أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد علاء الدين عبد المولى - الحداثة الشعرية من أوهام التلقي إلى المستقبل















المزيد.....


الحداثة الشعرية من أوهام التلقي إلى المستقبل


محمد علاء الدين عبد المولى

الحوار المتمدن-العدد: 1512 - 2006 / 4 / 6 - 07:31
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


الحداثة الشعرية بعد أكثر من خمسين عاماً

تغتنم الأفكار التالية مناسبة خمسين سنة من الحداثة الشعرية – والتحديد الزمني تحديد إجرائي بطبيعة الحال – من أجل الإعلان عن ضرورة قراءة التجربة في نصف قرن قراءة متأنية وشبه جديدة، وأن نكف عن تكرار ما قرأناه حول نشأة القصيدة وجذورها وتراثها، إلا إذا كان الكلام يفتح باباً جديداً متميزاً على نقد الحداثة. من هنا أرى أن حركة الحداثة الشعرية لم تستطع حتى الآن أن تنتج ناقدها المختلف. فناقد هذه الحداثة لم يستطع حتى الآن الخروج من سلطة الكثير من التصورات السائدة المكرسة منذ خمسين عاماً، فيما يتعلق مثلاً بريادة بعض من شعراء الحداثة وأهمية البعض الآخر. فما زالت حتى الآن تبرز تساؤلات من قبيل: من أول من كتب على وزن التفعيلة، ومن أول من بشّر بقصيدة النثر... الخ وكم من الأيام يفصل بين نشر "الملائكة" لقصيدتها ونشر "السياب" لقصيدته، ولم يبق إلا أن ينشغل بعض نقدة الحداثة بتحديد كم ساعة تفصل بين القصيدتين، أو تحديد الزمان استناداً إلى الفروق بين الشهر الشمسي والشهر القمري. وكأن مجد الحداثة متوقف على " كوليرا / الملائكة " أو " هل كان حباً / للسياب ". ولم يستطع ناقد الحداثة بصورة مجملة التجرؤ على هؤلاء الأساتذة الأفاضل وأن يقيم تجاربهم الأولى واضعاً إياها على المحك الرئيسي ليكتشف مدى الخواء والهشاشَة الذي تتمتع به تجارب الرواد خاصة " الملائكة – عبد الصبور – حجازي – الحيدري – البياتي ". بل لقد هيأ مناخ عربي غير متكافئ ولا سليم في أبعاده الثقافية والنقدية نقادا " كباراً " يكرسون هؤلاء، ويصنعون منهم جيلاً من الأنبياء البررة الذين لا يخطئون ولا يسيئون الفهم. حتى تحول الرواد بنتاجهم إلى مسلمات لا تاريخية، أي فوق النقد والتحليل.
ففي ملفّ من حلقات حول "خمسين عاماً من الشعر الحر" أنجزته جريدة "الشرق الأوسط"* يقول فيه " فاروق شوشة " في مداخلته التي ساهم بها:
(( وصلت القصيدة الجديدة إلى تمام نضجها واكتمالها على أيدي شعراء الستينات على مستوى الوطن العربي كله، وهذا هو الذي أتاح المجال لبروز موجة السبعينيات والثمانينات وحتى السبعينات)). ويكاد شوشة أن يقول موجة القرن الواحد والعِشْرين...
إن الذي أعلنه "شوشة" يعتبر خلاصة لكثير من الأفكار الجامدة والكاسدة التي تختزل تجارب الإبداع لدى الأجيال المتعاقبة في حقبة مقدسة أصلية عاشها جيل رواد صوّر لنا وكأنه نصٌ منزل، ومشتملٌ على الحقائق والأساليبِ والصورِ والتقنياتِ والرّؤى جميعها، وما علينا نحن إلا أن نتبعه وندور في فلكه، ونرجع كل ما نكتشفه وما نبدعه إلى هذا النص المقدس الشمولي. وإذا كانت بعض الأصوات النقدية المختلفة بدأت تظهر لتعيد تقييم هؤلاء على ضوء المكاشفة النقدية الحرة والتي لا تعتمد مرجعية خارج المشروع النقدي الديمقراطي، فإن ذلك يعني أن الأجيال الأخرى أخذت تفصح بوضوح عن تذمرها من كهنوت الرواد وهياكلهم الملمعة بشكل اصطناعي. إن ما نطالب به من قراءة إبداعية للجيلِ الأول من الحداثة الشعرية – وأخصّ الأسماءَ التي ذكرتها آنفاً – هو مطلب مشروع وحقيقي، مع أننا ندرك تعلقه بتطوير أدواتنا النقدية ومفاهيمنا حول الحداثة والإبداع، وهذا كله لا يولد إلا في مناخ ثقافي عربي يسوده النقد الحواري المفتوح والحرص المطلق على صياغة مستقبل مختلف لمسار الحداثة الشعرية.
على أن ملاحظتنا هشاشة بدايات جيل الرّواد لا يعني أن واقع الحداثة الآن مثالي وخلاق إلى المستوى المطلوب، بل لقد تراكمت رداءاته وتشعّبت عناصر فساده إلى درجة أننا سنرتبك كثيراً ونحن بصدد تحليل هذا الواقع، وسنصاب بدوار أمام الهدير المخيف من الانحطاط في واقع الحداثة.
ولكن هل نستطيع الزعم بأنه كلما ارتفعَ الخطّ البيانيّ للرداءة والإسفاف، أصبحت الفرصة متاحة أكثر لتحديد خط بياني مضادّ يتعلق بالإنجاز المهم للحداثة الشعرية، والمستوى العظيم الذي تصل إليه في بعض أصواتها؟ هل نستطيعُ في هذه الفوضى والعماء أنْ نتلمس أكثر وبصورةٍ فعالةٍ الضوابطَ والنورَ؟
استناداً إلى هذه اللّحظة المزدوجة إذاً – الانحطاط / الضوابط – نستطيع أن نستقرئ مستويين متزامنين / متناقضين من الحداثة الشعرية الآن:
المستوى الأول تصنعه كتابة هلامية زئبقية لا كيان لها ولا آفاق توحي بها أو تؤشر إليها. إنها كتابة تمارسها أجيال مختلفة، قديمة وجديدة، معروفة ومغمورة، تفعيلية ونثرية. وهو مستوى ترحب به مؤسسات الثقافة العربية البائسة كثيراً لأنه مستوى يُسقِطُ المسؤوليةَ عن أيّ كان تجاه التاريخ والمستقبل، فنراه موجوداً في الكتاب والمجلة والمهرجان والوطن والمنفى. وهو مستوى شائع بكثرة لا توصف.
أما المستوى الثاني فهو الخلاّقُ الحقيقي الإبداعي الذي تصنعه كتابة تؤسس لذاتها بذاتها وتكتشف إمكانياتها وتمتلك المسؤولية والحس التاريخي بأهمية ما يجب أن تلعبه من دور وتأثير. إنها كتابة تلتزم تقديم النص المختلف الفريد الذي يؤدي دوراً جمالياً راقياً، ويشيع في المتلقي صدمة وقلق البحث عن الذات والسؤال عن الوجود والزمن والأرض والله. وهي لا تفقد علاقتها بالانتماء إلى التاريخ، بل تفعل هذا الانتماء ليصبح انتماء إلى مساحة وطنٍ يمتدّ من الجغرافيا إلى الروح إلى الحلم، انتماء إلى المكان بما هو نافذة على العالم جميعه ضمن شروط عدالة وحوار يحفظ الجوهر والكرامة. وهذا مستوى غالباً ما يجد نفسه معزولاً في الأوساط المحافظة – وإن ادّعت علاقةً بالحداثة والمجتمع المؤسساتي – كما يجد أنه يضطر دائماً للدخول في مواجهات نقدية إبداعية مع الواقع الثقافي العربي المتخلف، من أجل تحقيق غاياته المشروعة في التأسيس لتفكير نقدي مغاير، وكتابة إبداعية لا ترضخ لاستحقاقات الجمود والرؤى المنغلقة. وفي هذا المستوى يكتب أيضاً بعض من تبقى من الأجيال القديمة المؤسسة، وبعض من الأجيال الجديدة على امتداد الوطن العربي.
وبين المستويين فارق نوعي على أساسه تم هذا الفرز، وهو: قدرة الكتابة الشعرية على تحقيق أولويات بارزة أهمها :
1- امتلاك وعي حداثي ذي ملامح ثقافية إبداعية مرتبطة بتاريخ الكتابة العربية، وتتشكل منها هوية واضحة للكتابة.
وهي هوية على أي حال منفتحة وقيد الإنشاء والتبلور وليست معطى ناجزاً كما تتفق دراسات أخيرة.
2- امتلاك الكتابة لصفات الإبداع حقاً، وعدم التكرار والتشبه بالكتابات الأخرى، كتابة خاصة تطرح مشروعها الذاتي بثقة وجدارة.
3- وهذا يتطلب عدم الاستخفاف باستحقاقات المشروع الإبداعي ككل، والانطلاق من الإحساس بالمسؤولية أمام الذات والأمة وإبداعها. فهي أمة لفظت وتلفظ وستلفظ كل من يتسلق شجرةَ إبداعها الضخمة بصورة طفيلية صبيانية. إن الشعور بالمسؤولية أمام الذات والآخر والتاريخ يقتضي من (كتبةِ الشعر) الآن ومستقبلاً أن يحاكموا أنفسهم قبل أن يحاكمهم الآخرون، خاصة وأن الكثيرين منا يشوه الروح وعلاقتها الجمالية بالأشياء والكتابة والعالم، ويفسد أصالة الإبداع وينفر الآخرين من التواصل مع الشعر الحديث.
4- ضرورة أن يتمتع أصحاب الكتابة الحديثة بقدرة الإصغاء إلى النقد الثقافي المؤسس على أهداف وغايات بناءة، وهذا ما يفتقده عدد غفير من كتبة الشعر الحديث بكل أجياله الرديئة والمميزة.

الآن، ماذا يمكن أن نقدمه عن علاقة المتلقي بالكتابة الحديثة ونحن نقف في العام الخمسين لهذه الحداثة ؟
أولاً سينحصر الكلام هنا على مستوى الحداثة الثاني الخلاق والمؤثر والمنتمي. فأمام هذه الحداثة ما زال المتلقي:
1- يجزّئ الحداثة، فيؤمن ببعضها ويكفر بالبعض الآخر، وهذا ضد منطق الحداثة نفسها، فهو متلقّ يفصل بين علاقته بالنص الحديث وعلاقته بالعقل الحديث والمجتمع الحديث، بما تعنيه الحداثة من موقف كلي وشمولي من الحياة والدين والدولة والسلوك والعائلة والفكر... الخ. وهذه ظاهرة معقدة وتعبر في أقل تقدير عن انفصام في المفاهيم و تناقضات لا تساعد على بناء الشخصية الحديثة بل يساعد على انهيارها.
2- هناك قراءة للحداثة مستندة إلى آليات مسبقة تعتمد في الذهن نمطاً معيناً للحداثة تريد البحث في كل ما ينتج عنه.
نمط واحد على صعيد الشكل والجمال والرؤيا، نمط يتم تداوله وتعميمه والركون إليه. هذا بسبب عدم قبول للنماذج المختلفة الجديدة من الإبداع الشعري. وهذه قراءة يسودها تثبيت الزمن على لحظة ما، أو تجربة ما، فيتحول الزمن إلى أصلٍ يحتذى به. لذلك تكثر المقارنات بين شاعر وشاعر قبل: هل كتب مثله ؟ هل جرّب مثله ؟ هل تخيل مثله ؟ إذا لم يفعل ذلك تسقط عنه صفة الإبداع. وهذه قراءة تابعة – في بنيتها العميقة – من ثقافة دينية ثبوتية وثوقية.
3- ما زال المتلقي بشكل عام يريد من الحداثة الشعرية أن تقوم بوظيفة اجتماعية وسياسية وأخلاقية، ولهذا يقرأ وهو مؤمن أن قصيدة ما ستنقذه من جوعه وتشرده، أو سوف تربي القصيدة أولاده على السلوك الحسن والأخلاق الحميدة. إن هذا المتلقي ما زال يحاور الشعر من خارج طبيعته وعالمه، غير قادر على استيعاب أن القصيدة ليست مؤسسة اجتماعية توزع مواد التموين، وليست مؤسسة عسكرية تحرر الأرض وليست منبراً فقهياً لإذاعة أخبار ابن تيمية وتحركاته وأشكال غذائه ولباسه ...
4- المتلقي خائف من كل تجربة جديدة، ولا يستطيع التعامل مع التجديد والتحديث إلا بحذر، لأن قوة التحديث تزلزل أعماق الذهن وتقذف به في لهب الشك والتناقض، وتدعوه إلى التغير وعدم الثوابت الجامدة المعيقة للحياة. وهذا ما يحدث للأسف حتى في أوساط الشعراء أنفسهم عندما يقرأون بعضهم وعندما تختلف تجاربهم وأجيالهم وطبائعهم.
ونستطيع وصف هذه الحالة بعدم تكيف الإنسان مع ما هو جديد، وعلى ما أعتقد فإن عدم التكيف هذا مؤشر على خوف الشخصية مما تتخيله سينقضّ عليها ويخلخل بنيتها...
5- وقوع هذا المتلقي ضحية لعدد من العوامل الموضوعية التي تشل حريته الداخلية، وقدرة الابتكار لديه. فهو يخاف كما أشرت من التجريب، ولا يغامر، ويتشنج وهو يقرأ، وليس في أعماقه حالة انفتاح على الذات ثم على الكون ليرى أن الكون أوسع من الأرض التي يقف عليها. إن علاقة هذا المتلقي مع ذلك الكون ومع الذات ليست سليمة ولا ديمقراطية، لأنه في الأساس كائن مستلبة منه شروط التفتح والابتكار، ومسروقة من بين يديه شعلة الديمقراطية. إن هذه العوامل الموضوعية تخلق ذهنية مشلولة وتهيئ للشخصية عومل ذاتية تترسخ في الذات وتبلور الكيان وفق غايات مشوهة. إن الخوف يصبح سمة للشخصية، والتشنج في العلاقة والحوار يدخل في أساس العلاقة مع الكتابة الشعرية.
6- وقوع المتلقي، والمتابع الثقافي بصورة عامة كذلك، ضحية ما أدعوه (( إرهاب المصطلحات )) والكتابات التنظيرية المبهمة للشعر الحديث، التي تزعم أنها تمتلك الوصفة السحرية لفهم الحداثة. وتوحي للآخرين بأن أصحابها هم من العارفين الذين كشفت لهم حجب المعارف الشاملة من شؤون الله والفلسفة إلى الأسطورة والتاريخ والمرأة والمستقبل. وبدلاً من أن تكون كتابات الكثير من (كتبَةِ) النقد الحديث كشوفاً للقارئ يتمثلها ويجد فيها معالم على الطريق، تكون عكس ذلك، وتزيد من متاهة هذا القارئ المسكين، بل إنها تخرب ذوقه وتجعله عاجزاً عن التّواصلِ مع الكتابة.

وفيما يتعلق بعلاقة المتلقي بالحداثة الشعرية، نقرأ لـ "أدونيس" ما كتبه حول علاقة القارئ، والجمهور بالحداثة:
(( إن الذّهنَ العربي مليء بآلهة لا يمكن الشاعر الحقيقي إلا أن يصرخ في وجهها الصرخة التي أطلقها بروميثيوس وتبناها ماركس: أكره جميع الآلهة. وليست الآلهة هنا آلهة السماء وحسب، وإنما هي آلهة الأرض أيضاً. ليست آلهة الاقتصاد والسياسة وحسب، وإنما هي آلهة الأدب والفن. وإنه لأحبّ عند هذا الشاعر، إذا كانت المسألة مسألة اختيار، أن يظل دون قراء، من أن يكون مغنياً في قصور هؤلاء الآلهة، قصور الأفيون، والضياع. وليست الكتابة بلغة هؤلاء الآلهة، السائدة، المعممة إلا مشاركة في تعميم الاستلاب )).
ويتابع: (( ولا بد من التوكيد هُنا على أنني لا أقصد أن أعزل الشعر عن الجمهور أو الحياة العامة أو أقول أن الشعر ظاهرة كافية بذاتها. ذلك أن الشعر مرتبط عضوياً بالحياة العامة، وهو، جوهرياً، سياسي. وإنما أريد أن أشير إلى أن الشعر نتاج فعالية عالية، ولا ينتج تأثيره الصحيح إلا في جمهور يقدر أن يتجاوب مع هذه الفعالية، أي مع جمهور مسلح بالثقافة الفنية العالية. خصوصاً أن الجمهور، على الصعيد الفني، هو غيره على الصعيد السياسي، مثلاً. فهو في الفن لا يمكن أن يكون كميّاً أو عددياً )). ( * )
***
لا يمكن الحديث عن خمسين عاماً من الحداثة الشعرية من غير أن نتوقف عند لعبة التنبؤات المستقبلية، والتساؤل حول مستقبل الشعر والإبداع، خاصة وأن كثيراً من الأطروحات تدعي لنفسها العمل على توضيح خيوط المستقبل للشعر وغيره. ولكيلا نقع في التوهمات والضرب بالغيب، فإننا نفضل أن نَضَعَ التساؤلات حول المستقبل موضع النقد هي الأخرى، كما نفضل أن نستكشف بعضاً من مهام الحداثة الشعرية في المستقبل، وليس مستقبل الحداثة.. والمهام التي نأمل أن تكون في سلم أولويات الحداثة هي مهام مطروحة عليها راهناً ومستقبلاً معاً، وهي تتوضح أكثر من خلال ما تتعرض له الحداثة الشعرية الآن من انتكاسات وتخبط في الرؤى والإنتاج. إن على الحداثة الشعرية أن تشق طريق المستقبل وهي تنفض يدها – أو على الأقل تحاول – من أخطاء الماضي والراهن التي أساءت إليها وعطلت نموها في بعض المواقع، وأن تحسن أداءها معتمدة على تصورات أساسية يمكن للمتابع أو للناقد الأدبي أن يتلمس بصورة أولية بعضاً من ملامحها:
1) سعي الحداثة إلى أن تضبط آليات عملها وأن تبلور أشكال هذا العمل بعيداً عن الضجيج الأيديولوجي كيفما عبر عن نفسه، لأنه أطاح بالكثير من إمكانياتها التي ما تزال كامنة. فتذهب باتجاه إنشاء نظام جمالي / معرفي / فني / ثقافي لهذا الأداء، وذلك كلما وعت هذه الحداثة مخاطر الفوضى الزاحفة عليها، مع ما يعنيه ذلك من تطوير ما بدأته أسماء شعرية جديدة متطورة من إدراك ضرورة حسم العلاقة المريضة بين الجمالي والسياسي في الإبداع، وانتصار الجمالي على الأيديولوجي في كثير من المواقع الإبداعية، وانصهار الأيديولوجي في هذه المواقع بلغة الشعر، خاصة بعد أن انكسرت كثير من التجارب السياسية والاقتصادية التي كانت تستلزم لخدمتها شعراً ونثراً وفناً ونقداً ...
2) مع إيماننا بأن العالم يزحف باتجاه الرموز العلمية والإشارات ومراكز القوى المادية المتصارعة التي سيكون (الروح) ضحيتها الأولى والأهم، فإننا نؤمن في المقابل بأن الحداثة الشعرية خاصة لا يمكن أن تواجه هذا المستقبل بشكل محايد، لأنه هو أيضاً مفرز من مفرزات الحداثة الشاملة نفسها.. على الحداثة الشعرية أن تعي موقعها جيداً، الموقع المختلف عن موقع الآلة وحداثة صناعة الحروب وتنمية الخراب هنا وهناك في أماكن مهمة من أرض البشر والروح، وأن تعتقد هذه الحداثة أن لها مكاناً بارزاً في الأرض، وأن للشعر أرضاً في هذه الأرض، ومكانة ليس من الطبيعي أن تزول ولا يملك أحد القدرة على تسويغ زوال الشعر مهما كانت المبررات، ومهما استخفت امبريالية البطش والنهب والقبح بإمكانات الشعر. بل نرى أن البحث عن الشعر- بما هو نشاط إنساني حضاري يتصل مباشرة بعمق الروح البشري وحاجات هذا الروح وأحلامه – سوف يزداد حدة وأهمية، وعلينا أن نترك للأجيال القادمة ما تجده بين أيديها تتنسم منه أسباباً مهماً للحياة...
3) سيزداد إيماننا مستقبلاً أن "اللغو" شيء و " لغة الشعر " شيء آخر مختلف. ووعينا بهذا والتأكيد عليه سيسهل الفرز النقدي والحقيقي الحاسم بين المستويات والقيم. وهذا يفترض محاربة اللغو والهذيان عندما يتحولان إلى هدف وأداة في الشعر، مع التنبيه إلى إمكانية الاستفادة من الهذيان واللغو عندما يدخلُ كل منهما كعنصرٍ جزئيّ يخدم (النظام) الذي يتشكل وفقه النصّ الكتابيّ. وهذا عندما نحارب من أجله، نكون قد وضعنا الإبداع على أول طريق التواصل مع الإنسان وقدراته، خاصة أن الإنسان العربي – بعد خمسين عاماً من الشعر الحديث – ما يزال يقرأ شعراً ما أنزل به من سلطان، ولا يجرؤ هذا الإنسان غالباً على البوح بأنه لا يفهم، وهو فعلاً يكون في حالة انعدام الصلة مهما كان نوعها مع كثير من هذيانات شعرائنا وكتاباتهم التي تولد وهي غير معنية بأي حوار مع الآخر، والشعرُ مهما دخل مناطق اللاوعي والغموض أو انبثق منها، يبقى في نهاية الأمر وفي عمقه علاقةً مباشرة مع الآخر. وفي هذه المناسبة أستطيع كشاعر أن أتجرأ وأعلن أني لا أفهم كثيراً من شعرنا المكتوب من المحيط إلى الخليج، لأنه في الأصل شعر مكتوب في الفراغ ومن الفراغ، وأني في هذه الحالة مضطر لقراءة شعر عدد من شعرائنا البارزين في التراث والمعاصرة ممن يكتبون (قصيدة البيت) لأمارس حقي – كقارئ – في إقامة علاقة جمالية حقيقية مع الشعر...
4) في الوقت نفسه على الحداثة الشعرية أن تجد الفرق بين لغة الحياة اليومية ولغة الإبداع، وقد أثبتت تجارب فنية كثيرة فشل الدعوة إلى التصاق الشعر بلغة الحياة اليومية العادية كما طرحها كثير من النقاد والمنهمكين بشعارات "الفن في خدمة الشعب" مثلاً. حيث أن المتابع يستطيع أن يكتشف ردة حقيقية حتى لدى كتّابِ (قصيدة النثر) بصفة عامة، تمثلت هذه الردة في تنظيف لغتهم من الثرثرة وابتذال النثر والأحاديث التي تدور في طوابير العامة وحافلات النهار وخمارات الليل. إن هذا عندما يُنظَرُ إليه في دلالته العامّةِ أمر مهم، فهو يعني وعي الشعراء – أو وعي قسمٍ منهم بشكل أدقّ – أن علاقة الشعر بلغة الحياة اليومية والنثرية كانت علاقة يشوبها خلل خطير لم يكن في مصلحة الشعر كإبداع استثنائي، بل كانت علاقة تحطم شيئاً فشيئاً جوهر العلاقة مع الشعر.
5) نخلص من ذلك إلى أن العالم عندما تحكمه لغة الكمبيوتر والشيفرات، ويزداد اعتماده على النص المكتوب الموثق، بما يعنيه ذلك من ترسيخ للكتابة وليس للنص الشفوي الرعوي، يعني أننا بدأنا نعي ضرورة النظر إلى إبداع الشعر على أنه نص يكتب في النهاية بكل ما يعنيه فعل الكتابة من ممارسةٍ واعيةٍ حضاريةٍ، وانتقال من البدائية إلى الحالة الأكثر تقدماً. وهذا يحمل تغييراً حتى في مسألة العلاقة بين المتلقي والشعر، فسيجد هذا المتلقي نفسه رويداً رويداً مطالباً بالدخول في حوار حضاري طويل الأمد مع النص، بكل طاقاته البصرية والوجدانية والعقلية، غير مكتف بالسماع والطرب.
وهذا لايعني دعوة إلى إلغاء القاء الشعر كما قد يتبادر إلى الذهن، بل يعني أننا حتى لو اضطررنا إلى سماع الشعر فعلينا سماعه بكامل كياننا الإنساني، وليس فقط بالأذن، وهو ما اعتدنا على الاستسلام له والترويج له بحجة أن الشعر للإنشاد والتطريب، في حين أنه إذا ارتبط بهاتين الوظيفتين، فذلك لفترة معينة وظروف مختلفة عن الظروفِ التي نستكشفها الآن وندعو إلى تغيير نمط علاقتنا بالشعر بناء عليها. مع التذكير بمخاطر علاقتنا السماعية بالشعر وحدها، فهي تبيح لكمّ غفيرٍ من أشباه الشعراء وأنصاف الموهوبين أن يكتبوا همومهم على ضوء القمر وأمام زهرة من الحبيبة أو في لحظة غضب من العالم، بطريقة غنائية رخيصة سهلة التناول تحول الشعر إلى آهات وليال وأشواق فقط، يطرب لها السامعون ...
وقد بدأت تظهر منذ سنوات أعمال شعرية هنا وهناك يمكن ذكر أسمائها فقط للاستدلال على أنَّنا نتّجه إلى كتابة الشعر وليس فقط إنشاده وتطريب الأذن من خلاله. (كتاب الماء – كتاب الجمر – محمد الغري) (الكتب السبعة – سميح القاسم) (كتاب الموت – أحمد الشهاوي) (دفتر الأحوال والمقامات – زهير أبو شايب) (دفاتر الغيم – يوسف عبد العزيز) (كتاب العناصر – محمد أحمد القابسي) (ديوان الزخرف الصغير – مصطفى خضر) (كتاب المائدة – محمد عمران) وأخيراً (الكتاب – أدونيس) ... ويمكن لي أن أرى في (الكتاب – أدونيس) صيغة مناسبة مبشرة ومفتوحةً لما سيكون عليه النص الحداثي المكتوب مستقبلاً.
6) على النص الحداثي الشعري ممثلاً برموزه المهمة التي ولدت منذ عقدين من الزمن أو التي ستولد، أن تسعى إلى تحقيق هدف التراكم النوعي في الكتابة من أجل ضبط مسار تطوّرِ الشاعر بشكل أوضح. ولم يعد مقبولاً أن يقفز الشاعر من تجربة إلى تجربة بهدف التجريب وحده، فالتجريب يصير تخريباً عندما لا يراكم ولا يساعد على تأسيس نظم عامة تحاور من خلالها التجارب. وهذا يستدعي أن نطور وظيفة الشاعر كشاعر، فهو ليس كاتباً للقصائد فقط، بل هو مثقف نقدي واع لمهامه الفنية وقدراته الشعرية وكيفية تطوير أدواته بين حين وآخر بشكل مدروس. إنني أدعو في مقام الحديث عن خمسين عاماً من الحداثة الشعرية الشعرية إلى ولادة الشاعر الذي يحمل في داخله ناقداً، وعندها سنرى كثيراً من مساوئ شعرنا قد أخذت طريقها إلى الحل، ولو بشكل مبدئي.
أخيراً – وليس آخراً –
تبقى قائمة الآمال مفتوحة إلى ما لانهاية، ويحدد تنوع هذه الآمال على مستقبل الشعر الحديث ، ما نعيشه من إحباطات وشتات بات من الضروري معهما أن نعلن بدء العمل لصياغة جغرافيا إبداعية بنّاءة على خريطة المستقبل.*



#محمد_علاء_الدين_عبد_المولى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأبين شارع شجر الغوطة
- من محمد الماغوط إلى القصيدة الشفوية
- يوم من شعر أبد من وجود
- دعوة للخلاص من جبهة الخلاص الخدامية
- بورتريه لغياب دمشق - إلى غادة السمان وخيري الذهبي
- قصيدة النثر بين أزمة المرجعية ومرجعية الأزمة
- من نصوص الحب
- إشارات حول طفل القصيدة
- حدود التناصّ والتأثر جمانة حداد وصباح زوين نموذجاً
- توضيح آن أوانه من شاعر سوري حول المشاركة في نشاطات ثقافية بم ...
- مداخلة انتقادية حول بعض ما يجري من تحالفات داخل المعارضةالسو ...
- تصدعات روح المغني
- خماسيات
- في مديح النهدين
- رثاء لصهيل االفكرة
- الأرض تمدح نفسها
- قصيدة مهداة إلى مروان البرغوثي وأحمد سعدات وجميع المحاصرين
- قلق صيّاد المجاز
- نثريات أخرى للحب
- نثريات للحب / مقاطع


المزيد.....




- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...
- جهاز كشف الكذب وإجابة -ولي عهد السعودية-.. رد أحد أشهر لاعبي ...
- السعودية.. فيديو ادعاء فتاة تعرضها لتهديد وضرب في الرياض يثي ...
- قيادي في حماس يوضح لـCNN موقف الحركة بشأن -نزع السلاح مقابل ...
- -يسرقون بيوت الله-.. غضب في السعودية بعد اكتشاف اختلاسات في ...
- -تايمز أوف إسرائيل-: تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن ...
- الحرب الإسرائيلية على غزة في يومها الـ203.. تحذيرات عربية ود ...
- -بلومبيرغ-: السعودية تستعد لاستضافة اجتماع لمناقشة مستقبل غز ...
- هل تشيخ المجتمعات وتصبح عرضة للانهيار بمرور الوقت؟


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد علاء الدين عبد المولى - الحداثة الشعرية من أوهام التلقي إلى المستقبل