبه صحراوية ، تنتشر فيها مع الأسف بحيرات مالحة قرب الشاطئ . انها أرض مستوية من الرسوبات الجيرية التي لم تستبدل ، حتى الآن ، بأية بديلات من قشرة الأرض . والغطاء الطبيعي للسهب الجاف نثار من الاجمات اليابسة التي تتربى عليها أغنام تغدو سمينة بصورة مدهشة ، وتكون أصوافها جيدة . و لا يتقبل هذا السهب غير المعشب زراعة الأشجار ، وان كان يمكن زراعة اشجار اليوكالبتس والزيتون فيه . ويمتد البصر عبر السهب البراح إلى الداخل حتى يصطدم بافق شمالي شرقي يحده خط أزرق باهت ، وهذا الخط خداع وجذاب : انه حافة الجبل الأخضر ؛ وكلما طال بقاء المرء في بنغازي تزايدت رغبته في أن ينهض ويذهب اليه .
لما كنا نطير من القاهرة إلى بنغازي نهارا ، فقد أملت ان أحرز نظرة عجلة من السماء ألقيها على الجبل الأخضر في طريقنا إليه . لكنه كما يحدث كثيرا في السفر بالطائرة ، فإن روح الفضول تندحر أمام الغيوم . ومن خلال تقطع السحب ، لمحت ، لثانيتين لا أكثر ، ميناء طبرق ، وهي واحدة من المدن التي استحر القتال فيها في الحرب العالمية الثانية وتبادلتها الأيدي ، كل ذلك لاعتبارها غنيمة استراتجية هامة . ثم ان السحب حجبت الجبل الأخضر ، ولم يكفها هذا الشر ، بل عاكستنا إلى درجة أنها جعلت هبوطنا في مطار بنغازي متعذرا آنذاك .
وبنغازي – برنيقة Berencie ، يوهسبيريدس Euhesperides – هي آخر المستعمرات الاغريقية إلى الغرب التي شكلت ما يسمى المدن الخمسة في برقة ، ومنها توكرة Tokra – توشيريا Taucheria وهي جارتها الأقرب من جهةالشرق ،فإن بنغازي تقوم على الساحل وفي أرض منبسطة شبه صحراوية . ولربما تمانشاء يوهسبيريدس و توشيريا لشراء الحيوانات الحية والجلود والصوف المتوفرة لدى الليبييين الرعويين في السهب ثم شحنها . وفي كلتا المدينتين الاغريقيتين ، كان الاغريق متخلين عنطبيعتهم المحلية في ديارهم . وكذلك أيضا كانوا في طلميتة Ptolemais منفذ برقة البحرى وفي ابولونيا Apollonia ، مع أن كلا من طلميثة و ابولونيا لا تقع خلفهما الصحراء التي على مستوى البحر ، وإنما النجود الماوجهة شمالا ، أى الجبل الأخضر . وكانت شحات وبرقة وهما المدينتان الكبريان بين مدن برقة الخمس قد جعلتا في الداخل لا على الشاطئ ، وعلى المرتفعات لا على مستوى البحر كما لم تقاما في نقاط تناسب التجارة بصورة خاصة ، وإنما في مواقع توفر لسكانها التمتع بوجود اراض فلاحية خصبة ومراعى ممرعة قريبة .
جال فكره في كل هذا وهو في مطرحه على البحر الذي بنى كورنيشه الايطاليون ، غير من قعدته ، في مخياله أنه محاصر في جزيرة حيث من الضرورة لجزيرة ما أن تكون منفصلة عن غيرها تماما حتى يمكن اعتبارها جزيرة حقا . وقد حول الردم الذي قام به الاسكندر الكبير اثناء حصاره صور جزيرتها إلى شبه جزيرة . لكن الوسط الفاصل ، أو الشقة العازلة إذا شئت ، لا يتحتم أن يكون هو الماء ، فالصحراء القاحلة تصلح بديلا من ذلك ؛ والواقع ان كل واحة لهي جزيرة ، لكن الماء في داخلها عوضا عن كونه حولها . كذلك يمكنأن تكون الجزيرة مفصولة بالماء من جانب وبالصحراء منجانب آخر ؛ وهذه طبيعة جزيرتين اثنتين يحوطهما ماء البحر الابيض المتوسط وحجارة ورمال الصحراء الليبية والصحرا الكبرى . وليست الاكثر بعدا إلى الشرق من هاتين الجزيرتين – جبل برقة الأخضر – إلا نسخة طبق الأصل ، لكنها أقصر ، من جارتها الشمالية جزيرة كريت . أما تلك الاكثر بعدا إلى الغرب منالاثنتين – والمعروفةفي اللغةالعربية باسم المغرب ، أي غرب العالم العربي – فهي نسخة طبق الأصل ، لكنها أطول ، من جارتها الشرقية صقلية .
ان الانصال أوالعزل نسبي . فلبلوغ أي منها تينك الجيرتين من جهةالشمال ، يجب أن تركب البحر ؛ ولوصول احدهما من الجنوب يتوجب ان عليك تصطنع الجمل ركوبة لك . لكن الصحراء ، مثلها مثل البحر ، تغدو سبيلا لأيما إنسان يحسن استعمال الوسيلة المحلية المناسبة للاتصال ؛ فعلى مساق التاريخ تم غزو كل من الجزيرتين بنجاح ، كما تسنى احتلالها عن كلا الطريقين .
خذ ، خذ الألف الاول قبل التاريخ مثلا ؛ اثناءه استعمار جبل برقة الأخضر من البحر على يدي الاغريق الوافدين من بحر إيجه ، بينما استعمرت سواحل المغرب البحرية ، في نفس الوقت تقريبا ، من قبل الكنعانيين الوافدين من الموانىء الفينيقية على طول ما هو معروف الآن باسم الجمهورية اللبنانية . وفيما تلا ذلك استحوذ الرومان على كل من الجزيرة الخضراء والجزيرة الكنعانية ضمن امبرطوريتهم التي احاطت بالبحر المتوسط من جميع اطرافه . ومن بعد اولئك ، فتح العرب المسلمون في القرن السابع من الفترة المسيحية تينك الجزيرتين الرومانيتين آنئذ ، عن طريق البر .
عاد يقول لنفسه : ما أقل الحكمة التي تسير هذا العالم . شرع يخط لوحته التي سيهديها لزوجته قبالته البحر وخلفه جزيرة نفسه التي نسجها من خيوط فكره ، متأملا الحالة متمنيا في خالجته لو أنه روائي ؛ لتمكن أن يعيد نسج الحكايا ، أن يؤلف أساطيره مثلما جاءت شعوب وقبائل وخاطت من خيوط الزمن أساطيرها ، ومثلما جاءت الموجة الأولى من العرب الفاتحين على ظهور الجمال لا سطوح المراكب ؛ غير ان قادتهم لم يكونوا من أهل البادية ، بل مدنيين من أهل الحواضر التجار في الدولتين المدينيتنين العربيتين : مكة والمدينة . لذا قدروا حسنات عيش الاستقرار والحياة المدنية ، فصانوا الحقول والضياع التي خلفها لهم سابقوهم الاغريق والكنعانيون والرومان وزادوا في ازدهارها .
لم ينتبه لبدوى مر عليه في مجلسه صائحا : السلام عليكم ، فسترسل نسيج مخياله ؛ كانت الموجة الثانية من الفاتحين العرب هي التي صفت انجازات ستة عشر قرنا من الحضارة في كلتا الجيرتين الافريقيتين غرب مصر . وكان الغزاة هذه المرة مسلمين من حيث الاسم أيضا ، لكنهم في الحقيقة وثنيون ، وفي الواقع براربرة لا قادة لهم كي يكبحوا جماح نزعاتهم التخريبية . لقد خرب بنو هلال المغرب ، وخرب بنو سليم جبل برقة الأخضر ؛ وقلبوا حقوله وبساتينه إلى المراعي الصيفية التي كان الليبيون البدو قد حولوا الجبل الأخضر اليها قبل وصول الاغريق . ومنذ القرن الحادي عشر من الفترة المسيحية عانت كل من برقة والمغرب خسوفا ثقافيا كاملا . اما بداية عهد يقظتهما الحديثة فتبزغ في القرن التاسع عشر . وفي برقة في الوقت الحاضر ، يرى المرء احفاد بنى سليم هؤلإ ينتقلون من طور الرعاية إلى عصر البترول مباشرة .
وان لم يقطع البدوى المار من جانبه تأملاته فإن الحشد الذي أقبل عليه استطاع ذلك ، فجمع من أساتذة الجامعة والمسؤولين انطلق يبحث عنه ، حتى وجده غارقا في بنغازي ؛ حيث يغدو منظر البحر مبهجا ، فالبحر المتوسط المشهور بزرقة مياهه ليس أشد منه زرقة في هذا المكان .



#أحمد_الفيتوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المفكر الليبي عبدالله القويرى ومشكل الهوية
- نقد ثقافة التنمية
- اطرابلس : طرابلس الغرب ، طرابلس الشروق
- الفارس الوحيد يتكلم الآن
- محاكمة عمر المختار
- لو لم يكن رضوان بوشويشة ما كانت طرابلس الغرب
- حربستان .. عشق آباد
- ثلاثة وجوه لسيرة واحدة!
- الإصلاح ملابس داخلية!
- لماذا لبنان يدفع فاتورة الديموقراطية؟


المزيد.....




- أضرار البنية التحتية وأزمة الغذاء.. أرقام صادمة من غزة
- بلينكن يكشف نسبة صادمة حول معاناة سكان غزة من انعدام الأمن ا ...
- الخارجية الفلسطينية: إسرائيل بدأت تدمير رفح ولم تنتظر إذنا م ...
- تقرير: الجيش الإسرائيلي يشكل فريقا خاصا لتحديد مواقع الأنفاق ...
- باشينيان يحذر من حرب قد تبدأ في غضون أسبوع
- ماسك يسخر من بوينغ!
- تعليقات من مصر على فوز بوتين
- 5 أشخاص و5 مفاتيح .. أين اختفى كنز أفغانستان الأسطوري؟
- أمام حشد في أوروبا.. سيدة أوكرانية تفسر لماذا كان بوتين على ...
- صناع مسلسل مصري يعتذرون بعد اتهامهم بالسخرية من آلام الفلسطي ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - أحمد الفيتوري - بورتريه توينبي