أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جاسم الحلوائي - القمع الوحشي 6















المزيد.....


القمع الوحشي 6


جاسم الحلوائي

الحوار المتمدن-العدد: 1426 - 2006 / 1 / 10 - 11:00
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


ذكريات
القمع الوحشي
( 6 )
كنا في هذا البيت ، كما هو الحال في بيت الناصريين، نقضي سهرات سمر لطيفة، وهنا كنا نحاول أيضا تسلية الصغار، خاصة وإنهم ممنوعون من الخروج حتى الى حديقة البيت. ولكن يبقى القلق يشوب حالة الإختفاء مهما حاول المرء نسيانه أوتجاهله. وقد حصلت لدي، بوجود عائلتي معي، نوبة من نوبات الذبحة الصدرية التي كنت أبدو فيها وكأنني على وشك الموت. فظلت هذه الصورة عالقة في ذاكرة أم شروق تؤرقها خلال فراقنا، فوق قلقها علي من الإعتقال. لم تبق العائلة معي سوى ثلاثة أسابيع، بعد التأكد عن طريق إمكانياتنا الخاصة، من عدم وجود منع سفر عليها، سافرت الى براغ بسلام .

إشتدت الحملة قساوة بعد أن يئست السلطة من ترويض الحزب سياسيا. فوجهت ضربات جديدة الى بقايا العقد التنظيمية في بغداد والبصرة. ووصلت الى بيتنا الحزبي. ففي 30 تموز كان الرفيق أبو كريم ينوي السفر الى الشطرة للقاء عائلته بطريقة سرية. وكان قد إشترى بعض الهدايا البسيطة لأطفاله وزوجته، ووضّب حقيبته الصغيرة قبل أن يخرج من البيت، لينفذ موعدا، قبل سفره، مع رفيق مسؤول عن الصلة بإحدى العقد في البصرة إسمه جاسم الجميلي. تأخر الرفيق أبو كريم، وكان التأخر حتى لمدة ساعة مقبولا بسبب الإزدحام في المرور. ولكن أبو كريم تأخر كثيرا. وفقا لقواعد العمل السري كان يجب علينا الخروج من البيت. ولكن لم يكن لدي بيت إحتياط جاهز أدق بابه دون سابق إنذار وفي وقت متأخر من الليل. مع ذلك عندما هممت بالخروج طلبت ربة البيت مني أن أصطحبهم معي! ومع أنَّ الرفيق عبد الزهرة لازم (أبو ظافر) قام بإقناع زوجته بالعدول عن رأيها، ولكن موقف الزوجة سبب لي إحراجا وتماهلت في الخروج. ولكن أكثر ما أخَّرني عن الخروج من البيت ، هو ثقتي بأبي كريم ، لو لم أثق به ثقة عالية جدا لخرجت فورا، حتى لو أدى بي الحال للمبيت في ركن حديقة عامة. أتلفنا ما لدينا من مستمسكات. لا اعرف إن كنت نمت ساعة أوساعتين، مليئة بكوابيس التعذيب. خرجت من البيت قبل بزوغ الشمس، وخرجت العائلة في نفس اليوم. لقد أُستشهد البطل أبو كريم . قتله الوحوش ، جلاوزة نظام القمع الوحشي ، نظام حزب البعث الساقط . ألف تحية إجلال وإكرام للشهيد مزهرهول الراشد.
بعد بضعة أيام كُبس البيت من قبل الأمن بإعتراف من جاسم الجميلي الذي عن طريقه كنا قد عرفنا بان البيت معروض للإيجار. وقد عرفنا لاحقا بأن المراسل مع البصرة هو الذي إعترف على جاسم وإن صاحب العنوان في البصرة هو الذي إعترف على المراسل...وهكذا فإن ضربة معينة وقعت في مدينة البصرة أدت الى الوصول الى بيت مركزي جراء التعذيب الوحشي . ولولا إستشهاد الرفيق أبي كريم لكانت الخسارة أفدح .

لفت إنتباهي موقف الرفيق أبي ظافر في تلك الليلة. فقد كان يتصرف برباطة جأش عالية ولا يظهر عليه أي خوف. وكان يشجع خروجي منفردا من البيت خلافا لزوجته التي كانت تروم أن أصطحب العائلة معي كما أسلفت . الرفيق عبد الزهرة من مواليد العمارة قصير القامة مربوع، وجهه مدور، وشاربه اسود وكث، راسه كبير وأصلع قليلا. مدرس لغة إنكليزية .كان حارسا قوميا في عام 1963، ليس عن قناعة وإنما إنجرافا مؤقتا مع التيار. بعد سقوط البعث عام 1964، اخذ عبد الزهرة يبتعد عن الفكر القومي ويتوجه تدريجيا نحو الفكر الماركسي من خلال مطالعاته الواسعة فقد كان مثقفا. وأصبح شيوعيا في بداية السبعينيات. وكان آنذاك قد إنتقل الى البصرة. كان الرفيق متواضعا ومنسجما مع نفسه، فقد كانت لديه ملاحظات إنتقادية على سياسة الحزب حول القضية الفلسطينية، من منطلق قومي، وبصرف النظر عن مدى صواب ملاحظاته، فقد أعجبني تصريحه بذلك ، دون خوف من إتهامه أو تذكيره بجذره القومي، مما يشيرالى ثقته العالية بنفسه أيضا. كان وديعا وصادقا، كسب ثقتي بسرعة عجيبة. فبعد فترة قصيرة عرفت بأنه كان حارسا قوميا ، ولم يثر ذلك شكي رغم ظرفنا البالغ الصعوبة من الناحية الأمنية. كانت زوجته منهارة معنويا. وعند لقائي الوحيد به بعد خروجنا من البيت، أخبرني بأن زوجته مصرة على تسليم نفسها لإعطاء التعهد والعودة لوظيفتها. اخبرته أنه ما دامت مُصرِّة على ذلك، رتب معها إفادتها وبشكل لا يلحق الضرر بأحد . إستشهد الرفيق عبد الزهرة لازم تحت التعذيب في بداية الثمانينيات. فإنضم الى قافلة الشهداء الخالدين، فمجدا له.

في منتصف آب 1979، أخبرني الرفيق باقر إبراهيم عن عزمه على السفر، على أن ألتحق به بعد إتمام مستلزمات سفري . فوجئت بالأمر لأنني لم أكن أتصور ذلك، حيث إن صحتي كانت تتدهور وحاجتي الى العلاج فى الخارج، لتعذر العلاج في الداخل لأسباب أمنية، كانت معروفة لديه ولدى قيادة الحزب . ولم أكن محسوبا على قيادة الظل. اضف الى ذلك أنني لم أكن مقتنعا بخلو بغداد حتى من عضو لجنة مركزية واحد، ولم أكن أعرف حتى تلك اللحظة بوجود الشهيدة عايدة ياسين ( ام علي )، المرشحة لعضوية اللجنة المركزية، في بغداد. وكان رد فعلي قويا ومعبرا عن مشاعري وعن رأيي في الموقف من مصلحة الحزب فقلت للرفيق أبي خولة نصا:

ـ أرجو أن تخبر قيادة الحزب بأني غير مستعد لمغادرة العراق إذا لم يحل محلي عضو في اللجنة المركزية.

حاول الرفيق أبو خولة أن يخفي دهشته من موقفي، ولم يعلق لحراجة موقفه. بعد ذلك عرفت بوجود أم علي في بغداد، ونظمت لي علاقة بها. وسلمني أبو خولة الشهيد هيثم االصكرالذي كانت لديه إمكانيات كنت بأمس الحاجة اليها. وعرفني بالجهة المسؤولة عن تسفيري وطريقة ذلك. وسافر في 19 آب 1979.

ولكن لم يسبقني الرفيق أبوخولة بالسفر الى الخارج ببضعة أسابيع كما جاء ذلك في مذكراته، فعائلته بالذات سافرت بعد حوالي شهرين من سفره وأثناء وجودي ، كما سيأتي بيان ذلك. ولم تكن عدم الدقة هذه، فيما يتعلق الأمر بشخصي، هي التي أزعجتني في مذكراته، بل"نسيانه" إسمي في مواقع هامة تشرف المناضل الشيوعي وأي مناضل قارع الدكتاتورية والأنظمة الرجعية، وهي جزء هام من تاريخي السياسي الذي أعتز به، وأجد من واجبي الأشارة اليها، على سبيل المثال لا الحصر . وأستميح القاريء عذرا للتوقف، مضطرا، عند أمور شخصية، والخروج عن السياق قليلا، فالشيء بالشيء يذكر.

فقد جاء في الصفحة 171، من مذكرات باقر إبراهيم مايلي:

" وكنت قد خططت لأكون آخر أعضاء القيادة الذين يسافرون بعد أن أحكم طوق الملاحقات حولنا. ولكن تأخر وصول وثائق سفر أحد أعضاء اللجنة المركزية العاملين معي في بغداد، إضطرني لإستباقه ببضعة أسابيع ."

المقصود بأحد أعضاء اللجنة المركزية، هو كاتب هذه السطور . أما لماذا لم يذكر كاتب المذكرات إسمه ؟ يبدو إنها محاولة لتغييب دوره المشرف ..


وفي الصفحة 155 ما يلي:

" ظل أحد أعضاء سكرتارية اللجنة المركزية ( سلم ) في المقر العام ويرتبط ببعض التنظيمات الحزبية السرية."

جدير بالملاحظة أن سكرتارية اللجنة المركزية تتكون من خمسة رفاق فقط يرأسها الرفيق عزيز محمد ويساعده الرفيق باقر إبراهيم والباقون ثلاثة رفاق فقط، هم كل من الدكتورة نزيهة الدليمي وماجد عبد الرضا وأنا، مع ذلك "نسى" باقرإبراهيم من منهم بقي في المقر!؟ .

وفي الصفحة 71 مايلي:

"حضر الكونفرنس نحو عشرين من كوادر الحزب في المنطقة. وكان بينهم كاتب هذه السطور وحسين سلطان وفرحان طعمة وصالح رازقي وكاظم الجاسم وستار معروف و ... الخ ". المقصود الكونفرنس الحزبي الذي إنعقد في الكوفة لمنظمات الفرات الأوسط عام 1956، وبإشراف سكرتير اللجنة المركزية حسين أحمد الرضي (سلام عادل). وقد " نسى" باقر إبراهيم بأنه جاء الى مدينة كربلاء خصيصا لإصطحابي الى الكونفرنس المذكور، قاطعا أكثر من 200 كيلو متراً بسيارات الأجرة العمومية ذهابا وإيابا.

وبديهي، إن الأحداث التاريخية ليست ملكا شخصيا لأحد لكي يتصرف بها كما يحلو له، بل هي ملك للناس، ومودعة كأمانة ليس في ذاكرة الكاتب حسبُ، وإنما في وجدانه ايضا.
× × ×
كانت إقامتي الجديدة في بيت جمال الحجاج ( أبو سعدون ) مع زوجته أخت الشهيد أسعد لعييبي وأخيه مهدي لعيبي، في منطقة شعبية خاضعة بإستمرار للجرد فكانت حركتي محدودة. وقد حُلت هذه المشكلة بإستلامي الشهيد هيثم الصكر. لم يكن بيت هيثم يصلح للإقامة الدائمة ولكنه كان يصلح لإدارة أشغالي فهيثم لديه سيارة وهناك تلفون في البيت والحركة من والى البيت طبيعية. فكنت أقيم يوما أو يومين عند هيثم أنجز أعمالي التي تتطلب الحركة وأعود الى قاعدتي، في بيت أبي سعدون، سالما.

حاولت الإستفادة من العفو العام الذي صدر في آب، فوسعت دائرة حركتي، ووجدت طريقا لإيصال رسالة الي العضو المرشح للجنة المركزية سكرتير منطقة الفرات الأوسط الفقيد محمد حسن مبارك ( ابو هشام )، الذي ضاعت علينا أخباره وأثره لأكثر من عام، أخبرته فيها بأننا نحاول الإستفادة من الظرف، للتحرك بحذر نحو بعض العقد المهمة والمفيدة ... إستلمت منه جوابا يفيد بأنه مقطوع تماما ولا توجد لديه أية صلة بأحد وإنه سيتحرك لإيجاد بعض الصلات ... هذه كانت آخر صلة للرفيق المذكور بالحزب. وباءت كل محاولاتنا لإيجاد أثر له بعد تلك المحاولة بالفشل.

بعد سقوط النظام الدكتاتورى، وبعد حوالي ربع قرن من إنقطاع أخبار الرفيق أبي هشام عنا، التقت عائلته بالرفيق سامي عبد الرزاق وذلك في آب 2003، وعلم منها بأن الرفيق أصيب بفايروس الكبد القاتل، فحفر قبرا له في بيته لكي يدفن فيه بعد موته !! ولكن إبنه لم يدفنه في البيت، بل دفنه سرا بمساعدة صديق له في وادي السلام، وذلك عام 2001. ولم يكن الفقيد يخرج من البيت وكان شغله الشاغل هو سماع الراديو. ومشكلة العائلة الان هي أن جميع وثائق العائلة ليست بأسمائهم الحقيقية. وقد تخرج إبنه هشام بإسم آخر من الجامعة! وإنهم بصدد تغيير وثائقهم. وبصرف النظر عن مدى صواب تصرف الرفيق أبي هشام في الإختفاء بالطريقة المذكورة، فإن تصرفه دليل على حرصه على كرامته وشرفه السياسي، لقد كان الفقيد متنوع الإمكانيات وطاقة لا تنضب وقارئا جيدا، فتحية إجلال وإكرام له والعزاء والسلوان لعائلته.

في نهاية ايلول ، وعندما كنت مع الرفيق هيثم في سيارته متجها الى موعد حزبي في أحد البيوت، لاحظ هيثم سيارة مدنية تتابعنا، فإلتفت وإذا بسيارة أحد معارفنا ومسؤول تسفيرنا ( ع ). طلبت من هيثم ان ينصرف بسرعة حال نزولي من السيارة. ترجلت وتوجهت الى سيارة ( ع ) متصورا بأن هناك خطرا على مكان موعدي. وإذا به يطلب مني بطريقة جافة أن أخذ عائلة أبي خولة، المقيمة في بيت أقربائه في إنتظار التسفير، أن أخذهم حالا، وبدون توضيح الأسباب. فوجئت بالأمر فلم أكن أعرف شيئا عن الموضوع. فالإتفاق كان بينه وبين أبي خولة، وبمعزل عني. طلبت منه مهلة يوم واحد لتهيئة مكان لهم، رغم صعوبة ذلك، الا إنه رفض طلبي بإصرار، كان متوترا ويرفض المناقشة. وقد وعد بإستلام العائلة بعد إسبوع واحد لتسفيرها. كنت محرجا الى درجة كبيرة جدا، فالعائلة كبيرة ( خمسة أشخاص) وعائلة عضو مكتب سياسي يخشاها الناس والوقت ليلا. خطر في بالي بيت حسن خزعل نايف ( أبو عبير) شقيق أبي فكرت الذي زرته مرة واحدة، وهو لا حزبي ولكنه إنسان شهم أخذت العائلة ورجوته أن يبقيها عنده لمدة إسبوع. وأصبح الإسبوع أكثر من أربعة أسابيع! كنت محرجا لإستغلالي، مرغما، طيبة إنسان. على أي حال، ألف تحية وشكر لأبي عبير ولزوجته الجزائرية الفاضلة أم عبير على صبرهما علينا ومساعدتهما لنا. وقد علمت بعدئذ من أم خولة بأن سبب عدم تمكنهم من البقاء في البيت السابق، هو إنهم كانوا مقيمين بصفة ضيوف وأصبح وجودهم ملفتا للإنتباه مع إنتهاء العطلة الصيفية وبدء السنة الدراسية الجديدة.

لقد سافرت عائلة ابي خولة في منتصف تشرين الأول أي بعد حوالي الشهرين تقريبا من سفره. وقد ودعتها في بيت العزيزين أم هديل وأبي هديل. وبهذه المناسبة بودي أن أحيي بحرارة هاتين الشخصيتين الرائعتين وأقدم لهما جزيل الشكر والعرفان على ما قدموه لنا من حماية ومأوى في أخطر الظروف .

في تلك الفترة أطلق سراح الرفيق سليمان يوسف بوكا ( أبو عامل) وكانت المعلومات التي لدينا عنه تشير الى صلابة موقفه في الأمن. وجدت الرفيقة أم علي طريقا للإتصال به. تداولت مع الرفيقة أم علي في وضعه وإتفقنا على أن نقترح عليه السفر الى الخارج. آخذين بنظر الإعتبار حاجته الى فحوصات طبية للتأكد من عدم إعطائه موادَ قاتلة ببطء، وقد أشيع إستخدامها من قبل سلطة البعث ضد خصومها. ولأن الأصول تقتضي إطلاع المكتب السياسي، والذي هو في الخارج آنئذ، مباشرة على موقفه في الأمن. كتبت رسالة بمقترح السفر الى الرفيق أبي عامل، فطلب اللقاء بكاتب الرسالة. رتبت الرفيقة أم علي موعدا ومكانا للقاء، وإلتقينا به سوية. فوجئت بهيئة الرفيق أبي عامل، لقد كان شبحا، عرفت بأن وزنه نقص عشرين أو ثلاثين ( لا أتذكرأي الرقمين ) كيلو غراما. تحدث الرفيق بالتفصيل عن سير التحقيق معه. سألته سؤالا واحدا لم يجبني عليه، كان بمثابة صدمة للرفيقة أم علي ، فتولت هي الإجابة بالنفي مرتبكة ومستغربة السؤال. وكان موقفها دليلا على قلة خبرتها، ولا يقلل ذلك أبدا من بسالة الرفيقة وإخلاصها غير المحدود للحزب وقضيته.

أبدى الرفيق أبو عامل إستعدادا جديا للبقاء في الداخل وأن يدبر أمر إختفائه بنفسه، وإن لديه وسائل طباعة جاهزة للإستخدام، ولا غرابة في وجود مثل هذه الإمكانيات لدى أبي عامل، فإنه أحد أعضاء قيادة الظل التي سبقت الإشارة اليها . اكدت رأيي بضرورة سفره، وقد وافق على ذلك على مضض. وعند إستفساره عن مصير عائلته إقترحت عليه خروجهم جميعا. ولا بد من الإنتهاء من "قصة" الرفيق أبي عامل، ولو أَّن ذلك يؤدي بنا الى الإبتعاد عن صلب الموضوع قليلا.

عند خروج الرفيق أبي عامل ووصوله بيروت صدرت " طريق الشعب " وعلى صدرها هذا المانشيت "بطل من هذا الحزب" إمتدحت فيه بطولة الرفيق، الذي لم يكن راضيا عن نشر ذلك، كما أخبرني. كان الرفيق أبو عامل قد صوّت ضد التوقيع على ميثاق الجبهة بالصيغة التي أقرت بها. ومع إنه تراجع كأغلبية المعارضين عند إقرار وثائق أساسية في مؤتمر الحزب الثالث كبرنامج الحزب ونظامه الداخلي، ألا إنه بقي متحفظا على هذا الجانب أو ذاك من سياسة الحزب. وهكذا صعد ولمع نجم الرفيق ابي عامل عشية الإجتماع الكامل للجنة المركزية الذي عقد في موسكو في نهاية 1981. ولأن الأجواء كانت مشحونة ضد قيادة الحزب لمسؤوليتها عن الأخطاء التي ارتكبت في الفترة الماضية، ولأن الإجتماع يعيد إنتخاب المكتب السياسي، فإن القيادة لم تتصرف تصرفا صحيحا، فلم تجرؤ على التوقف بشكل جدي على ما وقعه الرفيق كشرط لإطلاق سراحه، وحسم الموضوع، بل تغاضت عن ذلك. وقد أنتخب الإجتماع نفس أعضاء المكتب السياسي السابقين بإستثناء الرفيق ثابت حبيب العاني ( أبو حسان ) الذي حل محله الرفيق أبو عامل عضوا في المكتب السياسي الجديد.

في الإجتماع الكامل للجنة المركزية في عام 1984، في كوردستان، وهو أيضا إجتماع إنتخابي. كانت هناك نقطة في جدول عمل الإجتماع، الذي يعده المكتب السياسي عادة، وهي موقف أبي عامل في التحقيق! عند تناول النقطة المذكورة، أفاد الرفيق أبو عامل في الإجتماع المذكور بما فحواه:

ـ لقد تحدثت عن موقفي للرفيق عزيز محمد ولرفاق آخرين في المكتب السياسين بعد إطلاق سراحي، ولم أسمع أية ملاحظة أو سؤال من أحد. الرفيق الوحيد الذي سألني هو الرفيق أبو شروق وذلك في بغداد. وبإمكانه أن يخبركم بالسؤال إياه.

وقد أفدت بما فحواه:

ـ أخبرني الرفيق أبو عامل بأنهم عرضوا عليه أكثر من صيغة تعهد ورفض التوقيع عليها. وكانت تعرض عليه مع خيارين، اما التوقيع وإطلاق سراحه وأما الإعدام. وكان آخرها صيغة مادة قانونية تفيد بأن الذي يقوم بنشاط سياسي ( غير بعثي ) داخل القوات المسلحة يحكم بالإعدام. وتعهد الرفيق أبو عامل بإطلاعه على ذلك، لأنه لم يجد ضيرا من التوقيع على هذا التعهد من وجهة نظر قانونية ( كان الرفيق أبو عامل ضابطا قانونيا في الجيش العراقي ) وسؤالي كان: ألا يعني ذلك تعهدا سياسيا؟ ولم يجب الرفيق على سؤالي. بل أجابت الرفيقة أم علي كما أسلفت. وقد أخبرت الرفيقين عمر علي الشيخ وباقر إبراهيم بسؤالي في حينه، وموقف أبو عامل منه.

وأضفت في إجتماع اللجنة المركزية المذكور، بأن الرفيق أبا عامل كان على إستعداد جدي للبقاء والعمل في تلك الظروف العصيبة.

بعد حديثي أُسدل الستار على الموضوع. فقد أخذت اللجنة المركزية علما به. ولم يُرشح الرفيق أبو عامل للمكتب السياسي.

في احد الايام نظمت لي الرفيقة أم علي موعدا مع الرفيقة بثينة شريف، وهي واحدة من قادة الحركة النسوية في العراق. وقد التقينا بها. وأبدت تحفظا على طلبنا منها السفرَ الى خارج العراق. وإسترجعت الذكريات المرة لتغربها بعد إنقلاب شباط الأسود 1963. وأخيرا، قبلت بالسفر على مضض. لم يكن البيت يصلح لمثل هذه اللقاءات لكثرة عدد الذين تواجدوا فيه، ولمعرفتهم المسبقة بأن مسؤولا حزبيا سيحضر اللقاء. رجوتُ الرفيقة أم علي أن تتجنب وتجنبني مثل هذه الأماكن، وقد تفهمت ملاحظتي، ووعدتني أن تأخذ ذلك بنظر الإعتبار.

الرفيق هيثم صكر لم يكن يعرفني، فعندما طلبت منه يوما أن يجلب بطاريات وشاحنة لسماعتي واعطيته مواصفات ذلك. وجد في الأمر تعقيدا. وتسهيلا للأمر طلب مني أن أصطحبه الى محل في الكرادة الشرقية، وفي وقت الدوام حيث لا يوجد إزدحام، وأن أختار ما أشاء فيه. لقد تمنعت، فلم أكن أرغب في الخروج من البيت الى السوق لأسباب شخصية بحتة. إن مجرد معرفة هيأتى الجديدة من المعارف، إن لم تكن مبررة، فهي غير صحيحة. ولكني شعرت بأن الرفيق هيثم إعتبر تمنعي مبالغة في الحذر إن لم يكن خوفا، حيث تعهد بتحمل مسؤولية أي نتيجة سلبية. ولم أكن أتحمل مثل هذا الإنطباع السيء عني ليس لأسباب شخصية فحسب، وإنما للحفاظ على علاقات سليمة بين المسؤول ورفاقه والتي لايمكن أن تكون كذلك ولدى الآخرين إنطباع بأن مسؤولهم غير جريء، لذلك وافقت على مقترحه، وخرجنا من البيت سوية.

لم يكن هناك إزدحام في الشارع أما المحل فلم يكن فيه ولا زبون واحد، وما أن دخلناه حتى قال لي الرفيق هيثم: " شوف ولا نفر، ما كتلك ". إبتعتُ ما أحتاجه وهممنا بالخروج. وما أن وضعنا خطوتين بإتجاه باب المحل بهدف الخروج للشارع حتى دخل المحل صديقي الرفيق علي النور. لم يصدق علي عينيه، بادىء ذي بدء، فخلع نظاراته ليمسحها وقبل أن يعيدها كنا قد إقتربنا جدا فعرفني حتى بدون نظارات، ففتح ذراعيه وصاح جا .. وأغلق فمه ولم يكمل إسمي، وكنا قد تعودنا ،أنا والشهيد علي النور، على أن ينادي أحدنا ألآخر بإسمه الأول، كما كان الحال في شبابنا. إبتعد عني الرفيق هيثم ليغيب وجهه. عاد علي يتكلم بصوت عالٍ فقال :

ــ والله آني كلت هسه إنت هنا ( يقصد في العراق)

ــ علي نصي صوتك أحنا بمحل عام ... ليش باقي لي هسه، مو كتلك سافر؟

ــ ها إتخاف علي أنهار بالتعذيب؟ ... آني مدبر حالي هسه.

ــ مو هذا قصدي ... أصلا حرامات توكع بيد هذوله المجرمين الكلاب. تره هالمرة مو مثل ذيج المرة، وإفترقنا.

في الحملة الإرهابية في زمن ناظم كزار، خدع الرفيق علي النور البعث وتظاهر بأنه قد ترك العمل السياسي عبر مساومة معينة، وبعلم قيادة المنظمة المسبق. يبدو إنه أراد تطبيق تلك التجربة الناجحة على ظرف مختلف. وقد زرنا، ام شروق وأنا، زوجة الشهيد علي الفاضلة وأبنائه في خراسان عام 1984، وكانت بمعنويات عالية. وقد خصص لها صديقنا المشترك العزيز كاظم الصايغ مرتبا شهريا كمساعدة. ولم تكن هي أصلا في ضائقة مالية فقد كانت تعمل كمعلمة. وقد عادت للعراق بعد سقوط النظام وإسترجعت بيتها وعادت الى وظيفتها. شوهد الرفيق علي آخر مرة في 31 آب 1980، في معتقل كربلاء الإنفرادي بلحية طويلة جدا وقد صُفي أخيرا لأن هامش مناوراته مع العدو قد تقلص ووصل الى الخطوط الحُمر التي لم يكن مستعدا لتجاوزها. فتحية إجلال وإكرام للشهيد علي النور، ولعائلته المحبة والتقدير.

أعود للرفيق هيثم فقد التقيته بعد خروجي من المحل فقلت له:

ــ ها ... هاي التريدها ؟ قلت له ذلك لأنه كشف غير مبرر، في عرف العمل السري، فوجودي في العراق وهيأتي الجديدة المتخفي بها، يجب الحرص على إبقائهما محصورين في أضيق نطاق.

ــ توقعت هذا السؤال ومحضّر لك الجواب ، هاي أول مرة وآخر مرة تطلع للسوق ... التوبة!

عرفت لاحقا بأن الرفيق علي النور جلب إحدى الرفيقات من كربلاء الى باب محل أشقائي في الكاظمية طالبا منهم إيصالها لي، لحراجة وضع الرفيقة الأمني. وكان يؤكد لهم وجودي أمام نفيهم لذلك. ولم يستلموها.

ــ اصبت في إحدى الليالي في بيت الرفيق هيثم بذبحة صدرية، أخبرني بأن العائلة قلقة وإن أخته ( ربة البيت) تستفسر الى من يتوجهون لو وافاني الأجل، فهم لايعرفون أي عنوان أو طريق يوصل لأهلي . فوجئت بالطلب ولم يخطر ببالي أن اموت بهذه الطريقة في الإربعينيات من عمري. أعطيتهم الحق في قلقهم وطلبهم، و لكن لم أتخذ أي إجراء، ومن ثم نسيت الأمر.

وصلتني رسالة وكانت بخط الفقيد ثابت حبيب العاني ( أبو حسان ) تطلب مني السفر للخارج وقد غادرت العراق في العشرة الأخيرة من تشرين الثاني 1979. اي بعد ثلاثة أشهر من سفر الرفيق باقر إبراهيم. وقد سلمت كل ما لدي من إمكانيات بما فيها المالية والرفيق هيثم صكر بإمكانياته المتنوعة للرفيقة عائدة ياسين .

لقد تعرض عشرات الألوف من الشيوعيات و الشيوعيين واصدقائهم للإعتقال والتعذيب، في حملة القمع الوحشية الأخيرة والتي إستمرت حتى سقوط سلطة البعث. وإستشهد فيها المئات والمئات من خيرة كوادرالحزب وأعضائه، من بينهم الدكتور صفاء الحافظ والدكتور صباح الدرة، وكذلك الكثير من نشطائه في حركة الأنصار. ولم يقتصر القمع الوحشي على الشيوعيين وأصدقائهم فحسب، بل شمل ذلك جميع القوى الديمقراطية، بما في ذلك الأحزاب الكوردية، والقومية المعتدلة وحزب الدعوة وغيرها من القوى والشخصيات المعارضة للنظام. وإستمر القمع حتى سقوط النظام الدكتاتوري محملا بأوزار المقابر الجماعية وحملات الأنفال سيئة الصيت وإستخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة وغيرها. ومخلفا وراءه مئات الألوف من المعوقين والأرامل والأيتام، جراء حروبه العبثية. هذا إضافة الى الجهل والفقر والفساد الإداري، والولاء الطائفي بديلا عن الولاء للوطن. وثقافة العنف والإجرام والسلوك الوحشي لأيتامه الذين تحالفوا مع قوى الإرهاب العالمي، أيتام ونسل نظام طالبان المقبور، للقيام بالقتل الجماعي لأبناء الشعب العراقي بمن في ذلك النساء والأطفال والشيوخ الأبرياء، وتدمير البنية التحتية للبلد، بحجة مقاومة المحتل، مستهدفة في حقيقة الأمر العملية السياسية التي قضت على سلطتهم ومصالحهم غير المشروعة والى الأبد.

ومن تحت هذه الأنقاض وما خلفته عواقب الحرب التدميرية من خراب في مؤسسات الدولة، تنهض روح العراق المتمثلة بكل القوى الديمقراطية المكافحة والتواقة لإقامة نظام ديمقراطي إتحادي، يحقق طموح الشعب الكردي في تقرير مصيره، ومجتمع مدني ودولة قانون وفصل السلطات وفصل الدين عن الدولة. وضمان حقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات. وضمان حقوق مختلف القوميات كالتركمان والكلدان والآشوريين والأقليات الدينية. وبذلك يتخلص الشعب العراقي ليس من تكرار القمع الوحشي حسب، بل ومن كل أشكال العنف السياسي والطائفي.

إنتهى



#جاسم_الحلوائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القمع الوحشي 5
- القمع الوحشي - 4
- القمع الوحشي - 3
- القمع الوحشي - 2
- القمع الوحشي - 1
- الدراسة الحزبية في الخارج 5 - 5
- الدراسة الحزبية في الخارج 4 - 5
- تعقيب على مقال الأستاذ منير العبيدي-الديمقراطية والإصلاح الس ...
- الدراسة الحزبية في الخارج 3 - 5
- الدراسة الحزبية في الخارج 2 - 5
- الدراسة الحزبية في الخارج 1 - 5
- الإفلات من قبضة المجرم ناظم كزار 2 - 2
- الإفلات من قبضة المجرم ناظم كزار!؟ 1 - 2
- الأصطدام 3 - 3
- الأصطدام 2 - 3
- الإصطدام ؟!
- سنتان مختفيا في الكوت -4 - 4
- سنتان مختفيا في الكوت -3 - 4
- سنتان مختفيا في الكوت 2 -4
- سنتان مختفيا في الكوت!


المزيد.....




- كينيا: إعلان الحداد بعد وفاة قائد الجيش وتسعة من كبار الضباط ...
- حملة شعبية لدعم غزة في زليتن الليبية
- بولندا ترفض تزويد أوكرانيا بأنظمة الدفاع الجوي -باتريوت-
- إصابة أبو جبل بقطع في الرباط الصليبي
- كيم يعاقب كوريا الجنوبية بأضواء الشوارع والنشيد الوطني
- جريمة قتل بطقوس غريبة تكررت في جميع أنحاء أوروبا لأكثر من 20 ...
- العراق يوقّع مذكرات تفاهم مع شركات أميركية في مجال الكهرباء ...
- اتفاق عراقي إماراتي على إدارة ميناء الفاو بشكل مشترك
- أيمك.. ممر الشرق الأوسط الجديد
- ابتعاد الناخبين الأميركيين عن التصويت.. لماذا؟


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جاسم الحلوائي - القمع الوحشي 6