أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهدي شاكر العبيدي - الجواهري في عيون معاصريه















المزيد.....


الجواهري في عيون معاصريه


مهدي شاكر العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 5964 - 2018 / 8 / 15 - 18:55
المحور: الادب والفن
    


الجواهري في عيون معاصريه
مهدي شاكر العبيدي
أوستن - تكساس
بعد ثلاثة أسفار ضافية تتقرى شعر الجواهري وتجهد في تحري فنيته وتكيفه لمستجدات الزمن ، بقدر ما تحرص على توقيته من أن يرام بآسم النقد الأدبي لغوياً كان أم تفسيرياً ، وذلك يشيع عادةً ويفشو في نوادٍ يغشاها الجمهور القارئ ، ليتسمع ما لا يعجبه ويروقه من ألوان التخرص والاِقدّاع ، من قبيل افتقاده لمعاشر قرائه ومتذوقيه منذ مضي قرابة عقدٍ من الزمن عقيب الحرب العالمية الأخيرة ، وصارت الأجيال المتأخرة تلوها تنظر اِليه ( كأنه صوت آتٍ من بعيد ) ، لسبب تطول الشاعر نفسَه تبعتهُ بقدر ما ، جراء مكوثه خارج البلاد ومفارقتها على الكراهة غير مرة ، يضاف إلى هذا ما مُني مجموع شعره به في الداخل من المصادرة والمنع من لدن غالبية الحكومات ما بعد حركة تموز سوى أويقات تبدى أثناءها مصافياً متصالحاً مع الأولى قبل أن يُراع و يستهجن بعض إجراءاتها ، فيميل لمناصبتها العداء من غير نكران لأصطفافها بجانب المستضعفين وسعيها للتخفيف عنهم أوزارهم الثقال ، أو متهادناً ردحاً من الزمن قصيراً مع آخر سلطة في العهد الجمهوري غادرتْ مواقعها في بوادي العام الثالث من القرن الواحد و العشرين ، وبُعيد رحيله عن هذا العالم مستريحاً مما يمتلئ به من الأكدار والمقاذر ، دون أن يدرك الجواهري نهايته المأساوية بتعبير الأُستاذ ماجد صالح السامرائي عبر مقالته الرصينة المتماسكة في أغراضها وفحاويها ، وهي احدى محتويات كتاب الجواهري في عيون معاصريه ، معنونة : ( لماذا أهمل النقد العربي الجواهري شاعرعصره ؟ ) ، ومحوجة لمناقش ٍ فارغ البال ، وخلي الصدر من اللواعج والهموم ، لتواتيه الدلائل والقرائن والحالات والشواهد على أمل أن يردَها ويجبّها ، ويعرض ما يباينها من عناية النقد العربي بشعر الجواهري وإيلائه تدارساًواستقصاءً لسماته الابداعية بما تشي به من ميزات يرجح بها على نظرائه من الشاعرين آخصها : صراحته الجارحة ومناكدته الصارخة لما انطبعت به وعليه حياة المجتمعات العربية من قياسات ومعايير ، هذه السلطة الأخيرة التي بان منها لعموم الناس أنه جنح لاِراحة ركابه من أينٍ ومن عثرِ ، والاشفاق عليه من أن يظل حليف أسفار ، لقي من بعض رموزها المثقفة ألواناً من التجلة والاِكبار ، ومَن كان منها قادراًعلى اِسداء عارفة أيام خلص له الزمام اِمرةً تنفيذية قبل أن تُستلب منه ويُحلأ عنها ، فليبادر إليها متخيراً الصفوة من محققي تراثنا القريب والبعيد ، وينطْ بها تهيئة مجموع شعره للطبع ، أقول بعد هذا الاستطراد الطويل العريض والمفيض في أشتات من الادكارات والشجون ، تنزع السيدة خيال الجواهري لموافاة قرائها بسفرها الرابع : ( الجواهري في عيون معاصريه ) يضم بين دفتيه كماً وفيراً من الدراسات الموسعة حول شعر الوالد الأبر في مختلف أدوار حياته ومراحلها التي لا يخلو شطر منها من صِدام بالمتصدرين وذوي الشأن لأِخلالهم بمسؤولياتهم ، ونكولهم بعهودهم المقطوعة لمن كانوا هم السبب في تبويئهم مرتباتهم ومراكزهم ، وندر أن يغضي عما يرتكس فيه مجتمعه من تدنٍ في معيشته واِجحاف بحقوقه ، والأنكى أن يرتضي ذلك مستسلماً لظنونه وأوهامه بأنّ ما ينزل به من هوانٍ وذلٍ هو قدر لازب في دنياه يُعوَض عن شقوته فيها بأن يرتعي في غده بجنانٍ وساع ، فآلى من ساعته أن يصدع برسالة تنوير العقول والأفهام بالمعرفة المستنيرة بأنّ وراء ذلك شخوصاً تجني مصالحها وآرابها وتعتاش على حساب استكانتها وغفالتها عن الضلالات والعمايات ، مما جسّدت جانباً من هاته الخطرات والنوازع العقلية رائعته ( تنويمة الجياع ) التي نسجها في بداية خمسينيات القرن الماضي وكأنه يلقي في روع القارئ بأن تحرشه الأول قبل اثنتين وعشرين سنة بأنصاب الختل والجهالة لمعارضتهم تأسيس مدرسة لتعليم البنات في بلدته النجف لم ينِ في تبكيتهم وتقريعهم والتشهير بازدواجيتهم في تسلكاتهم ، ويوحي للأكثريات الساحقة التي أدركتْ واحتوشت أذهانها بعض الوعي بعد تصرم عقدين وأكثر على تحرشه الأول ، بأنه ما فتيء متواصلاً ، لكنه هذه المرة مع رموز الارتجاع والتخلف لا يَهونُ شأنها في نزوها القبيح واِيغالها في فعل السوء ، وكذلك ديدنها في العناد والمكابرة بشأن ما اتسم به سلفهم الأول من التعنت ولجاج في التخرص والعداء الذي لا داعيَ له ، وهذا ما وقفت عليه عام 1951م يوم تصدَت اِحدى الجرائد الصادرة حينها للرد على مضمون قصيدة ( تنويمة الجياع ) ، محاولة اِثبات مجافاتها للشريعة ، كما هو منوال ضعاف الحجج و الأدلة وارتكانهم إلى الدين أو الأخلاق عسى أن يكونا مُنجداً لهم في اِفحام غرمائهم واِبطال مدعاهم .
يحتوي كتاب العيون ويشتمل جملة مقالات بأقلام نخبة من الأدباء المتمرسين بأصول الكتابة المستهدفة تقرير أحكام ونتائج من وراء استقراء الظاهرة الجواهرية ( بتعبير حسين مروة ) ، وشيوع عناصرها ومواصفاتها في الأدب العربي الحديث حيث لا ينقطع الأديب لتحبير نص أدبي يُعتَد به إلا بعد أن يكون الصدقُ رائده ودليله ، بمبعدة عن الافتعال والتكلف ، وليس يعيبه أن تنبت آصرته بالكتابة إن لمس من نفسه عجزاً أو عدم استطاعة ، فتاق على سبيل اِثبات تفوقه وجدارته وأنه غير عاطل ومفتقر للمواهب والقابليات في وجوه ومجالات أخرى حتى أدرك بغيته ومأموله ، و أعفى نفسه من مشقة الوصول لما يتمناه لها من التميزعلى الأقران والتفرد بسمات الاِبداع و تحقق الطابع الذاتي الغالب على عموم نتاجاته مما يسهل تشخيصه و التدليل عليه من لدن أي أحدٍ أو مداوم على القراءات و ظفر بقسط وافر منه لفيف من جهابذة الفكر والبيان أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد على بعض عسر الأخير و اِعضاله لفرط جديته و كذلك المازني الذي تستوي الكتابة عنده في سائر الأوقات وسيان أن كان موجوداً في مكان يعج بالصخب و اللغط أو يغشاه السكون والهدوء ، ولا يحول ذلك في الحالين دون أن يبدع و يستهوي الاَخرين ، حتى أن الرصافي شبّه اسلوبه بشراب التوت لطلاوته .
وأذكر أن كاتباً و شاعراً من البحرين هو الأستاذ ابراهيم العريض ، المتولد ببلاد الهند لأب يعمل بتجارة اللؤلؤ وأم عراقية ، واشتغل دبلوماسياً حين وعى في شطر من حياته ، واستطار صيته في الدنيا العربية أديباً مرموقاً أوثِر عنه توليه عن مؤلف له في تحليل شعر المتنبي ، توصل فيه الى حقيقة مفادها أن سليل الكوفة الحمراء استأثر بخصيصة دون سائر الشعراء ، ألا وهي اِنحاؤه على العرب وحاكميهم المتجبرين بالتقريع والذم ، لتغاضي الرهط الأول عما يحل بهم من الضيم والرهق والخسف ، وتمادي النفر الثاني في ما عمد له من سياسة الحكم التعسفية ، في اِنفاذ تدابيره القمعيه كي يستتب النظام ، واسمى هذه الخصله بالتالي الصراحة الجارحة التي اقترب قبله ابراهيم عبد القادر المازني من تحديدها واِن لم يوفق لنفس التسمية ذلك أن المتنبي المجمع على ازدهائه واعتداده بنفسه ، درج على اِرسال الحكمة بألفاظ موجزة وبصورة مباشرة تبلغ القصد وتصل الى غرضه دونما لفٍ أو دوران ، وهنا سر قوته كما يستجلي ، غير انه يلفي ثمة شاعراً معاصراً هو العراقي الصميم محمد مهدي الجواهري ، من الممكن وفي الوسع أن نقرنه بالمتنبي و نسامتَ به نزوعه لمحاكاته في صراحته الجارحة ، واِن بذّه الأخير في بعض مطولاته التي قد يصل عدد أبياتها الى المئات ، كما تقسره عليه أحواله النفسية من الاِسهاب و الاسترسال والتفصيل وهي غير اللف والدوران ِ ! فثمه تشابه بين عصريهما وتماثل في ما ساد زمنيهما من اختلال وضيعة الحق وتبويئ من ليس أهلاً للمعالي ويخلو من أيما مكرمة واِيثار دون الصالح العام ، غير أنه يرشح لأسنى المنازل والمراتب إن ابتسم له الحظ ، فلا مراء أن شهر كلا الشاعرين و شغلا بمناكدة اللئام و القدح بذممهم وأهوائهم أياً كانت مراكزهم مع النعي على سواد الناس استسلامهم ورضاهم بالدون .
واِنه لاتفاق أو مصادفة أن يجمع كتاب مجموعة من المباحث والفصول يستدل كُتابها بالمتنبي من غير إقحام أو تقصد وعمد وهم يسوقون شواهد من شعر الجوهري في كتابتهم بناءً على تساوقها وما يعن لأفهامهم من تخريجات و أحكام , علماً أنها في جملتها تطغى عليها سمة الموضوعية وتوخي النصفة للشاعر المفتقد للنصراء والأعوان ويقف وحده شامخاً متحدياً بمواجهة القسر والتعنت ، ومن أبينها دراسة معنونة ( الجواهري والمرأة والاستخلاص ) ، محاولة في التحليل الأدبي ، كتبها الدكتور محمد جواد رضا ويعن لي في هذه العجالة التعريف بشخصه للقراء لاسيما نابتة الجيل التالي ذلك اِنه أديب كامل اغترب عن وطنه وبارح مدينته كربلاء المقدسة سنواتٍ طوالاً ، وجاب أنحاء شتى منها الكويت أسهم يافعاً في تحرير صحيفة يومية هي (النبأ) للمحامي عبد الهادي البجاري خاصةً في عامي 1951و1952م أثناء ما كان طالباً بدار المعلمين العالية الملغاة ، وحصيلة سعيه منها (كتابه نحو الثورة الفكرية) ، وهو مختارات مما كان ينشره يومياً وبتوقيع مستعار بأسم (دعبل) ، وندر في ظرفنا الحالي أن نجد أشباهاً له بين طلاب الكليات ، وأمثولات مناظرة له في مؤهلاته و طاقاته ، بلى لقد فوجيء الدكتور نوري جعفر ذات يوم من عام 1957م بمجلة تصدر عن معهد الرسل ببيروت باسم (الرسالة) من محتوياتها بحث مقارن عن كتابه السيري بخصوص الامام علي بن ابي طالب ومنواله في التعامل مع الناس ، وضاهاه كاتبه بفصول لمؤلفين أخرين كالعقاد المسلم وجورج جرداق المسيحي ، وأربى عليهما في تخير عنوانه المناسب الا وهو الامام علي حصن الانسان و الديمقراطية ، وهنا تجدنا بمواجهة منهاج وخطة لتهريب الحقيقة في ساعٍ من الزمن كبتت فيه الأنفاس وكثر غلاة المؤولين لمعاني الكلمات والتعابير ، واشتطوا في تفسيرها بل تحريفها لاِثبات نشوز صاحبها عن التعايش ببغداد إبان ظروف سيادة الحلف البغيض المفروض ، وظل نوري جعفر مدة يستفسر من الذاهب والاَيب عن كاتب اسمه جليل كمال الدين ، وبوغت ساعة صار في علمه إنه طالب يدرس الانجليزية في نفس كليته بعد حسبانه له انه يجوز سن الشيخوخة أو انه من المنتمين لغير دائرة بحثية في شؤون الوطن العربي فتأمل .
إن محمد جواد رضا أحد أضلاع المثلث الكربلائي المتكون منه ومن الدكتور صالح جواد الطعمة والعالم الباحث في فلسفة الفارابي الدكتور محسن مهدي الذي سمعت به أول مرة عام 1957م من خلال قيام أصحاب مجلة (شعر) اللبنانية بنشر بعض أثاره .
وتأتي مقالة هادي العلوي (شاعر ولد في معترك الصراع) لتصنف قصائده الجياد في ثلاثة أقسام مفترضة ، زاعماً أن النجاح كان حليفه في إثنتين منها ، وهما المتصادي والمتجاوب مع الأحداث السياسية مستوحياً فيها أحاسيس الجمهور وشاحذاً عزمه للاصرار على مطالبه ، وغير المرتبط بحدث معين ، انما هو استرسال في النجاوى وإفضاء بما يرتجيه لمجتمعه من حياة تخلو من المتاعب ، وتعدم خلات الوصولية والملق والاِنتهاز ، وينتفي منها التذمر والبرم والتسخط جهد ما يتوق الخيرون من بنيه لتحقيقه .
والقسم الثالث هو قصائد المناسبات التي فشل فيها ، لأن المناسبة لا تسعف بالشعر الجيد ، غير انه سرعان ما يستدرك على بعض رأيه الذي ساقه بهذا الصدد ، ذلك انه ضرب نماذج وأمثلة لأشعار المناسبات تتمثل في قصائد : عبد الحميد كرامة , جعفر ابي التمن ، ته ياربيع ، آمنت بالحسين ، أبو العلاء المعري ، وسجل بعد أن حكمَ على شعر المناسبات بالفشل عموماً ، ( اِنه استطاع في مناسبات أخرى أن يتخطى لحظة المجاملة ليحقق عملاً فنياً كبيراً ) كما حصل في " قصيدة ابي العلاء المعري " و "آمنت بالحسين " ، نفس القصيدة الاَخيرة التي استدل بها لاِثبات فشله قبل قليل في توفقه للصياغه المبهرة واستلفات الأنظار و استثارة الاِعجاب ، وليس من النادر أن نجد الشاعر يستغل المناسبة مهما تكن ليفجر أزمة على نحو ما وقع في (حفلة تكريم صديقه هاشم الوتري التي أسفرت عن تجربة من أعمق تجارب الشعر السياسي الحديث ) .
أرى أن شيئاً من الخطالة والاختلال في القياس قد شاب حكم المفكر هادي العلوي على شتائت من شعر الجواهري واغتنائها بالأسر و الاِحكام ،أونكصت دونهما ، اِذ بوسع أي قارئ متجرد من الخبرة بالشعر المقبول ، أن يرفض حكمه على قصيدة الجواهري في (ثورة العشرين) ــ في الحقيقة هما اثنتان عينية ودالية ــ لو لا انه سرعان ما يملي بخلافه و يباينه رأياً ، فيسطر " لكنها تحمل امارات نضج شعري و وعي سياسي مبكرين " .
كذلك يعترض على مَن يجزمون بتوفق الجواهري في ابتغاء غايات ومقاصد من وراء قصيدة التتويج التي أطنب الدكتور رشيد الخيون في تثمينها والثناء عليها ، مشيداً ببنائها الفني وربما ساوره شبه أسف وحَرد على استبعادها من دواوينه المطبوعة مع أنها من مفاخر قصائده ، حتى قائلها نفسه فِانه يدندن أحياناً ببعض أبياتها بمشهد ومسمع من الصحفي زيد الحلي ، وانها من أحب قصائده الى نفسه ، لكن للسياسة أحكامها .
يكتب الأستاذ رشيد الخيون في موضع من بحثه المعنون : ((الذكرى الخامسة عشرة على غياب فارس القوافي )) ! لم تعجب العديد من أصحاب المواقف السياسية والايدلوجية مدائح محمد مهدي الجواهري ، فهم يأخذونه شاعراً ملتزماً لقضايا الجماهير والأوطان ، وكالوا له اللعنات لأنه مدح نوري السعيد والوصي عبد الاله ثم ماقاله في الملك الشاب فيصل الثاني في قصيدة التتويج" .
والآن لنتصارح بعدما ترادف علينا من مكاره وخطوب يشيب لهولها فود الرضيع ، علماً اننا نحجم عن المقارنة بين طبيعة الحياة في العهود الماضية والتي تلت بعدها ، فنخلص الى تحديد أي منها كان فيه الناس بمأمن وأخلى من الهم ليوم غد والتفكير في ما يسفر عنه من مصيبات ومشكلات .
فبخصوص قصيدة (لتكن حازمة إنها وزارة المفاوضات ) التي امتدح فيها خلق الباشا ، وجدارته بتشكيله وزارته الأولى عام 1930م ، استفسر منه حول موحياتها وبواعثها ، وحول غرر أخرى خصَ بها الوزير مزاحم الباججي ، مندوب لجريدة الزمان لصاحبها الموصلي توفيق السمعاني ، في يوم من خريف عام 1949م ، لأول الِمامي ببغداد ، وحين اطلعت عليها أثناء ما كنت مرتاداً وجالساً بمقهى ياسين المطل على شارع الرشيد مقابل ما كان يسمى بسوق الأمانة ، وقد أُزيل المقهى اليوم مع الفندق البسيط جواره واستحالا دكاكين ، بعد أن كان هذا الرجأ القريب من مقهى البرلمان وشارع المتنبي معلماً من معالم الثقافة والسياسة ، وكان الشاعر عائداً لتوه من باريس التي قصدها مبتغيا السلو الموهم بتناسي فجيعته بافتقاده شقيقه ( جعفراً ) وروحه تفور و تغلي بالاستياء على أرباب الحكم لاستغلالهم ظروف الحرب المعلنة بفلسطين بغية تحريرها من رجس الصهاينة ظاهراً اِذا بهم يعلنون الأحكام العرفية في البلاد بحجة حماية مؤخرة الجيش المقاتل ويمهدون لعودة نفس الوجوه الكالحة بعد تواريها بالخذلان والانكسار عقيب الوثبة الوطنية ، وكان أوجع ما يؤلمه ويحز في نفسه قتامة الأجواء وامارات الخيبة والاخفاق البادية في الوجوه ، وتحسس الملأ بالضياع وشبه اقتناعهم أن نضالهم كان عبثاً من العبث وبلا جدوى ، وهذه الخلجات النفسانية كانت وحياً ومعيناً لا ينضب لنظم قصيدة فريدة حينها هي (أطبق دجىً) التي دعا فيها بالويل والثبور على الشعب لفرط استكانته وخنوعه ، وقد تناقلتها الافواه سراً ولم تنشرها صحيفة يومها :
ندموا بأن طلبوا أقل حقوقهم يوماً فتابوا
وتآوبوا للذل يأكل روحهَم نعمَ الماَبُ
وذا لون من التعبير الطافح بمحبته للشعب وتناهيه في تبني مطاليبه و الذود عنها وإن أوهم بخلافها .
قال أبو فرات مجيباً مندوب الجريدة بما معناه :ـ
كنا شباباً وكان أولاء السياسيون في بداءة توليهم الوجائب والمهام , فعولنا على وعودهم أن تزدهر الحياة في البلاد وينعم مواطنوها باليسر والرخاء ، وانجرفنا مع الموجة ، فكل شيء يقتضي النظر له بحسب ظرفه وزمنه أما أن يرام المخدوع وسريع التصديق بالتحول من طبع لآخر ضده فأولى بمن ينتويه بالتبكيت والاِنتقاد أن يستكشف معايب نفسه .
لقــد أزمت وأنت بها حــفـيُ فأين العـزمُ والقلبُ الذكي
وقد كانت تقول لفرط جــوعٍ كفانا مــن غـنىً شبعٌ وري

وقد مدح التذبذب والــتـرامــي لأن الحكمَ حكمٌ فوضوي

وحسبك ان تصيخ الى الشكاوى لتسمعـها إذا احتفـل الـنـدي
فـقد كــثـرت شتـائم مقـذعات مصارحـةً يـؤيدهـا الـنـجي
وليس ســواك أبــــا صبــاح تداركها فـقـد برح الخــفــي
وقد عـز العـقـوق فـكـنْ وفـياً وينفع قومه الرجل الوفــي
تسلمهْـا وأحـكـمْ جانبــيهــا وإن تصدقْ فأنتَ بها حريُ

وندين بالانصاف والحق للاستاذ المحامي حسين الدجيلي الذي لم ألتقِ به منذ مدة طويلة وتركته بناء على مقتضيات السفر يشتكي وجعاً في عصب يده ، قلت انه كان محقاً في تسخطه على الشاعر لاِهماله مثل هذا الشعر المصبوب بقالب ندر أن يباريه أحد فيه ، وهوفي السنوات الأولى من تمرسه بالنظم ،
وإذا كان الدكتور رشيد الخيون يرتئي أن قصيدة التتويج معدودة من مفاخر شعره في البناء اللغوي ، فأحرى أن نلحق بها هذه الخريدة ، وكلتاهما رفعت من طبعات دواوينه الأخيرة ، غير أن القصيدة التي تخص الباشا حوتها ، طبعة عام 1935م . دون أن يخجل الرجل منها ويشعر بالحراجة لا سيما قد انقضت أعوام خمسة على مراس الباشا للسياسة ،ثم أليس هو سياسياً عراقياً غدا مؤخراً مثيراً للجدل بعد تتالي الأرزاء والمآسي التي نزلت بنا ، علماً أن هذا الرأي يقال ويعلن دونما رغبة منا في رد اعتبار مسلوب لأحد من الساسة القدماء ، وعلى ارتياعه من الخطر الروسي الموهوم والذي الجأه لاتحاذ تدابير تفوق في احتراسها ما يعمد له أحلافه في الدول الغربية ، فاِنه في سنواته الآخيرة وبعد ازدياد عوائدنا من النفط ، كان وراء تشييد البنى والسدود والجسور وتعبيد الطرق بين المدن ، وبواسطة هذه المشروعات أتيحت فرص أمام ألاف العمال لان يكتسبوا مهارات في المجالات التي يقتضيها استمامها ، غير ان هذه الصنائع والأعمال المبرورة في استيعاب عطالة الايدي العاملة ، لم تقترن بتجاوب الشعب وتأييده ، فقد كان يصغي للتقولات و الأراجيف حول دوافعها و غاياتها ومراميها ، ولانه يبني حكمه على سياسة حكومته على وفق وبموجب علائقها بالدول الخارجية ، حتى شاعره لا يأخذ هذه المآثر بحسبان ، فبعد اثنين وعشرين عاماً أي في عام 1952م ، ينبري لتحذيره من أن الزمن دوار ، وأي حكم لا يمكن دوامه بالسوط ، اِذ الشاعر ينظر لمشكلة الرهائن والسجناء وما يقاسونه من مهانة وذل بدون وجه حق أولاً وقبل كل شيء ، فيلهج غير مدكر الذي قاله بالأمس :
أيا ابن سعيد يلهب الناس سوطه
ويحلف فيهم أن يخط المصايرا
لقد كنت أرجو أن ترى لك عبرة
بمن رامها قبلاً فزار الــمقـــابرا
ولكنــه بغــي وطـــيـش واثـــرةٌ
وواحدة مـــنـهــن تعــمي البصائر
بودي لو يعلم الأستاذ رشيد الخيون أن قصيدة (أطياف بغداد) ذات الأربعة وعشرين بيتاً ، والتي تفيض في حياة الانس والبهجة ببغداد في ظل حضارة بني العباس ، هي منتزعة بتمامها من قصيدة (يوم التتويج) ، ويقال أنها نشرت بصحيفة (الجديد) في 28مايس 1953م ، أي بعد شهر من مناسبتها لتكون في النهاية من محتويات ديوانه في طبعاته الأخيرة، وأن لا علاقة للجواهري بمجموعة (حلبة الأدب) اِنما هي اختيارات من معارضاته لشعراء قدامى ومحدثين ، أمثال محمد رضا الشبيبي وايليا أبي ماضي و أحمد شوقي و لسان الدين ابن الخطيب وسبط بن التعاويذي ، وفي ختامها مبحثان ضافيان عن الموشحات والعمارة في الأندلس ، كتبهما في عمر جاوز العقدين من السنين بقليل تميزا بتجويد الأداء و اغتنائه بالمعلومة ، عني بطباعة الكتاب هذا بما احتواه من الشعر والنثز الشيخ النجفي ضياء سعيد، ونشره مرتين أولاهما عام 1925م وثانيتهما عام 1965م ، وبينهما أكثر من أربعين عاماً !
وبودي كذلك لو كانت الدكتور خيال الجواهري قد شرعٌت بتذييل مباحث هذا الكتاب المنتقاة المختارة ، بمواضع نشرها من الصحف والمجلات وتاريخ كل منها أسوة بموضوعات الببلوغرافا الملحقة به ، وقوامها 555 موضوعاً يتأمل أن تتداولها الأيدي مستقبلاً مصنفة في أسفار تصدر تباعاً وعلى مدى سنوات تالية إن كانت في حيازتها .
والسلام



#مهدي_شاكر_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبد الحسن زلزلة شاعراً
- درس في الاخلاق والثقافة
- شيء عن دزموند ستيوارت
- شيء عن يوسف مراد
- من يوميات مغترب بخصوص (مداخلات و مناوشات) و رواية عن (بستان ...
- قصيدة مجهولة للجواهري
- عراقيون في كتابات العقاد
- فخري أبو السعود رائد الدراسات الأدبية المقارنة
- الكاتب والشاعر اللبنانِي صلاح اللبابيدي في كتاب ( الثمالات )
- مع افتخاري واعتزازي بالعربية الفصحى
- بحيرة لامرتين في الأدب العربي
- تشابه في مضمون أبيات شعرية لثلاثة شعراء
- المتنبي كأنك تراه
- من يومياتي عندما كنت ببغداد - بحث تخرج في كلية
- اشتراطات لكتابة المقالة الادبية
- جبرا إبراهيم جبرا ما له و ما عليه
- السلوك المنحرف بوصفه ثقافة فرعية
- عود على وحدة المعرفة وإليها
- هل نسيناهم ؟
- سعيد تقي الدين أو أدب وسياسة


المزيد.....




- القضاء العراقي يوقف عرض مسلسل -عالم الست وهيبة- المثير للجدل ...
- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهدي شاكر العبيدي - الجواهري في عيون معاصريه