أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حكيمة لعلا - يوميات الحجر الصحي (11) وجها لوجه















المزيد.....

يوميات الحجر الصحي (11) وجها لوجه


حكيمة لعلا
دكتورة باحثة في علم الاجتماع جامعة الحسن الثاني الدار البضاء المغرب

(Hakima Laala)


الحوار المتمدن-العدد: 6531 - 2020 / 4 / 7 - 00:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


سؤال يطرح نفسه بحدة، كيف يعيش المجتمع المغربي، ليس فقط جائحة الكورونا، ولكن كذلك مواجهته للفقدان، أو الموت بسبب فيروس الكورونا؟ كيف يدبر المغاربة حدادهم؟ كيف يدبرون عزاءهم؟ كيف سيتم العبور من طقس الحياة إلى طقس الموت ومن طقس الموت إلى طقس الحياة بدون القيام بكل الممارسات الثقافية والدينية والاجتماعية الخاصة بالموت؟ إن كنا نتحدث عن التغيير الذي من الممكن حدوثه أثناء وبعد فيروس الكورونا، فأول تغيير قد يمس البنية الاجتماعية والدينية والثقافية قد يكون هو تدبير الموت.
إن المجتمع المغربي يقف عاجزا أمام عدم قدرته على تدبير الفقدان الفيزيقي والمعنوي، إن هذا العجز يتجلى من جهة في عجزه على الاحتماء من المرض أو الموت بفيروس الكورونا ومن جهة أخرى في استحالة ممارسته لطقوس الموت، إذ هو خاضع لاضطرارية قهرية تفرض عليه حالة تباعد مع الآخر وإن كانت حالة موت تعنيه أو تعني أحد أفراد عائلته أو شخص قريب منه. إن هذا الأمر صعب جدا، لأن المجتمع المغربي ليس من عاداته خلق مسافة جسدية مع الآخر في مراسيم الموت أو حتى في الزمن العادي. فالتواصل الجسدي له تعابير ومعان لا يستطيع التعبير عنها. بالكلام، إنه نوع من الانصهار في الآخر للشعور بالفرح أو بالفقدان. إن للمجتمع المغربي ثقافته الضاربة في القدم، فخطاطاته الشعائرية جد مقننة اجتماعيا والانضباط إليها شبه مقدس. إن البنيات الاجتماعية تخلق من كل حدث سعيد أو حزين فرصة لتثمين الروابط الاجتماعية أو لاختبارها، إنها مرحلة حاسمة لوضع الفكر في محك قدرته الاجتماعية وانضباطه للضمير الجمعي. فالموت في المجتمع المغربي ليس فقط رحيل شخص عن عائلته، بل هو تجمع للأهل والأحباب والأصحاب والجيران ، هو خبر تتوقف عليه الحياة الشخصية والعملية لكل المعنيين بالأمر، إن كانوا من الحلقة الضيقة للمفقود أو من الحلقة البعيدة ، فتقديم العزاء يتقدم كل الواجبات وكل المهام. يسافر المغاربة آلاف الكيلومترات للعزاء، ومن لم يستطع ذاك اليوم يقدم التعازي ويؤكد الحضور لاحقا، إن العزاء في المجتمع المغربي يوطد العلاقات عند القيام به وينهي العلاقات في عدمه. كثير من العلاقات تتفكك في غياب القيام بواجب العزاء، ويظل اللوم قائما مدى الحياة إن لم يتم طلب الاعتذار والسماح. إن المغاربة يعتبرون غياب أحد الأشخاص في تلك الفاجعة استهزاء بالمفقود وبهم وعدم احترام للميت وتبخيس الفقدان. إلا أن الموت في المجتمع المغربي ليس فقط تجمعا شبيها بكل التجمعات، بل هي طقوس ضاربة في القدم ، طقوس ومراسيم لا يحاد عنها ولا يجدد فيها وإن تجدد الشكل فالمضمون قائم، وأي إخلال بهاته الطقوس تعرض المعنيين لانتقادات لاذعة .إن مراسيم الموت في المغرب لا تخضع حتما للبعد أو الطقس الديني وإن كانت الركائز الدينية قائمة فيه . إن تجذر مراسيم الدفن وطقوسه ظلت قائمة ورافضة للتعاليم السلفية التي غزت المغرب وغيرت من ملامحه الكثيرة، إذ أن أغلبية المغاربة رفضت الطقوس السلفية التأبينية، والأدهى من ذلك إن الذين حاولوا الانضباط للمراسيم الدخيلة لاقوا الرفض من الأغلبية الساحقة من المغاربة، وهناك من أكد المراسيم الدخيلة في قوله وتخلى عنها في فعله أثناء الفقدان، إما تحت ضغط المجتمع أو لأنه لم يجد فيها معنى أو تطابقا مع ما تسكنه من أحاسيس أو من آليات التعبير عن مصابه أو أنه أحس بأن تلك المراسيم غريبة عن سيكولوجيته، فهو لا يتفاعل معها، فهي لا تبعث فيه الإحساس بالطمأنينة أو الدفء الروحي.
إن المراسيم الطقوسية للموت تعني إخبار الحاضر والغائب بقسوة الغائب، إن التفاعل مع الموت، تخضع لمجموعة من الشعائر والرموز، فهي تعبير عن الموروث الاجتماعي للانفلات من فناء الموت. إن آليات التعبير الاجتماعي عن الموت إن كانت فعلا أو قولا فهي طقوس مكتسبة عبر تمرير ثقافي خلال التنشئة الاجتماعية ، هي لا تهم فقط المظهر الخارجي، فهي لها دور المرمم للنفس، فمراسيم الموت بشعائرها هي تنفيس عن الذات المسلوبة في الغياب، هي تصرفات نعلن بها الاجتثاث الذي نعيشه في تلك اللحظة. إن الموت في المغرب هو طقس جماعي، فبمجرد الإعلان عن الموت بالبكاء، الذي هو دعوة للحضور إلى دار الميت ، فهاته تصبح مستقبلة للجميع، تبنى كذلك خيمة كبيرة أمام بيت الميت لاستقبال المعزين ، ولكن كذلك كرمز للفقدان، فيصبح ذلك المكان عند كل المارة محل خشوع وتذكر . يتم الإخبار أيضا بالهاتف أو بوسائل التواصل الاجتماعي ، إن الفايس بوك أصبح أكثر حضورا في عملية تبليغ حدث الموت، إن الوسائل الحديثة عوضت ذاك الرجل أو المرأة اللذان كانا يطرقان أبواب الجيران ليعلنا الخبر أو يسافرا بعيدا لإخبار الأهل. وما يكاد الخبر يعرف حتى يحل في منزل الميت جمع كبير من الزائرين للعزاء أو للمواساة. يظل الرجال في الانتظار للذهاب للدفن، ومن بعد ذلك يعودون عند أهل الميت لتناول وجبة طعام يحضرها الجيران أو الأقارب، أو تهييئها في منزل المتوفى من طرف نساء جئن للمساعدة وكذلك للتكلف بكل الأشغال في مكان أهل البيت. تعتبر هاته الوجبة صدقة على الميت ولهم أجر في تناولها ليرحلوا قابلين دعوة أهل المتوفى للعودة للمشاركة في طقس النعي في المساء. أما النساء فيظللن مع عائلة الفقيد ليساعدنها أو تقومن عوضها بالقيام أو السهر على العشاء الكبير الذي يقدم "كعشاء الميت" أي كعشاء لنعي الميت والترحم عليه. خلال هذا الطقس يرتفع صوت أهل (الأمداح) و الإنشاد الديني وقراءة القرآن.
غياب هاته المراسيم بغياب المفقود من بيته وأسرته تخلق ضياعا وخوفا من الضياع في هاته الفترة، يقول الكثير من المغاربة " الله يحفظنا من الموت الغريب، " يقولون "مسكين مات "مفرد" وحيدا، لم يسمع أحد مناجاته، لم يقم أحد بالنطق بالشهادة له، لم ير أحبته. بل هناك يقين في المعتقد المغربي الشعبي أن روح من هو على فراش الموت تظل عالقة تنتظر أحب الناس لرؤيته قبل مفارقتها الحياة. إن المغاربة أجمعهم يتمنون الوفاة في بيوتهم، بين أسرهم. إن من العادات في المجتمع المغربي أن يبوح من هو مقبل على الموت بما يرغب فيه بعض الرحيل، مثل مكان الدفن، كيف يجب أن يتم عشاءه( مأدبة الطعام التي تقدم ليلة الدفن) قد يطلب الشخص كذلك عندما يشتد عليه المرض رؤية بعض الأشخاص للتسامح معهم ، أو إنهاء الخلاف القائم معهم. إن زمن الموت لا يكتمل إلا عند إنهاء كل الطقوس، هناك جملة تعلن خاتمة الطقس ترددها عائلة الميت بعد مراسيم الدفن ومراسيم النعي يقولون "كلشي كمل بخير ( كل شيء تم بخير)، (الله يرحمو ويوسع عليه، ربي سهل عليه في كل شيء). هذه الجملة تعني أن الله حباه حتى بعد موته. إلا أن منزل الميت يظل مليئا بالأقارب على الأقل لمدة أسبوع. في خلال هذا الأسبوع يتم الحكي عن أجواء وطقوس زمن الموت، بل يتم التفاخر حتى بعدد الحاضرين في ليلة النعي، هذا يعني أنه كان محبوبا، بعد ذلك يحكي الناس عن كرم الميت وكيف أكرموه وشرفوه. إن مراسيم الموت وطقوسها تظل خالدة في الذاكرة الاجتماعية للأهل والأقارب.
من الحزن القاتل المخيم في فترة الجائحة كوفيد 19 هو غياب طقوس الموت والرثاء، يجتاح فيروس كورونا المغرب ويزداد عدد موتاه بدون إعلان مراسيم الحداد، فمنازل العزاء فارغة ويبقى النواح قائما مجلجلا يعلن الفقدان، إلا أن هذا الفقدان له وقع خاص، فهو فقدان بمراسيم غريبة على المجتمع، فالجثمان في المتعارف عليه اجتماعيا يخضع لطقوس تنظيف من طرف رجل دين أو قريب يختاره الأهل إن كان رجلا وإن كان امرأة فيجب أن تكون لها سمات اجتماعية تخول لها ذلك شرط إن تختارها العائلة. ممارسة هذا الطقس تستوجب اقتناء مجموعة من الأعشاب ذات رائحة طيبة ولوازم أخرى، هذه العملية تسمى التحنيط. الآن في هده الجائحة أصبح الجثمان يخضع لعملية تنظيف طفيفة خوفا من انتشار الفيروس ليضع المكلف بذلك الجثمان في الكفن ومن بعد في كيس بلاستيكي ثم يوضع في الصندوق. ليس لأهله الحق في وداعه الأخير وتحدد السلطة عدد الأقارب الدين سيحضرون الدفن.
الآن تعلن الموت في غياب كل هاته الطقوس، تعلن غياب الجماعة ، تعلن الخوف من الصمت عن الموت. تظل وسائل التواصل الاجتماعي هي الوسيلة الاكثر انتشارا لإعلان الفقدان. إن عدم القيام بهذا العرض الطقوسي هو في حد ذاته موت اجتماعي للمتعارف عليه كطقس عبور للجهة الأخرى . كيف يمكن للمغاربة تدبير الموت خارج طقسهم الاجتماعي، قد يلزم وقت طويل لاستيعاب ما يقع حاليا، ربما قد ينتظر البعض نهاية جائحة كورونا لإعلان الحداد، من المؤكد أن الكثيرين سيبحثون عن مراسيم الدفن في الدين بين المباح والممنوع للطمأنينة على سلامة عقيدة الميت. إن إعلان الموت بدون جثمان وبدون تلك الطقوس الكثيفة والمكثفة والتي تعتبر جسر مرور للحداد حتما ستكون كبيرة الوقع على من أصابهم الأمر. إن الموت بعيدا عن الأسرة، بدون وداع المفقود وتقبيله، بدون قول آخر الكلمات للهالك، هو شيء جديد عند أغلبية المغاربة، فغياب الجثة في منزل الأهل، غياب حضور مراسيم الدفن، غياب طقس ذهاب النساء لزيارة القبر في اليوم الثالث حاملات الخبز والثمر وفاكهة التين المجفف (الشريحة) كصدقة على الميت تجعل الفقدان مبتورا. فغياب الفعل الطقسي هي غياب جزء من الحداد. إن اكتمال الطقوس هو إثبات حالة الموت والاستعداد لدخول حالة الحداد. كيف إذا يمكن أن نعيش هذا الفقدان "ودار العزاء فارغة، مهجورة" كما قالها أحد الأشخاص في فيديو، وهو ينعي أحد أقاربه مكملا نواحه: (واينكم أيها الأحباب هذه دار العزاء فارغة).
تبقى حاليا إصابة كل شخص بالفيروس إنذارا بالفناء يواكبه النواح والبكاء، ويبقى الإعلان عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي برحيل شخص هو المتنفس الوحيد لممارسة طقس الحداد وتلقي التعازي. إلا أن هذا يبقى خارج البرمجة الاجتماعية والعقائدية للإنسان المغربي، فغياب الطقس يعني له الفراغ في صيرورة الموت والحياة. فكيف سيدبر المجتمع المغربي "الموت" وأي طقوس ستظهر؟ يبقى السؤال مفتوحا للبحت عن جواب يولد من المعاناة، من رحم واقع فيروس الكورونا.



#حكيمة_لعلا (هاشتاغ)       Hakima__Laala#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوميات الحجر (10) وجها لوجه
- يوميات الحجر (9) وجها لوجه
- يوميات الحجر (8) وجها لوجه
- يوميات الحجر (7) وجها لوجه
- يوميات الحجر (5- 6) وجها لوجه
- يوميات الحجر (4) وجها لوجه
- يوميات الحجر (3) وجها لوجه
- يوميات الحجر (2) وجها لوجه
- يوميات الحجر (1) وجها لوجه
- -أنا- و -أنا-  في محك القرار


المزيد.....




- فيديو أسلوب استقبال وزير الخارجية الأمريكي في الصين يثير تفا ...
- احتجاجات مستمرة لليوم الثامن.. الحركة المؤيدة للفلسطينيين -ت ...
- -مقابر جماعية-.. مطالب محلية وأممية بتحقيق دولي في جرائم ارت ...
- اقتحامات واشتباكات في الضفة.. مستوطنون يدخلون مقام -قبر يوسف ...
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بسلوكها
- اكتشاف إنزيمات تحول فصائل الدم المختلفة إلى الفصيلة الأولى
- غزة.. سرقة أعضاء وتغيير أكفان ودفن طفلة حية في المقابر الجما ...
- -إلبايس-: إسبانيا وافقت على تزويد أوكرانيا بأنظمة -باتريوت- ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف بلدتي كفرشوبا وشبعا في جنوب لبنان (صور ...
- القضاء البلغاري يحكم لصالح معارض سعودي مهدد بالترحيل


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حكيمة لعلا - يوميات الحجر الصحي (11) وجها لوجه