أميركا اللاتينية: اليسار هَبْ نَسِيما - الأخيرة

مجدي الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1489 - 2006 / 3 / 14 - 11:21
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    

تعرضت في الجزئين السابقين من هذه الكلمة لتجديد فنزويلا المسعى الاشتراكي بسياسات شعبية في الشأن الاقتصادي ومحاولة وليدة في توسيع مواعين الديموقراطية البرلمانية دون المساس بالحريات العامة والنشاط الحزبي تحت مسمى "ديموقراطية الاشتراك الشعبي". بالطبع لا بد أيضاً من تقصي جوانب من البيئة الإمبريالية المناوئة لهكذا "تحرر"، خاصة من الولايات المتحدة الأميركية. مهما كان من "جنون" اشتراكيتها البوليفارية ففنزويلا هي خامس أكبر مصدر للبترول في العالم، وأحد أكبر اربعة مصادر للبترول بالنسبة للولايات المتحدة بجانب المملكة العربية السعودية وكندا والمكسيك، ما جعلها عبر تاريخ طويل مورد لتدوير البترودولارات الشهية إلى الولايات المتحدة، ونتيجة ذلك انحطاط معيشة 80% من الفنزويليين إلى ما دون خط الفقر على طريقة "تمر الفكي شايله ومشتهي". مراد البوليفار شافيز وحزبه "الحركة نحو الجمهورية الخامسة" تحقيق إرادة فنزويلية شعبية في "الاستقلال" باستعادة الثروة والسلطة وتوزيعها ليس بين الأقاليم فقط لكن بين الطبقات لصالح أغلبية 80%، أو على الأقل هذا ما ثبت حتى الآن. في ذلك تواجه حكومة فنزويلا معارضة شديدة ودرامية من الولايات المتحدة وحلفائها في الداخل، الذين يسميهم الرئيس شافيز "الأوليغارك". من الجهة الأخرى لا تنفك حكومة فنزويلا تجهض مساعي الولايات المتحدة احتواء غيريتها بتعاون إقليمي خلاق تحاول من خلاله على الأقل ضمان تعاطف، أو دون ذلك حيدة، جيرانها لمقارعة "استراتيجية التلقيح" (inoculation strategy) التي أعلنتها الولايات المتحدة بغرض مواجهة نفوذ وانتشار "الثورة البوليفارية".

خلال خطاب له بخصوص العراق أمام مجلس الشيوخ الأميركي بتاريخ 28 فبراير 2006 لم يتجاهل مدير وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) جون نغروبونتي تهديد الدومينو البوليفاري، والذي يمد أثره حازماً بنصر الإرادة الشعبية عبر أميركا اللاتينية، فصرح قائلاً "إذا فاز شافيز بالرئاسة في الانتخابات القادمة في ديسمبر 2006 فإنه حتماً سيخنق الديموقراطية في فنزويلا". أضاف نغروبونتي "الحكومة الفنزويلية لا تساعد الفقراء، بل إن شافيز ينفق مئات الملايين وربما أكثر على سياسته الخارجية المتهورة" (فنزويلا أناليسيس على الإنترنت: أب، 2 مارس 06). ولا عجب فالمتحدث شغل منصب سفير الولايات المتحدة في العراق عقب خروج الحاكم بريمر مباشرة، وكان في يوم ما سفير موت لبلاده في نيكاراغوا، واليوم هو على رأس وكالة المخابرات المركزية، لكن لم يخطر بباله أن بلاده العظمى تنفق الملياردات على سياسة خارجية إمبريالية حربية تهدد من فرط تهورها الكوكب أجمع. حديث نغروبونتي جاء في أعقاب تصريحات مشابهة لوزيرة الخارجية الأميريكية كوندوليزا رايس اتهمت فيها الرئيس شافيز بأنه "يقود نوعاً من الشعبوية تسوق بلدان أميركا اللاتينية إلى الهاوية، فهو يحاول بتأثيره إبعاد الآخرين عن الديموقراطية". وصفت رايس الرجل بأنه "أحد أكبر المخاطر التي تواجه أميركا اللاتينية"، مطالبة بتكوين جبهة موحدة للتصدي له، ثم أضافت: "على المجتمع الدولي أن يفعل الكثير لمساندة وحماية الشعب الفنزويلي" (بي بي سي، 17 فبراير 06). كان حري بالوزيرة شرح أن الواجب حماية الشعب الفنزويلي من نفسه، فقد فعلتها الدولة العظمى مراراً وتكراراً: حمت شعب تشيلي من نفسه عندما أطاحت بأليندي، وحمت شعب غواتيمالا من نفسه عندما أطاحت بآربنز، وكذلك فعلت عندما تآمرت وأخرون لحماية شعب الكونغو من نفسه بقتل لوممبا. الأمثلة عديدة وأي حماية - "ما خمج"!

فيما يخص شرعية حكومة فنزويلا وسندها "الديموقراطي" فلنا أن نعلم أن هوغو شافيز أنتخب أول الأمر في ديسمبر 1998 رئيساً لجمهورية فنزويلا بغالبية 56% من أصوات الناخبين ليتولى السلطة في فبراير 1999. أول إجراء قام به الرئيس الجديد كان تحقيق وعده الانتخابي بتنظيم استفتاء يختار فيه الشعب الفنزويلي بين استمرار الدستور القديم وانتخاب جمعية تأسيسية جديدة لكتابة دستور جديد للبلاد. نتيجة الاستفتاء كانت مساندة غالبة لخيار الجمعية التشريعية الجديدة. بعد ثلاثة أشهر من الاستفتاء انعقدت انتخابات برلمانية عامة فاز فيها "المحور الوطني" (Patriotic Axis)، وهو تحالف عريض يضم حزب شافيز (الحركة نحو الجمهورية الخامسة)، بغالبية 95% من مقاعد الجمعية التأسيسية. بهذا النصر الانتخابي تمكن شافيز وحلفاؤه من كتابة دستور جديد للبلاد (1999) أعيد بموجبه تعميد فنزويلا "جمهورية فنزويلا البوليفارية" (Bolivarian Republic of Venezuela). طُرح الدستور الجديد للاستفتاء الشعبي في ديسمبر 1999 ليتم إقراره بأغلبية كبيرة. دخل دستور البوليفارييين الجدد حيز النفاذ في ديسمبر 2000 موفراً لشافيز القاعدة الشرعية والقانونية للمضي قدماً في التغييرات التي طالت كافة أوجه الحياة في بلاده. مثال ذلك ما ورد في الدستور بشأن الصحة (البنود 83 – 85): "تعتبر الرعاية الصحية المتميزة حق اجتماعي أساس ومسؤولية تقع على عاتق الدولة (..) منوط بالدولة تأمينها لتحسين مستوى المعيشة وتحقيق الرفاه المشترك (..) وذلك عبر إنشاء وإدارة نظام قومي للرعاية الصحية تمنع خصخصته بموجب القانون" (ضمن لندمان، يناير 06). حرم الدستور التمييز بين السكان على أي أساس كان؛ وأكد على ضمان حرية التعبير والتنظيم، وكذلك حقوق السكان الأصليين. كما أوكل إلى الدولة مسؤولية توفير التعليم المتميز للكافة، بجانب الإسكان ونظام أفضل للتأمين الاجتماعي للمواطنين الأكبر سناً (لندمان، يناير 06). في يوليو 2000 نال شافيز دفعاً جديداً للاستمرار في نهجه حيث فاز التحالف الذي يقوده بثلثي مقاعد الجمعية التشريعية في الانتخابات البرلمانية، كما فاز هو نفسه في الانتخابات على الرئاسة حاصداً 60% من الأصوات الانتخابية تؤهله لدورة رئاسية جديدة تستمر بحسب الدستور الجديد ست سنوات، بدلاً عن أربع سنوات في الدستور القديم.

أما سعي حكومة شافيز مواجهة مآسي الجهل والفقر والمرض في بلاد هي خامس أكبر منتج للبترول في العالم، إلا أنها لم ترث من ثرواتها غير العنت والشقاء بفضل نهم إمبريالي لا يشبع وحكومات انتهازية، فتشهد عليه سلسلة من المبادرات الحكومية الرائدة يعتبرها البوليفاريون الجدد من بين عناصر ثورتهم "الاشتراكية الجديدة": (1) المهمة داخل الجوار: هذه مبادرة مكونة من 3 جوانب أولها توفير الخدمة الصحية المتميزة والمجانية للمجتمع المحلي من خلال المستشفيات والمراكز الصحية، حيث تم حتى الآن تشييد وتشغيل 500 مركز صحي جديد جميعها مكتملة التجهيز لأداء وظائفها. الجانب الثاني يتمثل في تقديم خدمات الرعاية الصحية الوقائية والإرشاد الصحي للملايين من سكان الأحياء الفقيرة (الباريوس). في الجانب الثالث من المهمة يتم ربط الخدمة الصحية بالبيئة الكلية: الاقتصاد المحلي، التعليم، الأمن الغذائي، النشاط الرياضي والثقافي. وفي كل من هذه الجوانب تؤكد المبادرة على أهمية مشاركة المنظمات والجمعيات المحلية وكذلك على أولوية أن يسكن الأطباء ويعملون في نفس الجوار تحقيقاً لاندماجهم كأعضاء شركاء في المجتمع المحلي وليس كأجراء فقط. جدير بالذكر أن كوبا قد بعثت إلى حليفتها فنزويلا عدد 20 ألف طبيب كوبي لتشغيل وتعزيز نظام الخدمة الصحية الجديد. ردت فنزويلا الجميل الكوبي بتوفير البترول للجارة المحاصرة بسعر 40 دولار أميركي للبرميل، بدلاً عن سعر السوق العالمي (حينها 65 دولار أميركي)، ثم طرحت نفس السعر للجارات الأفقر في أميركا الوسطى والكاريبي، ومن بينها جامايكا وجمهورية الدومينيكان، حيث تقوم فنزويلا في الوقت الحاضر بتوفير 22 ألف برميل من البترول يومياً لجامايكا بالسعر المدعوم (غونزاليز، أغسطس 05). (2) المهمة مركال: هدف المبادرة توفير الأغذية عالية الجودة من الحبوب ومنتجات الألبان واللحوم بأسعار مخفضة لجملة 15 مليون من المواطنين أي 60% من السكان، وتمكين الفقراء من الحصول على الأغذية العضوية الآمنة والمنتجة محلياً في محاولة لتعزيز سيادة فنزويلا الغذائية. مركال إسم لشبكة توزيع قومية تم إنشاؤها في أبريل 2003، تتكون حتى الآن من 15 ألف محل تقريباً وتقوم يومياً بتوزيع ما يفوق 4 مليون طن من الغذاء على المجموعات المستهدفة، بجانب تشغيل 47 ألف من المواطنين. بالإضافة إلى توفير الأغذية بأسعار مخفضة فإن من أولويات مركال حفز الإنتاج الغذائي المحلي حتى التحرر من اعتماد فنزويلا بنسبة 70% على استيراد السلع الغذائية (جوركويرا، يوليو 05). تدريجياً ونتيجة لنجاح وازدهار مشروعات التنمية المحلية استطاعت مركال زيادة نسبة مشترواتها من الإنتاج الوطني والإقليمي حتى بلغت 40% من جملة المشتروات. نسبة لالتزام الدولة بتوفير السلفيات الصغيرة للمنتجين المحليين بشروط تفضيلية تمكنت المشاريع صغيرة ومتوسطة الحجم من النجاح والاندماج في بنية الاقتصاد القومي. كما يتم تدريجياً إلغاء دور الوسطاء في العملية التجارية حتى الاستفادة القصوى من فضائل الإنتاج المحلي، أي انخفاض كلفة الترحيل والتوزيع والدعاية، ومن ثم خفض السعر بالنسبة للمستهلك وكذلك تخفيف العبء على الخزينة العامة من حيث دعم الدولة للسلع الاستهلاكية (فاغنر، يونيو 05). تقوم شبكة مركال كذلك بتقديم الغذاء مجاناً لأفقر الفقراء من خلال "بيوت الطعام" وعددها حتى اليوم 4 ألف، مع وعد شافيز إنشاء ألف أخرى. تخدم بيوت الطعام الأحياء الفقيرة (الباريوس) حيث تقوم لجنة مختارة من المجتمع المحلي بالتعاون مع مسؤولي الخدمات الصحية (مهمة داخل الجوار) بتعيين أكثر 150 فرد حوجة للعون الغذائي من بين المجموعات الأضعف: المشردين، الأطفال، كبار السن، المعوقين، النساء الحوامل، وأصحاب المشاكل الاجتماعية؛ ويقوم متطوعون من المجتمع المحلي تحفزهم الدولة بتشغيل وإدارة هذه البيوت. الوجبات المقدمة في "بيوت الطعام" محسوبة بحيث توفر 77% من احتياجات المتلقين اليومية من السعرات الحرارية والبروتين (جوركويرا، يوليو 05). للعجز الغذائي في فنزويلا علاقة وثيقة بملكية الأرض الزراعية، حيث يملك 5% من السكان 75% من الأراضي الزراعية، هذه المساحات إما يتم استغلالها في الإنتاج بغرض التصدير، أو تُترك بوراً وهذا الغالب. منذ أعوام طفرة البترول أول السبعينات تعتمد الحكومة والصناعة الكبيرة الفنزويلية على استيراد الغذاء تعميها عائدات البترول عن الشروع في تطوير وتوسعة الإنتاج الغذائي المحلي. لهذا السبب كان كبار ملاك الأراضي من بين أهداف الهجوم البوليفاري، حيث تمكن معهد الأراضي الوطني من استرداد 600 ألف هكتار من الأراضي الزراعية ثم إعادة توزيعها على التعاونيات الزراعية الجديدة، لكن تبقت 6 ملايين هكتار ما زالت تحت سيطرة كبار الملاك. (3) المهمة روبنسون-1: هدف هذا المشروع الاستفادة من المتطوعين في تعليم الفقراء مهارات القراءة والكتابة. وقد تمكنت فنزويلا بهذا الاسلوب من خفض نسبة الأمية إلى 1% فقط في عام 2004، وذلك بعد تسجيل 1,4 مليون من المواطنين في فصول محو الأمية، أكمل 1,3 مليون منهم البرنامج التعليمي بنجاح. في هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى أنه بين كافة دول الأميركتين تمكنت فقط فنزويلا وكوبا من القضاء على الأمية عملياً، بينما تقدر إدارة التعليم الأميركية أن 20% من سكان الولايات المتحدة يعتبرون وظيفياً من الأميين، أي أنهم عاجزين في الواقع عن القراءة والكتابة رغم حصولهم على قدر من التعليم كفيل بمحو أميتهم. (4) المهمة روبنسون-2: هدفها تعزيز حصاد روبنسون الأولى وتوفير التعليم الأولي في مناطق أخرى للذين فاتهم التعليم المدرسي من اليافعين. فاق عدد المسجلين 1,2 مليون تخرج معظمهم بعد حصولهم على مستوى تعليم المدرسة الأولية. (5) المهمة ريباس: يتمثل هذا المشروع في توفير التعليم الثانوي للذين فاتهم التعليم المدرسي من كافة الأعمار. فاق عدد المسجلين في المشروع 1,5 مليون مواطن، يتلقون الدروس المؤهلة لنيل شهادة تكافئ شهادة التعليم الثانوي في 29 ألف مركز تعليمي منتشرة عبر البلاد. (6) المهمة سوكر: تتيح المبادرة لكافة الفنزويليين الحاصلين على شهادة التعليم الثانوي أو ما يعادلها القبول بمؤسسات التعليم العالي. بموجب الخطة الموضوعة تم تسجيل 275 ألف من المواطنين في فروع دراسية مختلفة وإنشاء خمس جامعات جديدة. بخلاف العهود السابقة فإن التعليم في فنزويلا البوليفارية مجاني تماماً وذلك في كافة مراحله من المدرسة الأولية وحتى الجامعة، ما قدم دفعة حاسمة لنسب الإقبال على المدراس. (7) المهمة غوايكابورو وهابيتات: الغرض من هذا المشروع هو استعادة أراضي المجتمعات المحلية وحماية حقوق وموارد فقراء البلاد وشعوبها الأصلية من المضاربة المالية والاستغلال الرأسمالي. حتى اليوم تم إنشاء 500 لجنة للأراضي في البلاد تمثل 5 مليون من المواطنين أي 20% من سكان البلاد. بحسب قانون "لجان الأراضي الحضرية" فإن من حق كل فرد قام ببناء مسكن بصورة "عشوائية" على أرض ليست له، وهو حال معظم فقراء البلاد، أن يتقدم بطلب إلى اللجنة المحلية لحيازة هذه الأرض. الفئة المستفيدة من هذه السياسة تشكل 60% من مجموع مواطني البلاد، وهم تحديداً سكان الأحياء العشوائية الفقيرة (الباريوس)، إذ تعطيهم ولأول مرة الحق في ملكية الأراضي التي يسكنون عليها بصورة قانونية. خلال العام 2005 تم إصدار 84 ألف وثيقة حيازة لعدد 126 ألف أسرة، أي مجموع 630 ألف من السكان، وهي مجرد بداية إذ لا يشكل هؤلاء حتى الآن سوى 6% فقط من سكان الباريوس. جدير بالذكر أن حق حيازة الأرض لفقراء الباريوس وللمجتمعات المحلية هو حق يكفله الدستور الفنزويلي لعام 1999 في مادته رقم (82). الشق الثاني من المبادرة يتمثل في مشاريع حكومية لبناء مساكن مجانية للفقراء في وحدات تتيح لهم الحصول على الخدمات الاجتماعية بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم. (8) المهمة فويلفان كاراس: هدف المشروع تدريب العمال على مهارات جديدة تؤهلهم لوظائف أفضل وتضمن تشغيلهم في المستقبل، وذلك عبر خطة تركز على الحوجات الاجتماعية الملموسة وضرورات التطور الاقتصادي بهدف نهائي هو تحسين مستوى معيشة كافة الفنزويليين.

دليل نجاح مشاريع البوليفاريين بين لغير الكارهين، فبجانب انخفاض معدلات الفقر بين السكان، كذلك انخفض معدل العطالة من 14,5% في سبتمبر 2004 إلى 11,1% في سبتمبر 2005، أما معدل نمو الاقتصاد فكان 17% في 2004 ثم 9% في التسعة أشهر الأولى من عام 2005 وهو أعلى معدل نمو في نصف الكرة الأرضية الجنوبي. بالطبع، مصدر التمويل الأساس لمشاريع البوليفاريين هو دخل صادر البترول تعززه سياسة ضريبية راشدة، حيث قررت وزارة البترول الفنزويلية زيادة ضريبة الدخل على 4 مشاريع تنقيب عن البترول تملكها شركات أجنبية في حوض نهر أورينوكو من 30% إلى 50% بموجب تشريع تصدرة الجمعية الوطنية. هذه المشاريع الأربعة توفر خمس ناتج البترول الكلي لفنزويلا. كذلك نجحت الحكومة الفنزويلية عام 2004 في إعادة التفاوض على شروط ثلاثة من مجموع أربعة عقود خدمة بين شركات أجنبية وشركة البترول الفنزويلية المملوكة للدولة. بحسب الشروط الجديدة للاستثمار المشترك لا تتعدى نسبة الشركات الأجنبية عتبة 49% لتحتفظ الشركة الفنزويلية للبترول بملكية غالبة. أدت جملة السياسات المالية للحكومة الفنزويلية إلى تمكينها من الصرف الضخم على الخدمات الاجتماعية، وفي نفس الوقت تقليل ديون البلاد إلى معدل يمكن التحكم فيه وتحقيق فائض في الميزانية السنوية، بجانب تراكم 30 بليون دولار أميركي من المدخرات تزداد باضطراد وتوفر للدولة سنداً ووقاية حال انهارت اسعار البترول (لندمان، يناير 06).

بالعودة إلى حديث كوندوليزا رايس عن نفود شافيز في القارة وتأثيره على مستقبل ديموقراطياتها فهو أثر إيجابي لا شك، حيث ساهم في فتح الباب لصعود يساري وسيلته التنظيمات الشعبية وصناديق الانتخاب الديموقراطية لا آلة الحرب كوعد ديموقراطية الولايات المتحدة في العراق على سبيل المثال. شواهد ذلك فوز مزارع الكوكا من هنود الأيمارا إيفو موراليس بالرئاسة في بوليفيا عن حزب "الحركة نحو الاشتراكية" في ديسمبر 2005 حائزاً على أكثر من ثلثي أصوات الناخبين تقريباً ليؤكد في أول تصريح له بعد الفوز على تضامنه وتحالفه مع كاسترو في كوبا وشافيز في فنزويلا (بي بي سي، 21 ديسمبر 05). ثم أسعد خبر هذا العام حتى الآن، وذلك فوز ميشيل باشيليت في تشيلي عن الحزب الاشتراكي، ضمن تحالف يسار الوسط الحاكم "كونسيرتاسيون" منذ سقوط ديكتاتورية بينوشيه عام 1990، لتصبح أول امرأة تتولى رئاسة تشيلي. نالت باشيليت 53,5% من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية متفوقة على منافسها من اليمين رجل الأعمال البليونير سيباستيان بينيرا (بي بي سي، 16 يناير 06). باشيليت امرأة هذه واحدة، تبلغ من العمر 54 عاماً وتعرف نفسها بأنها "اشتراكية"، وهي والدة وحيدة، أي غير متزوجة، لثلاث أصغرهم إبنة عمرها 12 سنة. والمعلوم أن المجتمع التشيلي محافظ جداً تتسيده الكنيسة الكاثوليكية ويتحكم فيه فقه الرجال، حيث تم سن تشريع يحل الطلاق فقط في العام الماضي، وتبلغ نسبة النساء في مجلس الشيوخ 4% لا غير. دافع باشيليت إلى السياسة كان انقلاب بينوشيه الدموي على الرئيس الشهيد سالفادور أليندي في 11 سبتمبر 1973 حيث كان والدها آلبرتو باشيليت جنرالاًً في سلاح الجو التشيلي ومعارضاً شرساً للانقلاب قضى في سجن بينوشيه. ناضلت ميشيل باشيليت سراً في جمعيات "الشباب الاشتراكي" حتى تم القبض عليها ووالدتها انجليكا ثم تعذيبهما في السجون لأسابيع ليسمح لهما آخر الأمر بمغادرة البلاد مطرودتين في العام 1975. مهجر الإثنتين الأول كان أستراليا ومنه حطتا الرحال في ألمانيا حيث واصلت باشيليت تعليمها الجامعي وتخرجت طبيبة لتعود إلى بلادها لاحقاً وتمارس مهنتها. بعد عودتها إلى بلادها تشيلي إنضمت باشيليت إلى صفوف الحزب الاشتراكي لتصعد تدريجياً في السلم الحزبي كأحد العتاصر الأكثر جذرية. لم تُعرف باشيليت كشخصية سياسية عامة إلا في السنين الخمس الأخيرة عندما أوكل إليها الرئيس السابق ريكاردو لاغوس وزارة الصحة ثم عينها وزيرة للدفاع. معلقة على خلفيتها السياسية قالت الرئيسة باشيليت: "أنا اشتراكية نعم، لكنني ارتدي قبعات عديدة، لم أكن وزيرة للاشتراكيين بل كنت وزيرة للتشيليين كافة، وسأكون رئيسة للتشيليين كافة". وهي أيضاً صريحة جداً بخصوص حياتها الشخصية حيث قالت في معرض الرد على سؤال عن حياتها كأم وحيدة: "أنا أم لثلاث، وفي الوقت الحاضر ليس لي شريك، وأتمني أن يأتي حين أحصل فيه على مزيد من الوقت لأطفالي وأسرتي، وفي حال وجود شريك صديق له أيضاً، وإلا فأنا قادرة على العيش" (بي بي سي، 16 يناير 06).

يا سعد أميركا اللاتينية بشعوبها وبنسائها ورجالها، هم تحقيق أمل الشهيد أليندي الذي قال في آخر خطاب له عبر راديو ماغالانيس، توجه به إلى الشعب التشيلي والعالم مودعاً، قبيل مقتله بساعات صباح 11 سبتمبر 1973 والقصف على أشده: "إن لي ثقة في تشيلي وفي مصيرها، آخرون سيعبرون هذه اللحظة الشاحبة والمرة التي تتسلط فيها الخيانة علينا. إعلموا أننا سنعيد فتح البوابات العظيمة عاجلاً أو آجلاً، تلك التي يعبر تحتها الأحرار لبناء مجتمع أفضل".

مارس 2006

#مجدي_الجزولي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات