أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منوّر نصري - أشواق















المزيد.....



أشواق


منوّر نصري

الحوار المتمدن-العدد: 6420 - 2019 / 11 / 26 - 20:01
المحور: الادب والفن
    


هَذِهِ المَرَّةُ، غَيْرُ بقيّةِ المَرّاتِ. أحسّ بكثير من الضعف يملأ نفسه. مرارة لم يعرف مثلها من ذي قبل، أو لعلّه عاشها ولم يعد يذكر. الدّنيا ضاقت في نفسه. حزن أو كأبة أو إحساس يشبههما تراكم في صدره كما تتراكم غيوم قاتمة محمّلة بالشّجن يعْرِفُها منذ القديم. إنه ابن تلك البلدة التي تعرف كلَّ ألوان الشّجن وكلّ ألوان الغبْن والكآبة. إنّه ابن الوجد الجاثم في صدره والذي هو أصل فيه. إنه طفل ذلك الحيّ المنسيّ البسيط القابع في تلك البلدة المنسيّة التي تتنفس الحرمان وتبوح بالخصاصة التي تنتشر ألوانها في كل تفاصيل الأماكن التي كان يلعب فيها وهو طفل وأحبّها كثيرا عندما كبر. إنه ابن ذلك الحرمان الذي نشأ فيه. كلّ شبر في تلك الأرض يبكي معه الآن. ها هو الآن يضعف كأنّ به رغبة في البكاء. بل لعلّه بكى أو لعلّ إحساسه بالضعف أوحى له بالبكاء كأنّ الدنيا لم تعد تتّسع لمشاعره المرهقة. ما لهذه الدّنيا تشتدّ عليه وتزداد ضيقا ؟ بَلْدَتُهُ التي دائما في باله تبدو باهتة في وجدانه. ألوانها الباهتة خفتتْ كأنها صورة قديمة اختفت فيها معالم الجمال والإمتاع. بلْدَتُهُ الحبيبة ترمقه بحزن وجزع كأنّها تحشى عليه من الأحزان ومن الشجن. تعرف أنّه ذلك الطفل الذي يحمل ألوان الكون في وجدانه المتعب. تعرف أنه ذلك الحالم الذي يحبّ أن يلوّن أحلامه بألوانه التي يبتدعها من عالمه المسكون بالشعر والموسيقى. تعرف أنه كالطفل يحب أن تتوفّر الألوان لديه ليرسم الناس الذين يحبهم والذين يراهم في بَلْدته المنسيّة ذات التفاصيل الجميلة في خياله، وليرسم أشجار بلدته وجبالها وهضابها وسهولها وأوديتها وكلّ تضاريسها التي لا يوجد حسب رأيه أجمل منها في الكون, بلدته كأمّه تماما أو أكثر فهو لم يتعوّدْ بعواطف أمّه تجاهه. لم تصرّح له كثيرا بذلك رغم أنّه يحبّ المشاعر القويّة المصرّح له بها.
لم يتمالك نفسه عندما وجد على "فايسبوك" تنزيلا جديدا لها يتمثل في أغنية المطربة أنغام "في الركن البعيد الهادي"، في نفس الوقت غمره الحنين لها ولوجهها ودنياها وطار به الشوق إلى الفضاءات التي تعيش فيها وتتنقل بين شوارعها وأنهجها. أحسّ أنّه مشتاق إليها أكثر من اشتياقه إلى بلدته التي يحبّها، وإلى الألوان والمحامل التي يرسم عليها وإلى الشعر الذي غالبا ما يرحل معه إلى عوالم الذهول والدهشة. ثقل عليه إحساسه بأنه مشتاق إلى رؤية وجهها والاستماع إليها وتأمّل وجهها وهي تبتسم، اشتاق إلى ملامسة يديها. ورآها في ذهنه تكلّمه وتقول لع كلاما لم يسمعه جيّدا ولكنه فهم منه أنّها تحدّثه عن مشاعرها الملتهبة نحوه. يبدو أنها هي أيضا مثقلة بالشوق وموجوعة تريد أن تطير فلا يتسع لها الفضاء وتريد أن تستريح فلا تجد مستقرّا تهدأ فيه النفس وتتوقف عن الطيران.
بلدته تناديه ووجهها يناديه أكثر وبصوت أعلى. صوتها في باله يوقظ تصاوير كثيرة تتداخل في ذهنه فلا يتبيّن شيئا واضحا.
يسألها في الغياب، في صمته، في فراغ الدّنيا من حوله، في افتقاده المُرِّ لابتسامتها، لنظرتها، لالتفاتتها، لدُنُوّها منه، لامتلاء الكون بحضورها وهي جالسة بجانبه تملأُ وجدانه وكلَّ مشاعره. يسألها بمرارة. يسألها بعجزه. يسألها عن أشياء لم يعد يذكرها. هو يذكر كلّ شيء عنها، حتّى التّفاصيل التي تبدو بلا معنى. نعم يذكرها جيّدا. لكنّه في نفس الوقت ينسى كلّ شيء عندما يضع صورتها أمامه في فكره ويريد أن يتذكّر. لا يجدها كاملة كما في الواقع. لا يستطيع لمسها. لا يجد شيئا حقيقيّا منها. يظلّ يرقبها في وجدانه. يريد أن تقترب منه. يسألها عن ابتسامتها التي لم يعد يراها. يسألها عن وجهها الذي كان يملأ نفسه مشاعر جميلة ولم يعد موجودا إلاّ في فكره. وذلك لا يكفي لتستقيم الأشياء عنده. يقول لها في الغياب أنّ أيّامه تمرّ بصعوبة. وأنّها تتعبه كثيرا وتتباطأ في المرور كأنّها تريد أن يكرهها ويصبح كلّ نهار جديد عبئا ثقيلا عليه، لا يعرف ماذا سيفعل فيه.
منذ مدّة، بدأ شعورُهُ بفقدانها يزداد كلّ يوم. وفي كلّ يوم، يشعر بأنّه في حاجة أكبر إليها. لهفته عليها زادت جموحا. وفي كلّ لحظة يريد أن يطيرَ ليجدَها هناك، ويأخذَها من يديها البيضاوين، الحنونين، الناعمتين، الصغيرتين، ويلوّنَ ساعات من البهجة بلقائها، ويسافِرَا معًا كَيْ يتبدّل طعمُ الأشياء، وتتغيّرَ ألوانها، وكَيْ تصبحَ الطبيعةُ أجملَ وتصبحَ المدينة فضاءً يمكن أن يدخُلَه الفرح. منذ مدّة، بدأ يشعر أنّها تعوّدتْ بالبُعد وصارت تقْبَلُه. قد تكون تتحمّله بصعوبة، ولكنّها بدأتْ ترتّبُ حياتها بشكل جديد. هذا الشّكل الجديد هو الذي يخيفه. يخشى أن يجد نفسه يوما خارج نظامها الجديد. لا يستطيع أن يتحمّل ذلك الوضع. لن يستطيع أن يمسك بيديها الحنونين اللّذين صنع معهما قصّة طويلة تؤنسه في كلّ الأوقات ويعتبرها من الأشياء العزيزة عليه ويحفظها في قلبه بما فيها من أحداث وصور ومشاعر تمنحه بهجة متجدّدة.
"أين يداك لأمُسّهما، لأضع راحةَ يَدِي اليُمنى فوقهما. تارة فوق هذه، وتارة فوق الأخرى. يَدَايَ الاثنتان تريدان أن تمُرَّا فوقهما وأن تضغطا أحيانا عليهما. تريدان أن تتنقَّلا فوقهما بِحُنُوٍّ وتُواصِلاَ سيْرَهُما إلى أن تصِلاَ إلى الذّراعيْن ثمّ الزّنديْن. ما أجمل أن تتنقَّل يدَايَ هناك لتنعما بدفء لا يوجد إلاّ هناك. يدَايَ في شوْقٍ إلى ذلك الدّفء الذي يمنحُني البهجة والتوازن. هل تعلمين أنّني طوال هذه المدّة التي لم أرَكِ فيها، أمشي في المدينة وحَوْلِي كَآبَتِي ألوّنُ بها كلّ الوجوه التي تعترضني وكلّ المشاهد والأشياء التي أراها. الكونُ ضباب بدون يديْك اللّتيْن أُمسِكُهُما بشوق فتتبدّدُ الغيوم القاتمة في قلبي وتبتسمُ السّماء ويغْدو الكوْنُ فضاء للفرح. يدَايَ باردتان والبردُ في المدينة يقْسُو. مِسْكينَتان يدَايَ ستظلاّن تُقاسِيان من بَرْدٍ لا تقْدِران على تحمُّلِهِ. وجودُكِ بجانبي هو الوحيد الكفيلُ بإدْفائي. تَعاليْ وضَعِي دفْءَ يديْك في يدَيَّ ودَعِي وجهَك يبتسم لأرى الألوانَ التي لم أعُدْ أراها في المشهد اليوميِّ البائس. تعالَيْ ولوِّنِي ابتسامةً في وُجُودي ما أحْوَجَنِي إليها.
رُكْبَتَايَ أيضا باردتان.مازِلْتِ تعرفين أين أضعُهُما ليتسرّبَ إليهما الدّفءُ والبهجةُ. ما أتْعسَ رُكْبَتَيَّ في هذه الأيام الباردة. وما أكبرَ شَقاءَهما في اللّيالي الفارغة التي يُعربِد فيها البردُ ووجهُكِ الذي طالما انتظرْتُه غائب. ومَنْ سِوَاهُ يحْنو عليّ وينتبهُ لبرْدِ رُكْبَتَيَّ؟"
"تشتعل نار الشّوق في أعماقي أحيانًا، وتنمحي كلّ الوجوه في وجداني، ولا يبقى إلاّ وجهها ينظر إليّ من بعيد نظرة لا أفهم ما تحمله من مَعَانِيَ. قد تكون شامتةً. وقد تكون محايِدة، لا مُبالية بالحرائق التي تجتاح آخرَ مساحاتِ الصّبر في كياني. وقد تكون عاتبة عن الغياب مدّة تعتبرني فيها المتسبّب في كلّ شيء، وتجد تُهَمًا كثيرةً تُلصقُها إليَّ. وقد تكون مثلي مشتاقة إلى الأيّام الخوالي ولكنّها مثلي لا تجرُؤُ على المُبادَأَةَ بالكلام. في تلك اللحظات، تهيج النّفس، وتتمرّد المشاعر، وتعربد أغاني الشوق الهادئة في المساحات التي يتألّق فيها وجهها العذبُ كأنّه الحلمُ أو الرّغبة الجامحة التي تناديني فأهرع إليها بقوّة حرماني ولهفتي وانتظاري الطويل لها، وهيجان نفسي رغم صمتها الظاهر. عندما تتلوّن الدّنيا بلون الرّماد من حولي، وينتشر الحزن في كلّ الأماكن التي أتردّد عليها، وأدرك أنّ المدينة بدونك خلاء موحش، وأنّ المنزل الذي آوي إليه مساحة حزينة للضّجر والتّذكّر، ساعتها لا أفكّر إلاّ في أمرٍ واحد، هو أن أطير إليكِ، وأسترضيَكِ، لنعودَ سويّا، ونتحدّث عن الأشواق ونتقاسم لحظات شبيهة بتلك اللحظات التي أزيّن بها ذاكرتي الموجوعة."
يقول لنفسه مرّات كثيرة بعد أن تَبْرُدَ نار الشّوق قليلا: "ينبغي أن أضع حدّا لهذا الوضع. إلى متى ستظلُّ صورتها تلاحقني وتستولي على كلّ الفضاءات في مخيّلتي، فلا أرى سواها؟ أنا مريض بها وينبغي أن أُشْفَى منها. يكفيني ما عانيتُ كلّ هذه السنوات الأخيرة، ولم أجْنِ سوى المتاعب. نكاد نكون دائما متخاصميْن. واضح أنّ طريقانا مختلفيْن. ولا يمكن أن نلفّقَ الأشياء المتباينة. لكلّ منّا أفكاره وتصوّراته للنّاس وللأشياء. أليس أجْدَرُ بي أن أعود إلى بلْدتي وأدخل في ظلّ جبالها الشامخة، وأبحث فيها عن نبتة النّسيان ليزول هذا الوجع الذي امتدّ سنين طويلة حتى ترسّخت جذوره في تربة نفسي وأصبح اقتلاعه مخيفا؟ بلْدتي هي مأوايَ الحقيقيُّ. مللتُ العاصمةَ والعلاقات الباردة أو المنعدمة فيها. لم أعد أتحمّل التشنّج أثناء السياقة. وأنزعج كثيرا عندما تكون كلّ الشوارع الموصلة إلى منزلي مكتظّة بالسيارات من جميع الأنواع والأحجام. كرهت الطرقات التي لا تكاد تفرغ من السيّارات. وأستاء كثيرا من السياقة المتهوّرة التي يمارسها أناس كثيرون، ومن سوء الأخلاق والعبارات النابية التي تصدر عن بعض السّوّاق. الازدحام في كلّ مكان يجعلني أحيانا أكره الخروج من المنزل. لا أحبّ الازدحام. نفسي ترتاح في الأماكن غير المزدحمة. جلّ الأماكن في العاصمة ممتلئة بالناس. وحيثما ذهب الانسان، لابدّ أن يصطفّ وراء الأخرين الذين سبقوه وينتظر دوره. وقد يجيء الدّور دون فائدة، بسبب تعقيدات لم يحسب لها حسابا. أليْستْ بلدتي أفضل لي من العاصمة؟ العاصمة لم تعد تصلح لي. لا شيءَ يشدّني إليها. كنت مستأنسًا بكِ رغم أنّك مقيمة في مدينة أخرى. لكنّك كنت تجيئين بانتظام نسبيٍّ. كنّا نلتقي أكثر من مرّتين في الشهر. وفي كل مرّة يدوم اللقاء يوميْن أو ثلاثًا أو حتّى أكثر أحيانا. ورغم كلّ الخلافات الصغيرة التي تحدث بيننا، كنّا نبتهج كثيرا باللقاء وننعم به. لكن الآن، وقد طال الخصام، لم أعُدْ أجدُ مبرّرا مقنعًا لبقائي بالعاصمة. قد تكون العودة أفضل لي. هناك، سوف أتخلّص على الأقلّ من التّشنّج الذي صار يلازمني خلال السياقة ومن اكتظاظ الشوارع المريع بالسيّارات."
إحساسه بالوحدة بدأ يكبر منذ أن غابت آخرَ مرّة. وفي كلّ يوم جديد، يشعُرُ أنّ مكانه في العاصمة لا معنى له. كان انتظارُها سندًا له، يعيش به، ويجنّبه المللَ، ويجعله ينظر إلى الأشياء بعين فيها شغف بالحياة، ويمْلَأُ وجدانه بترانيم الألوان في كلّ مكان. لكن منذ لِقَائِهما الأخير، وافتراقهما بعد أن تخاصما، ككلّ المرّات، هناك أشياء تغيّرتْ. والتّغيُّرُ هذه المرّة مختلفٌ عمّا كان يحدُثُ في المرّات السابقة. يبدو أنّه تغيُّرٌ في العُمْقِ. هناك شيءٌ كالجدارِ ارتفعَ خلال مدّة الافتراق التي طالتْ أكثر من سابقاتها. أحيانا يُخيّلُ إليه أنّه نسِيَ ملامحها، أو بعض التفاصيل في جسمها، أو أسلوبها في الكلام. ويعتقدُ أنّها لو حضرتْ أمامه، لَوَجَدَ بعضَ الصعوبة في الحديث معها، خاصّة في البداية. يشعر أنّه مغتاظ أحيانا، وأنّ عليها أن تكونَ أكثرَ وداعةً معه، وأكثرَ اهتمامًا به، وإنصاتًا إلى مشاغله، حتّى وإن بدتْ لها بسيطة بالمقارنة مع مشاغلها هي. عليها أيضا أن تكون أكثر تفرّغًا له، وأن يزداد تَوَاتُرُ زياراتها له بالعاصمة مادام هو لا يمكنه زيارتها هناك، حيث تقيم. لكن شعره بالغيظ سرعان ما يتبدّد، ويحلّ محلّه شوق متأجّج لِلُقْيَاهَا. ويتبيّن له أنّه كان مُشِطّا في اللّوْمِ عليها، وأنّ الوضْعَ الذي يعيشانه يفرضُ عليهما قبول العديد من الإكْرَاهَاتِ الضرورية في المرحلة الحاليّة. عندما يفكّر في المسألة بتروٍّ، وذلك لا يكون ممكنا إلاّ عندما تنقشع عنه غيوم الكآبة التي تكاد تلازمه في المدة الأخيرة، يُدْرِكُ أنّ مواقفه تشوبها أنانية مُبالَغٌ فيها. فهو يُقرّ بأنّها صَبَرَتْ معه عدّة سنوات ليستطيع التّفرّغَ مادّيا إلى التزاماته تجاه أبنائه، لكنّه لا يعاملها بالمِثْلِ، ولا يصبر معها، كما فعلتْ هي معه، إلى أن تنهيَ التزاماتها مع أبنائها. تلينُ النّفسُ لحظات، ولا تلبثُ أن تتكدّرَ. وتعود التساؤلات تقرعُ الوجدان وتنشر فيه غيوم النّكد. ويفْتَحُ ذكرياتٍ تنقُصُها لمْسَةُ فرَحٍ.
"غالبا ما تنتهي حواراتنا بخلاف يُفسد علينا بهجة اللقاء، رغم أنّ لقاءاتنا قليلة. أغضّ الطّرف أحيانا عندما أسمع رأيا لا أوافقها فيه، وأحسب نفسي لم أسمع عندما تقول كلاما مخالفا لأفكاري، لكنّها تحاسبني على عدم التركيز معها وفوات بعض الأجزاء ممّا قالت. وغَالِبًا ما ينتهي حوارنا باستياء أحدنا لأنّ الآخر لم يكن كما يريد. يبدو أنّ كلانا يريد الآخر نسخة منه لا تختلف إلاّ في المظهر الخارجي، أمّا الأفكار والمشاعر والقيم والمعتقدات، فيجب أن تكون هي نفسها لدى الطّرفيْن. وهذا ما لم يكن ممكنا. فكلانا له أفكاره ومعتقداته وقيمه وآراؤه. وهذا ما جعل الأمور صعبة بيننا وجعلنا في خصام متجدّد، حتّى أنّ عدد الخصومات قد يفوق عدد اللقاءات، لأنّ الخصام قد يحدث عبر الهاتف."
يُعاوِدُه الشّوقُ إليها، فتتغيّرُ نظرتُه إلى الأشياء، ويشعُرُ أنّه أشدُّ حنانًا عليها. ويتحوّل الشّكّ في محبّتها له إلى يقينٍ أنّها أكثرُ النّاس محبّةً له، لكنّه لا يفهمُها جيّدًا. وتضيع مشاعرها الجميلة في دهاليز تفسيراته التي ينقصها التّفاؤلُ. يسترْجع بعض الذكريات، فيجد فيها بهجةً لمْ يكن يُدْركُها جيّدًا في الوقتِ الذي حدثتْ فيه. قدْ تكون هناك مُنغّصاتٌ لم يعُدْ يذكُرُها. لكنّ الثّابتَ أنّ تلك الذكرياتِ عذْبَةٌ. وخسارةٌ أن لا يكونَ قد استمتع بِهَا بِمَا فيه الكفايةُ. يعرفُ أنّه لا يرْضى عنْ شيء وأنّه غالبًا ما يعقّد الأشياء ويبحث عن الجوانب التي لا ترضيه في كلّ الأمور، ولا ينْعمُ جيّدًا بالأشياء الحسنة التي يحصل عليها. وعندما تمرّ، تخلّفُ لديْه حسرةً عن تمتُّعه المنقوصِ بها. ويظلّ يتمنّى أن يحصُلَ عليها ثانيةً ليتداركَ ما فاته في المرّة الأولى، ويُعوّضَ عن التّقصير في الاستمتاع بالأشياء والأحداث التي تجلِبُ له البهجة. وها هو الآن يطير مع الذكريات التي تنشر في وجدانه ألوانَ الحنين وتعزف موسيقى سنوات عَذْبةٍ مرّتْ بسرعة كحُلْمٍ جميلٍ، وأخذتْ معها ألوانها الرّاقصة.
كان يذهب إليها عندما تكون في منزلها. وكانت ترتّب الأمور ترتيبا جيّدًا ليتمَّ اللقاءُ في غفلة من عيون الجيران. لم تكن لها علاقة بهم. لكنْ منذ أن لاحظوا مجيئه إليها، وهي بِمُفْرَدِها، صاروا يُراقِبُونَها خُفْيَةً. لذلك كانتْ تخشى أن يتفطّنوا إلى مجيئه وتطلب منه أن يكون اللقاء في الأوقات التي يكون فيها النّهْجُ خاليا. يأخذ معه غلالاً أو قِطَعَ لحمٍ يشريها من عند الجزّار ثمّ يأخذها إلى الشّوّاء ويحاول أن يُوصلَهَا إليها قبلَ أن تبرُدَ. وأحيانا يجد سمكا طازَجًا في السّوق، فيستعيضُ عن اللحم بسمكتين يشويهما، ويأخذهما إليها ساخنتين. وكانت من ناحيتها تُعِدُّ أطعمةً لذيذةً فيكون اللقاءُ ممتعًا تتغازل فيه المشاعر وتبوح كلّ نفس بما يُسعدها أو يُضنيها وتتشابك أحلامها مع أحلامه وتنتشر في فضاءات المنزل ألوان البهجة. كان الكلام الذي يتبادلانه في كلّ اللقاءات، رغم الحميمية الكبيرة التي يتميّز بها، فيه توظيف جميل للأدب العربي والفرنسي وللفنّ التشكيليّ والموسيقى والغناء. وكانت فيه مؤانسةٌ متبادَلَةٌ، ونشوةٌ ظاهرةٌ في وجْهيْهما. ولم يكن الكلام باللسان فقطْ، بل كان باليديْن وبملامح الوجه وتلامس جسميْهما حول طاولة القهوة.
- ما رأيُكِ أن تُسْمِعِينا أغنية "حنين" للمطربة وردة.
- نعمْ، أُسْمِعُك إيّاها على "اليوتيوب". ولكن سأغنّيها أنا قبل أن تسمعها من المطربة وردة.
- هذا أفضلُ. فأنا مشتاقٌ إلى غنائِكِ. لقدْ عوّدْتِني به وسوف تجدين صعوبة في فِطامي. سوف أطلب منكِ أن تغنّي لي كلّ ليلة، كما يفعل الرضيع الذي لا ينام دون رضاعة.
- هل تحبّذ أن تترشّف القهوة وأنت تستمع إلى الغناء؟
- تعرفينَ كم أحبّ القهوة، خاصّة عندما تكون من إعدادِكِ أنتِ. أريدها بكثير من البُنِّ وقليل من السّكّرِ.
- هلْ تُذكّرُني بأشياءَ أعرفها جيّدا؟ أتعتقد أنني يمكن أن أنسى بسهولة مواصفات القهوة التي تحبّها. أضيفُ إلى ما قلتَ أنّك تحبُّ أن يقَعَ إعدادُها في الزّزْوَة وتريدُها أن تُحافظَ على الرّغوة فوْقها.
- تمامًا يا غاليتي. وأشربها وأنا أستمعُ إلى صوْتِكِ الذي بأخذني إلى سنوات بعيدة. صحيح أنني لم أكن أعرفُكِ آنذاك. ولكن يُخَيَّلُ إليّ أننا التقيْنا وتعارفْنا منذ زمن بعيد. لآ أصدّقُ أنني عرفْتُكِ منذُ سنة واحدة. لَديّ إحساس أنني أعرفُكِ منذُ كنتِ طفلةً.
- لكنّك قلتَ لي في مناسبات سابقة أنّ أوّل مرّة رأيتَني فيها كانتْ بمنزل قَرِيبَتِك المُجَاوِرِ لمنزلِك. وكان ذلك في السنوات الأولى بعد زواجي. وقلتَ أنّك رأيتني بعد ذلك مرّة أو مرّتيْن في النّهج الذي تسكن فيه أنتَ. قلتَ أنني كنتُ أرتدي تَنُّورَةً وسُتْرةً بَيْضاوَيْن تميلاَنِ إلى الزُّرقة أو الصّفرة. وبعْدها رأيتني بمقرّ عملِك الأوّل ثمّ الثّاني. وفي المرّتيْن قصدْتُكَ لِخِدْمةٍ كانَ بوِسْعِكَ أنْ تُسديها لي، لكنّكَ لمْ تفْعَلْ. ونَقَمْتُ عليْك آنذاك.
- لماذا لا تصدّقين أنّه لم يكنِ بإمكاني أنْ أقدّمَ لكِ الخدْمَةَ التي كنتِ ترْغبين فيها؟ لقدْ أكّدْتُ لكِ ذلك مرارًا. لكنّك تُصِرّين على عدم التّصديقِ رغم أنني قلتُ لكِ أنّني كنتُ دائمًا معْجبًا بك. عندما أراك، تستفيق في نفسي مشاعرُ شتّى لمْ أكنْ أرغبُ في تحليلها لأنّها تتعارَضُ مع وضْعَيْنا العَائِلِيَّيْنِ آنذاك. هلْ تعتقدين أنّني كنتُ أقْدَرُ على إسداء الخدْمة لكِ، وأمتنعُ عنْ ذلك رغم المَيْلِ الذي كنتُ أشعُرُ به نحوكِ؟
- حدّثْني الآن، مادامتْ الموانعُ العائليّةُ قدْ زالتْ. ما الذي كان يشدّكَ إليّ؟
- كنتُ أرى فيكِ أشياء أحبّها. لا أدري ما هي. ولكنّني كنتُ أشعُرُ أنّكِ عندما تقفين أمامي، هناك أحاسيس جميلة تسري في نفسي. ويتبادرُ إليّ أنّكِ لستِ غريبةً عنّي، وأنني أعرفُكِ منذُ أمدٍ بعيدٍ. وأنّنا ما كان يجبُ أن يبتعدَ كِلاَنَا عن الآخر.
- كنتَ تنظُرُ خُفْيَةً إلى بدني إذنْ. وكيفَ وجَدْتَهُ؟
- وجدْتُ فيه راحتي.
- لم أفهمْ كيفَ وجدتَ فيه راحتَكَ.
- أشعُرُ بالرّاحة عندما أنظر إلى جسمكِ. صحيحٌ أنّه جميل وفيه أنوثة مخفيّة بالملابس المحترمة المتلائمة مع طبيعة عملِكِ. لكن الّذي يشدّني إليه، أشياء أخرى لم أحاولْ فهمَها، كما قلتُ لكِ. المهمّ أنّ شعورًا بالرّاحة يتسرّبُ إلى نفسي عندما تقفينَ أمامي وأتأمّل قوامَكِ الذي أشعُرُ أنّ نوْعًا من القرابة يشدّني إليْه.
- وهلْ كنتَ تفعَلُ هذا مع كلّ امرأة تدخلُ مكتبَكَ؟
- هلْ سمعْتِ عنّي يومًا حديثًا من هذا القبيلِ؟ لا شيءَ يَخْفَى في الإدارة. ومَنْ له حكاية لابدّ أن تظهرَ وتتناقَلَها الألْسُنُ. مكتبي دائمًا مفتوحٌ. وحتّى القُفْلُ الذي كان يجْعلُ البابَ لا يُفْتَحُ إلاّ من الدّاخل طلبْتُ أنْ يُنْزَعَ ليُصبِحَ الدّخول في متناوَلِ كلّ الموظّفينَ والزّائرين، دون أنْ يحتاجوا إلى أنْ أفتحَ لهم من الدّاخِلِ.
- لماذا لم تحدّثني عنْ أيّ شيءٍ ممّا كنتَ تشعُرُ به تُجاهي؟
- الموانع كثيرة. وأنتِ تعرفينَ جُلّها. ولكن بالإضافة إلى الموانع المتعلّقة بحالتك العائليّة وبحالتي التي لا تختلف عنها، كانت تنقصُني الجرأة. وربّما كان الحياء أيضا من الأسباب التي جعلتني أتعايش معَ حرماني منك. ولكن، هلْ نسيتِ أنّكِ كنتِ ستُغنّينَ لي أغنية "حنين" للمطربة وردة. أشتاق إلى الاستماع إليها بصوتك. أحبّ أن أستمع إليك تغنّين. صوتُكِ يأخذني إلى فضاءاتٍ لا أعرفُها، ولكنّها تُغْريني. عندما تُغنّين، أشعر أنّي أطير كالعصفور الأزرق إلى أماكن مرسومة بالألوان المائيّة. أرسمها وأنت تغنّين وتقدّمين لي القهوةَ والألوانَ المائيّةَ. ألواني تصبح سَكْرَى وأنت تغنّين. ترْسُمُ الأحلامَ والأمنياتِ الجميلة. وترسمُ المواجعَ أحيانًا. نفْسي مَلْأَى بالمواجعِ. لكن فرْحتي بكِ تُنْسيني كلَّ ما يكدِّرُ صفْوي وأنا معكِ، أستمتعُ بحضورِكِ وبمشاعرِكِ وبأَلَقِكِ وبغِنائِكِ. فهيّا أسمعيني الأغنية.
تضع قهوتين ساخنتيْن، واحدة أمامه والأخرى أمامها. بُخارُهما المتصاعد يزيد المكانَ شاعريّةً ويحرّك فيه رغبات متنوّعةٍ. يتلذّذُ عندما يحسّ رغوةَ القهوة في لسانه. ويتلذّذ أكثر وهو يستمع إليها تغنّي "حنين". لكن الانبساط الذي كان يظْهَرُ في ملامحها، يتوارى فجأةً لِتَرْتسِمَ على وجهها غمامةُ حزنٍ تعبّرُ عن الشّجن الذي يلوّنُ الأغنيةَ. تتفاعل مع أغنيتها فتغيبُ عن الوجود. ويظلّ وجدانها يحلّق في فضاءات بعيدة. في الوقت نفسه، يسافر هو أيضا بخياله إلى أماكنَ أخرى وزمانٍ آخرَ يبدو أنّه من سنواتِ طفولتِه البسيطةِ المفْعَمَةِ بأفراحِ الفقراءِ. تنتهي الأغنية، وتتوقّف عن الغناء لِتُسْمِعَه "حنين" بصوت المطربة وردة. يتفاعلان معها بتعبيرات الوجه، وبالصّمت أحيانا. وعندما يشتدّ التّأثّر، يتلامسان، وتشتبك يداهُمَا وتَأْبَيَان أن تنفصِلاَ. ويقترب وجهُهُ من وجهها، ويغيبان مع الأغنية. ويظلّ الشّجنُ الذي تنطوي عليه يقارب بينهما إلى أن يلْتَحِما. وتنتهي الأغنية ويَنْسَيَان أنّها انتهتْ. ولا يتوقّفان. وعندما يُفيقان، تسْألُه بمرحٍ وخفّة روح:
- أيّهما أفضل، صوتي أو صوْتُها؟
- إذا كنتِ تريدين رأيي أنا، فصوِتُكِ أفضلُ.
- علّلْ جوابَكَ.
- لأنّكِ تهْدينَهُ لي مباشرةً.
- أفْهم من كلامك أنّ صوتَي في حدّ ذاته لا يعجبكَ. بلْ تفضّلُهُ لأنه مُهْدًى إليْكَ.
- بلْ يعجبني صوْتُكِ، وأحبّهُ وأشتاقُهُ. ويزدادُ شغفي به لأنّكِ تُهْدِينَه إليَّ. أعتبرُ نفسي محظوظًا لأنّ المرأة التي أحبّها تحسن الغناءَ ولها صوْتٌ يأخذني بسحره إلى عوالم الجمال.
- كان صوتي أجملَ بكثيرٍ من الآن عندما كنتُ في أوّلِ شبابي. وقد فكّرتُ جدّيّا في احتراف الغناء. لكن كلّ المُحِيطين بي كانوا ضِدَّ هذا الاختيارِ. وأوّلهم أبي رحمه اللّه. كان يستنْكِفُ من أن تحترفَ ابنتُه الغناءَ. أمّي، هي الوحيدة التي كانتْ معجبةً بصوتي منذ صغري، وتشجعّني. لكنها رحلتْ منذ طفولتي، رحمة الله عليها، وتركتْني ملتاعةً لفراقها إلى الآن.
- رحمهما الله. ولكنْ مازال سحرُ صوتِكِ يأسُرُني وأجدُ فيه متعَةً أبْحَثُ عنها دائمًا ولا أجدُها إلاّ عنْدكِ عندما تُغنّينَ.
- أنت مُجامِلٌ كبيرٌ مادمْتَ تقول إنّ صوتي أفضلُ من صوت المطربة وردة. كنتُ أنتظرُ أن تقول مثلاً إنّ صوتي جميل لكن لا يمكن مقارنته بصوت المطربة وردة. أو أن تطلُبَ منّي أن أتواضعَ قليلاً ولا أنظُرَ عَاليًا لتبقى الرُّؤْيَةُ واضحةً أمامي.
- أنا مُصِرٌّ على ما قُلْتُ. فصَوْتُكِ يُمتِعُني أكثر من صوت المطربة وردة لأنّه مُوَجَّهٌ إليَ. أنتِ تُغنّينَ لِإِمْتاعي، لتنْشري البهجةَ في نفسي، لتعطي للقائنا وَهَجًا جميلاً، لتُشيعي جوّا شاعريّا رائقًا. فكيْفَ لا أفضّلُ هذا الصّوتَ على كلّ الأصوات الموجودة في الدّنيا؟
تتقاذفه الذكريات كما تشاءُ. تارة تُبْهجُهُ وتجعلُه ينظر إلى الماضي بعيْنٍ حالمة. وتارة تُلْهِبُ في وجدانه حريقًا جديدًا يلتهم المساحات المزهرة التي نشأتْ في خياله بمفعول الذّكريات الجميلة. تُعاودُهُ الأحزان ومشاعر المرارة عندما يذكر الخصومات العديدة التي كانت تندلع بينهما لأسبابٍ تافهة في أغلب الأحيان. يصفُها بأنّها أسبابٌ تافهة لأنّه يعتقدُ جازمًا أنّ أهمَّ شيْء يجمعُ بيْنهما هو أن يكونَ كِلاَهُمَا متعلّقًا بالآخرِ. وهذا موْجودٌ بالتّأكيدِ. يُدْرِكُ جيّدًا أنّها متعلّقَةٌ به. لكنّه شديدَ الحرْصِ على أنْ لا يتسبّبَ في مُشْكِلٍ عندما يون معها في لقاء يدوم يومًا أو يوميْن وأحيانًا ثلاثةَ أيامٍ. لا يدْري كيف تتراكمُ الأشياء الصّغيرةُ لتجعَلَ أحدَهُما يغْتاظُ ولا يتحكّمُ في نفْسهِ. فيَحْدُثُ الخلافُ. وغالبًا ما تكون الخلافاتُ صامتَةً. لكن حتّى عندما يجنَحُ أحَدُهما إلى الصّمتِ، فإنّ اللّقاءَ يَفْسَدُ، ويتأزّمُ الجَوُّ، وتتوارى الضّحكةُ التي كانتْ تبْعثُ البهجة في نفْسيْهما وتُشعِرُ كِلَيْهِمَا بالمُؤانسة. عندما ينْشُبُ الخلافُ، ينقطع التّواصُلُ بينهما، وينزوي كُلٌّ منهما في مكانٍ ليسودَ الصّمتُ الخانقُ. يُتْرَكُ الطّعامُ وتبْرُدُ القهوةُ ويُطْفَأُ التلفاز والحاسوبُ وينتشر الضّجرُ في فضاءات المنزلِ. ويَمتدّ الوقْتُ مُمِلاًّ، قاسيًا، كأنّما يُنْتَزَعُ من العُمرِ عُنْوَةً.
الآن فقطْ صارَ يُدركُ أنّ في طبْعه قسْوةً لا يدري مِنْ أيْن جاءتْه وكيْفَ لازمَتْهُ رغْم أنّه يعْتقدُ دائمًا أنّه طيّبَ القلبِ ويُشبِهُ الأطفال في كثير من الخصائص منها العفْويّةُ ونِسيانُ الإساءةِ بسرعة وعدَمُ إخفاءِ المشاعرِ والمحافظة على الرّوح الودّيّة مع الأشخاص العَزِيزِينَ عليه وعدم معاملتهم بقسوة. لقدِ تعلّمَ هذه الخصالَ من أبيه الّذي كانتْ طيبتُهُ تفوقُ كلَّ شيءٍ آخرَ. يذْكُرُ خاصّةً كم كان طيّبًا مع أمّه. ولم يكنْ يرْفُضُ لها طلَبًا. وقدْ تدلّلتْ على يديْهِ كثيرًا، رحمه الله. الآن يُدْركُ أنّ صمْتَهُ عندما يحدُثُ بيْنَهُ وبيْنَها خلافٌ لمْ يكُنْ موقِفًا إيجابيّا. كانَ عليه أن يكون مِثْلَ أبيه، أكثرَ طيبةً وحنانًا عليْها، وأنْ يتحمّلَ منها الأشياء التي لا تُريحُهُ كثيرًا ما دام متأكّدًا أنّها شديدةُ التّعلّقِ به.
هل يمكن لامرأة غير متعلّقة برجل أن تفعل ما فعلتْهُ هي تلك الليلة؟ بعد الخلافِ والصّمتِ الطويل المُضْنِي. نام كلّ منهما في غرفة دون عشاء. كان الطّقس حارًّا والبعوضُ كثيرًا في كلّ الغرف. لسعاتُهُ كانتْ موجعةً. وهجوماتُه كانت قويّةً، ومتكرّرةً كثيرًا تجعلُ النّومَ غيرَ ممْكِنٍ، خصوصًا إذا كان الشّخصُ غيرَ متعوّدٍ به أوْ لا يُطيقُهُ. يبْدُو أنّها تقلّبتْ كثيرًا في فراشِها. وفتَكَ بها البعوضُ. ولمْ تجدْ طريقةً ناجعةً تُمكّنها من تجنّب اللّسعات القاسية التي تتلقّاها من البعوض الذي هاجَ تلك اللّيلة لأنّ النّوافذ بقيتْ مفتوحةً ساعات قبل الغروب. أحسّتْ أنّها لم تعدْ تتحمّلُ مزيدًا من اللّسعاتِ والهجومات المرفوقة بأصوات مخيفة تُحدثُها أجنحةُ بَعُوضٍ يتنقّل في الفضاء كأنّه طائراتٌ عموديّةٌ. تركتْ غضبها في غرفتها وذهبتْ إليه في الغرفة الأخرى. لمْ تشعل النّور ولم تطرق باب الغرفة التي ينام فيها. دخلتْ غرفته كما يدْخلُ الحُلْمً, وكان نائمًا. لعلّه كان يراها في الحُلمِ. لكنّها ذهبتْ إليه برجليْها هاربة من البعوض. لعلّها كانتْ تعتقدُ أنّها لن تجدَ بعوضًا في غرفته. أو قد تجدُ بعوضًا أقلَّ عددًا ممّا في غرفتها. ولعلّ البعوضَ في غرفته أقلَّ فَتْكًا من الذي تمتلِئُ به أرجاء غُرفتها.
دخلتْ غرفته في هدوء وتوجّهتْ نحو فراشه كحمامة تمشي في الظّلام. لمْ تفكّرْ في الخوف لأنّها مطمئنّةٌ بوجوده. ولو فكّرتْ لحظةً واحدةً أنَّ الظلام يمكنُ أن يخفي مفاجآتِ تُرْعبُها، لَمَا جَرُؤَتْ على الخروج من غرفتها مهْما قَسَا عليْها البعوضُ. لكن نسْيانَها فكرةَ الخوفِ، واطمئنانَها بوجود الرّجُلِ الذي تُحبُّه، وعدمَ قُدْرتها على تحمُّلِ المزيد من لسعات البعوض الهائج، ورغبتَها الخفيّةُ في مصالحة تُعود معها بهجةُ اللقاء، وَلَوْ في ساعة متأخّرةٍ جدّا من الليل، هي الأسبابُ التي جعلتْها تخرج دون تفكير. جلستْ، تحت الظّلام، على حافة السّرير الذي ينام فيه. جسمها دافئٌ. وألوان الليل الدّاكنة تحجبُ أزهارَهُ الببيضاءَ والورديّة. تمدّدتْ بجانبه واحتضنتْه ونسيتْ ما كان بينهما من خصام. همستْ له كلامًا يبوح بمدى تعلِّقها به وشَوْقِها إليه حتّى وهو بجانبها. كانت في البداية كالحلم، بالنسبة إليه، لأنّ النّوم بدأ يأخُذُهُ. وقدْ تعوّد أن يحلُم بها عندما يشتدّ شوقُهُ إليها، وتطول مدّةُ غيابها عنه. في تلك الحالاتِ يكونُ الحلْمُ أفْضَلُ منْفَذٍ للوصول إليْها، إذا لمْ يمْتنعْ هو أيضًا عن الظّهور. لكن الأمرَ مختلفٌ هذه المرّة. فقد أحسّ بجسمها الدّافئِ يلتصقُ به، وبذراعها تطوّقُهُ. وسمع همسها الذي أشاع بهجة في الغرفة وأعاد الهدوء والرّضى إلى نفْسه القَلِقَةِ. أفاق جيّدًا من نومه والتفتَ نحْوها، وأدْخل ذراعه تحت رأسها كما يفعل دائمًا. وتبدّدتْ غيوم النّكدِ. لم يشعُرا بوجود بعوض. وامتدّت الساعات الجميلةُ غيرُ عابئةٍ بالوقتِ المتأخّرِ من اللّيْلِ. وتحوّلتْ ألوان الظلام القاتمة الحزينة إلى معزوفةِ سُرُورٍ. وهدأتْ عواصفُ الغضبِ التي كانتْ تتلاعب بوجدانه وتبعثر فيه كلّ المشاعر الرّقيقة.
خلال رحلة الذكريات المُتَأنِّيَةِ، رَاجَعَ أشياءَ أتعبَتْه كثيرًا في الماضي وجعلتْه لا يأسفُ على ما قضاه من أيّامه وسنواته معها، وأشياءَ جميلةً أسْعَدَتْه وجعلتْهُ يشتاقُ إلى الماضي. وتراءى له وجهُها كالحُلْم البديعِ الذي يحمل معه الأفراح ليُلْقيَها بين يديْه ويأخُذَه على جناحيه ويطيرَ. وفي الضّفّة الأخرى من الحلم، تخيّلها في انتظارِهِ، فاتحةً ذراعيْها لتحضُنَه وتُدْخِلَه دنياها من جديد كيْ يعود إليه الفرحُ المختفي. بعْد هذه الرّحلة الطويلةِ في خفايا نفسه، تبيّنَ لهُ أنّها تحبّهُ بعمق، وتحنو عليه كثيرًا، وتتغزّلُ به أكثر ممّا يفعل معها، رغم أنّ المرأة هي من تحبّ عبارات الغزل. وأصبح الآن مقتنعًا أنّه هو المقصّرُ، إذْ كان عليْه أنْ يقبَلَ انفعالاتها عندما تكون متوتّرةً لسبب من الأسباب. هو الآن واعٍ بأنّ عليْه أنْ يحبَّها كما هي، ما دام متأكّدًا من حبّها له. فالمهمّ وجود هذه العاطفة التي تربط بينهما من سنين طويلة ولا يمْكن أبدًا أن تكون كاذبَةً بعد كلّ هذه السنين، وبعد الاختبارات العديدة التي مرّتْ بها، وفي كلّ مرّة يتبيّن لهما الاثنينِ أنْ لا أحدَ منهما يستطيعُ أن يعيش محرومًا من الآخر.



#منوّر_نصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشهقة أمام الألوان
- سألوّن السحاب - مقاربة تعدّدية لأشعار فريدة صغروني
- دنيا جديدة
- امرأة افتراضية
- نتائج البكالوريا 2015 : الواقع والتأويل - المعاهد العمومية ب ...
- أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين وموقع المتفقدين ا ...


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منوّر نصري - أشواق