أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - وديع العبيدي - تفكيك العنف وأدواته.. (30)















المزيد.....



تفكيك العنف وأدواته.. (30)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 6278 - 2019 / 7 / 2 - 21:32
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


وديع العبيدي
تفكيك العنف وأدواته.. (30)
بانوراما: عرقستان..
(هنالك خمس دقائق.. كي أطمئن عليك قليلا
وأشكو إليك همومي قليلا..
وأشتم فيها الزمان قليلا..
هنالك خمس دقائق.. فيها تقلبين حياتي قليلا..
قولي.. قولي.. قولي..
ماذا تسمين هذا التشتت.. هذا التمزق.. هذا الضياع الطويلا..
وكيف تكون الخيانة حلا.. وكيف يكون النفاق جميلا..) -شعر: نزار قباني/ غناء: كاظم الساهر
(1)
في البدء كان الانسان.. الانسان الفرد أساس تكوين الجماعة.. الجماعة أساس تكوين وصياغة المجتمع.
من غير مجتمع واعي متوازن ناضح، ذي تراكم اجتماعي/ فكري/ سياسي/ ثقافي، لا ينوجد شعب، ولا تتشكل (أمّة)..
الاسقاطات النظرية والحزبية والدينية لا تصنع مجتمعا ولا شعبا ولا أمّة.. ولا وطنا.
لا يوجد شيء أسمه: صناعة شعب، أو صناعة وطن!.. الانسان والجماعة والمجتمع والشعب والأمة والوطن، من انتاج الطبيعة. دور البشر فيها التطوير والتهذيب، أو الفساد والتخريب!.
ومعظم العالم العربي هو من انتاج وتشكيل وصياغة الطبيعة. لا يوجد مكان جاء منه العرب إلى هاته الأرض التي تحمل أسمهم. ولا يعرف مكان آخر نبعت فيه لغتهم واشتقت منه عاداتهم ومعتقداتهم. ولا يرد في ثقافاتهم الشفاهية، موضوع الرحيل إلى مكان آخر خارج أرضهم.
فالعرب واحدة من أقدم الأمم التي تعيش على أرضها المعروفة رسميا عبر الاف السنين، بشكل متصل، ويمارسون اسلوب معيشتهم المتعاشق مع عاداتهم الاجتماعية ونظمهم المجتمعية، بما يتآلف مع خصائص بيئاتهم وطبائعهم وأطباعهم، وبشكل مستقر ومتأصل، حتى اليوم.
ولم يسبق للعرب، الخروج من أرضهم، أو التجاوز على جوارهم الجيوتاريخي، إلا ما ندر، وتبعا ظروف وأسباب وقتية واضحة، أو ردا على عدوان.
اعتزاز العرب بالأرض ثيمة نفسية وعقائدية، تؤكدها كثير من قصص الأيام والمغازي، التي تمثل تاريخهم التراثي/ القومي.
كلّ هاتيك المآثر، أنتجت منظومة قيمية قومية تاريخية، هي العامل المشترك الذي يجمع أشتات العرب، ويشكل النواة الفكرية والمجتمعية، التي قامت عليها الثقافة والعقيدة والحضارة والتواصلية العصرية بين العرب والزمن والعالم.
العرب تاريخيا، نصف منغلقين على أنفسهم، وهذا مصدر اعتزازهم بعاداتهم التي تصل حدّ التقديس.
نصف الانغلاق، يسمح لهم بانتقاء ما يناسبهم من ملامح ثقافية وفكرية ومعيشية من العالم، ولكنهم لا يتقبلون أن يجري فرضها عليهم. والعرب لا يرفضون من يفد للمعيشة والاقامة بينهم، شريطة قبول نظامهم الاجتماعي والثقافي من جهة، ومن جهة ثانية، شريطة المحافظة على اعتزالهم، ولا يندمج فيهم اجتماعيا.
والعرب في ذلك، يتميزون بدرجة عالية من التسامح والطيبة والكرم والنخوة والايثار وحب الاحسان والسلم والتصالح والمساواة والكرامة للجميع، إلى جنب قيم الحرية الاباء والتفاخر والكبرياء. والتفاخر العربي يعادل الاعتزاز بالذات والعادات والانتماء للأرض والقبيلة والعروبة، وعدم السماح بالقدح فيها أو التجاوز عليها.
ويؤمن العرب بمبدأ المعاملة بالمثل، في الخير والشرّ، أفرادا أو جماعات. فمن أحسن إليهم، قابلوه بمزيد من الاحسان، ومن أساء إليهم، كالوا له الصاع صاعين. ومن عاداتهم، استعجال الخير، والحلم في الشرّ.
وهذا ما التزم به العرب عند زحفهم نحو أقوام مختلفة، حيث أقاموا حضائرهم على مسافة من أهل الأرض، ولم يختلطوا بهم، وما تزال تلك الحدود الثقافية والمجتمعية، ظاهرة في شمال الجزيرة وبلاد المغرب.
وجماع كل هاته القيم والعادات والنزعات والمآثر، هي أيقونة الشعور القومي والاعتزاز والتفاخر بالأنا القومية ومحتواها النفسي والاجتماعي والفكري. وهو الملاحظ في دقائق تفكيرهم وتفاصيل حياتهم ومعيشتهم، والمشهور من قصيدهم..
وما أنا، إلا من غزية، إن غزتْ، غزيتُ، وإن تقعد غزيةُ أقعد - دريد بن الصمّة [530- 630م]
أبا هند فلا تعجلْ علينا.. وأنظرنا نخبرْك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا.. ونصدرهنّ حمرا قد روينا
وأيام لنا غرّ طوال.. عصينا الملك فيها أن ندينا
وسيّد معشر قد توّجوه.. بتاج الملك يحمي المُحجرينا
تركن الخيل عاصفة عليه.. مقلّدة أعنّتها صفونا
وأنزلنا البيوت بذي طلوح.. إلى الشامات ننفي الموعدينا
وقد هرّت كلاب الحيّ منا.. وشذّبنا قتادة من يلينا
متى ننقلْ إلى قوم رحانا.. يكونو في اللقاء لها طحينا
يكون ثقالها شرقيَّ نجدٍ.. ولهوتها قضاعة أجمعينا
نزلتم منزل الأضياف منا.. فعجّلنا القِرى أن تشتمونا
نعمّ أناسنا ونعفّ عنهم.. ونحمل عنهمو ما حمّلونا
نطاعن ما تراخى الناس عنا.. ونضرب بالسيوف إذا غشينا
ورثنا المجد قد علمت معدّ.. نطاعن دونه حتى يبينا
ونحن إذا عماد الحيّ خرّت.. عن الأخفاض نمنع من يلينا
وهي المعلّقة الخامسة للشاعر عمرو بن كلثوم التغلبي(ت: 584م).
وكان أولى بأجيال الحداثة القومية، اتخاذها نشيدا قوميا، يحفظ الاباء العربي من الانحطاط والتلوث تحت عدوان وخداع المغيرين.
ان الاختلاف في واقع الاجتماع العربي المعاصر، يعود لعاملين جيوتاريخيين.. احدهما يتمثل في الاحتكاك بينهم وبين أقوام الجوار؛ والعامل الثاني: يتمثل في الغزوات التي غشت العرب، وتركت أثارها الاجتمثقافية في حياة العرب وأنظمتهم السياسية.
ان أصل العرب وخصائص العروبة، يتوطن مركز شبه جزيرة العرابيا ومحيطها الدائري التقريبي، والذي ساعد في تحصين العرب مائيا، عن الاختلاط والاندماج/ الذوبان، مع الجوار الجغرافي. ولما يزل، من اليسر تمييز انتقالات الأفراد الوافدة لأغراض المعيشة والعمل.
لكن الاشكالية الكبرى التي افترت على العروبة، كانت في نقاط التماس الحدودية في شمال العرابيا: [سوريا والعراق] من جهة، ونقاط التماس الحضارية في الجانب الأفريقي، من جهة أخرى. وقد مايز النسابة القدماء بين العرب (العاربة)/(سكان شبه جزيرة العرب)، وبين العرب (المستعربة)/(سكان سوريا والعراق).
واقع الحال، ان كل منتسبي العروبة خارج شبه جزيرة العرابيا، هم من (المستعربة)، سواء في التصنيف التراثي القديم، أو التصنيف الثقافي المراهن. ويستبان ذلك في مبلغ الهجنة العرقية والفصام الثقافي، وشيوع اللحن في لسانهم. وهو أمر غائب عن ادراك المؤرخين والمثقفين، إذ يجري الطعن في العروبة عشوائيا ومن غير تدقيق.
في الواقع النمساوي مثلا. ليس جميع السكان من أصل نمساوي أو أصل مشترك. وانما تجمعهم خبرة اجتماع سياسي منذ (1920م)، عندما جرى ترسيم الحدود يومها. والغالبية من السكان، سيما في المناطق الحدودية، يعرفون تفاصيل الانتماء والأصول الوطنية والقومية ، لسكان كل منطقة.
ومنه، ان اللهجات الألمانية في النمسا، تختلف من قرية إلى قرية. ومع وجود لغة ألمانية نمساوية رسمية، لكن السائد اليومي هو لهجات مميزة لكل مقاطعة، لكل مدينة، لكل قرية. ولذلك أثر في الأغاني والحكاوي والمناسبات التراثية، التي تشمل العادات والثيلب والأطعمة واللسان.
والمعروف ان اللغة المانية في النمسا، تختلف عنها في جنوبي ألمانيا، وتختلف عما في شمالي ألمانيا، وتختلف عن ألمانية سويسرا، وألمانية بوهيميا، وسوى ذلك. فالوعي الثقافي التراثي والسياسي، عامل مهم في المجتمعات الأوربية.
والجدير بالذكر، اليوم، اهتمام وتركيز مبالغ فيه، على تأكيد ملامح التراثية المحلية لكل قرية ومنطقة بلدية. وذلك في ردّ وطني حضاري، على سياسات الاتحاد الأوربي من جهة، وبرامج العولمة الأمريكية بالمقابل. ورغم ارتفاع اسعار الثياب القومية: (رجالة ونسائية)، إلا أنها تطرح مرّتين في العالم، وتحظى بشعبية واسعة، يتم التظاهر بها أواخر الاسبوع والمناسبات.
ومثل ذلك يحدث في بلدان أوربية أخرى، تحتفي بتراثها ومظاهرها القومية باعتزاز، بينما يشيع في الاعلام العربي، السخرية والطعن في الفكر القومي والقومية العربية والوطنيات البلدانية، وكلّ ما يتصل بالعروبة والاسلام والوطن والتراث.
ويكشف هذا مبلغ التناقض في نقطتين: فمن جهة، تعتبر أوربا هي الأكثر تطورا، والعرب أكثر تخلفا، ولكن يراد للعرب الغاء مشاعر القومية والوطنية، والتحول إلى مجمعات (أممية) عشوائية، تتلاعب بها الأرياح الغريبة الطارئة، عقب زوال الأنظمة العربية القوية، وشيوع الفساد والفوضى والاحتلالات الأجنبية.
ومن جهة أخرى، فأن أصحاب الدعوات الهجينة، يتبسون قمصان الحداثة، ويقلدون مظاهر الحياة والأفكار الغربية، ولكنهم، ينتقون الأسواء للعالم العربي، ويغضون عيونهم عن محاسن التجارب والوطنية الغربية، ومعظمهم يقيمون في المهاجر.
مرونة العرب الاجتماثقافية، وسذاجة انظمتهم السياسية، ترتب عليها نشوء طوابير من الخونة والجواسيس المعاودين للمجتمعات والبلدان المقيمين فيها، ورغم سلوكهم المخالف للاخلاق والقانون العرفي والمدني، - حيث تنعدم هاته الظاهرة في الغرب، وتخضع للتجريم قانونا-، فهم يمنحون أنفسهم الوصاية والأفضلية في البلاد، على حساب السكان الأصليين، الموالين للأرض والثقافة التراثية والوطن السياسي.
في هذا المجال، وقع المجتمع العربي ضحية آفتين هدّامتين، أحداهما عبر التاريخ، والأخرى، عبر الحداثة الغربية. وكلاهما ارتببط بالغزو الأجنبي.
الظاهرة التاريخية، اقترنت بمفصلية الاسلام، وقيام الدولة الامبراطورية العربسلامية، التي شملت عديد أقوام غير عربية، استكانت واستكمنت حتى تمكنت في ايام العباسيين، الذين اعتمدوا على العناصر الايرانية لسرقة الحكم من الامويين.
وكان لقلب ظهر المجن، اثر سلبي في دفع الفرس للانتقام، وتهييج حركات سرية غير عربية في نسيج الاسلام السياسي، نشرت أفكارها ودعاواها في المحيط العربي من المشرق الى المغرب. وكان لها ولغيرها من عوامل، أثر في اضعاف الحكم العباسي وتقويضه تدريجيا.
علما أن الحكم العباسي، اعتمد اعتمادا مبالغا فيه، وعلى درجة غالبة من الحمق، على العنصر الفارسي والمجوسي، بدء بالرضاعة والوصاية على بيوتهم وتربية أطفالهم/(البرامكة)، وليس انتهاء بتليمهم أمور الدين والدراسات الدينية في المدارس المستنصرية والنظامية، وطاقم الانتلجنسيا العباسية، التي تولت أمر التدوين في مجالات الدين والسياسة والتاريخ.
ان نسبة اختراق الاجتماع العربي، باسم الاسلام ومنذ سنيه الأولى، كما يتمثل بسلمان الفارسي وعبدالله بن سبأ، حتىانتشاء ظاهرة الاسلام المناوئ، أو الثورة المضادة في الاسلام بقيادة فارس، والتي تعيش ذروتها اليوم،منذ عشرة قرون.
ومراقبة مظاهر التفريس في المحيط الجغرافي للعرابيا، ستغرب دقة التخطيط المناوئ وبعد نظره، في اختزال العروبة والمركزية الاسلامية. ولا غروا، ان يكون العراق واليمن وسوريا و الخليج، أكثر البلدان تهرية وتشظيا، وعرضة للضياع، بسبب ضعفها القومي، وتخلل مجتمعاتها طوابير فاعلة من الموالين للفرس، والطعن في الاسلام والعروبة.
فلا غرو أن تلتقي طوابير التاريخ بطوابير أجيال الحداثة، بل تتصدر استقبال الحداثة وترويجها، وتوجيهها في سياقها التاريخي التخريبي، فيجتمع فيها تيارات: تيار ديني متطرف، مخالف مذهبيا للمركزية العربسلامية، وتيار علماني الحادي، يتخذ من مخاريق الغربنة رموزا مقدسة، ويرفع أفكارهم، مواضع، تفصل الشباب العربي عن الدين اطلاقا، والمقصود منه، الاسلام تحديدا، وهو الموضوع الأدسم لديهم.
شتان، بين أور ذات الأسوار، وبين عراق ممسوح الحدود.
شتان بين عقلية جلجامش الملك: باني الأسوار المجيد، وبين عقلية حكام العراق: هادمي الأسوار والحصانة الوطنية، وسماسرة القوى الأجنبية المعادية.
ولكن، بالمقابل، عند النظر من أسفل القاعدة، ومن الجانب المقابل، ثمة تسطح في الوعي السياسي، وسذاجة تقارف الحمق، في تفضيل الأهواء والنزعات الغريزية الشخصية، على المصالح العامة للمجتمع والوطن، اللذين لم يشارفا النضج السياسي، الذي يمثل بداية ظهور الدولة.
(2)
القبائل: صياع وانصياع..
منذ احتلال الفرس/(يهمجوسية) لبابل/(538م)، لم ينسحبوا منها، وانما نقلوا زرافات وأفواجا من سكان جنوب وشرق ايران، إلى مستوطنات كبيرة داخل العراق. وكان لأولئك المستوطنين ثلاث وظائف:
1- التغيير ديمغرافيا السكان والهوية الثقافية.
2- السيطرة على اقتصاديات البلد واحتكار محاورها.
3- تشكيل عمق ستراتيجي للتبعية والولاء الأجنبي، ومركز للتجسس وجباية البلاد.
وفي سياق تلك السياسات، وهشاشة الوعي السياسي لسكان العراق الاصليين:[مندائيين، اشوريين، كلدانيين]، قام ملوك العجم ببناء عاصمة ثانية لهم بين النهرين، وبالنتيجة، اصبح بلد النهرين ولاية تابعة ومكمّلة لبلاد ايران التي تزيد مساحتها، مساحة العراق بثلاث مرّات.
وقد اعترف الرومان وبيزنطه يومذاك، باحتلال الفرس للعراق، واتفق الطرفات على جعل وادي نهر الفرات، خط الحدود الرسمية بين الشرق والغرب. فالامبراطورية الفارسية تحوز ما هو شرق وادي الفرات، والامبراطورية الرومانية تحوز ما غرب وادي الفرات.
وقد استمر هذا الحال، حتى ظهور القوة العربسلامية التي قلبت خريطة العالم، وتسيّدت قلبها منذ القرن السابع الميلادي حتى اليوم. ولم يظهر خلال ذلك، أي انتفاضة أو مقاومة أو ثورة عراقية ضدّ الغزاة، وهو ما جعل العثمانيين- وسطيين- ازاء الوجود الايراني المتشعب الرؤوس في الدمغرافيا العراقية/ (أهل البلد أولى بأمرهم)!.
المشروع العربسلامي هو الوحيد الذي أطفأ النعرات الاقليمية المتصابية ضد بعضها البعض، وقام بتفكيك أصولها ، لكن المشروع الاسلامي السياسي، لم يتهيأ له بناء (شعب/ أمة)، تحمل ناصية المشروع عبر الزمن. فمن جهة استمرت القبائلية الاناركية/(الأعراب)، ولم تتطور اجتماعيا أو عقائديا، إلى مفهوم (شعب/ أمة) ذات سيادة.
ان مفهوم الأمة الاسلامية/ (شعب عربي)، هو مفهوم انشائي لغوي رومانسي أكثر منه واقعيا سياسيا صلبا. والأمر الآخر، ان البلدان خارج العرابيا التقليدية، لم تتشكل وتتبلور وتتهيكل، لتأخذ صورة شعوب أو قوميات بلدانية، داخل النسيج السياسي للدولة الامبراطورية.
من الممكن القول، ان الدولة الامبراطورية العربسلامية، كانت إطارا سياسيا/ عسكريا مهلهلا من الداخل. ولم يرتفع الوعي الاجتماعي الوجداني، إلى المستوى السياسي. ان فكرة الوطن:(أولا، وفوق كلّ شيء)، لم تظهر حتى اليوم في المحيط العربي.
الانسان / القبيلة/ المجتمع: العربي، ما زال في طور الغريزة والحاجات الذاتية، ومحورية الاهتمام بالمعيشة والأمن والرفاه الاجتماعي/(ثياب وسكن ومظاهر بروازية صغيرة). ان ثقافة الغريزة أساس ثقافة الاتكالية والطفيلية والانتهازية، المتعاكسة والنقيضة، لمفهوم السيادة والاعتماد على الذات.
الملاحظة الرئيسية، ان العرب:(سكان الأراضي بين الخليج والمحيط)، لم يدخلوا أية معركة حقيقية شديدة في الدفاع عن أرضهم. والدول كانت تتشكل في قمة الرم، وتنهار من رأس السلطة، والمجتمعات نائمة، لا يهمها غير مؤونة الطعام والثياب، والقليل من الأمن والسكن.
ويفتخر العراقيون إذ يصفون تحولات السلطة السياسية بأنها: (بيان رقم واحد في الراديو). هذا يكشف درجة لامبالاة وهشاشة هؤلاء، ولكنه لا يشي بدور المشاركة الشعبية/(مع/ ضدّ). وذلك هو ما تكرر طيلة الفوارز السياسية للقرن العشرين.
أين هو دور العراقيين في الاحتلال الانجليزي، بناء الدولة، تشكيل الوزارات، الانقلابات العسكرية، صراعات الضباط والاحزاب والتكتلات السياسية، حركة (41) التحررية، اغتيال غازي، وصاية عبد الاله، اعلا الجمهورية/(1958م)، تحولات الجمهورية وقياداتها، حكم البعث واستحالاته العنيفة، الاحتلال الأمريكي والهيمنة الايرانية على أرض العراق ومقدراته الاقتصادية والسياسية؟..
فراغ هائل، يدعم الفرضية الانجليزية، التي تصف بلاد العرب: (أرض بلا شعب). فسكان العرابيا، (مقيمون ما أقام عسيب)، يعتاشون على الأرض ويتطفلون على مواردها وثمارها، ولكنهم لا يبالون في الدفاع والحماية عنها.
ان القبائل الهاربة/ المبعَدة نحو بلاد الاطراف في العهود العمرية، كررت منوالها، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى بواكير العشرين، وهي تهرب أمام الزحف الوهابي، وكتائب فيصل الدويتش، نحو العراق والشام، بحثا عن مأوى وسكني يخلو من العنف والمهددات الوجودية.
ولكن المأخذ على القبائل الهاربة نحو بلاد الأطراف، أنها وقعت تحت هيمنة فارس سياسيا ومذهبيا، أولا، وسلمت نفسها لسياسات الانجليز ومشاريعهم، ثانيا. وكان لاتحاد قبائل كعب وغيرها دور في تمرير السياسات الانجليزية منذ القرن السابع عشر، ومن غير انقطاع. ولكن ماذا كسب بنو كعب وأمثالهم من الانجليز؟..
الحالة العراقية، لا تختلف في مصر، التي خضعت لسلسلة طويلة من الاحتلالات الأجنبية، من عهد الاغريق والرومان وبيزنطه، حتى العهود العربسلامية والدولة الطائفية، وصولا إلى غزوات نابليون والانجليز والامريكان حتى الانفتاح الساداتي المدمر، دون أن يكون للمجتمع المصري دور مشاركة/(سلبية/ ايجابية). ولذا نالت الانتفاضة الشبابية/[2010- 2013م] أكثر من حجمها في التناول والاستهلاك الاعلامي والشعبي.
بعبارة: ان مفهوم القبيلة كمجتمع قتالي منظم، يضع الأرض والقبيلة والسيادة فوق كلّ شيء، ويموت من أجلها، تراجع وتبخر وتهلهل عبر الزمن. وبعدما كانت القبائل تفتخر بحواديت (المغازي)، صارات جولاتها المعاصرة وفتوحاتها الكبرى تتعلق بالنساء ومبالغ (الديّات)، والارتباطات المذلة بوكلاء الحكم والقوى النافذة.
لقد انهارت القبيلة الحقيقية، قبل أن تتطور إلى مفهوم شعب وأمة، كما في الغرب، وحسب دراسات فلاسفتها امثال هيجل وأنجلز. هل هي اشكالية وعي؟.. هل هي إشكالية وجود؟.. هل هي مسألة طبيعة خانعة تنقصها الارادة الثورية في الأمل.
ان اللياقة القتالية لدى القبيلة العربية، هي لياقة مشوّهة، لا تناسب (فزعة) القبيلة الاعلامية الاستهلاكية. وذلك لأمور، على كل قبيلة وفرد التوقف لديهما ومراجعة تاريخها..
1- ان كل صراعات قبائل العرب ومغازيهم، كانت فيما بينهم، وهم في الأصل اشقاء وأخوة، ومن بطن واحد.
2- ان صراعات العرب البينية، كانت نسبية ومحدودة، ولم تبلغ مستوى هزيمة (الأخر) النهائية.
3- ان القبائل العربية، لم تدخل في صراع مباشر مع (الأجنبي)، غازيا أو طامعا. أما معركة (ذيقار)، فارتبطت بقصة شخصية استثارت نخوة بعض العرب، انتهت بظرفها الزمني، ولم تكن معركة سياسية قومية، تدفع العرب لمراجعة حياتهم وإعادة توزيع وهيكلة تنظيماتهم القبلية في اتحادات وتحالفات صارمة وقومية.
4- هشاشة الوعي الثقافي والسياسي لدى زعامات القبيلة، وضعف ارتباطها بمجتمع القبيلة ومفاهيم الأرض والانتاج والسيادة. ويلحظ اليوم، ان توزع أفراد القبيلة داخل وخارج البلدان، يخضع لأمور المعيشة، والتجاذبات الاجتماعية، ولا يوجد تركز/ توطن قبلي في منطقة اقليمية محددة، تجعل القبيلة نسيجا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا فاعلا.
وعملت الدولة، على كسر شوكة القبيلة، وتضنيفها إلى (موالٍ، مناوئ)، ومن أساليبها، تشتيت مجتمع القبيلة وشرذمتها بين الشمال والجنوب، أو زرعها ببذور الفتنة والتناحر الداخلي. وفي النتيجة، خروج القبيلة عن سياسقاتها الأصلية، وتعطيل دورها السياسي والدفاعي عن الأرض والوجود والسيادة، التي حكمت بداياتها الأولى.
اساس القبيلة العربية، أنها كتيبة رجالية قتالية دفاعية عن الأرض والسكان والسيادة. وكان خروجها من خيمة اليمن، للتوزع في أنحاء شبه الجزيرة، خاضعا لخرائط واملاءات عسكرية، لملء الآفاق وسدّ الثغور،وذلك في أول وأقدم ترسيم للحدود السياسية العريقة، وهو ما يلحظ من التوزع الاصلي للقبائل الحدودية، سواء داخل شبه جزيرة العرب، أو داخل المحيط الاقليمي العربي، المحكوم بعوامل جيوتضاريسية معروفة منذ القدم.
ان تفتت العرب، أساسه تفتت القبيلة وتراجع أداء دورها الحقيقي، مجتمعا وزعامة. وفي خضم ظروف وعوامل كثيرة ومتشابكة، فأن القبيلة التي كانت تأنف من سكنى المدينة/ (الحضر)، وتتخذ من البوادي مواطنها، فقد تعرضت لأمرين: أما أن مواطنها البدوية، تحولت إلى حواضر ومدن عصرية؛ أو أن أفرادها تسللوا لمجتمعات المدن والعواصم، واندمجوا في ثقافاتها، وهنا يلزم مراجعة أفكار ابن خلدون.
ان الحكومة لا تصنع أمة ولا شعبا. لكن الأمة/ الشعب/ القبيلة هي التي تصنع دولة وحكومة. وهذا لم يتحقق في الحال العربية. ان الوعي السياسي لم يعرف أو يتطور، الى مستوى [وطنية/ قومية]. وهم ما يزالون في مرحلة بدائية من هذا المنظور. الاستكانة لحاجات المعيشة، وبخس قيم الدفاع والقتال والجهاد، تتنافى مع قيم الوجود والسيادة والكرامة.
(3)
محنة عبد العزيز الدوري..
في عمله القيّم : موجز (تاريخ العراق الاقتصادي)/(1942م)، يتناول الدكتور عبد العزيز الدوري [1919- 2010م]، ملامح الحياة الاقتصادية والحرفية في عراق القرن الرابع الهجري، المصادف لما بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، وهي ذروة الحكم العباسي [750- 1258م].
الفترة التي تناولها الدوري، تمثل انطفاء جذوة الحكم العربي العباسي، وتحول مقاليد الأمور الى البويهيين [956- 1055م] والسلاجقة [1037- 1194م]، من أصول غير عربية تنكبت شعارات الاسلام، مطيّة للحكم والسيادة، والتسلط على العرب.
الحكم البويهي لم يكن بداية المدّ العجمي، وانما نتيجة له. وقد أحسن إذ بدأ من نقطة الجنوب/ (عربستان) المجروح، وزحف شمالا عكس تيار دجلة إلى بغداد العاصمة، ليدعو نفسه (حامي الخلافة)/(من سخريات القدر). وفي نفس الوقت، كان هذ اعلانا عن أطماع فارس الغربية. وهو أمر لا يتصل بالغزو العربسىلامي لفارس، لأن فارس غزت العراق واليمن، قبل ظهور الاسلام والقوة العربية.
القرن الرابع يعني بلوغ الاستيطان الايراني وتخلله الاجتماع الرافديني مستوى بالغ الخطورة، بحيث صار له دور في نسج سلطة الحكم. وقد سبق ذلك هيمنة العنصر العجمي على محاور الاقتصاد العراقي وتقسيماته الادارية. ومنذئذ جرى تخاذ العراق عمقا اقتصاديا واجتمسياسيا للدولة الايرانية بمختلف أحقابها، حتى عراقستان الراهن.
دور البويهيين، حماة الخلافة البغدادية، هو إضفاء صفة (شرعية دينية) على الهواء الفارسي في العراق، واليهم يرجع التطرف الطائفي المنشق على الاسلام المحمّدي. وهذا يعني اجتماع محاور الاقتصاد/ الدين/ السياسة، بيد حماة الخلافة، الممثلة بشخص (أمير المؤمنين)، أي المرجع الاسلامي الأعلى.
عبد العزيز الدوري، إلى جانب جواد علي [1907- 1987م]، الوحيدان اللذان تنكبا التصدّي لأخطر تحديات العروبة عبر التاريخ. وبغض النظر عن النتائج المتحققة عن مشروعيهما، فلا أحد اليوم، يريد أن يأتي عليهما. مات جواد علي محبَطا في بغداده. وهرب منها عبد العزيز، لائذا بما تبقى من عروبة شرق الأردن. وكان سؤال الدائم، إذ التقيته في الجامعة الأردنية: (شلونهه أخبار بغداد!).
بحث الدوري تصنيفات الحرف والحرفيين البغدادية، وأسس تشكلها وصلتها بحاجات السكان من جهة، وبتنامي الحاجات، أسوة بالزيادة السكانية من جهة، والتطور العمراني والحضاري من جهة ثانية. ان اعتماد الدوري للعامل الاقتصادي محورا لعجلة التاريخ، يجعله يلتقي مع منظور كل من فيليب حتيته [1886- 1978م] والبرت حوراني [1915- 1993م] وحنا بطاطو [1926- 2000م].
فما الذي دفع القومي العربي، لاستخدام المنظور الماركسي للتاريخ، في جامعة انجليزية: (1940- 1942م). لا خلاف في ترجيح احتمالية كون ثالوث: [اقتصاد/ دين/ قبيلة]، هو العصب المحرك للتاريخ الاسلامي، لكن الثلاثة لا تعمل بنفس القدر والاتجاه والانسجام المطوب.
هاته العناصر الثلاثة، لا تخرج في أصلها عن فضاء علم الاجتماع العربي والعربسلامي. وهو المنظور الأكثر حداثة وأصولية منهجية، في دراسات التاريخ. وبحسبه، فأن العنصر الأهم في حركة التاريخ هو (الانسان)، وليس (الاقتصاد) غير جزء محدود من حاجة ونشاط الانسان.
لقد حاول الدوري، تحجيم العامل الاقتصادي/(المنظور الماركسي)، بإضافة عنصر (الدين)، وهو العنصر الرئيس في المنظور القومي العروبي المعاصر/(خلاف منظور الياس فرح/البعثي الأرثوذكسي)، أما عنصر العصبية، فهو ارتداد للمنظور الخلدوني [1332- 1406م] في مقدمة كتابه (العمران) و(نظرية العصبية).
وهذا ما دفع الدوري لاستكمال بحثه الأساسي في (تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري)/(1942م)، بكتابيه: (مقدمة في تاريخ صدر الاسلام)/(1945م)، و(مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي)/(1949م).
انني أضع الدوري في مقابل جواد علي في سعيهما الموحد، لتقديم صورة تاريخية عصرية جادة ومهذبة، لتاريخ الأمة العربية في صالون العصر، مع اختلافهما في الاجتهاد والثقافة التراكمية. وقد أعاد جواد علي كتابة (تاريخ العرب) مضيفا ومعدلا ومهذبا، بتشجيع وعناية من العلامة محمد بهجت الأثري [1904- 1996م] من تلاميذ المدرسة الالوسية البغدادية.
لكن الدوري لم يقتصر على ثالوثه المؤسس، وانما واصل تبيان مفهومه ورؤيته في سلسلة مؤلفات، هي حلقات متعددة لمحور واحد. وتلك هي: العصر العباسي الأول/(1945م)، دراسات في العصور العباسية المتأخرة/(1945م)، النظم الاسلامية/(1950م)، موجز تاريخ الحضارة العربية/(1952م)/(مشاركة مع ناجي معروف)، بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب/(1960م)، الجذور التاريخية للأمة العربية/(1960م)، الجذور التاريخية للشعوبية/(1962م)، التكوين التاريخي للامة العربية/(1983م).
محنة الدوري هي اكتشافه، ان (الانسان) وليس (الصنعة/ الحرفة) هي المعيار الفاعل في المجتمع. الانسان قد يغير مهنته غير مرة، وقد يتقن غير واحدة منها. فالمهنة تتغير وتختلف، ولكن الانسان نفسه لا يتغير. الانسان هو الهوية الثقافية والسياسية لوجوده وصلته بالعالم.
وما يعني الامة في نشأتها هي أصالة أبنائها واخلاصهم لها ولثقافتها، وليس حاصل الناتج الاقتصادي، أو جماع التراكم الرأسمالي كما في الغرب. اصالة الأمة فيما يبني أبناءها ويجمعهم، ويجعلهم فردا واحدا وكتلة واحدة، وليس فيما يوزعهم في هويات وأحزاب وعناوين، وبلدان ومهاجر واتجاهات، بلا حدود.
الاقتصاد في الغرب/(انحلتره مثلا): جاء لاحقا ومتأخرا عن نشأة الدولة والسيادة والهوية، المقننة بالدستور والسلطات السياسية/[الملك الحكومة/ البرلمان]. فالاقتصاد ولد مقننا مؤدلجا موجها، في خدمة التاجّ، وسياسات الحكومة وسيطرة البرلمان.
أما في الحال العربية، فلم تتبلور آليات الدولة والسيادة وقواعدها الدستورية الثابتة حتى اليوم، ولن تتأسس قريبا. السلطة عند العرب كانت ولما تزل، تختزل نفسها، في شخص الحاكم. هو الحكم والدستور والبرلمان، وعندما يترك السلطة، تصبح السلطة والقانون في مهبّ الريح.
ولذلك بقيت الحياة العربية الاجتماعية والسياسية، عشوائية عمياء بلا اتجاه ولآ طريق، تتلاعب بها الأهواء الاقليمية والدولية، وكما تتلاعب بمجتمعاتها وطلائعها ونخبها الثقافية السياسية.
من هنا ينكشف سر مواقف الاعداء والاصدقاء، في التصدي لظهور شخصية سياسية قوية في البلد العربي، من جهة، والخوف من امكانية توريث الحكم، داخل عائلة حاكمة قوية. والأمران ينطبقان حكام العراق ومصر وسوريا. وقد ذهب العراق ضحية التحالف الشوفيني الشيطاني ضد حكم صدام والخشية من توريث الحكم لابنه عُديّ.
ولذلك جاءت محاولة اغتيال عدي /(12 ديسمبر 1996م) منعا لتوليته الحكم، فضلا عن الحملة الاعلامية الرخيصة لتشويه صورة عدي. وكانت تلك العملية الثانية بعد اغتيال باسل الاسد/(21 يناير 1994م) في سوريا. والتوريث هو المهماز وراء اندلاع الانتفاضة المصرية [25 يناير 2010م] ضد نظام مبارك، ولكن جهات أخرى، استغلت الانتفاضة نحو مطالب جديدة، لم تكن مطروحة في أذهان طليعتها الأولى.
لكن مبارك كانت أكثر ذكاء من مناوئيها، وحفظت حقها في الحياة والوجود، ولا يستبعد أن تنهار أوضاع مصر، وتعود للتشبث بأوراقها القديمة، وإعادة تنصيب جمال أو علاء أو أحد أحفاد مبارك، وهذا يصح كذلك في الحالة العراقية الميئوس منها، ويتجلى في تردد اشاعات حول عودة البعث/ صدام للحكم.
فهل كان الخوف من الوراثة والتوريث، وراء اغتيال أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والحسين بن عليّ؟.. وما علاقة ذلك بمجزرة العائلة الهاشمية في بغداد (صبيحة 14 يوليو 1958م)، التي تنصل الجميع من مسؤوليتها، وحمل النقيب عبد الستار العبوسي/ (ت 1970م) وزرها الأعظم..
ان نظر الدراسات والمعاهد الغربية، تستند إلى رؤاها ومناهجها النبعة من بيئتها وواقعها المحلي، غير المؤسسة في الحياة العربية، والغريبة عنها. مما وضع الدوري ازاء المفارقة البحثية، فاستدرك عليها، بما ينسجم مع رؤيته ومنظوره الفكري الاجتماعي.
لكن مسعى عبد العزيز الدوري، وعمله في استدراك جوانب مشروعه العربي القومي، صادف مفارقة سياسية أخرى، بعد موت عبد الناصر/(1970م)، هي تراجع العمل القومي العربي، ومنظور الرؤية العربية القومية، للسقوط في البلدانية والاستغراق في القطرية، واختلاف المنظور البعثي/(سوريا والعراق)، عن المنظور القومي الاسلامي الذي مثله الدوري.
وبينما كانت الوحدة الثقافية، ديدن المشروع العربي السياسي في النصف الأول من القرن العشرين، شكلت المناهج الناصرية والبعثية، تفتتا عن النواة الأصلية، للعروبة القومية التاريخية، وجعلها عقيرة لسلطة الاستبداد الشخصي والعائلي.
أما المفارقة الثالثة التي استعصت على مشروع الدوري، فهي (الشعوبية): المصطلح الذي أطلقه التراثيون القدماء، على اختراق المجتمعات العربية، من قبل عناصر شللية معادية للعرب والعروبة، وتعرف اليوم بالطائفية التي تدرجت من ارضية دينية مذهبية، إلى مستوى سياسي منحرف ومناوئ لنهج العروبة والوطنية والقومية، ممالئا لمذهبية وقومية معادية للعروبة والاسلام.
وقد شهدت الخميسينيات وبداية الستينيات تصاعد الاتهامات والنعرات القومية والشعوبية، وكان من نتائجها المجازر والتصفيات الحزبية لأنصار عبد الكريم قاس ومناوئيه، ودفع العراقيون فواتيرها من دمائهم وحياتهم.
فلا غرو ان تكون هجرة الدوري، باتجاه واحد وبلا عودة، تعبيرا عن مبلغ يأسه واحباطه، من بلده وموضع أماله وتصوّراته. واقع الحال، ان الدوري لم يكن هاشميا، ولا ملكيا يوما ما، وكان خروجه الأول إلى بيروت، وهناك استجاب لدعوة من صديق له في عمّان.
ماذا تغير في العراق من بعد الدوري. وكم عراقي اليوم، يستذكر أيام الدوري وأفكاره، ويقدر جهوده من أجل وطنه وتنمية حياة مجتعه ووعيهم الثقافي. كم هم من أمثال الدوري، ماتوا في الداخل أو تشردوا في الخارج، تضيع جهودهم الفكرية بلا طائل، ببنما جيوش الغوغاء، تلهث وراء الأغرب والغرباء، من تجار السياسة والدين، من طوابير الخيانة.
(4)
كراهة الذات.. الحزبية.. العنف الباطني..
في بيزنطه القديمة، كان يسود الحياة السياسية حزبان: الأزرق والأخضر. الازرق: يمثل أنصار الملك، والأخضر: يمثل أنصار الشعب. وفي أوربا المعاصرة يوجد حزبان: المحافظ والعمل. المحافظ: يؤيد الملك، والعمل: يؤيد الشعب. في الولايات المتحدة يوجد الجمهوري والدمقراطي. الجمهوري: يمثل الأغنياء وطبقة الحكم الرأسمالية، والدمقراطي: يمثل فقراء الشعب.
ومن ضمن منتجاته الكثيرة، عرف العهد العباسي [750- 1258م]، الحزبية والمنظمات السرية الثورية، كما عرف حركة الحشاشين الباطنية، التي تولت القيام بعمليات اغتيالات، لشخصيات مناوئة تهدد عقائدهم المنحرفة، وفي ظروف تامة السرّيّة.
وقد انتقى الغرابوة مصطح (حشاشين)، وجعلوها (أساسين) تعبيرا للعنف التصفوي في اغتيال وتصفية الشخصيات، وهي من مفردات الانجليزية. وقد انشئ منه مصطلح (ساراسين)، في تعبير مختزل عن الجماعة (العرب)، أو (المسلمين)، ومعناه لديهم: (عبيد سارة)، كناية عن (هاجر)، وصيفة سارة زوجة ابراهيم.
لكن دواوين بني العباس، لم تتضمن سجلات اكتتاب تلك الجماعات والجمعيات، ومن وراءها وما وراءها، كما يوجد اليوم في تسجيلات أثينا وروما وبيزنطه. وإذا وجدت، فما أحراها بالتخريب والتلف والحرق بيد الغوغاء، الذين طال عبثهم العباد والبلاد والعمران والمكتبات. وكما يتكرر في تاريخ العراق المعاصر، كلما اضطربت الأوضاع.
ان السؤال الحاضر، ماهية الترف الذي تعيشه جماعات من السكان، لا ينقصهم فيها، غير انتساب لجماعات ومنظمات سرية وباطنية، وتكريس جهودهم وامكاناتهم في سبيلها، وفي سبيل أعمال تخريب واغتيال.
ما علاقة الحزبية والعمل السري بالتخريب؟.. وهل التخريب هو الجهاد، في لغة الدينوية، أم كفاح ونضال في لغة العلمنة؟.. أم التخريب هو الفساد والكذب وسفك الدماء، وكلها من أعمال ابليس؟..
الحزبية: جناية على الحداثة ولغة العصر، ليست سوى بدعة، هرطقة، زندقة، طائفية سياسية. سواء كانت في السلطة، أو معادية. يفتخر الطائفيون بمعاداتهم للدولة والحكومات المتتالية، ويفرحون لموالاتهما العدوّ الأجنبي، في تخريب بلد يعيشون فيه، ويعبثون بمقدراته.
هناك ثلاثة أنواع من الحزبيات التي شهدها القرن العشرون: احزاب عربية قومية، طالبت بالحقوق السياسية والثقافية للعرب في ظل الحكم العثماني، وقد تحللت تلك الأحزاب بعد قيام دول عربية، عقب مساهمتها في ثورة الشريف حسين/(1916م) ضد العثمانيين.
والصنف الثاني هي الاحزاب الشيوعية التي دخلت بلاد العرب، مع الغزو الانجليزي ، وعرفت عقب ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى. ومن تلك الأحزاب، الحركات والمنظمات الشيوعية، التي توزعت نسخ منها في المحيط العربي لفلسطين، والغريب أن تكون تحت اشراف وتوجيه أفراد وعناصر يهودية اشكنازية وشرق اوربية.
الشيوعية: عقيدة وتنظيما، تقنية واسلوبا، هي كيانات سياسية تنسخ العقيدة اليهودية. البناء الحديدي الجامد والالتزام الأعمى، والتبعية المطلقة، والتضحية حتى الموت في سبيل العقيدة والطاعة العمياء للكاهن أو القائد الحزبي.
اليهودية ديانة باطنية غامضة، تستخدم رموز وشفرات وأسماء بديلة غطاء تتحصن وراءه، لتضليل الآخرين. واليهودية تحتقر البشرية، من غير أتباعها، وتسميهم بالكلاب، بلا تمييز. والحزب الشيوعي هو رديف لها في الباطنية والسرّية،والتعويل على رموز وأسماء بديلة وشفرات ملمزة، غطاء لها وعنوانا خارجيا، لا يجوز تعريفها أو كشفها من قبلهم، أو حتى التلويح بوجودها.
لكن ما يمايز الشيوعية السياسية عن اليهودية المذهبية، هو مزاعم الالحاد ونكران وجود (إله) خالق للكون والطبيعة والبشرية. رغم أن كشف دارون (النظرية البيولجية) ظهر عام (1857م)، أي بعد عقد من ظهور البيان الشيوعي تقريبا. وليست للشيوعية عقيدة ثابتة معروفة، سوى الاشتراكية الماركسية/ اللينينية، أو عقيدة (الاشتراكية العلمية) الجامدة، وهي النص المقدس للشيوعية، منذ ظهورها.
لكن الشيوعية هي يهودية وظيفية، مكلفة بتنفيذ أنشطة ومهمات تنظمها القيادة الحزبية المركزية، جوهرها نشر الاشاعات التخريبية للبلاد والسكان، أو القيام بعمليات توزيع مناشير ومنشورات تروج للدعاوي الحزبية والاشتراكية، المتضمنة مفردات العدالة والمساواة والاشتراكية، والمنددة بالظلم والاستغلال، ومعظمها من برامج الثورة الفرنسية/ (1789م).
اشكالية الشيوعية هب المغالاة في موضوع (السرّيّة) و(التنظيم الحديدي)، وموضوع (طاعة القيادة)/(مركزية لا دمقراطية)، وبشكل يجعل كلّ منتم للحزب الشيوعي عبدا مجردا من ارادته وكيانه ورأيه الانساني. عليه أن ينفذ ولا يناقش. وتؤكد ادبيات الشيوعية الأساسية رفضها للدمقراطية، باعتبارها مفهوما ولعبة رأسمالية.
تختار الشيوعية بيئات سكانية مضطربة اجتماعيا، لنشر افكارها، واقناع أفرادها بأحلام العدالة والمساواة والاشتراكية المطلقة، والتي سوف تتحقق قريبا، بتكاتف الجهود ضد الرأسمالية والرجعية والامبريالية. وهاته الكليشة تتكرر منذ العشرينات حتى نهاية الزمان. وأنصارها لا يتعبون من الاجترار.
والعراق، بتشكيلاته الفسيفسائية المضطربة، أفضل سوق لترويج الماركسية، ولا غرابة، أن تجد (النجف)/(ايرانية شيعية) المركز الرئيس للنشاط الشيوعي في العراق، بينما يشكل العراق الجنوبي، ميدان حركته ورواجه.
وعلى العموم، ينشط الشيوعيون في صفوف الأقليات الأثينية والطائفية، فيما يتخذ من الأغلبيات السكانية الوطنية، عدوا برجوازيا وشوفونيا لمعتقداته وبرامجه.
لا يسعى الحزب الشيوعي للسلطة/(في نسخته التقليدية)، ولا يعتبر نفسه حزبا ثوريا/(رغم أنه يستخدم العنف السري والتصفوي داخله)، وينسب نفسه لحركات الاصلاح والحداثة والتنوير، ودعم الفئات المظلومة والمستغَلة.
عموما، تلتف الحركات الشيوعية بخيوط متداخلة من حبال وحرير ومزوقات لفظية وأغطية متعددة من الأسرار والباطنية، فلم يعرف عنها نشاط حزبي علني أو مؤتمر حزبي مفتوح، وكل شعاراتها وبرامجها مراوغة للواقع السياسي والمجتمعي.
ويبدو أنه حتى كوادرها العليا، لا تعرف حقيقة ما يجري ويدور في القيادة العليا، أو (ذهن الزعيم) الذي يحظى بقناع من الستر والتقية، يشبه قيادات الماسونية وأسرارها.
سواء كان التنظيم الصارم، يقارن بالماسونية أو المآفيا، فأن عضوية الشيوعية باتجاه واحد، ولا خروج له طوعا، ولا تقبل الاستقالة. والطرد الحزبي هو بمثابة اتهام العضو بالخيانة، مما يجعل المعني يعيش حالة قلق ورعب مما يمكن أن يحيق به.
لكن هذا لا يعني شيوع الفساد والاتكالية والتواكلية والمحسوبية والشللية بين المنتسبين اليه. ولقد كان للشيوعية دور ويد في كل برامج الخراب والدمار الوطني، ولا يسجل لها التاريخ مأثرة وطنية أو قومية. فكان عدوا مع الاعداء، ومحايدا مع الاصدقاء.
للحزب موقف واضح ومعتم من القضية الفلسطينية، وهو يعتبر نفسه شقيقا لحزب راكاح الاسرائيلي. وبالتالي، لا يجمعه شيء مع مطاليب وحقوق الشعب العربي الفلسطيني. ومن المؤسف أن يتحدث البعض عن حزب شيوعي فلسطيني، يمثل البرجوازية والارستقراطية الفلسطينية، ضدّ مطاليب ومعاناة الطبقات الفلسطينية الكادحة.
الصنف الثالث من الحزبية، هو المعروف بالتيارات القومية. ومنها حركة البعث العربي ، في فترة ما بين الحربين، والتيارات الناصرية، الموالية لكارزما الرئيس جمال عبد الناصر [1918/ 1952- 1970م]، ودعواته للوحدة العربية وتوحيد العرب.
وكلتا الحركتين قامتا على جوهر عقيدة واحدة، تعتبر القضية الفلسطينية: محور القضية العربية الثورية، من جهة؛ ومن جهة أخرى، كان ظهورها في الأساس، للحدّ من تمدد الحركة الشيوعية في المحيط العربي.
وقد تخذت الناصرية والبعثية من مكافحة الحركة والافكار الشيوعية هدفا تنفيذيا لها، في مجال نفوذها السياسي.
ولكن الحركات القومية والوطنية، البعثية والناصرية والقومية العربية، تراجعت واختفت في غالبية بلاد العرب، فيما عادت الشيوعية ومعظم الحركات التخريبية والجمعيات السرية المعروفة وغير المعروفة، للنشاط في بلاد العرب، في ظل الهيمنة الأميركية، والحكومات الممالئة لها.
وبدل أن تتخذ الحركات الشيوعية مواقف معارضة ومناهضة للرجعية الدينية والسياسات الامبريالية والرأسمالية المتوحشة، حسب شعاراتها القديمة؛ فقد اندمجت في العملية السياسية في العراق، كما تقاربت مع جماعات دينية أخرى، وكأنها تستغل سياسات التكتيك إلى اقصى ممكناتها، وتنتهج ميكافيللية، تضيفها لما في أرشيفها من مثالب ومآخذ وأسرار، جعلتها حارسا دوليا لكل من الصهيونية والامبريالية والرجعية الدينية المناوئة للوحدة والتنمية الوطنية ومشروع التقارب العربي الاقليمي.
والسؤال، ماذا يبتغي الناس من وراء انتسابهم للحزبيات، وكأنهم تحرروا من روابط القبيلة والعشيرة والمذهب والطائفة والجماعة الدينية؟.. أم أنهم ينتقلون ويلتصقون بكلّ ما يتوسمون فيه الدّسم، وضمن لهم سلّما للصعود الى السلطة، واكتساب المنافع والفرص المادية والوظيفية..
هل الانسان كائن غريزي طفيلي، أم هو كائن سياسي انتهازي؟..



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تفكيك العنف وأدواته.. (29)
- تفكيك العنف وأدواته.. (28)
- تفكيك العنف وأدواته.. (27)
- تفكيك العنف وأدواته.. (26)
- تفكيك العنف وأدواته.. (25)
- تفكيك العنف وأدواته.. (24)
- تفكيك العنف وأدواته.. (23)
- تفكيك العنف وأدواته.. (22)
- تفكيك العنف وأدواته.. (21)
- تفكيك العنف وأدواته.. (20)
- تفكيك العنف وأدواته.. (19)
- تفكيك العنف وأدواته.. (18)
- تفكيك العنف وأدواته.. (17)
- تفكيك العنف وأدواته.. (16)
- تفكيك العنف وأدواته.. (15)
- تفكيك العنف وأدواته.. (14)
- تفكيك العنف وأدواته.. (13)
- تفكيك العنف وأدواته.. (12)
- تفكيك العنف وأدواته.. (11)
- تفكيك العنف وأدواته.. (10)


المزيد.....




- سلاف فواخرجي تدفع المشاهدين للترقب في -مال القبان- بـ -أداء ...
- الطيران الإسرائيلي يدمر منزلا في جنوب لبنان (فيديو + صور)
- رئيس الموساد غادر الدوحة ومعه أسماء الرهائن الـ50 الذين ينتظ ...
- مجلس الأمن السيبراني الإماراتي يحذّر من تقنيات -التزييف العم ...
- -متلازمة هافانا- تزداد غموضا بعد فحص أدمغة المصابين بها
- ناشط إفريقي يحرق جواز سفره الفرنسي (فيديو)
- -أجيد طهي البورش أيضا-... سيمونيان تسخر من تقرير لـ-انديبندت ...
- صورة جديدة لـ -مذنب الشيطان- قبل ظهوره في سماء الليل هذا الش ...
- السيسي يهنئ بوتين بفوزه في الانتخابات الرئاسية
- الفريق أول البحري ألكسندر مويسييف يتولى رسميا منصب قائد القو ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - وديع العبيدي - تفكيك العنف وأدواته.. (30)