أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - موزع الورد















المزيد.....

موزع الورد


محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)


الحوار المتمدن-العدد: 6606 - 2020 / 6 / 30 - 00:16
المحور: الادب والفن
    


كعادته كل صباح يقف في محطة الحافلات ، صاعدا مع الركاب ،
في يده باقة ورود تثير البصر، اثارته للركاب بنسمات عطر هادئة ، تفوح من ملابسه النظيفة ..تزفر الورد ..
كان يرتب باقته بشكل احترافي دقيق وتنسيق بين الألوان بديع ..
سائقو الحافلات تعودوا أن يقفوا في تلك المحطة حتى يصعد شيخ على اقل من مهله ، لا يزيد كلامه عن "صباح الخير ،أمدكم الله بخير مما لا يعطيه غيره " ، لا يقطع قلب الحافلة من بابها الامامي الى الخلفي حتى يكون قد وزع كل الورود التي كانت معه ، وصار قب جلبابه ثقيلا بما يضعه فيه الركاب من نقود ، ما أن ينزل من الباب الخلفي حتى يفرغها في كيس من الثوب بلا عد ، يحمد الله ويشكره ، يسير قليلا راجلا على الطوار الى اقرب مسجد ، يتوضأ ويصلي ركعتي شكر ثم يقصد جنينة صغيرة ،جزء منها عبارة عن مقبرة خاصة ..
يلقي نظرة على الجنينة وهي أبسطة من ورود تلونت أشكالا ,احجاما ونسمات عاطرات ، يرخي السمع لخرير الماء وشدو الطيور ، يعظم الله ويشكره ثم يخترق ممرا الى بيته عبر المقبرة بعد أن يرتل الفاتحة وبعضا من آيات على موتى المقبرة ..
ذاك كان دأبه مذ تسلم الجنينة بعد موت والده ،لايخلف له موعدا صيفا اذا اشتد حر، وشتاء اذا همى قطر ، كما لايتأخر عن موعده ولو بثانية ، دقيق في احترام الوقت دقته في تنظيم باقته وتنسيق ورودها ، وفي نظافة ثيابه ،وذوقه في اختيار عطره ذي النسمات الهادئة التي لاتتغير ..
لحظة صعوده الى الحافلة هي لحظة سعادة تغمر الركاب ، وتنعش صباحهم ، بسمات ،تحايا ، تلويحات ..وغمز بعين ...
قالت له شابة يوما :
ــ والله ياشيخ لنسمتك تنعشني أكثر من قهوتي الصباحية.
ابتسم في وجهها ، مال عليها قليلا ثم همس :
هل حقا أنا في عيونك شيخ ؟،هي فقط رغوة صابون زوجتي تتبعني بحراسة بينكم..
ضحك الركاب وقد تلتها أخرى :
ــ هنيئا لجسد يبيت جنبك معطرا برغوة الصابون !!..
يرفع البصر الى كل متحدث ، يبتسم ،و قد لايرد أحيانا، ففي غمزاته كم من معنى ومعنى ، وكم يبلغ من رسالة خلفها بسمة !! ..
هذا الصباح لم ينزل في المحطة الموالية كعادته ، فقد استطاب الجلوس في آخر الحافلة بجانب فتاة سمراء ظل يبادلها الحديث ، كانت كلماته لها همسا حاول أكثر من فضولي وفضولية ان يلتقط كلمة مما يدور بينهما ، لكن بلا جدوى ، حتى أن أحداهن تعمدت اسقاط محفظة يدها الصغيرة الى جانب قدمه محاولة لسرقة بعض همسه ،وكأنه أدرك لعبتها ،فبادر الى الحقيبة رفعها من الأرض ،ومدها لصاحبتها وهو يبتسم في وجهها بسمته المشرقة :
صبَّرك الله ، احذري ان تفوتك المحطة المقبلة ...
هكذا صار ذأبه كل صباح ،يصعد الى الحافلة وبعد أن يوزع كل وروده يحتفظ بواحدة للشابة السمراء فكأنها قد صارت معه على موعد ، تبادله الابتسامات والهمسات في ألفة قل نظيرها اثارت غيرة أكثر من رجل وامرأة ..
قالت أحداهن ضاحكة وقد حكها الفضول بغيرة :
ألا تشاركنا الحديث ، قد نفيدك أكثر ؟
تطلع اليها ولم يرد وقد ناب عنه أحد الشباب :
شوفي غيرو آلعزارة عطا الله ..
ودندن آخر : أسمر وجميل يابو الخلاخل يامذوبني
اهتزت الحافلة بالضحك في حين أن شيخنا لم تحركه ضحكات الركاب فهو مستغرق في همساته وبسماته مع حسنائه السمراء ..
غاب هذا الصباح عن موعده المألوف ، بقيت الحافلة بلانسمات ولاورود ، عيون الركاب تدور في محاجرها بحثا عن الشيخ حامل الورد ، منهم من صار يتثاءب بصوت مسموع دليل قنوط ، حتى الفتاة السمراء غابت عن موعدها ولم تصعد الا في المحطة الموالية ، أخذت مقعدا في آخر الحافلة وقد صارت العيون تتابعها متسائلة عن الشيخ الغائب ، فلا تبادل النظرات الاببسمة ثابثة وكأنها تعرف سر الغياب ..
سألها أحد الفضوليين : فين صاحبك ؟
تبسمت بهدوء ورزانة ولم تنبس بكلمة ..
قال شاب كان يترقب ردا منها عن سبب غياب الشيخ :
لو لم اسمعها من قبل وهي تبادل الشيخ الهمسات لقلت بكماء صماء،
سبحان الله واحد عطاتو وواحد زواتو ... قبل ان يتمم العبارة قالت له فتاة : وانت جابتك على عين قفاتك ..
انتشر في الحافلة ضحك كالعدوى، خفف عن الركاب الملل الذي سببه غياب الشيخ ..
نزلت السمراء حيث تعودت ان تنزل والعيون تتابعها برقابة واليها تشرئب الاعناق حتى بعد أن توارت عن الأنظار ...
تعالت الهمهمات في الحافلة : أين الشيخ صاحب الورد ، سالوا السائق ان كان يخفي سرا عن عدم ظهوره ..
فمن قائل أنه مات ومن قائل انه تزوج ، وثالث قال :مريض ،وآخر قال بصوت ملفوف في حسد:
شبع فلوس ومبقاش يرضى يبيع الورد في الحافلة ..
وقف أحد الشباب وقد تعود الركوب اليومي في الحافلة الى جانب السائق ؛حين انطلقت الحافلة مال عليه قليلا، وسأله إن كان قد بلغه شيء عن بائع الورد الذي اختفى ..حين لم يسمع من السائق يقينا قال له :
ألا تعرف محل سكناه ؟
قال السائق لا احد يعرف عنه شيئا ..
تراجع الشاب الى الوراء وظل يراقب الفتاة السمراء صديقة الشيخ ، كانت هذا الصباح تحمل معها حقيبة كبيرة ، ما أن نزلت من الحافلة حتى نزل خلفها ، ثم بدا يقتفي بعدها الأثر ، تابعه الركاب بنظر وقد أدركوا غرضه ، انطلقت الحافلة ،وهي لاتخلو من همهمات استفسارا عن بائع الورد ، وكأنهم صاروا يدمنون السؤال عنه ، فالفضول قد أغتال صبر الناس عن معرفة سر الغياب ..
أكثر من أنثى فكرت أن الشيخ لم يكن حضوره مجرد بائع ورد، وانما كان واحة عطر ونسمات ، ابتساماته انتعاشة صباحية للركاب ، كان قدوة لرجال قل مثلهم في زمن هيمنة الرجال ، بلحيته البيضاء المشذبة ، بقمصانه التي تبز رائحة الصابون المعطر ، وجلابيبه المكوية بعناية ، وبلغته الزيوانية الصفراء التي تشهد له باصالة لم تمت في عقله كما ماتت في عقول أكثر الرجال ..
ربما لم يكن الشيخ يدري أنه معشوق النساء اللواتي كن يتلهفن على صعوده الحافلة ، فيبادرن لتناول وردة من بين يديه وهو يدعو لكل أنثى بما يجعلها تتفاءل في يومها بدعائه الذي كثيرا ماحمل بشائر الخير والسعادة ..
بعد عشرة أيام من الغياب حضر الشيخ مسنودا من البنت السمراء والشاب الذي اقتفى أثرها وقد أتيا به الى الحافلة ليطمئن الركاب بعد أن بلغه قلقهم عليه ..
قالت السمراء التي لم تكن غير بنت اخت زوجة موزع الورد تعمل محامية متدربة عند احد المحامين :
موزع الورد هو زوج خالتي ،أمي وخالتي افريقيتان ،وقد تغيب عنكم لمرض خالتي ، هو من كان يقوم بأعباء البيت نيابة عنها وعناية بها ،وقد زلت قدمه وهو يقوم بتحميمها فوقع له كسر مزدوج في كعبه ، سخر الله له هذا الشاب ليتكفل به وبخالتي ،و قد خصص لهما ممرضة لتسهر عليهما يوميا .
رفع الشيخ وجهه الى الركاب وقال : كنتم فرحتي وفرحة بيتي بما تهبونه الي ،وقد افتقدتكم بعد الذي حل بي ، ذبلت جنينتي ، من قلة العناية ذبول عيوني من مرض زوجتي السمراء الجميلة ، جئت احييكم واشكركم واسألكم الدعوات الصادقات،لها فأنا بها أهيم وهي بحبي واثقة ،شفاها الله ،فلن يهدأ لي بال حتى تتعافى وترد لبيتي سعادته التي غيبها المرض ،ثم دعواتكم لي حتى استعيد قدمي واعود إليكم بورودي التي هي بريد حب بينكم، وبين من تحملونها اليه ، و بدعواتي التي تدخل السعادة الى قلوبكم ، أسأل الله أن تكون استجابة خير لكم ولذويكم ..
كل من في الحافلة قد شرع يبكي اسفا، وحين أرادوا ان يهبوه بعض العطايا امتنع أن يأخد شيئا ، رفع الشاب نظره الى الفتاة السمراء كإشارة منه ، فتحت حقيبة كبيرة ووزعت وردها على كل الركاب ،ثم اسندا الشيخ ونزلوا ثلاثتهم تاركين الحافلة تتابع مسيرتها اليومية ، مسيرة ملل وقنوط بعد أن غاب الشيخ بنسائمه ووروده الزكية ، لكن اثره ظل حيّا في العقول والنفوس وأعماق الصدور والدعوات خلفه على الألسنة صدقا ان يعود اليهم عن قريب ...



#محمد_الدرقاوي (هاشتاغ)       Derkaoui_Mohamed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خلوة عشق
- عيون لن تنسى
- عمر ..رجل لعمري ...(الجزء الثاني من لحظة فرح )
- -اخدم ياتاعس للناعس -
- العاشق أعمى
- بسمة خضراء
- لا حب يعتقل ،لا عشق يبقى
- انكسارات
- عناد ينكسر
- استفسار من طريق السلام
- انتهى مشهد كورونا الأخير
- لحظة فرح
- قصة من وحي صورة
- ارحل
- نوافذ القيود
- ابقي معي
- نصوص للصغار
- هرمت ..لكن ..
- حين تكلمت عائشة وعي ووعي
- ماشاء الله فعل


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - موزع الورد