أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل عودة - سر البيت السعيد















المزيد.....

سر البيت السعيد


نبيل عودة
كاتب وباحث

(Nabeel Oudeh)


الحوار المتمدن-العدد: 6609 - 2020 / 7 / 4 - 14:10
المحور: الادب والفن
    


قصة: نبيل عودة
تجاوز عبد الباري التسعين عاماً، وأضحت سيرته نموذجاً للبيت السعيد. تزوج في العشرين من عمره، وها قد مضى على زواجه سبعة عقود كاملة، دون أن يسمع إنسٌ أو جنٌّ عن مشكلة بينه وبين زوجته حتى اشتهرت زوجته بالبلد والبلدات المجاورة بصفة "الزوجة الفاضلة الصموتة"، التي يضرب بها المثل وتقدم سيرتها وسيرة زوجها كنموذج للبيت السعيد للذين مقدمين على الزواج، وللأزواج المليئة حياتهم بالخلافات والمشاكل كي يحتذوا بهما، يجري التشديد خاصة على الزوجات اللواتي يُتهمن دائما بتسبيب المشاكل، من طول لسانهن أو قلة إيمانهن كما يقول شيخ البلد الجليل، حتى بدون سماع رواياتهن.
البعض يقول إن "المرأة يزداد وزنها عشرة كيلوغرامات كاملة بعد كل طوشة"، القانون غير المكتوب في بلدنا أن الزوج دائما هو العاقل وهو صاحب القول الفصل وكأنه رئيس جمهورية عربية. رواية الزوج مقررة في بلدنا، حتى لو كان مخبولاً ولا يعرف تركيب جملتين مفيدتين. ها هي زوجة عبد الباري نموذجاً لكن يا نساء البلد، عرفت قدرها ولم تتجاوز حدودها... فاحترمها زوجها وأجلها وكأنها كنز ذهب وجواهر!!
يقول الشيخ في كل محضر: "زوجة عبد الباري تعرف واجب بيتها واحتياجات زوجها، لا تكثر من الكلام والمماحكة والنق على رأس زلمتها، لا يهمها إلا سعادة بعلها وبيتها وهذا هو نموذج المرأة الصالحة كاملة العقل والدين".
لم تكن تعرف البلد الشيء الكثير عن عبد الباري وزوجته، نصف ما يقال عنهما لا طريقة لإثباته، لكنه حقا لا يستحق الإثبات لأنه خلو من أشياء مثيرة تشد السامعين. مثلا كلُ ما يعرف عن تلك الزوجة الصالحة ان من عادتها إذا تجادلت مع شخص ويغضبها أن تقول بكل هدوء:
- أقول لك للمرة الأولى... كذا وكيت.
وعدا ذلك لا يعرف عنها سلاطة اللسان أو المشاكسة أو الصراخ أو التدخل بشؤون نساء البلد ومشاكل بيوتها.
حقا كانت تلك جملتها المشهورة، التي قليلا ما تسمع، بسبب حياة العزلة التي تعيشها هي وزوجها بوفاق وحب لا يتعثر، لكن المعلومات القليلة الواردة من عزلة هذا البيت السعيد، تقول إن لفظها لتلك الجملة يجعل زوجها عبد الباري يقفز فوراً بتوتّر ظاهر، كأن لغماً انفجر به، مسارعاً ليسد الطريق على أي خلاف، بين زوجته ومن أسمعته تلك الجملة، مؤكداً أن زوجته على حق كامل، لا تتصرف إلا بالحق وأن زوجته امرأة ولا كل النساء وأن قلبه يؤلمه إذا اضطرت لإعادة جملتها المشهورة بصيغة:
"أقول لكم للمرة الثانية" مثلا، فهي زوجة لا تعرف اللفّ والدوران، استقامتها، كما يقول عبد الباري تفوق الوصف، والذي لا يرضى بكلامه الله وعلي معه ليبتعد عن بيتنا".
ترى أي نوع من النساء هي؟ وهل حقا خلق الله امرأة كاملة العقل والدين كما يقول عبد الباري، مستغلاً كلام الشيخ في الإشادة بزوجته؟ لماذا لم يخلق الله غيرها بهذه الصفات التي تشبه الحلم لكل رجل؟
عبد الباري من شدة حبه لزوجته وغيرته على صوتها، لا يريد أن يسمع أصدق النساء تعيد جملتها مرة ثانية، يقول لمن حوله "الويل لنا من المرة الثانية، هذه الزوجة يجب أن تكون كلمتها نافذة من أول مرة". كان يشدد عبد الباري على قوله بطريقة تبدو غريبة بعض الشيء، خاصة حين تكون زوجته على خطأ مبين لا تبرير منطقي له... لكنه لا يتردد بقطع العلاقة مع أقرب الناس صوناً لكرامة زوجته وكلمتها حتى لو كانت على خطأ، لدرجة أن البعض سخر من "الحب الذي يجعل الرجل مركوباً من زوجته مثل الحمار" ولكن تأنيب الشيخ للمتطاولين، أخرس الألسن.
عبد الباري وزوجته يسكنان على أطراف البلد، فوق تله تشرف على بضع قراريط من الأرض، يشتغل عبد الباري من الفجر حتى غياب الشمس في رعاية شؤون مزرعته الصغيرة. يحرثها يزرعها ويربي فيها الدجاج وبعض الخراف البلدية، ورأسين بقر... يكاد لا يخرج من مملكته، إلا للسوق أيام الاثنين ليبيع بعض ما رزقه الله به ويشتري ما يلزم بيته، لم تكن زوجته ترافقه، بل تكاد لا تغادر البيت والأرض، فيما عدا ذلك يبقى ملتصقاً بزوجته وأولاده، لا ينتفض مذهولا بشكل غريب إلا إذا قالت زوجته الفاضلة لأحد زوار المزرعة الصغيرة، أو حتى لقريب يزورهما واختلفا على موضوع، أو لابن عصى أمرها.
- أقول لك للمرة الأولى..
هذا الأمر لاحظه كل من كان بصلة قرابة أو بهدف تجاري مع عبد الباري وزوجته، لكن أقاويل غير مؤكدة تشكك أن في الأمر سراً لا تفسير له، شيخ البلد يقول "اتركوا الناس في همومهم، هذا بيت صالح، لا تتحرّشوا في أسرار البيوت ولا تفسدوا ما بين الصالحين". لكن البلد، المليئة بالمشاكل بين المتزوجين والأقارب والأصحاب، حيرها أمر عظيم: كيف يمكن لزوجين مضى على زواجهما ما يزيد عن نصف لقرن، لم يسمع أحد عن خلاف أو مشكلة بينهما؟؟ هل هم ملائكة؟؟
لم يتجرأ أحد أن يفاتح عبد الباري بالموضوع، الذي كان ينتفض غضباً للتدخل في شؤونه الخاصة، ويسارع بالابتعاد عن السائل والسائلين وكأنهم مصابون بالطاعون القاتل.
الحق يقال إن سيرته حسنة، يبتعد عن المشاكل ويعيش بشبه انعزال منذ تزوج.
لكن المقدر قد وقع، انتقلت الزوجة إلى رحمة ربها نظيفة من كل ذنب، رغم أنها كانت تبدو بنت معيشة وزوجها الذي يدبّ على عصاتين قريب من حافة قبره: "إن لله في قراراته شؤون لا تخصّ العباد" صدر حكم الشيخ لمنع التساؤلات.
في أيام العزاء لاحظت البلد أن عبد الباري العجوز الذي قارب التسعين استعاد صحته، ظهرت الحيوية على وجهه، بل صار يضحك ويغمز على زوجته، يتحدث بطريقة لم يعهدوها به، فهل هي صدمة الفراق أفقدته عقله أم الشيخوخة هبّت رياحها دفعة واحدة فأفقدته وعيه؟ بل ويتندّر أهل البلد انه صار يلبّي دعوات الزيارة ويدعو الناس لزيارته، لا يبخل بمدّ الموائد التي لم يشاهدها أحد سابقاً أيام زوجته، يبدو أن أولاده أيضا أكثر حرية وسعادة، أمر غريب يلفت الانتباه. أين اختفى الحزن على فراق أفضل الزوجات وأكثرهن إخلاصاً لزوجها وبيتها؟
في فجر أحد الأيام أنتشر خبر يقول إن عبد الباري أصيب بتوعك صحي صعب ويبدو أنه يودع هذه الحياة. سارع الشيخ لزيارته وفي ذهنه أن يفهم سر هذا التغيير، كيف صمد على وفاق مع أم الأولاد سبعة عقود كاملة، حتى صار يضرب ببيته المثل عن البيت السعيد والزوجين النموذجيين اللذان لم يخلف بينهما شيء على الإطلاق.
كان عبد الباري يتنفس بصعوبة، أولاده وأحفاده حوله، بعد أن ألقى الشيخ التحية وقرأ الفاتحة فوق رأسه وتمنى له حسن الختام، سأله:
- البلد كلها تريد أن تعرف كيف يمكن بناء علاقات زوجية لفترة سبعة عقود بدون خلاف بل بوفاق كامل لا نعرف له حالة في عالمنا؟! أعطنا ما نصلح به بيوت العباد المتنازعين والمتقاتلين حتى على كلمة.
بعد أن تنهد عبد الباري بعمق، محاولاً أن يأخذ نفساً طويلاً يعينه على حديثه، إلا أنه ظل يلهث، ومن بين لهثه وأخرى وبتقطع في السرد، شرح سر هذا البيت الذي يضرب المثل بسعادته ووفاقه، قال:
- يا شيخنا الجليل المسألة بسيطة، عندما تزوجنا لم تكن سيارات، عدنا بعربة يجرها حمار إلى بيتنا، الطريق وعرة كما تعلم وكلها صعود مرهق مما أرهق الحمار، فوقع أرضاً، عبثاً حاولت أن أنهره ليواصل، زوجتي لم تصبر، نزلت من العربة، أمسكت الحمار من أذنيه، نظرت في عينيه وقالت له: "أقول لك للمرة الأولى قم وتحرك" وما هي إلا لحظات حتى قام أبو صابر وواصل جرنا بالعربة نحو البيت، بعد مسافة ما كبع الحمار مرة أخرى، ففتحت فمي لأنهره، فأسكتتني بيدها، نزلت وأمسكت الحمار من أذنيه ونظرت في عينيه وقالت له: "أقول لك للمرة الثانية قم وتحرك"، كما بالمرة الأولى، أنتفض أبو صابر وعاد يجرنا بتثاقل واضح وإرهاق كبير نحو البيت، لكن وعورة الطريق أسقطته أرضاً مرة أخرى، كالمرة الأولى والثانية نزلت عروستي وأمسكته من أذنيه ونظرت في عينيه وقالت له: "أقول لك للمرة الثالثة ولن تكون مرة رابعة، قم وتحرك" مضت لحظات والحمار المسكين غير قادر على الحركة، فإذا هي تخرج مسدساً من حقيبة ملابسها، وبلا مقدمات أطلقت رصاصة على رأس الحمار، ومن يومها لم أضطرها لتقول لأحد ما، أقول لك للمرة الثانية، المرة الأولى تكفي!!



#نبيل_عودة (هاشتاغ)       Nabeel_Oudeh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوميات نصراوي: المعلم جمال قعوار والطالب نبيل عودة
- *بيني موريس في كتابه -من دير ياسين الى كامب ديفيد- يصبح أكثر ...
- -الخمس العجاف السمان- للكاتب عفيف سالم
- من اين تجيء السعادة؟
- عن -المبدعون والثرثارون- للأديب د. جميل الدويهي من كتابه الف ...
- السخرية المغلّفة في قصة راوية بربارة -محاولة إقناع-
- ملاحظات ثقافية: مفاهيمنا للنقد بعيدة عن جوهر الثقافة
- جانيت لم تعد مجنونة
- ازمة اليسار هي ازمة استيعاب التحولات العميقة بعالمنا المعاصر
- نبذة عن كتابي -عرب جيدون- و-جنود الظلال- تاليف: هيلل كوهن
- فلسفة مبسطة: فكر الشعب المميز جلب الكوارث لنفسه وللإنسانية
- فلسفة مبسطة: راتسيوناليزم
- جولة شعرية مع الشاعر د.فهد أبو خضرة
- مسرحية: -الملح الفاسد-
- الدخان بلا نار سياسة إسرائيلية بامتياز
- صفات الشعوب
- 8 آذار يوم المرأة العالمي: رؤية متشائمة لمكانة المرأة العربي ...
- ملاحظات: فكر الحداثة وتسخيره لثقافة ماضوية
- البتول...!! (قصص من الأدب الساخر)
- مع الأديب المهجري د. جميل الدويهي في روايته -طائر الهامة-


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل عودة - سر البيت السعيد