أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كمال الجزولي - رُوزنامةُ الأسبوع: جَائِحَةُ الرَّأسْمَالِيَّة!















المزيد.....



رُوزنامةُ الأسبوع: جَائِحَةُ الرَّأسْمَالِيَّة!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 6571 - 2020 / 5 / 22 - 23:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


(تأخَّرت في النَّشر)

الإثنين
في السَّادس من أبريل 2020م أعلنت وزارة العدل السُّودانيَّة عن اكتمال اتِّفاق التَّسوية المبرم، في 13 فبراير 2020م، بينها وبين أسر ضحايا المدمِّرة "يو إس إس كول" الذين كانوا يباشرون إجراءات قضائيَّة ضدَّ حكومة السُّودان أمام المحاكم الأمريكيَّة، تأسيساً على خلفيَّة تفجير تلك المدمِّرة، أثناء تزوُّدها بالوقود في ميناء عدن، بتاريخ 12 أكتوبر2000م، بفعل تعرُّضها للاصطدام، عمداً، من جانب قارب كان يقوده رجلان يُتَّهمان بالانتماء لتنظيم القاعدة، وتلقِّي التدريب في السُّودان. وغالباً ما تكون شبهة الرَّبط بين القاعدة والسُّودان قد جاءت بسبب استضافة الأخير لأسامة بن لادن، ورهط من أتباعه، على مدى خمس سنوات، خلال تسعينات القرن المنصرم، وما استتبع ذلك من اتِّهام للسُّودان بتقديم مساعدات تقنيَّة وماديَّة للتَّنظيم الإرهابي، وإنشائه مشاريع تجاريَّة، وتوفير جوازات سفر سودانيَّة لعناصره، ومراكز لتدريبهم، وما إلى ذلك. ولذا أُدرج السُّودان عام 1993م في لائحة الدُّول الرَّاعية للإرهاب.
الشَّاهد أنه باكتمال التَّسوية، قدَّم الطَّرفان، في الثَّالث من أبريل 2020م، طلباً مشتركاً إلى المحكمة المختصَّة لشطب تلك الإجراءات نهائيَّاً، في إطار استيفاء الشُّروط الأمريكيَّة لرفع اسم السُودان من قائمة الدُّول الرَّاعية للإرهاب.
حسناًً! فالصُّلح خير، والصُّلح سيِّد الأحكام، ولو أن الأمر وقف عند هذا الحدِّ لما لام أحد الطَّرف السُّوداني، فثمَّة تفجير، وثمَّة 17 قتيلاً و36 جريحاً، وثمَّة مدَّعٍ ومدَّعى عليه، وثمَّة عرض، أو ربَّما قبول، من المدَّعى عليه بتعويض الضَّحايا وأسرهم، تسوية لهذا النِّزاع، ما يعني إقراره التَّامَّ، ولا بُدَّ، بكامل مسؤوليَّته عن ذلك التَّفجير، وكفى الله المؤمنين القتال!
لكن بيان الوزارة لم يكتف بذلك الوضوح، إنَّما راح يستغرق في تعقيدٍ ما بعده تعقيد، بتأكيده على أربعة أمور في غاية الغرابة، تستتبع أربعة أسئلة في غاية الإلحاح:
(1) قال: إن السُّودان لم يكن ضالعاً، على الإطلاق، في الهجوم على المدمِّرة كول، ولا في أيِّ أعمال إرهابيَّة أخرى! والسُّؤال: لماذا، إذن، يتكبَّد تعويض أسر الضَّحايا بملايين الدُّولارات، وهو الذي يحتاج لكلِّ قرش في هذا الظَّرف العصيب، خاصَّة وأن نفي مسؤوليَّة السُّودان ليس محض زعم، إنَّما يؤيِّده قضاء المحكمة العليا الأمريكيَّة نفسها، والتي قرَّرت، في 26 فبراير 2019م، عدم مسؤوليَّة السُّودان، وبالتَّالي إلغاء حكم محكمة الموضوع، الصَّادر في 2002م، بتحميل السُّودان مبلغ 314.7 مليون دولار كتعويض للمدَّعين، علماً بأن هذا المبلغ يكفل لكلِّ سوداني الحصول على احتياجاته من الدَّواء مجاناً لمدَّة عام؟!
(2) قال: إن نفي مسؤوليَّة السُّودان منصوص عليه، فوق ذلك، ضمن اتِّفاق التَّسوية. والسُّؤال: هل يُعقل أننا وقَّعنا على اتِّفاق ينفي عنَّا مسؤوليَّة التَّفجير، ويُلزمنا، في نفس الوقت، بتعويض ضحايا التَّفجير؟!
(3) قال: إن هذا الاتِّفاق جاء لمصلحة السُّودان الاستراتيجيَّة، ولدعم جهود الحكومة الانتقاليَّة باتِّجاه تسوية دعاوى الإرهاب «التَّاريخيَّة» ضدَّ السُّودان، والسُّؤال: كيف يُعقل أن تتحقَّق مصلحة السُّودان الاستراتيجيَّة عن طريق إقراره بدعاوى ليس طرفاً فيها، وباجتهاده في تسوية نزاع لا شأن له به، وبتحمُّله تعويض ضحايا عن ذنب لم يقترفه؟!
(4) قال: إن الغرض من ذلك إزالة اسم السُّودان من القائمة الأمريكيَّة للدُّول الرَّاعية للإرهاب، مِمَّا يُعتبر لازماً لإزالة هذه «الوصمة» من تاريخ الشَّعب السُّوداني، ولإعادة إدماج السُّودان كدولة فاعلة في المحيطين الإقليمي والعالمي. والسُّؤال: هل "الوصمة" هي ممارسة «الإرهاب»، أم ابتزاز السُّودان بوضع اسمه، بلا ذنب جناه، في قائمة الدُّول الرَّاعية لـ «الإرهاب»؟! ومن ثمَّ، وفي ضوء الإجابة على هذا السُّؤال، أيُّة «فاعليَّة» يمكن أن تكون للسُّودان، في أيٍّ من المحيطين الإقليمي أو العالمي، بعد إعادته إليهما بمثل هذه «البلطجة»؟!
أخيراً، إن كان ثمَّة ما يمكن أن يُضاف، فهو سؤال خامس، مع أكيد احترامي وتقديري لأخي العالِم د. نصر الدِّين عبد الباري: إذا افترضنا أنكم أبرمتم هذا الاتِّفاق رغبة في طيِّ صفحة ضحايا المدمِّرة كول، ولو على حساب السُّودان، وهو الأمر الوحيد الذي يمكن أن يُفهم من تأكيدكم على أنه ليس مسؤولاً عن تفجيرها، فهل أنتم مطمئنُّون إلى أن أمريكا تقدِّر لكم هذه الرَّغبة، خاصَّة وأن الاتِّفاق أُبرم مع مواطنين أمريكيِّين، وليس مع الحكومة الأمريكيَّة؟! وهل ثمَّة ما يضمن أنَّها لن تجعل منها سابقة تبني عليها مطالبة جديدة بشأن تفجير سفارتيها في تنزانيا وكينيا عام 1998م، والذي راح ضحيَّته زهاء المئتي شخص، خاصَّة وأن ثمَّة مسألتين مهمَّتين على هذا الصَّعيد: أولاهما أن غوس بيليراكس، رئيس وفد الكونغرس الأمريكي الذي زار السُّودان في مارس 2019م، كان قد صرَّح بأن واشنطن ستفاوض الخرطوم، في المرحلة الثَّانية من حوارهما الثُّنائي، بشأن دفع «تعويضات» في «ادِّعاءات وأحكام» ضدَّ السُّودان تتعلَّق بـ «هجمات إرهابيَّة»! أمَّا المسألة الثَّانية، والتي ربَّما تكون أكثر وضوحاً، فهي تصريح وزير الإعلام للأسوشيتدبرس بأنه لا يمكن الكشف عن مبلغ التَّعويض الذي سيدفعه السُّودان، حيث أن ثمَّة مفاوضات ما زالت تجري للتَّوصُّل لاتِّفاق مشابه، من أجل تعويض أسر ضحايا هجمات السَّفارتين الأمريكيَّتين في دار السَّلام ونيروبي؟!

الثُّلاثاء
يحيِّرني كثيراً أمر هؤلاء الذين ما أن يسمعوا بقرار لحمدوك أو أكرم، أو إجراء لأيٍّ من مؤسَّسات الحكومة الانتقاليَّة، حتَّى «يطفِّروا» من فوق الأسوار، شاهرين السَّكاكين المثلومة، والسِّيوف المكسَّورة! سبب حيرتي ليس عدم معرفتي دوافعهم، فأنا عليم بأن غاية مراد الثَّورة المضادَّة أن تعود بنا القهقرى! لكن ما يحيِّرني، حقيقة، هو إصرارهم على اتِّباع نفس الأسـاليب السَّـاذجة، المرَّة تلو المرَّة، دونما أدنى معلومة، أو أبسط معرفة!
خذ عندك، مثلاً، ردَّ فعلهم إزاء طلب حمدوك مساعدة الأمم المتَّحدة لبلادنا، تحت «الفصل السَّادس»، في دعم تحقيق السَّلام. فلو أنهم انتقدوا انفراده بالطلب دون مجلس الوزراء، لربَّما اكتسى نقدهم بعض الوجاهة. لكن أن يسدِّدوا هجومهم إلى محتوى الطلب نفسه، فهنا مربط الفرس، إذ المعلوم أن للسُّودان حقوقاً على المنظَّمة الدَّوليَّة، كعضو فيها، علماً بأنها تُعتبر، منذ إنشائها أواسط أربعينات القرن الماضي، وحتَّى إشعار آخر، أكبر معاول التَّعاون الدَّولي المعتمدة دوليَّاً، في ما يتَّصل بتجاوز الحروب والنِّزاعات، وتبنِّي الأمن والسَّلام، تأسيساً على ميثاق يمثِّل أهم آليَّاتها، ويعطي مجلس الأمن الدَّولي صلاحيَّة تحديد ما إن كان ثمَّة نزاع يعرِّض السِّلم والأمن الَّدوليَّين للخطر، ومن ثمَّ معالجة هذا النِّزاع بأحد فصلين متباينَي الوسائل، «السَّابع» للقوَّة، والإكراه، والعقوبات، من جهة، و«السَّادس» للدِّبلوماسيَّة، والتَّفاوض، والوساطة، والتَّوفيق، والتَّحكيم، والتَّسوية القضائيَّة، وغيرها من الوسائل السِّياسيَّة السِّلميَّة، من جهة أخرى. فما الغضاضة، إذن، في أن يطلب السُّودان، السَّاعي لتحقيق السَّلام، الاستعانة بوسائل «الفصل السَّادس»، رغم أن النَّجاح ليس، في كلِّ الأحوال، قرين آليَّة التَّدخُّل الدَّولي، ضربة لازب، بصرف النَّظر عن استخدامها تحت «الفصل السَّادس» أم «الفصل السَّابع»، كما وأن الأخير نفسه، بكلِّ عناصر القوَّة فيه، ليس ضمانة كافية لهذا النَّجاح، بدليل الإخفاق الذي ظلَّ يلازم بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في إقليم دارفور «يوناميد ـ UNAMID» منذ نشرها هناك، تحت «الفصل السَّابع»، في أواخر العام 2007م؟!
الإجابة واضحة؛ لكن ما يهمُّنا الآن، بشكل مباشر، هو ردُّ فعل عناصر الثَّورة المضادَّة المخالف للفهم المستقيم لمشروعيَّة طلب حمدوك، حيث انطلقوا يقيمون الدُّنيا ولا يقعدونها، ناعتين هذا الطلب، زوراً وبهتاناً، بالتَّفريط في «السَّيادة الوطنيَّة»! ورغم أن من شأن الحسَّ السَّليم اعتبار ذلك مكابرة مكشوفة، بالنَّظر إلى «صَبْر» نفس هذه العناصر على تدخل «يوناميد»، تحت «الفصل السَّابع»، الذي هو فصل التَّدخُّل المباشر في «السَّيادة»، طوال السَّنوات منذ 2007م، وإلى يوم النَّاس هذا، بل وإلى أكتوبر القادم، مثلما تكفي محض البداهة لاعتبار ردِّ الفعل هذا جهالة فاضحة بدلالات «الفصل السَّادس»، بل وبمفهوم «السَّيادة» نفسه، فإننا، مع ذلك، نرى ضرورة الاستفاضة شيئاً في تفنيد هذه الجَّهالة، وذلك من باب الحدب على الوعي العام غير المتخصِّص ألا يغمُض، بالنِّسبة له، مفهوم «السَّيادة»، في إطار القانون الدَّولي الحديث، كما ولا تغمُض، بالنِّسبة له، مكانة «الأمم المتَّحدة» إزاء العلاقات الدَّوليَّة المعاصرة.
في هذا الاتِّجاه، لا بد أن نستصحب، ابتداءً، كيف أفضت ممارسة الدَّولة لوظائف خارجيَّة، وبخاصَّة منذ القرن السَّابع عشر، إلى نشأة وتطوُّر القانون الدَّولى المعاصر، باعتباره جماع القواعد التى تحكم العلاقات الدَّوليَّة، وتستمدُّ محدِّداتها، في المقام الأوَّل، من مستوى التَّطوُّر التَّاريخي لظاهرة الدَّولة نفسها من عصر لآخر، ثمَّ من طبيعة الاقتصاد السِّياسي للعلاقات الدَّوليَّة في مختلف مراحلها. أهمُّ تلك المحدِّدات كرَّستها «معاهدة وستفاليا 1648م» في مفهوم «سيادة الدَّولة الوطنيَّة» على مجالها الدَّاخلي. فلئن كانت الدَّولة تمثِّل، فى أصلها، التَّمظهر السِّياسي لسلطة الطبقة السَّائدة اقتصاديَّاً، علاوة على كونها المنظَّمة الوحيدة للعنف المشروع، فإن تلك المعاهدة أرست، لنحو من ثلاثة قرون، قاعدة احتكار الدَّولة الحديثة للسُّلطة المطلقة بشأن تنظيم فيالق مسلحة لفرض النِّظام والطاعة على مواطنيها، داخليَّاً، وحماية وحدة واستقلال إقليمها، خارجيَّاً. وبالتالي فإن الدَّولة الحديثة ذات «السَّيادة» المطلقة اعتُبرت، تقليديَّاً، لدى هوجو جروشيوس وغيره من الآباء المؤسِّسين للقانون الدَّولي الكلاسيكي، بمثابة الشَّخصيَّة الأساسيَّة subject للقانون الدَّولي، مثلما اعتُبرت الاتِّفاقيَّات والمعاهدات التي تبرمها مع الدُّول الأخرى بمثابة المصدر الرَّئيس للقاعدة القانونيَّة الدَّوليَّة.
وفى إطار القانون الدَّولى الحديث، أيضاً، وباستثناء تدابير القوَّة والإكراه الواردة ضمن «الفصل السَّابع» من ميثاق الأمم المتَّحدة، تمنع المادَّة/27 تدخُّل المنظمة الدَّوليَّة في الشُّؤون الدَّاخليَّة لأيَّة دولة، كما تمنع المادَّة/24 الدُّول الأعضاء من استخدام، أو التَّهديد باستخدام القوَّة في علاقاتها الدَّوليَّة؛ وأكد على ذلك، أيضاً، «إعلان مبادئ القانون الدَّولى للعلاقات الودِّيَّة والتَّعاون بين الدُّول»، والذي اعتمدته الجَّمعيَّة العامَّة في 24 أكتوبر 1970م. ومن ثمَّ فليس هنالك ما يحول دون تقديم المساعدة في دعم السَّلام لإحدى الدُّول، لأسباب إنسانيَّة، سواء بطلب منها إلى الأمم المتَّحدة تحت «الفصل السَّادس»، أو إلى دولة أخرى، أو مجموعة دول، سواءً بطلب مماثل، أو بناء على معاهدة ثنائيَّة أو جماعيَّة.
في السِّياق تقدِّم سيراليون، على سبيل المثال، نموذجاً ساطعاً لجدوى مثل هذه المساعدات، من الأمم المتَّحدة، أو من دول أخرى، كبريطانيا في إطار الكومونولث، نحو إنهاء الحرب الأهليَّة الضَّارية، وتصفية مترتِّباتها، وتدشين مرحلة جديدة من السَّلام والتَّنمية. غير أننا يجب ألا نغفل أن سيراليون نفسها هي التي حشدت، ذاتيَّاً، عناصر الدُّخول في هذه المرحلة، قبل أن تطلب المساعدة. فحجر الزَّاوية في بناء مثل هذه المرحلة هو توفُّر الاستعداد الذَّاتي، والإرادة السِّياسيَّة، لدى الدَّولة المعنيَّة، أوَّلاً وأخيراً، أمَّا بدون ذلك فلن تكون ثمَّة جدوى من أيَّة مساعدة تتلقَّاها، لا من الأمم المتَّحدة، ولا من دولة أو مجموعة دول أخرى.
وإذن، فإن طلب المساعدة من الأمم المتَّحدة تحت «الفصل السَّادس»، أو طلب مساعدة أيَّة دولة، أو مجموعة دول، بموجب معاهدة ما، لا يتقاطع، البتَّة، مع مفهوم «السَّيادة»، بل إنه مِمَّا يندرج ضمن تطبيقات القواعد القانونيَّة الدَّوليَّة المُعزِّزة لـ «السَّيادة» بمفهومها التَّقليدي المطلق، إذ من المعلوم أن ثمَّة حالات تخِفِّف من ذلك الاطلاق، حتى في إطار جمود «وستفاليا» المفاهيمي القديم، ومن بينها «التَّنازل» عن «السَّيادة» بطلب إلى الأمم المتَّحدة، تحت «الفصل السَّادس»، أو بموجب أحكام معاهدة دوليَّة ما، ثنائيَّة كانت أم جماعيَّة، فيصبح من غير الجَّائز، قانوناً، سحب هذا «التَّنازل» بإرادة منفردة، علماً بأن ممارسة «التَّنازل» نفسها هي، ابتداءً، عمل من أعمال «السَّيادة». وتطبيقاً لهذه القاعدة «لا يجوز الادِّعاء بعدم مشروعيَّة التَّدخُّل الأجنبي إذا استند إلى نصِّ اتِّفاق، لأن الأمر، فى هذه الحالة، لا يكون من الاختصاص الدَّاخلي للدَّولة المعيَّنة، بل يُعدُّ أمراً خاضعاً للقانون الدَّولي .. ومن هذا المنطلق يكتسب التَّدخُّل الدَّولي لأسباب إنسانيَّة مشروعيَّته، حتَّى في الإطار التَّقليدي لمفهوم «السَّيادة»، على أساس أن احترام حقوق الانسان أصبح من الالتزامات الدَّوليَّة الرَّاسخة بموجب العهود والمواثيق الدَّوليَّة والإقليميَّة والقانون الدَّولي العُرفي، وبالتَّالي تكتسب هذه الالتزامات صفة القواعد الآمرة Jus Cogens التي لا يجوز التَّنصُّل من مراعاتها» (أنظر: فتح الرحمن عبد الله الشيخ؛ مشروعيَّة العقوبات الدَّوليَّة والتَّدخُّل الدَّولي، ط 1، مركز الدِّراسات السُّودانيَّة، القاهرة 1998م).
لقد تطوَّرت علاقات السِّياسة الدَّاخليَّة، خلال العقود الماضية، خصوصاً بعد انحسار الحرب الباردة، إلى آفاق أكثر ديموقراطيَّة وأنسنة، مِمَّا انعكس في سياق آخر لتطوُّر العلاقات الدَّوليَّة والقانون الدَّولي، وفتح هذه العلاقات والقواعد باتجاه رعاية مصالح الأفراد والشُّعوب، لا الدُّول وحدها، والاهتمام بتطبيقات القانون الدَّولي الإنساني، وحقوق الإنسان، والدِّيموقراطيَّة، والحكم الرَّاشد، ومحاربة الفساد، وإشاعة الشَّفافيَّة، وما إلى ذلك. هكذا أصبحت «السِّياسات الدُّنيا» في رأس أولويَّات المجتمع الدَّولى، شاملة قضايا الفقر، والتَّنمية، والبيئة، والإيدز، والهجرة، واللاجئين، وغسيل الأموال، وتجارة المخدِّرات، والإتجار بالبشر، وحقوق الإنسان، والتحوُّل الديموقراطي، وحكم القانون، ومعايير الشَّفافيَّة، وتحظى بنفس أهميَّة «السِّياسات العُليا»، كقضايا الحرب، والإرهاب، والتَّسلح (ص. فانوس؛ الوحدة، 17 ديسمبر 2005م).
واستطراداً، فقد كان لا بُدَّ لهذه التحوُّلات أن تنسحب، تدريجياً، على المفهوم التَّقليدي، الذى سيطر لنحو من ثلاثة قرون، بشأن «السَّيادة الوطنيَّة» في علاقة الدَّولة بمواطنيها، فأضحت هذه العلاقة تكفُّ، الآن، عن أن تكون شأناً داخليَّاً، في ذات اللحظة التي يتسبَّب فيها سلوك هذه الدَّولة نحو هؤلاء المواطنين فى كوارث إنسانيَّة، خصوصاً إذا امتدَّت آثارها إلى دول أخرى. لذلك كان لا بُدَّ أن يتراجع مفهوم «السَّيادة» التَّقليدي لصالح التَّدخُّل الدَّولي لأسباب إنسانيَّة، كالانتهاكات الفظَّة لحقوق الإنسان، والجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة، مثلاً، في مجتمع دولي تشبَّع بعالميَّة مبادئ حقوق الإنسان، والدِّيموقراطيَّة بمعاييرها الدَّوليَّة، مِمَّا يرتِّب على الدَّولة التزامات ينبغي أن تراعيها تجاه مواطنيها، فإنْ أخفقت فى ذلك، تعيَّن على المجتمع الدَّولي أن يتدخَّل لإجبارها على مراعاتها.
الشَّاهد أنه، لئن كان القانون الدَّولي ما يزال، بل يجب، أن يقرُّ للدَّولة بـ «سيادتها»، خارجيَّاً، على إقليمها، بمعنى صونها لاستقلالها، وسلامة أراضيها، وحمايتها لوحدتها، فإن هذا المفهوم لم يعُد، داخليَّاً، هو نفسه مفهوم «وستفاليا» القديم، إذ لم تعُد الدَّولة تملك، كما فى السَّابق، حقَّ التَّصرُّف المطلق في مصائر، وحريَّات، وحقوق مواطنيها، بل انفتح المفهوم ليشمل، بالمقابل، «سيادة» هؤلاء على هذه القيم، بدعم ومؤازرة دوليَّة، رسميَّة ومدنيَّة، وباستخدام آليات الاعتماد المتبادل. هكذا أصبح من المتعيِّن على الدَّولة الحديثة، لكي تضمن حماية «سيادتها الوطنيَّة»، أن توازن بين حقوقها هي في صون استقلالها، ووحدتها، وسلامة أراضيها، وبين حقوق مواطنيها. وقد عبَّر د. بطرس بطرس غالي، السِّكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة، عن ذلك بقوله إنه، برغم أن حجر الزَّاوية في القانون الدَّولي ما يزال هو «الدَّولة» ذات «السَّيادة»، إلا أن زمان «السَّيادة» المطلقة قد ولى، مِمَّا يحتِّم على قادة الدُّول تفهُّم ذلك، والسَّعي لإيجاد التَّوازن المطلوب بين ضرورات الحكم الرَّاشد، ومتطلبات عالم يُعزِّز الاعتماد المتبادل. كما قال، أيضاً، في كلمته الافتتاحيَّة أمام المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان بفيينا عام 1993م: «إن المجتمع الدَّولى يوكل إلى (الدَّولة) مهمَّة حماية (الأفراد)، لكن يتوجَّب عليه أن يحل محلها إذا فشلت في هذا» (فتح الرحمن الشيخ؛ مشروعيَّة العقوبات الدَّوليَّة والتَّدخُّل الدَّولي).
مع ذلك ينبغي، في الختام، ألا تكون لدينا أيَّة أوهام حول احتمال أن تتيح اختلالات ميزان القَّوة الدَّولى الرَّاهن ثغرات تُستخدم عبرها دلالة مفهوم «السَّيادة» المتطوِّر هذا لتحقيق أجندات خاصَّة بقوى الهيمنة الدَّوليَّة، فيدفعنا ذلك لمعارضة التَّطوُّر الذي لحق بالعلاقات الدَّوليَّة، وبالقانون الدَّولي، ومن ثمَّ بمفهوم «السَّيادة»! إن هذا ليس أقلَّ شبهاً، في الوقت الرَّاهن، من إلغاء ركوب الطَّائرات بسبب احتمالات سقوطها، أو الامتناع عن استخدام السَّيَّارات بالنظر لاحتمالات وقوع حوادث السَّير! ولذا نتَّفق مع د. صفوت فانوس، أستاذ العلوم السِّياسيَّة بجامعة الخرطوم، في مقالته المار ذكرها، حول أن «هذا لا يغيِّر من الواقع الدَّولي الرَّاهن الذي أصبح يتعامل مع قضايا حقوق الإنسان باعتبارها الهدف الأسمى الذي يجب أن تسعى الدُّول للارتقاء إليه، وإلا وجدت نفسها في عداء مع المجتمع الدَّولي، حيث لن تشفع لها مقولة حقها فى السَّيادة الوطنيَّة».

الأربعاء
التقى، قبل أيَّام، نقابيُّون من العمَّال المعروفين بـ «الفرع الإيطالي للماركسيَّة الأمميَّة»، وتداولوا أزمة كورونا التي ضربت شعبهم، والبشريَّة جمعاء، وأصدروا نداءً تحت عنوان «العمال ليسوا لحماً للمدافع»، في ما يشبه النِّداء الشِّيوعي الشَّهير: «يا عمَّال العالم .. اتَّحدوا»! وقد جاء فيه: «هذا الفيروس لا يعترف بالحدود الوطنيَّة، مثلما الأزمة الاقتصاديَّة لا تقف عند أيِّ حدود». ومضى يعرض للتَّجربة الرَّأسماليَّة الإيطاليَّة الزَّاخرة بالدُّروس لعمال العالم، كالمفارقة المتمثِّلة في إبقاء حكومة جوزيبي كونتي على المواطنين في منازلهم، ومع ذلك تجبر ملايين عمال الصِّناعات غير الضَّروريَّة للخروج للعمل لكسب الرِّزق، أو، بمعنى أدق، لضمان استمرار ضخِّ الأرباح في خزائن الشَّركات! ويعلِّق البيان قائلاً: «الحكومة تصرُّ على عدم إغلاق القطاعات الإنتاجيَّة غير الضَّروريَّة، فتعرِّض صحَّتنا، وعائلاتنا، للعدوى. يعني يضحُّون بصحَّتنا على مذبح الرِّبح»! ويصف أوضاع عمال الرِّعاية الصِّحيَّة بأنها الأسوأ، حيث «أصبحت المستشفيات بؤراً للعدوى، إذ يضطَّر العمَّال لرعاية المرضى بدون معدَّات السَّلامة، وبدون الفحص المطلوب. إن هذه الأوضاع تنهار حرفيَّاً بسـبب تخفيض التَّمـويل، والخصخصـة على مدى سـنوات»!
ويبلغ البيان أهمَّ لحظاته، بأن يحضَّ العمَّال على المطالبة «بإغلاق المصانع والشَّركات التي لا تنتج السِّلع الضَّروريَّة، مع تمكينهم من أجر كامل! فإذا لم يوافق أرباب العمل، تجب الدَّعوة إلى الإضراب وإيقاف الإنتاج! إن إضرابات إيطاليا، وفرنسا، وأسبانيا، وكندا، وأمريكا، وغيرها، لتؤكد أن العمال غير مستعدِّين لأن تتمَّ التَّضحية بهم لأجل الرِّبح». ويضيف البيان أنه «ينبغي تشكيل لجان لتدابير الصِّحَّة والسَّلامة، في أماكن العمل، بممثِّلين للعمَّال، لتمكينهم من تطهير الشَّركات، وأماكن العمل، ومراقبة الالتزام بتدابير السَّلامة، وإيقاف الإنتاج كلما كان ثمَّة خطر؛ يجب أن تتحمَّل النِّقابات مسؤوليَّتها بالكامل، وتوحِّد الاحتجاجات حول مطلب إيقاف الأنشطة غير الضَّروريَّة»!
ويختم البيان بقول الرأسماليِّين إنهم، إذا توقَّفوا عن الإنتاج، فسوف يخسرون الأسواق الداخليَّة والخارجيَّة، في محاولة لتقسيم العمَّال على أسس وطنيَّة! ويعلق البيان على ذلك بأن «هناك، بالفعل، أزمة اقتصاديَّة طاحنة تقترب، لكن يجب ألا يدفع ثمنها العمَّال وحدهم». وأخيراً يخلص البيان إلى أن «علينا أن نتَّحد عبر الحدود الوطنيَّة، فمن خلال النِّضال العمَّالي العالمي الموحَّد سنتمكَّن من إجبار الرَّأسماليِّين على قبول مطالبنا المشروعة».

الخميس
لجنة إزالة التَّمكين التَّابعة لمجلس السَّيادة، قامت، استناداً لأسباب محدَّدة، بحلِّ وإلغاء تسجيل منظمة الدَّعوة الإسلاميَّة، وكذلك ألغت سجل كل الشَّركات، وأسماء الأعمال، والمشاريع الاستثماريَّة المملوكة لها، كما أمرت بحجز واسترداد جميع أموالها وأصولها، داخل السُّودان وخارجه، لصالح الدَّولة، على أن تؤول لوزارة الماليَّة.
هذه المنظمة تأسست عام1981م، وفق قانون الهيئات التَّبشيريَّة، وبزعم اتفاقيَّة مقر بموجب قانون صادق عليه مجلس الشَّعب المايوي، ووقَّع عليه النِّميري الذي منح المقرَّ، أيضاً، قطعة أرض تمَّ تشييده عليها أيَّام «الهوجة» الإسلامويَّة، وجُدِّدت اتِّفاقيَّة المقر المزعومة عام 1990م، وقد ألغت اللجنة، في ما ألغت، اتِّفاقيَّة المقر أيضاً. وللمنظمة مجلس أمناء ترأَّسه المشير عبد الرحمن سوار الدهب طوال 33 سنة، منذ انتهاء رئاسته للدَّولة بنهاية العام الانتقالي الذي أعقب انتفاضة أبريل 1985م، وحتَّى وفاته في 2018م، حيث كان محظوظاً بتلك الوفاة قبيل ثورة ديسمبر المجيدة، وإلا لكان قد أضحى هدفاً لمساءلات لجنة إزالة التَّمكين التي كان سيصعب عليه العثور على إجابات لها!
وتروِّج المنظَّمة، من خلال موقعها على الإنترنت، كما وعبر الصُّحف ووسائل الإعلام، أنَّها تحصل على تبرُّعات فرديَّة تتولى الإنفاق منها على مشروعات خيريَّة في شتَّى أنحاء العالم، وتقدم مساعدات لـ ١٤٣ مليون نسمة في ٥٦ دولة داخل وخارج أفريقيا! كما تحصل من السُّودان على تراخيص لاستخراج الذَّهب، واراض زراعيَّة بلغت١٠ ألف فدان، فضلاً عن مختلف التَّسهيلات، والإعفاءات من الرُّسوم، والجَّمارك، والضَّرائب لشركاتها، كدانفديو القابضة، ودانفوديو للتِّجارة، ودانفوديو للمقاولات، وسالكا للنقل، وغيرها.
وكردِّ فعل لقرارات اللجنة التي أحسنت صنعاً، عقد مدير المنظَّمة، السفير عطا المنَّان بخيت، مؤتمراً صحفيَّاً تحدَّى فيه، بلهجة متشنِّجة، قرار الحلِّ، ومصادرة الأصول، واصفاً إيَّاه بالخطورة، ومدَّعياً أن مغادرة المنظَّمة للسُّودان سيتضرر منها 30 مليون سوداني! وأضاف بخيت أن المنظمة كانت تعمل في وضح النَّهار، ولم تكن سرِّيَّة! واحتجَّ بأن «اتفافيَّة المقر!» يمكن أن تراجع، ولكن ممتلكات المنظَّمة لا يمكن أن تصادر. غير أن ثمَّة أسانيداً قانونيَّة تهزم إدِّعاءات بخيت، أهمَّها أنه لم تكن ثمَّة «اتِّفاقيَّة مقرٍّ» ولا يحزنون! كما وأن من شأن تداعيات الاتِّهامات التي وجَّهتها اللجنة للمنظَّمة ألا تقتصر على أخذها بمثل هذه الإجراءات، فحسب، بل قد تشمل، أيضاً، جرَّ أقدامها إلى ساحة المحاسبة الجَّنائيَّة، فقد كشفت عن ممارستها لأنشطة سريَّة، وتدخُّلات سياسيَّة في غاية الخطورة، من بينها تسخير مقرها لتسجيل البيان الأول لانقلاب البشير في 30 يونيو 1989م، ولاجتماعات المتآمرين قبل وبعد الانقلاب!
حصدت قرارات اللجنة دعم قامة إسلاميَّة كالإمام الصَّادق في بيان كشف، من خلاله، عن تلقِّيه، صباح12 أبريل 2020م، بوصفه رئيساً للمنتدى العالمي للوسطيَّة الإسلاميَّة، مسودة بيان من المهندس مروان الفاعوري، أمين عام المنتدى، يشجب إجراءت السُّلطة السُّودانيَّة، للاستئناس برأي الإمام قبل إصداره. لكن الإمام رفض تأييد صدور البيان باسم المنتدى، لأن المنظَّمة «خلطت عملاً خيِّراً بعملٍ سيءٍ مما أثار الاتِّهام ضدها». وقال إنه ردَّ على الأمين العام، مطالباً إيَّاه بأن «يأخذ النَّقد الموجَّه للمنظَّمة في الحسبان .. لأن العمل الخيري كان ملتبساً بشبهات واضحة»، حيث أن المنظَّمة كانت «واجهة لعمل سياسي متعلق بنظام المخلوع في السُّودان، وضالعة في التآمر على الدِّيموقراطيَّة، حتَّى أن بيان انقلاب 30 يونيو 1989م تمَّ تصويره في مقرِّها»، فضلاً عن «تماهي المنظَّمة مع النِّظام الاستبدادي المباد، حتَّى أن رئيسها كان رئيس حملة البشير الانتخابيَّة»! ونادى الإمام «باستمرار الدَّعوة للإسلام في أفريقيا وغيرها، لكن بشكل يلتزم بالشَّرعيَّة الدِّيموقراطيَّة، بعيداً عن الصِّراع السِّياسي»، قائلاً إنه كان قد نصح لهم بأن تعيين كوادر من مؤيِّدي النِّظام، وتماهيهم مع سياساته، سوف يضرُّ بالعمل الخيري، ولكنهم لم يصحِّحوا نهجهم مِمَّا خلَّف غبناً حقيقيَّاً ضدَّ المنظَّمة؛ فالمطلوب، إذن، نزعها من قبضة التَّمكين، أسوة بغيرها من المؤسَّسات الجَّاري تحريرها.

الجُّمعة
رحم الله فاروق أبو عيسى، فما ذُكرت أهمُّ وقائع تاريخنا الحديث، ومنها «ليلة المتاريس»، إلا وذُكر. وعن تلك «الليلة» حدَّثني، ونشرت حديثه، وهأنذا أستعيد أهمَّ جوانبه، قال: [في التَّاسعة من مساء التاسع من نوفمبر 1964م، إلتقينا في بوَّابة نادي أساتذة جامعة الخرطوم، وكنَّا خمسة: عبد الكريم ميرغني، ومحجوب محمَّد صالح، وجعفر كرَّار، ومكاوي مصطفى، وشخصي. وما أن هممنا بالدُّخول، حتَّى هبَّ يركض نحونا مـكاوي خـوجـلي، والشـَّفيع أحمد الشـَّيخ، ومصطفى بعشر، إلى جانب عـلي طـالب الله، المرشد العام للأخوان المسلمين وقتها، ومحمد كامل العاص القيادي الأخواني. وعلمنا منهم أن بعض شباب قشلاق الخرطوم غرب جاءوا مسرعين إلى المعهد الفني، حيث كان ثمَّة احتفال خطابي وأمسية أناشيد، وأبلغوا بأنهم آتون، لتوِّهم، من سلاح الخدمة، حيث ذهبوا إلى هناك للسُّؤال عن آبائهم الذين تأخَّروا عن موعد عودتهم إلى القشلاق. لكنهم فوجئوا بهم في حالة اصطفاف يستمعون إلى تنوير من الأميرالاي عثمان نصر عثمان، القائد الجَّديد المنقول للسِّلاح، لتوِّه، من قيادة الفرقة بملكال، عن «عزم الجَّيش على استرداد كرامته التي مرَّغها في الوحل شويَّة أفنديَّة وصعاليك»!
تشاورنا. كان لا بُدَّ من تحرُّك سريع. اقترح مرشد الأخوان استنفار الشَّعب من مآذن المساجد للخروج لحماية الثَّورة. لكن، لمَّا لم تكن للمآذن مايكروفونات أوان ذاك، فضـلاً عـن تأخُّـر الوقـت، اقترحـتُ الاتـصـال بخـلـف الله بابكر، وزير الإعلام، لاستخدام جهازي الإذاعة والتلفزيون. وافق الجَّميع. كان موعد نشرة التَّاسعة بالإذاعة يقترب. صحبت فـي سيَّارتي طالب الله، والشَّفيع، وبعشر، والعاص، وعلي محمد خير. وقبيل حديقة الموردة بقليل استقرَّ رأينا على ألا نهدر الوقت في التَّعريج على بيت وزير الإعلام، ببانت شرق، والذي قدَّرنا أنه لن يرفض فكرتنا، فواصلنا انطلاقنا إلى الإذاعة، على أن نتَّصل به هاتفيَّاً من هناك. في الإذاعة صادفنا، لحسن الحظ، مستخدماً شارك في الإضراب السياسي. تحمَّس للأمر، واتصل لنا بمدير الإذاعة، وقتها، محمد صالح فهمي الذي ما أن عرفني، وأبلغته بالمطلوب، حتَّى أبدى، لدهشتنا، استجابة حارَّة، على غير المتوقَّع، كونه لم يشارك في الإضراب السِّياسي، آمراً مرءوسه بتنفيذ ما نطلب حرفيَّاً!
تبقَّى لموعد النَّشرة ثلث السَّاعة، فهُرعنا إلى المدخل المؤدِّي إلى الاستديوهات، لتواجهنا مشكلتان: الأولى هي أننا لم نكن، حتَّى ذلك الوقت، قد صغنا البيان المطلوب إذاعته، فالتقط بعشر ورقة وقلماً، وصاغه في دقائق معدودات، بكلمات قلائل. أما الثَّانية فهي أن مذيع النشرة نفسه، عبد الحميد عبد الفتاح، كان يعاني من كسر في ساقه أصيب به أثناء مظاهرات الأيَّام الماضية، فحملناه حملاً، وهبطنا به إلى حيث الاستديو في الطابق تحت الأرضي، وهو ما ينفكُّ يستحث الفنيين صائحاً: "شغِّلوا الأناشيد .. شغِّلوا الأناشيد"! وهكذا، ما أن دقَّت التَّاسعة مساءً، حتى كانت حنجرته القويَّة تنطلق بالبيان الشَّهير، لتعقبه نداءات متواصلة بصوت المذيع ذو النون بشرى وآخرين.
هكذا، وبخلاف اقتراح الفكرة، لم يكن لي فضل، لا في صياغة البيان، ولا النداء، ولا إذاعته. وحتَّى عندما طمعت في تكراره عبر التلفزيون، وجدته أنهى بثَّه، وأغلق أبوابه! وفي الحقيقة لم تكن ثمَّة حاجة، أصلاً، لذلك، إذ تكفَّلت الإذاعة بالأمر على أكمل وجه، لدرجة أننا وجدنا مشقَّة في الخروج من حوشها الذي كان، قبل دقائق معدودات، خالياً تماماً إلا من بضعة عاملين ليليين، فإذا به وقد امتلأ، الآن، على سعته، بطوفان بشري يكاد هديره يصمُّ الآذان، ولا ينفكُّ يتدفق من كلِّ أحياء أم درمان. فكنا، بين الخطوة والأخرى، نضطر للتعريف بشخصيَّاتنا، كي يُفسح لنا الطَّريق إلى البوَّابة!
عمَّ اللهيب مدن العاصمة كلها، فتضاعفت مشقَّتنا ونحن نتلمَّس سبيل العودة إلى نادي الأساتذة، حتى أن سيَّارتنا أفلتت، بالكاد، من المتاريس التي شيَّدتها الجَّماهير، في زمن قياسي، وسدَّت بها الطريق عبر جسر النِّيل الأبيض، من الصخور الضَّخمة، والإطارات الملتهبة، وجذوع الأشجار، وكتل الخرصانة، وهياكل السَّيارات المعطلة، وغيرها. أشعلت الجَّماهير الليل بالهتافات الدَّاوية، وشرخت هدأة السُّكون المعتاد في مثل ذلك الوقت، وانطلقت تغلق الشَّوارع والجُّسور في وجه أيِّ دبَّابة محتملة! شارك في ذلك رجال، ونساء، وصبية، استخدموا كلَّ ما أمكن لأيديهم العزلاء أن تبلغ. وسلخوا، إلى ذلك، ليلتهم الليلاء تلك على الطرقات، وفي السَّاحات، وفوق الجِّسور، وأسقف المنازل، يحرسون المداخل والمخارج كلها، بأعين لا تغمض، وهمَّة لا تفتر، وعزيمة لا يغشاها الوهن، حتى انفلق الصَّباح، وتراجعت الظلمة، وانبلجت أشعَّة الشَّمس]!

السَّبت
على ذمَّة د. عمر فضل الله: عقدت شركة مصريَّة مؤتمراً في الخرطوم، مؤخَّراً، عرضت خلاله خرائط تشير إلى أن «حلايب» مصريَّة! لم يفتح أحد من المسؤولين الحاضرين فمه .. وفيهم عسكريُّون!

الأحد
خلال الحقبة السِّنَّاريَّة، اشتهر ناصرٌ، وزير السُّلطان بادي، بغرابة السُّلوك، ووحشيَّة العقاب. من ذلك أنه، وأحد فرسانه، كانا يتقاسمان عنقريباً واحداً (!) وفي مرَّة استهجن بعض كبراء المملكة ذلك العمل، فاكتفي بردٍّ غامض، قائلاً: «أحافظ به على نفسي»! ومن سنخ وحشيَّته في العقاب أنه، لمَّا بلغ به الخوف أشدَّه، من قدرات توهَّمها لدى الفقيه حجازي ولد أبو زيد، حبسه داخل قفص حتَّى مات عطشاً، وهو يصيح: «أعطوني جرعة ماء ثمَّ اقتلوني»! ولأسباب تافهة مثل تلك، أوكل ناصر لأحد إخوته ذبح جماعة من الحضارمة، كما أمر بخنق الفقيه نجدي حتَّى الموت! فقال كاتب الشُّونة عن تلك القتلات إنَّها ذهبت مثلاً حتَّى لقد قالوا: عطشة حجازيَّة، وذبحة حضرميَّة، وخنقة نجديَّة!

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رُوزنامة الأسبوع لِمَنْ تُقْرَعُ الأَجْرَاس؟!
- روزنامة الأسبوع: بِانْتِظَارِ شَاتِمَاتِ الوَزِير!
- أُمْ دُرْمانُ الأهْليَّةْ لَيْتَ أَنَّا بِقَدْرِ الحُبِّ نَ ...
- البَشِيرُ وارْتِبَاكُ الدَّلَالةِ بَيْنَ المُثُولِ والتَّسْل ...
- هَوَامِشٌ عَلَى لِقاءِ البُرْهانْ ـ نَتَنْيَاهُو!
- تَسْلِيمُ البَشِير!
- يَوْمَ حَرَّرْنَا الخُرْطُومَ مِنْ .. سِجْنِ كُوبَر!
- الأَنَا والآخَرُ والمَسْكُوتُ عَنْه!
- الأَنَا والآخَر والمَسْكُوتُ عَنْهُ!
- العَدَالَةُ الانْتِقَالِيَّة بَيْنَ الوَاقِعِ السُّودَانِيِّ ...
- العَدَالَةُ الانْتِقَالِيَّةُ بَيْنَ الوَاقِعِ السُّودَانِي ...
- رِسَالةٌ إِلى وَزِيرَيْ الدَّاخِليَّةِ والعَدْلِ والنَّائِبِ ...
- توثيق لتجربة شخصية آخِرُ حِيَلِ الإِسْلَامَوِيِّين!
- يفتوشينكو في الخرطوم
- نموذج مفضوح للمتاجرة بالدين
- بوشكين الإريتري
- في حلم استعادة الوحدة 6
- في حلم استعادة الوحدة 5
- حُلْمُ اسْتِعَادَةِ الوُحْدَة3ِ
- حُلْمُ اسْتِعَادَةِ الوُحْدَة4


المزيد.....




- روسيا تعلن احتجاز نائب وزير الدفاع تيمور ايفانوف وتكشف السبب ...
- مظهر أبو عبيدة وما قاله عن ضربة إيران لإسرائيل بآخر فيديو يث ...
- -نوفوستي-: عميلة الأمن الأوكراني زارت بريطانيا قبيل تفجير سي ...
- إصابة 9 أوكرانيين بينهم 4 أطفال في قصف روسي على مدينة أوديسا ...
- ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟
- هدية أردنية -رفيعة- لأمير الكويت
- واشنطن تفرض عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بالحرس الث ...
- شقيقة الزعيم الكوري الشمالي تنتقد التدريبات المشتركة بين كور ...
- الصين تدعو الولايات المتحدة إلى وقف تسليح تايوان
- هل يؤثر الفيتو الأميركي على مساعي إسبانيا للاعتراف بفلسطين؟ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كمال الجزولي - رُوزنامةُ الأسبوع: جَائِحَةُ الرَّأسْمَالِيَّة!