أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جاسم الحلوائي - سنوات بين دمشق وطهران - 2















المزيد.....


سنوات بين دمشق وطهران - 2


جاسم الحلوائي

الحوار المتمدن-العدد: 1570 - 2006 / 6 / 3 - 08:35
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


ذكريات
العاصمة طهران مدينة كبيرة جداً. إنها مدينة عملاقة بحجمها وعمرانها وكثافة سكانها (حوالي 14 مليون نسمة الآن) وجميلة بشوارعها العريضة والمشجرة وبساحاتها ومتنزهاتها الواسعة. تقع المدينة في شمال إيران على السفح الجنوبي لجبال البرز، وعلى إرتفاع 1200 متر فوق سطح البحر، وفي شمال السهل المركزي لإيران. و مما يزيد طهران جمالا هو وجودها بمحاذاة جبل دماوند المغطى بالثلوج طوال أشهر السنة والذي يمكن مشاهدته من جميع أنحاء طهران، وهو جبل مخروطي الشكل وبركان خامد منذ ملايين السنين. ويتمتع أهالي طهران بالتزحلق عليه خاصة في فترات الشتاء.
كانت طهران عبارة عن قرية ملحقة بالعاصمة التقليدية السابقة مدينة رَي، التي دمرها المغول في عام 1220، وتحولت إلى عاصمة في نهاية القرن الثامن عشر. وبنيت بشكل حديث في عهد رضا خان مؤسس الدولة البهلوية في الربع الأول من القرن العشرين. ومن أعالي جبل البرز تنحدر الشوارع وعلى جانبيها قنوات مياه الأمطار ومياه الثلوج المذابة حتى جنوب المدينة . وأجمل وأطول وأشهر شارع فيها هو شارع مصدّق[1] (خيابان مصدّق) والذى تحول لاحقا الى شارع ولي العصر ( خيابان ولي عصر) وهو يخترق المدينة من أقصى شمالها الى أقصى جنوبها وطوله اكثر من 10 كم. وهو شارع مشجّر بكثافة وعامر بالمحلات التجارية والفنادق والمطاعم والكثير من العمارات الشاهقة وتقع فيه العديد من دور السينما.
يتقاطع شارع ولي عصر وكذلك الشوارع الأخرى المنحدرة من الشمال بشوارع عمودية تمتد من الشرق إلى الغرب بحيث يتحول الكثير من أحيائها السكنية إلى مربعات هندسية . ومن أهم هذه الشوارع هو الشارع الذي يمتد من ساحة الإمام الحسين (ميدان إمام حسين) شرقا حتى ساحة الحرية (ميدان آزادي) غربا، مرورا بساحة فردوسي ( ميدان فردوسي) وساحة الثورة (ميدان إنقلاب) ويحمل الشارع إسمين الأول: شارع الثورة (خيابان إنقلاب) وهوالذي يقع شرق الساحة والثاني: شارع الحرية (خيبان آزادي) وهو الذي يقع غربها. وتعد ساحة الحرية أكبر ساحة في طهران ويتوسطها معلم بارز وهو نصب الجندي المجهول الذي يشاهد على شاشة التلفاز برفقة أخبار ايران. وتتسع الساحة لمليوني إنسان. وهناك ساحات واسعة ومهمة تجاريا ولكن لا يعتبر أي منها مركزا( سنتر) للمدينة ومن الساحات الكبيرة جدا والهامة هي ساحة الثورة (ميدان انقلاب) وتقع غرب تقاطع شارع مصدق وغير بعيدا عنه. وساحة خراسان (ميدان خراسان) والتي تقع في جنوب طهران وساحة خميني(طوب خانة سابقاً) والتي تقع فيها بناية التلفونات المركزية، و على مسافة غير بعيدة من الساحة يمتد بازار طهران الشهير وهو أكبر سوق تجاري في أيران وكان له دور ووزن كبير في السياسة قبل سيطرة رجال الدين على السلطة وبعده. أما جامعة طهران، والتي تقام فيها صلاة الجمعة، فتقع في شارع الثورة بالقرب من ساحة الثورة. وتوجد أكبر وأشهرمحلات بيع الكتب في الجهة المقابلة للجامعة.
وهناك العديد من المتنزهات الجميلة المنتشرة في المدينة ومن اكبرها وأوسعها متنزه الأمة ( بارك ملت) ويقع في شمال المدينة. وعلى أعالي سفح جبل البرز تقع مصائف طهران سربند ودربند في شمرانات والتي يلجأ إليها الطهرانيون لتفادي حر الصيف الجاف. وكنا نصطحب الرفاق المتوجهين الى كردستان الى مشاهدة هذه المصايف التي شوه روحها النظام الجمهوري الإسلامي بتحريمه الموسيقى والغناء والسفور وتنوع المشروبات ووسائل اللهو البريئة، بما في ذلك الشطرنج.
إيران واسعة جدا مساحتها حوالي 1,6 مليون كيلو متر مربع. والفرق بين درجة الحرارة بين محافظة أذربايجان الغربية في غرب إيران ومحافظة بلوجستان في شرقها تصل احيانا الى 35 درجة وأكثر! فلا غرو أن يجد المرء بعض أنواع الخضر والفواكه الطازجة، في غير موسمها، في أسواق طهران. فالبطيخ الأحمر (رقي) على سبيل المثال لا الحصر، موجود على مدار السنة في أسواق العاصمة.
هواء طهران شديد التلوث جراء كثافة وسائط النقل في المدينة ولإستخدام النفط في الصناعة والتدفئة. ولم يتمكن النظام من معالجة هذه المشكلة البيئية التي ورثها من نظام الشاه بل فاقمها.
إن الإنقسام الطبقي الحاد بارز للعيان لمن يزور شمال طهران وجنوبها. وكانت مهمتي تتطلب زيارة أحد التجار في شمال المدينة ومن ثم زيارة الرفيق فلاح مباشرة في جنوب المدينة فكنت الاحظ التناقض والاختلاف في كل شيء. فهناك الغنى والرفاهية في شمال المدينة من جهة، والفقر والبؤس في جنوب المدينة من جهة أخرى. ويلاحظ هناك إختلاف كبير حتى في العادات والتقاليد. كان ذلك يذكرني دائما بكلمة واحدة قالها فردريك انجلز عندما تجول بعربة لمشاهدة الأحياء الفقيرة في لندن نهاية القرن التاسع عشر وهي: "أمتان"( مثنى أمة ) . لقد إستمر هذا الإنقسام الطبقي بل وتعمق أكثر في ظل سلطة رجال الدين.
تطلب الامر بعد حصولنا على الهوية، العثور على مسكن لنا في طهران. وقد عثرنا على شقة صغيرة في الطابق الثالث في بيت من ثلاثة طوابق يقع بالقرب من ساحة الثورة. صاحب البيت وعائلته كانت تقيم في الطابق الأول، وفي الطابق الثاني كان يقيم إبن صاحب البيت وزوجته. لم نكن نحتاج الى الكثير من الأثاث، اذ ان معظم الإيرانيين يجلسون ويأكلون ويستقبلون ضيوفهم على الأرض. تبرع لنا أحد التجار من أصدقائنا بتلفزيون صغير، أسود وأبيض، وثلاجة صغيرة. وإكتفينا بشراء الفراش ودولاب ملابس وأدواة مطبخ. وحصلت على البطاقة التموينية من الجامع. وأراد المسؤول أن يمارس دوره في "النهي عن المنكر" فنبهني الى خاتم الزواج الذهبي في إصبعي ولم أفوتها له لمقتي الأشخاص الذين يتدخلون في خصوصيات الآخرين، وقلت له:
ـ أنا إبن كربلاء وأعرف ما هو الحلال وما هوالحرام. فصمت وهز رأسه معبرا عن عدم قناعته.
عندما وصلنا الى طهران عاصمة ايران في ربيع عام1981 لم يكن رجال الدين المتشددون والمتهالكون على السلطة والجاه قد أحكموا سيطرتهم على الوضع، رغم مرور سنتين على إندلاع الثورة. كان الوضع السياسي متأزما بسبب إحتدام الصراع بين الليبراليين من جهة ورجال الدين المتشددين من جهة أخرى. كان تاريخ إيران يكتب بسرعة فائقة في تلك الأيام، فلم ينته صيف ذلك العام إلا وقد أحكم رجال الدين، الموالين لولاية الفقيه قبضتهم على السلطة بإنقلاب "شرعي".
كان الليبراليون ممثلين بالسيد أبو الحسن بني صدر بوصفه رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة وحليفه المهندس مهدي بزركان زعيم حركة الحرية (نهضت آزادي) وفريقه في مجلس الشورى الإسلامي ( البرلمان) المتحالف مع نواب الجبهة القومية (جبهه ملى) . وكان الليبراليون مدعومين، عملياً، من أكبر قوة سياسية جماهيرية منظمة ومعارضة للنظام في الشارع، ألا وهي منظمة مجاهدي الشعب الايراني ( مجاهدى خلق ايران) بزعامة مسعود رجوي. ومدعومين أيضا من الحزب الديمقراطي الكردستاني الأيراني ومنطمة فدائيي الشعب الايراني ـ الأقلية (فدئى خلق ايران ـ أقليت) ومنظمات يسارية اخرى مثل الكفاح والكادحين وكوملة و...الخ
لقد ساهمت جميع تلك القوى السياسية وسواها في الثورة الإيرانية. إن أول خلاف هام شق صفوفها هوالموقف من طبيعة النظام كونه الجمهورية الإسلامية (جمهورى إسلامى) في مسودة الدستور. وعارضت هذه الصيغه جميع الأحزاب والقوي السياسية الليبرالية وحلفائها، وكذلك حزب توده (الحزب الشيوعي الايراني) وفدائيي الشعب الايراني ـ الأكثرية (فدائى خلق إيران ـ أكثريت) ، وطرحت هذه القوى بدلا عنها جمهورية ديمقراطية إسلامية. وخلال المناقشة صرح الخميني تصريحه الإستبدادي المعروف:
ـ جمهورية إسلامية بدون حرف زيادة أونقصان.
اما التعارض الثاني فكان حول تكريس موضوعة "ولاية الفقيه" في مسودة الدستور، خلال مناقشتها في البرلمان، وقد عارضته نفس القوى التي عارضت صيغة هوية النظام.
لقد إكتفى الليبراليون وحزب توده بتحفظاتهم التي أبدوها في المجلس التأسيسي وصوتوا بنعم في الإستفتاء على مسودة الدستور. وصوت بلا كل من مجاهدي الشعب والحزب الديمقراطي الكرستاني ومنظمة فدائيي الشعب ـ الأقلية ومنظمات يسارية اخرى مثل الكفاح والكادحين و...الخ وكذلك منظمة جماهيرية كبيرة وهي منظمة فدائيي الشعب ـ الأكثرية. ولكن المنظمة الأخيرة أخذت تقترب سياسيا وآيديولوجيا من حزب توده. ولم تعد معارضة للنظام في ربيع عام 1981.
وهناك حدثين سياسيين هامين صدّعا العلاقة بين الليبرلين ورجال الدين المتشددين، الأول هو إستيلاء الطلبة المؤيدين لنهج الخميني على السفارة الإمريكية وحجز جميع العاملين فيها كرهائن وذلك في 4 تشرين الثاني 1979 . والثاني هو الحرب العراقية ـ الايرانية التي إندلعت في 22 ايلول 1980، ووجه التصدع هنا ليس في الموقف من الغزو الأجنبي على بلادهم، فقد كانوا موحدين على ضرورة الحاق الهزيمة بالمعتدي، وإنما مَن الذي يقود الإنتصار،الجيش مدعوما من الليبراليين أم الحرس الثوري المدعوم من رجال الدين المتشددين؟ على هذا الأمر جرى صراع مرير سنتلمس عواقبه في سياق الموضوع.
الطرف الثاني في الصراع مثله هاشمي رفسنجاني رئيس البرلمان وآية الله بهشتي رئيس مجلس القضاء الأعلى والأمين العام للحزب الجمهوري الإسلامي ومحمد علي رجائي رئيس الوزراء وعلي خامنئي ممثل الإمام في مجلس الدفاع الأعلى وخطيب صلاة الجمعة في طهران، وتدعمهم غالبية برلمانية اضافة الى الحزب الجمهوري الإسلامي والحرس الثوري (الباسدار) وحزب الله ومنظمة التعبئة (البسيج) المسلحة وسواها من المنظمات التي كانت تحت سيطرة رجال الدين. ويتلقى هذا التيار الدعم من غالبية رجال الدين وليس جميعهم. فقد نأى غالبية آيات الله العظمى بأنفسهم عن السلطة ونهج الخميني وخاصة شريعتمداري الاكثر نفوذاً في آذربايجان والذي أتهم بمساهمته في مؤامرة لقلب نظام الحكم وشاهدته على شاشة التلفاز يدلي بإعترافاته. وفي الوقت الذي كان فيه نفوذ الليبراليين أقوي بين قادة الجيش، فإن الحرس الثوري كان تحت سيطرة رجال الدين بالمطلق. وقد لعب الصراع بين الحرس والجيش دورا مضرا وخطيرا في الحرب لصالح إستمرار إحتلال صدام لأراضي خمس محافظات أيرانية وإفشال الكثير من الخطط العسكرية بسبب التجاذب بين الحرس والجيش. فقد كان رجال الدين و قادة الحرس الثوري يضغطون لتنفيذ خطط عسكرية لم تنضج مستلزماتها معتبرين نداء الله أكبر أثناء الهجوم بديلا أكثر فعالية من تلك المستلزمات، ومستجيبين لضغط جماهير الباسدار المتلهفين لملاقاة حور العين. وعندما آلت الأمورالى رجال الدين، خاضوا العديد من المعارك العسكرية الفاشلة وقدموا تضحيات بشرية جسيمة غير مبررة، معزّين أنفسهم وذوي الضحايا بالجنّة.
وكان موقف الخميني في البدء محايدا بين اللبراليين وبين رجال الدين المتهالكين على السلطة التنفيذية وفي مقدمتهم هاشمي رفسنجاني وبهشتي وخامنئي. وكان الخميني لم يزل مصراً على فتواه بعدم تبوء رجال الدين مسؤوليات في السلطة التنفيذية. ولكن لم يرق لهؤلاء موقف الخميني المحايد وكتبوا رسالة للخميني في بداية عام 1980 موقعة من قبل بهشتي وأردبيلي وخامنئي وباهنر ورفسنجاني يطالبون فيها بدعمهم في الصراع الدائر بين الجبهتين، ولكنهم ترددوا في تقديمهأ الى الخميني وقدمت بعد مرور سنة كاملة مرفقة برسالة من رفسنجاني مؤرخة في 24 كانون الثاني 1981. [2] لم يطع الموقعون وأنصارهم فتوى إمامهم لعدم قناعة غالبيتهم بها. فقامو بالإلتفاف عليها بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب من خلال تشريعات البرلمان أوالضغط على الخميني للقيام بذلك مباشرة أومن خلال العمل كمستشارين في الوزارات. وتابعوا زحفهم وفرضوه كأمر واقع. فبعد إزاحة بني صدر من منصب القائد العام للقوات المسلحة بأمر من الخميني في 11 حزيران 1981 وأغلاق صحف المعارضة الليبرالية، خرجت مظاهرات في طهران وفي أنحاء أخرى من إيران مع أو ضد بني صدر وكان حرس البرلمان يستقبلون النواب الليبراليين عند دخولهم مبنى البرلمان بشعارات معادية. وفي تلك الأيام حصل إنفجار كبير في ساحة قصر بني صدر ولم يسفر عن خسائر بشرية. وجاء البيان الأول لإنقلاب رجال الدين، على شكل قانون أقره مجلس النواب، من فقرة واحدة وهي:
ـ لمجلس الشورى الإسلامي الحق في إعطاء رأيه بعدم الكفاءة السياسية لرئيس الجمهورية، ويصدر المرشد بمقتضى ذلك أمرا إستنادا للمادة 110 من الدستور.
وقد صدر القانون بالتشاور المسبق مع الخميني. وصادق مجلس الشورى الاسلامي بالأغلبية الساحقة على عدم الكفاءة السياسية لرئيس جمهورية وهو المنتخب مباشرة من الشعب وفقا للدستور! وصادق مجلس الخبراء فورا على رأي البرلمان واصدر الخميني أمراً بعزله، وبلغ بني صدر به في 17 حزيران 1981. وعلى أثر ذلك شُكل مجلس رئاسة مؤقت من رؤساء السلطات الثلاث طبقا للدستور يضم كل من رفسنجاني وأردبيلي ورجائي.
إختفى بني صدر، أعتقلت زوجته ومن ثم وضعت تحت الرقابة في منزلها. كان الخميني ضد السماح لبني صدر بالهروب الى خارج إيران، وأرسل له خبرا يطمئنه فيه على حياته بعد أن طرق سمعه بأنه يخاف من الإعدام،إلا أن الخبر لم يصله، فقد ضا ع أثره على متابعيه، حيث تكفلت بحمايته منظمة مجاهدي خلق، ذات الخبرة الواسعة في العمل السري. و وصل بني صدر باريس برفقة مسعود رجوي في 29 تموز 1981.
أعلنت منظمة مجاهدي خلق، و معها عدد من المنظمات الصغيرة نسبيا وهي الكفاح والكادحين وفدائيي خلق إيران ـ الأقلية و...الخ، الكفاح المسلح ونزلوا الى الشوارع في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم 20 حزيران ليفجروا الثورة المسلحة! وهاجموا بعض المراكز الحكومية في طهران ومدن أخرى. وقد تصدى لهم الحرس الثوري وحزب الله واللجان الثورية (الكميتة) وتغلبوا عليهم وفرقوهم في طهران والمدن الأخرى قبل حلول المساء. وكانت النتيجة في طهران 16 قتيلاً و154 جريحاً وإحراق وتخريب بعض السيارات.أما في كردستان إيران التي كان الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني مسيطرا على مناطق واسعة فيها ومشتبكا بالسلاح مع السلطات، فقد وقف مع بنى صدر وأخذ يوسع من دائرة نفوذه.
وفي اواخر شهر حزيران تعرض علي خامنئي الى محاولة إغتيال كادت تودي بحياته بإنفجار قنبلة موقوتة كانت موضوعة على منضدة الخطابة في مسجد أبا ذر. وقد رقد في المستشفى مدة طويلة وخرج من المحاولة ويده اليمنى مشلولة تماما. وفي اليوم التالي لمحاولة إغتيال خامنئي؛ أي في 28 حزيران، إنفجر مقر الحزب الجمهوري الإسلامي في الصالة التى كان بهشتي يحاضر فيها بحضورمجموعة من أعضاء الحزب في مجلس النواب وفي الجهاز القضائي والحزبي. و كان عدد ضحاي الإنفجار "72" شخصا بينهم بهشتي و27 نائبا وأربعة وزراء وعدد من وكلائهم وعشرين جريحا. وحصل الحادث جراء إنفجار قنبلة موقوتة كانت موضوعة في سلة مهملات داخل القاعة وقد وضعها عضو منظمة مجاهدي خلق المدعو محمد رضا كلاهى المندس في الحزب الجمهوري الإسلامي. كان كلاهي طالب في المرحلة الأولى من كلية العلوم والصناعة، وغادر البناية قبيل الإنفجار بعشر دقائق بحجة شراء آيس كريم!! وقد إنتشرت في حينها شائعة تفيد بأن الضحايا أكثر من العدد المعلن، وإن الرقم 72 والذي هو مجرد تشبيه لشهداء واقعة الطف في كربلاء التي إستشهد فيها الإمام الحسين (ع) وصحبه. وماهذا التشبيه إلا كذبة الغرض منها إعطاء قيمة دينية للضحايا والحدث وذلك من شأنه أن يخفف من شماتة الأعداء وملامة الأصدقاء لقادة إيران الجدد على إهمالهم لتدابير الصيانة لإيمانهم الساذج بالقضاء والقدر. وبعد حوالي عشرين سنة يظهر رفسناجي ليؤكد في مذكراته بأن العدد كان أكثر من 72 وقد سمع ذلك في اليوم الثاني للحدث أثناء حضوره الفاتحة ويعترف بأنه "...تقرر عدم تغيير الرقم نظرأ لقيمة الرقم 72 ومغزاه ومكانته لتشابهه مع عدد شهداء كربلاء"!![3]
لم يتوقف مسلسل التفجيرات وإغتيال المسؤولين الكبار وتفجير الباصات بعد إقصاء بني صدر في حزيران عام 1981، ولست بصدد التوقف عندها فقد كانت يومية تقريبا. ولم يكن قد مر على إنتخاب محمد علي رجائي رئيساً للجمهورية وتشكيل الوزارة برئاسة باهنرسوى 37 يوما حتى إنفجر مقر رئاسة الوزراء وقتل الإثنان وجرح معهم مجموعة من قادة الشرطة والجيش، توفى بعضهم لاحقا. إقتصر تشكيل مجلس الرئاسة هذه المرة على رئاسة السلطة التشريعية والقضائية؛ اي رفسنجاني وارديبلي، وقد أفتى مجلس الخبراء بجواز ذلك بإعتبارهم أكثرية. وقد كلف آية الله مهدوي كني برئاسة الوزارة بديلأ عن باهنر.
وفي خلال البحث عن مرشح جديد لرئاسة الجمهورية، بعد إزاحة بنى صدر، إقترح رفسنجاني إسم السيد علي خامنئي، ولكن الخميني رفض ذلك ولم يجد من الصلاح أن يتبوء هذا المنصب رجل دين. وكان الخميني آنذاك، اثر إنفجار مقر الحزب الجمهوري الإسلامي، قد تراجع كثيرا عن فتواه القاضية بعدم زج رجال الدين في السلطة التنفيذية. فقد أصبح باهنر رئيسا للوزراء وبعده مهدوي كني والإثنان من رجال دين. وفي هذه المرة وعندما طرح إسم خامنئي كمرشح لرئاسة الجمهورية، بعد مقتل رجائي في الإنفجار، وبضغط شديد من رجال الدين، الذين ذاقوا حلاوة السلطة ولم يعد هناك من هو قادر على كبح جماحهم لإلتهام البقية الباقية منها، تراجع الخميني عن فتواه فوافق على ترشيح رجل معوق وعليل لأكبرمنصب في دولة كبيرة مثل إيران تعج بالكفاءات والمواهب. وتنفس رفسنجاني الصعداء فلم يعد هناك عائق أمامه كي يتبوأ أعلى منصب في الدولة وتحقق له ذلك فعلا، فقد أعقب خامنئي مباشرة في رئاسة الجمهورية .
وهنا لا بد من التوقف عند موقف الخميني من فتاويه . فمن المعروف عدم جواز إلغاء الفتوى أو التراجع عنها بعد صدورها، وفقا للفقه الإسلامي، حسب معلوماتي. فالفتوى تبقى سارية المفعول أو تضمحل بإضمحلال أسبابها الموجبة. ولكن الخميني تراجع تدريجيا عن أهم وأخطر فتاويه. وهذا الخرق الذي من شانه التقليل من قيمة رجال الدين والدين نفسه، هو الذي يدفع رجال الدين الحريصين على الدين فعلا أن يدعوا الى فصل الدين عن السياسة، فالشؤون السياسية اليومية لا تقبل فتاوي دينية أو عدم تراجع عن أي موقف عند الضرورة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد تراجع الخميني عن فتواه بعدم زج رجال الدين في السلطة التنفيذية، كما لاحظنا ذلك تواً. كما تراجع عن فتواه بعدم دخول الجيش الإيراني للأراضي العراقية أومهاجمة مدن العراق. وبالنظر لكثرة تراجعه عن فتاويه راح معارضوه يتندرون عليه بالقول بأن الخميني يفتي صباحأ ويتراجع مساءً . وعند قراءتي لمذكرات رفسنجاني لاحظت حصول ذلك فعلاً. ففي صباح يوم 14 أيار 1982 إتصل أحمد الخميني برفسنجاني و أخبره بصدور فتوى من الإمام الخميني يمنع فيها إذاعة أي شكل من أشكال الموسيقى حتى تلك التي تصاحب الأناشيد ( ولم يكن قد بقي منها آنذاك سوى الشكل الأخير) وستذاع الفتوى في نشرة أخبار الظهيرة، طالبا منه مراجعة الإمام برفقة بهشتي لتدارك الأمر و إيقاف تلك الفتوى. لم يذهب رفسنجاني وأحد أسباب ذلك هو الإشكال الشرعي في الأمر حيث يقول: "إذا هي فتوى فيجب إطاعتها". ذهب بهشتي وحمل الأمام على التراجع عن فتواه. [4]
فما هي عواقب سيطرة رجال الدين على السلطة وتطبيق ولاية الفقيه على إيران والإيرانيين ؟ سأشير الى بعض أهم جوانب ذلك في الحلقة القادمة.
يتبع
________________________________________
[1] ـ مصدّق رئيس وزراء أيران الأسبق والذي أممت حكومته شركة النفط البريطانية وذلك في عام 1951 والغي قرار التأميم بعد إسقاط حكومته في عام 1952 بإنقلاب الجنرال زاهدي وهو الإنقلاب الذي خططت له وأشرفت على تنفيذه وكالة المخابرات المركزية الإمريكية.
[2] ـ هاشمي رفسنجاني، مذكرات وخواطر، كتاب بعنوان "تجاوز الأزمة". إصدارمكتب نشر المعارف الثورية ـ طهران شتاء عام 1998، باللغة الفارسية. نص الرسالتين في مقدمة الكتاب.
[3] ـ المصدر السابق، ص 186.
[4] ـ المصدر السابق، ص 107 و108




#جاسم_الحلوائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سنوات بين دمشق وطهران - 1
- في الذكرى الثانية والسبعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي
- الديمقراطية في الحزب الشيوعي العراقي
- الآيديولوجيا والبراغماتية في سياسات الحزب الشيوعي العراقي ال ...
- الآيديولوجيا والبراغماتية في سياسات الحزب الشيوعي العراقي ال ...
- حقيقة علاقة القيادة السوفيتية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي ف ...
- القمع الوحشي 6
- القمع الوحشي 5
- القمع الوحشي - 4
- القمع الوحشي - 3
- القمع الوحشي - 2
- القمع الوحشي - 1
- الدراسة الحزبية في الخارج 5 - 5
- الدراسة الحزبية في الخارج 4 - 5
- تعقيب على مقال الأستاذ منير العبيدي-الديمقراطية والإصلاح الس ...
- الدراسة الحزبية في الخارج 3 - 5
- الدراسة الحزبية في الخارج 2 - 5
- الدراسة الحزبية في الخارج 1 - 5
- الإفلات من قبضة المجرم ناظم كزار 2 - 2
- الإفلات من قبضة المجرم ناظم كزار!؟ 1 - 2


المزيد.....




- بالتعاون مع العراق.. السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية ...
- مسؤول إسرائيلي حول مقترح مصر للهدنة في غزة: نتنياهو لا يريد ...
- بلينكن: الصين هي المورد رقم واحد لقطاع الصناعات العسكرية الر ...
- ألمانيا - تعديلات مهمة في برنامج المساعدات الطلابية -بافوغ- ...
- رصد حشود الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية على الحدود مع ...
- -حزب الله-: استهدفنا موقع حبوشيت الإسرائيلي ومقر ‏قيادة بثكن ...
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا ...
- طعن فتاة إسرائيلية في تل أبيب وبن غفير يتعرض لحادثة بعد زيار ...
- أطباق فلسطينية غيرتها الحرب وأمهات يبدعن في توفير الطعام


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جاسم الحلوائي - سنوات بين دمشق وطهران - 2