أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - مجدي الجزولي - بعد الاستعمار قبل التحرير: في الذكرى الخمسين لاستقلال السودان















المزيد.....

بعد الاستعمار قبل التحرير: في الذكرى الخمسين لاستقلال السودان


مجدي الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1421 - 2006 / 1 / 5 - 09:55
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


في آخر تقديم مشترك لهما للمانفستو الشيوعي كتب ماركس وانجلز محذرين العمال أن البروليتاريا لا يمكنها أن تستولى على جهاز الدولة جاهز الصنع أي البرجوازي وتستغله لتحقيق أهدافها، هكذا "أخنق فطس"، بل يتوجب عليها تفكيكه وتحطيمه كلازمة لتحريرها (ماركس وانجلز، 1872). ربما صلحت نفس المقاربة النظرية لتحري معضلة "التحرير" في المستعمرات السابقة ومنها بلادنا. بالإضافة إلى المقولات الماركسية الخاصة بالتراكم البدائي كدافع أساسي للاستيلاء القهري المسلح على أراضي وثروات الشعوب "الأخرى" من وجهة نظر المركز الأوروبي، ساهم خطاب ما بعد الاستعمار خاصة الأعمال الرائدة لمثقف المستضعفين "العضوي" إدوارد سعيد ("الاستشراق"، "الثقافة والامبريالية") في إضاءة عوالم حالكة من الظلم الاستعماري تكتظ بميكانيزمات متعددة الأوجه للقهر الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والاستتباع والتنميط، وتفضح شطط أسطورة التحديث التي جعلها "الرجل الأبيض" حملاً ينهض به لخير البشرية وحصان طروادة محمل بالأسلحة المادية والمعنوية يغزو به العالم في لبوس مختلفة ومتكاملة في آن: الجندي، الإداري، المبشّر الكنسي، الأكاديمي الدارس والخبير الأجنبي، من ضمن أخريات.

كما هو معلوم، المرحلة الأولى من الإتصال بين المركز الأوروبي وافريقيا القارة تميزت بإرساء الرق على نطاق واسع كوسيلة للاستغلال الاقتصادي ومدعاة لتنميط تفوق الرجل الأبيض عرقياً وثقافياً وحضارياً على أقوام وجماعات بشرية وحضارية سارت في دروب تاريخية غير التي فاضت بالاستعمار الأوروبي من أدنى الأرض إلى أقصاها، ولم تكن من ضمن فتوحاتها قدرات عسكرية وتدميرية كالتي جاء بها المحتلون البيض. لكن بانهيار اقتصاديات الرق وتسيّد الرأسمالية كنظام اقتصادي غالب يعيش على الاستغلال الامبريالي جاءت مرحلة ثانية يحسن وصفها التعبير الأثير "التهافت على افريقيا". عندها كان من اللازم على السادة الأوروبيون أن يبدعوا مبررات مستحدثة لمغامراتهم الاستعمارية تصلح لإقناع جماهير بلدانهم وحثهم على مساندة هذا السعي المتجدد فكان الهدف المعلن إقامة النظام والقانون بين المتوحشين ومنعهم من قتل بعضهم البعض على أساس أنه ما دام لا يمكن ترحيل هؤلاء المتوحشين إلى الحضارة (الرق) فيجب إذن حمل الحضارة إليهم (ضمن عبد الغفار م. أحمد، 2002). قد حان الوقت لوضع المهمة الحضارية التي جاء بها الاستعمار في موقع التساؤل النقدي رغم إدراك نجاح الغزو الامبريالي متعدد الأطوار في تعميمها على كافة أنحاء المعمورة، ليس لأنها متفوقة موضوعياً على غيرها فقد جاء نقدها الأكثر أملاً من داخل الحيز الرأسمالي المركزي ذاته، والمقصود تراث الماركسية الملهم ومدارسها المتصلة. بالأحرى يدفعنا فشل الدولة على النموذج الاستعماري في تهيئة الشروط الموضوعية للتحرر الوطني، خاصة في افريقيا وأميركا اللاتينية، إلى تجاوز مفهوم "النير" (بايار، 1992) الذي حاولت بواسطته الأكاديميا متمركزة - الأوروبية شرح أسباب خيبة دولة ما بعد الاستقلال بالاستناد إلى مقولات تكاد تماثل التي بررت بها الاستعمار بادئ الأمر، أي أن النظم الاجتماعية في افريقيا قهرية وقمعية جوهرياً من حيث أنها قبلية وأبوية وتقليدية أبدياً ومن ثم غير قابلة موضوعياً للتقدم والتطور، إذا جاز التعبير، وهذه لا تفصلها عن مقولات "التوحش" الجوهري إلا شعرة. في الواقع، وجدت نخب محلية راغبة في السلطة ما بعد الاستعمارية، تنافس عليها وغير قادرة على اقتناصها، في ثقافة جلد الذات هذه ملاذاً لمعارضة الأنظمة الباطشة القائمة في العديد من البلدان الافريقية تحت لواء ليبرالية فجة تُرضي المركز الامبريالي لكنها لا تقدم بديلاً أفضل لنموذج الدولة الاستعمارية، إنما فقط تريد وراثتها من روادها الأوائل، نخبة تزيح نخبة. المهم أن نسعى لإدراك تاريخية الدولة عندنا، ومساراتها الخاصة انقطاعاً وإتصالاً، من حيث هي تمركز للسلطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ذات خصائص ذاتية مشروطة بالواقع المحلي في أوجهه المختلفة في المقام الأول وتستجيب لمنهج غالب وناجع في التسلط والاستغلال تشبّه المغلوب بالغالب، أخذت به قبل كل شئ من دولة الاستعمار "المتحضرة"، فالأخيرة بقدر ما كانت صدمة موجعة وهزة عميقة في جغرافيا تراث السلطة المحلية – الممالك وأنظمة الحكم قبل الاستعمارية – إلا أنها مثلت أيضاً فوزاً عظيماً للفئات الحاكمة في إخراجها "الحديث"، إذ أتاحت لها أساليب وأدوات غير مسبوقة محلياً في استخراج الفائض الاقتصادي واستغلال الفئات الأدنى وفي التحكم والسيطرة والقمع، عسكرية وإدارية وسياسية وثقافية، ما كانت في إمكانها في ظل أنماط الإنتاج والمعيشة والحكم وافرة اللامركزية أو المجزأة الناتجة عن التطور التاريخي قبل الاستعماري لهذه المجتمعات.

الحجة الاستعمارية كانت الحضارة ولنا أن ننظر كيف قيّم السيد جيمس روبرتسون آخر سكرتير إداري للاستعمار البريطاني في السودان حصاد جهد الانجليز في بلادنا حيث يقول في مذكراته: "عندما ذهب البريطانيون إلى السودان بعد انتصار كتشنر في أم درمان كانت البلاد في حالة مؤسفة، كان الفقر واضطهاد الأهالي في كل مكان، ولم تكن المجاعات شيئاً غير عادي. بين عامي 1898 و1956، وفي أقل من ستين عاماً، أصبح السودان دولة متطورة بكل أجهزة الدولة ومظاهر الحضارة. أنشئت المدارس، وجامعة واحدة، وشفخانات ومستشفيات ومدرسة للطب، وسكك حديدية، ووابورات نهرية، وخطوط للطيران، وخدمات بريدية وبرقية، وميناء جديد على البحر الأحمر، ومساحات شاسعة من الأراضي المروية، ونظام للحكم المحلي ينتشر في أنحاء البلاد، وبرلمان مركزي، ومجلس للوزراء (..) كما أنشئ نظام للمحاكم وقامت قوات الشرطة بالمحافظة على السلام في أنحاء البلاد". بالطبع كل هذا حدث فعلاً، وليس من داع لإنكاره، لكنه لم يتم في فراغ اجتماعي بل في واقع حي ذاخر بالتمايزات والتناقضات الطبقية والثقافية والعرقية المجتمعة والمتسقة في مسار تاريخي خاص بها، مختلف عن درب التطور الأوروبي الرأسمالي نشأت بموجبه فئات غالبة وحاكمة كانت أول الفرحين بالغزاة، ليس حباً فيهم، لكن لأنهم تدخلوا في هذا المسار الخاص بقمع يفتح أفقاً جديداً لبقائها بل يحميها ضد منافسة فئات مناوئة. في هذا الصدد يجوز أن نقصد شاعر البطانة سليل الشيوخ الحاكمين محمد أحمد عوض الكريم أبو سن الحاردلو بحثاً عن الاستدلال الساخر، حيث رجز قائلاً في مقام الضيق بحكم الخليفة عبد الله التعايشي وطلب نجدة الانجليز: "ناس قباح من الغرب يوم جونا، جابو التصفية ومن البيوت مرقونا. أولاد ناس عزاز متل الكلاب سوّونا، يا يابا النقس يا الانجليز ألفونا" (ضمن تاريخ السودان لنعوم شقير). على عكس التصور الاستعماري لخلو افريقيا من التاريخ وسلبية أهلها القانعة بل لا انسانيتهم قبل بشريات الامبريالية، أو بلفظ السيد هارولد ماكمايكل، أحد أبرز الإداريين في الإمبراطورية البريطانية، في معرض حديث له عن الانثربولوجيا الدارسة للبنى الاجتماعية والعادات والمعتقدات وأنماط التفكير الخاصة "بأجناس البشرية": "فهم هذه الأمور يمثل تجهيز ضروري للإداري المسؤول عن قياد الاجناس البدائية التي تختلف عملياتها الذهنية عننا. بين عقل الأوروبي المتعلم الذي يرث قرون من الحضارة الغربية وعقل المتوحش البدائي خليج واسع لا يتسنى للأخير عبوره بسهولة" (ضمن عبد الغفار م. أحمد، 2002)، يثبت التأني غير المتحامل وغير العنصري أن التاريخ الاجتماعي للمستعمرات لم يدشنه الغزو التحديثي. في السودان كانت هناك بنى اجتماعية موجودة وفعالة لا يكفيها بأية حال مفهوم "القبلية" حسب التعريف المدرسي الاستعماري - الإنسيكلوبيديا العالمية للعلوم الاجتماعية (1968) تعرف القبيلة بأنها "تجمع أولي لأناس يعيشون في ظروف بدائية أو متوحشة تحت قيادة زعيم أو شيخ"، بينما تضيف شروح أخرى على هذا المتن عوامل اللغة والنسب والأرض المشتركة. تحديد كالذي سبق للوجود الاجتماعي يكرس أولاً للقبيلة كنظام اجتماعي لا تاريخي ويتعامى عن النشوء الملموس لأنماط انتاجية ومعيشية ونظم اقتصادية وسياسية وثقافية متميزة، صراعية ومتطورة كغيرها من تواريخ البشرية، وذلك بزعم التصنيف السهل والعنصري الجاهل لكل ما هو غير أوروبي وقبل استعماري بأنه فوضى وتوحش وبدائية وتخلف – أي لا تاريخ.

نعود لمذكرات السيد جيمس روبرتسون المذكورة آنفاً ونقرأ فقرتها الأخيرة بخصوص عمله في السودان: "كنا منهمكين في بناء تلك التركيبات الحضارية، وكان ذلك هو الهدف الذي وجهنا له طاقاتنا والتزاماتنا. هل كان ذلك شيئاً رديئاً حسب ما يقول منتقدونا الآن؟" ببساطة كان استعماراً، كان استيلاءاً بقوة السلاح على شعوب وأراض وحضارات، واستغلالاً لثروات ومقدرات ليست في سهول كنت ويورك، بل في بادية السودان وحضره. سُمي الاستعمار بناءاً، وليس إعادة بناء، فالمحتلون اعتبروا البلدان المستعمرة أراض بكر لم يقبلوا لا بقوامها الأول أو سكانها المحليين، والبناء كان جسده الاستغلال الاقتصادي وروحه دحض الهويات المحلية (توركمن، 2003). عمل الاستعمار بحركة مزدوجة: أولاً كان عليه إزالة المؤسسات والثقافات التي تطورت قبله في استجابة للحوجة الأساسية للرأسمالية في أن تهندس وتوافق بين ثروة الرأسمال المغتربة عن أرضها وبين طاقة العمل للعاملين المنزوعة أرضهم. تقليص كل شئ وأي شئ بما في ذلك الإنتاج والعمل إلى القيمة المجردة للمال يتيح للرأسمالية نزع المجتمعات من حيزها المحلي. بعد إنجاز شكل كوني للتبادل يقوم الاستعمار بإعادة احتلال وإعادة تشكيل وتأسيس كافة المجالات الرمزية كالقوميات والدول والأسر؛ نزع الثقافة وإعادة التثقيف التي عبرها لا بد من تفكيك وتذويب الفضاءات الثقافية للمجتمعات المحلية ومن ثم إعادة خلقها بما يوافق حوجات جهاز القوة الاستعمارية (يونغ، 2001). أول التركيبات الحضارية الجديدة كان جهاز الدولة القومية المستورد من سياق التاريخ الأوروبي، والذي تشكلت حوله أحياز سياسية واقتصادية ذات أبعاد وجذور في تاريخ المجتمعات السودانية فيما قبل الاستعمار، رغم لا تاريخيتها المزعومة، فقد أتاحت التكنولوجيا الحديثة إمكانية توحيد الأراضي عن طريق أسلحتها وسككها الحديدية وطرقها وتلغرافاتها وتليفوناتها. نحن نعلم اليوم أن "الحضارة" ما كانت محايدة أو طيبة، على عكس تأكيدات السيد روبرتسون، بل كانت مشروعاً آيديولوجياً آلته الامبريالية والاستغلال الرأسمالي، كما لم تكن الأرض التي استقبلته محايدة ولا تاريخية، حيث اندغم بصورة أو أخرى، تختلف حسب الظروف المحلية لكل بيئة، في مسارات تاريخية غير أوروبية تتمايز فيها القوى أيضاً وتتنافس الفئات الاجتماعية في ديالكتيك خاص بها. الواقع أن حيز الدولة يُصنع من خلال الإكراه الذي لم تبخل به السلطات الاستعمارية وأسرفت فيه وارثتها دولة ما بعد الاستعمار فمارست السلطة بلا مواربة خاصة والابتكارات التكنولوجية تيسر لها ذلك أكثر من أي وقت مضى؛ فهناك العمل الإجباري أو شبه الإجباري بدعوى الاستثمار البشري، و"الكشات" و"الكبسات"، وعمليات التمشيط لأداء الضرائب، ومكافحة "التكدس البشري" و"العناصر غير المرغوب فيها" في المدن، وتجميع القرى، وترحيل السكان، وإخلاء الأحياء بقوة السلاح، بجانب المشاركة الاجبارية في مظاهرات أبدية لمساندة النظام، وحشود التعبئة، وتلقين الطقوس التقليدية الجديدة للخضوع السياسي، والعضوية في الحزب الواحد أو الحزب المهيمن بقوة القانون أو بالأمر الواقع، وفرض مصطلحات رمزية في الملبس والهندام والإشارة والحديث، كذلك الضرب والجلد والوشاية والإعدام والسجن بلا محاكمة. هكذا تفرض السلطة تحكمها في السكان المراد اخضاعهم عن طريق قوات النظام وبواسطة الأمن والمخبرين، حتى أنهم يتصرفوا كما لو كانوا قوات إحتلال عسكرية، فالدولة إذن مفروضة بالمعنى الأولي للكلمة ويعترف في احيان كثيرة سكان القرى بأنهم "مثل النساء، إذا جاء أحد من المدينة ليقول لنا ما علينا أن نفعل، لا يمكننا إلا أن نقول نعم" (ضمن بايار، 1992).

رغم تباين المزاعم الآيديولوجية بين زمرة حاكمة وأخرى لعبت دعاوى "التنمية" في دولة ما بعد الاستعمار نفس الدور الذي لعبته دعاوى "الحضارة" تحت نير الإحتلال الأجنبي كونها أساس مشروعية ومقبولية النظم السياسية التي أعقبت الاستعمار منذ تفاؤل عقد التنمية غير المحدود في الستينات ثم تشاؤم السبعينات الأسود وبعده سياسات التكييف الهيكلي في الثمانينات والتسعينات ثم اليوم التنمية بالوكالة عبر مشروعات الأمم المتحدة وأهداف الألفية الإنمائية. من ناحية أخرى فإن الدولة ما بعد الاستعمارية، خاصة الافريقية، ظلت جهازاً يتموضع في موزاييك من الكينونات الجغرافية، التي يتم فيها إنتاج وتكوين الاقتصادات والثقافات والمجتمعات المتباينة، وكان من المأمول عشية الاستقلال أن تمر بعملية تحول "سحري" من كونها عماد شرور الاستعمار من اضطهاد واستغلال إلى كونها التنزل المشخصن للاحتمالات اللاحقة للاستعمار من حرية ومساواة؛ إعادة التخيل هذه سمحت بتأهيل وتوكيل وأفرقنة الدولة كمجموعة من الممارسات والعمليات والأفكار والمصالح (زيليزا، 1998). بالنظر إلى حصاد اسطورة التنمية يتبين أن هناك أزمة شاملة مستحكمة في نماذج ومنطق التنمية في معظم بلدان العالم الثالث ومنها بلادنا تجمع بين معطيات أساسية: (1) الإنهاك شبه التام لديناميكيات التنمية الداخلية، اللاصناعية، التي كانت سنداً لنمو هذه الدول منذ عدة قرون والتي ما زالت تعمل حتى الآن، مع الابتعاد عن الصورة التي كرسها الاستعمار عن هذه المجتمعات أي أنها ظلت ساكنة حتى الصدمة الناتجة عن الاستعمار الغربي بمختلف أنواعه في القرن التاسع عشر. كانت هذه المجتمعات تسير في خطوط تنمية خاصة بها، في مسارات تاريخية خاصة بها، وكان لها في الغالب آليات قوية، تواجه اليوم مجموعة من العراقيل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والايكولوجية، قد تكون استنفذت فعاليتها تماماً. (2) عراقيل ديناميكيات التنمية الخارجية، ديناميكيات النموذج التاريخي للتنمية الرأسمالية، أي إضفاء طابع "العالم الثالث" على أسلوب الإنتاج الرأسمالي الصناعي بعد انتشاره في المجتمعات غير الغربية مع اقتران ذلك بتبعية هذه المجتمعات (فيدروفيتش وهنري وبييل، 1993). هذه الديناميكيات تحمل عناصر هدم الهياكل العميقة في هذه المجتمعات واستقطاع متزايد من ثرواتها ورأسمالها لصالح الدول الصناعية، وتواجه اليوم نتائج هذا النهب المنظم: أزمة القطاعات الاقتصادية الحديثة في البلدان النامية، تحويل المدن إلى مدن الصفيح، الإنفجار السكاني، تدهور علاقات الغذاء والسكان، فشل النظام الإنتاجي وأزمة الطاقة، وبسبب ذلك ومن مسبباته تفتت مجتمعات الدول "القومية" إلى عدة أعراق وأديان يصعب التوفيق بينها، الأمر الذي يمنع من الاعتقاد أن الدولة (القومية) هي الحل – في جميع الظروف – لحق الشعوب في تقرير مصيرها. لقد إتضح أن نموذج التنمية الذي تبنته الدول، حتى في أكثر الدول القابلة للاستمرار سياسياً، غير قادر على إدماج المجتمع الموزع على المساحة القومية برمته، سواء كان ذلك يرجع إلى عراقيل خارجية أو إلى الضعف البنائي الداخلي (المصدر السابق)، وعلى ذلك تشهد حاضرة الأحوال التي تعيشها بلادنا بعد خمسين عام من الاستقلال.

أختم، دون كثير تعليق، ببعض ما قاله السيد حسن الطاهر زروق، أول نائب برلماني شيوعي في تاريخ بلادنا، أمام مجلس النواب في جلسته 32 يوم 16 أغسطس 1955 والتي أعلن فيها الاستقلال من تحت قبة البرلمان: "..إننا في المكان الأول نريد أن نقيم في بلادنا حكماً ديمقراطياً يمثل المصالح الكبرى للشعب على أساس النظام الجمهوري البرلماني، إننا نريد مصيراً جديداً لشعبنا تطلق فيه الحريات الديمقراطية، وفي يد هذا المجلس أن يغير الوضع التشريعي وقانون عقوبات السودان وقانون التحقيق الجنائي الذي صفدنا به الاستعمار (..) والمصير الذي نريده لبلادنا يجب أن يكفل لكل المواطنين من زراع وعمال وموظفين وطلبة وأرباب حرف ونساء مستوى لائقاً من المعيشة والحقوق الديمقراطية فهؤلاء هم العنصر الحي المتطور صاحب المستقبل في بلادنا وهم صانعو تاريخه.." (ضمن محمد عامر بشير، 1975) وكأني بها جلسة من جلسات البرلمان اليوم فالمطالب الشعبية ما زالت هي بما في ذلك تعديل القوانين. للاستزادة المفارقة نقرأ بعضاً من حديث مناضلنا في الجلسة المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ التي أجيز فيها الدستور المؤقت بتاريخ 31 ديسمبر 1955، الحديث الذي اعترضه رئيس المجلس بزعمه أن الرجل قد خرج عن الموضوع: "أمامنا الآن اقتراح لإقرار دستور مؤقت يطلب منا أن نناقشه وأن نقره في جلسة واحدة، وُضع وعُرض بطريقة لا يُفهم منها أن مقدميه يقدرون مسؤولية ما نحن مقدمون عليه (..) إن الحكومة والأحزاب المؤتلفة قد نظروا نظرة خاطئة حينما حسبوه مجرد تعديلات شكلية على دستور الحكم الذاتي ونحن نختلف معهم في هذا ونرى أن هناك طريقاً آخر يقول بأن يكون الدستور رمزاً للأماني التي كافح من أجلها الشعب وتدعيماً للمكاسب التي نالها وينعكس كل ذلك في حكم وطني ديمقراطي فالدستور الذي نريده يجب أن يكون خلاصة حية للتجارب التي عشناها (..) إن أي دستور لا يشترك الناس في وضعه عن طريق ممثليهم المنتخبين لن يكون معبراً عن إرادة الشعب ولن نستطيع أن نطلب من الناس احترامه وطاعته والولاء له (..) لا يمكن أن نقول بوجود حريات إلا إذا أزيلت المواد المعادية للحريات، الأمر الذي لم تقم به الحكومة حتى هذه اللحظة، وأن ينص على أن يتمتع الناس بالحريات العامة في حدود أحكام الدستور فيتمتع الناس بحرية الاعتقاد السياسي وحرية الكلام والنشر والاجتماع وتنظيم الجمعيات والتنقل وتسيير المواكب والمظاهرات وحقوق الإضراب في حدود أحكام الدستور والآداب العامة والصحة وتقديم الدولة كل التسهيلات لحماية هذه الحقوق.."(المصدر السابق) بخ بخ حسن الطاهر زروق، لله درك.



#مجدي_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورات بوليفيا
- عن نضال المزارعين
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري - الأخيرة
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري - الأخيرة
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري 4
- العدالة الانتقالية
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري 3
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري 2
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري
- المؤتمر الوطني حزب وطبقة
- ما بعد التجمع
- نموذج المركز ضد الهامش و الصراع الطبقي في السودان
- ماهية فوضى الغوغاء
- حفظ السلام
- بصدد خصخصة السياسة
- بصدد خصخصة الدولة
- في ضرورة الماركسية و المهام العالقة
- سلم تسلم
- بصدد الدين -الوطني- و السلطة -الإستعمارية-
- النخبة و الطبقة في الصراع السياسي السوداني


المزيد.....




- بايدن واثق من أن ترمب -لن يقبل- نتيجة الانتخابات الرئاسية
- حماس: إسرائيل غير جادة وتستغل المفاوضات غطاء لاجتياح رفح
- بايدن: القنابل التي قدمناها لإسرائيل استخدمت في قتل المدنيين ...
- سويسرا ترصد 11 مليون دولار للأونروا في غزة
- بايدن على قناعة بأن ترامب لن يعترف بهزيمة في الانتخابات
- قائد -نوراد-: الولايات المتحدة غير قادرة على صد هجوم بحجم ال ...
- أبرز مواصفات iPad Pro 13 الجديد من آبل
- سويسرا ترصد 11 مليون دولار للأونروا في غزة
- الجيش الإسرائيلي: معبر -كرم أبو سالم- تعرض للقصف من رفح مجدد ...
- -يني شفق-: 5 دول إفريقية قررت إنهاء عمليات الشحن البري مع إس ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - مجدي الجزولي - بعد الاستعمار قبل التحرير: في الذكرى الخمسين لاستقلال السودان