أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - إيمان أحمد إسماعيل - قراءة التراث وإنتاج شروط الفاعلية في الأمة العربية















المزيد.....

قراءة التراث وإنتاج شروط الفاعلية في الأمة العربية


إيمان أحمد إسماعيل

الحوار المتمدن-العدد: 5504 - 2017 / 4 / 27 - 17:00
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


التّراث يشكل السّمة المميزة لكلّ أمةٍ عن غيرها؛ وهو الذّاكرة الحيّة للفرد والمجتمع، ويمثّل بالتّالي هويّةً ثقافية تُعرف بها الشّعوب.
والتّراث ركيزةٌ أساسية من ركائز هويتنا، والتّحديات العظيمة التي تواجهها أمتنا اليوم تحتِّم علينا، نحن جموع المشتغلين بالثّقافة والبحث، أن نعود بأفهامنا وجماع وعينا إلى تراثنا العربي الإسلامي فنجدد الاتصال به ونعمق فهمنا له، على ضوء تطور وعينا ونمو معارفنا وتحسن أساليبنا في البحث والدّراسة، فنقصي عيوبه ونطوّر إيجابياته، نحن مطالبون باستيعاب تراثنا العربي الإسلامي لا لتكريس آثاره السّلبية بل لخلق أنساق ثقافية جديدة تمكننا من استيعاب التّراث الثّقافي الإنساني الحديث والمعاصر، بمثل سعة الأفق وعمق النّظر اللذين استوعب بهما أسلافنا تراث الثّقافات والحضارات التي اطلعوا عليها وتواصلوا معها، إذ دخل العقل العربي الإسلامي مع الفتوحات في مناطق حضارات متراكمة وواجه ثقافات عريقة ومتطورة ما كان العرب في بداية أمرهم على نفس هذه الهوية الثّقافية، عندها واجه العقل العربي تحديًّا حضاريًّا كبيرًا فاستوعبه وهضم كلّ الموروث الحضاري لشعوب المنطقة، ثمّ أبدع ثقافة وحضارة جديدة أظهرت ما للعقل البشري من قدرةٍ عجيبةٍ على استيعاب التّراكم الحضاري وتجاوزه بعد ذلك.
ومن هنا يأتي التّساؤل: ما الذي حجّم العقل العربي الإسلامي ؟ لماذا تحوّل من عقلٍ حضاريّ بنى واحدة من كبرى الحضارات الإنسانية إلى عقلٍ صانعٍ للتخلف؟ ما هي الآليات التي قادته للانكفاء على ذاته فتحول من أداةٍ فاعلةٍ في التّاريخ إلى أداةٍ مفعول بها ؟ لماذا لا يستطيع العقل العربي الآن القيام بهذه العمليات (المواجهة والاستيعاب والهضم)، ومن ثمّ الإسهام في بناء الحضارة الكونية بصفته منتجًا لا بصفته مستهلكًا ؟.
الذّات العربية الحديثة في حاجةٍ أكيدة إلى الحقول المعرفية والعلمية التي تتنامى في الغرب بشكلٍ كبير، وإلى الإفادة من نتائج الثّورات العلمية المذهلة النّاتجة عن تنامي هذه المعارف والعلوم، لكن دون أن تخفي هذه الذّات مكوّن هويتها الثّقافية التي، حسب اعتقادي، تحمل أجنّة التّقدم في أحشائها، ودون أن تتنكر في سبيل تأكيد حضورها وفاعليتها في الثّقافة الكونية لماضيها وتراثها، بحجة أنّ هذا الماضي أو هذا التّراث يشكّل عبئًا معرفيًا عليها.
ولكن كيف تقرأ الذّات العربية تراثها دون أن تتخذ عملية الذّات شكل النّكوص إلى الماضي للاحتماء به، وكأنّه، كما يقول أحد المفكرين العرب المعاصرين، أبٌ حان ينقذنا ؟.
يحاول الفكر العربي المعاصر إيجاد طريقة ملائمة للتعامل مع التّراث، وقد لاحظ المفكرون أنّه عادة ما يعود النّاس إلى الماضي وفي أذهانهم أشياء ثلاثة: "فبعضٌ يريد صورًا مشرقة ينقلها إلى الجيل لرفع معنوياته، وهو في هذا ربّما يعمل على حجب الرّواية كاملة، إن لم تكن تخدم غرضه أو سيعمد إلى صناعة دفاعات متينة واعتذارات كبرى حتّى يمرر فكرته، وهذا هو السّلوك الشائع؛...فآلية الحجب والتّمرير وصناعة الأخطاء التّاريخية شرط لهذا النّوع من زوّار التّاريخ...وبعضٌ يعود إلى الماضي للبحث عن حلول لواقعه العصيّ؛ لعلّ نموذجًا تاريخيًّا ما يسعفه ويصبح له قدوةٌ؛ فالحركيون يريدون من السيرة أن تجيبهم عن خطة النّجاح الحركي، والمقاومون يريدون من صلاح الدّين أن يخطط لهم للتحرير...والسّياسيون يريدون من العُمرين أن يحلا لهم مشكلة النّظام السّياسي الأمثل...فالعجز عن مواجهة استحقاقات الحاضر يقود إلى البحث في دفاتر الماضي، وبعضٌ يبحث في التّاريخ عن جذور مشاكل الحاضر في عمقها المعرفي الدفين في بيئتنا التراثية"1.
في واقع الأمر انشغل التّيار السّلفي في الفكر العربي الحديث والمعاصر "أكثر من غيره بالتّراث وإحيائه واستثماره في إطار قراءة أيديولوجية سافرة، أساسها إسقاط صورة المستقبل المنشود "المستقبل الأيديولوجي"، على الماضي، ثمّ البرهنة انطلاقًا من عملية الإسقاط هذه على أنّ ما تمّ في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل، وهذه القراءة السّلفية للتراث قراءة ترفع شعار الأصالة والتّمسك بالجذور والحفاظ على الهوية على أنّها الإسلام ذاته وليس إسلام المسلمين المعاصرين، وهي قراءة أيديولوجية "كانت تبرر نفسها عندما كانت وسيلة لتأكيد الذّات وبعث الثّقة فيها، إنّها آلية للدفاع معروفة، وهي مشروعة فقط عندما تكون جزءًا من مشروع للقفز والطّفرة...لكن الذي حدث هو العكس تمامًا، لقد أصبحت الوسيلة غاية: فالماضي الذي أعيد بناؤه بسرعة قصد الارتكاز عليه لـ "النّهوض" أصبح هو نفسه مشروع النّهضة، هكذا أصبح المستقبل يُقرأ بواسطة الماضي، ولكن، لا الماضي الذي كان بالفعل، بل الماضي كما كان ينبغي أن يكون، وبما أنّ هذا الأخير لم يتحقق إلّا على صعيد الوجدان، صعيد الحلم، فإنّ صورة المستقبل الآتي ظلت هي نفسها صورة المستقبل الماضي"2.
ولأنّ الفكر العربي الحديث يفتقد في مجمله إلى الموضوعية، فإنّ قراءته للتراث، في معظمها، قراءة سلفية تنزّه الماضي وتقدِّسه وتستمد منه الحلول الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل، ينطبق هذا على التّيار الدّيني والتّيارات الأخرى، إذ يقتبس العرب جميعًا مشروع نهضتهم من الماضي، إنّ البحث المستمر عن حلول ناجزة لمشاكل الحاضر في الماضي يجمد الزّمان ويلغي التّطور. وهذا النّشاط الذّهني الآلي الذي يبحث عن حلولٍ ناجزةٍ لكلّ المشاكل المستجدة في أصلٍ ما هو جزء من بنية العقل الذي يتعين فحصه ونقده بكلّ صرامة قبل الدّعوة إلى تجديده وتحديثه، فهذا العقل لن يتجدد إلّا على أنقاض القديم وانطلاقًا من نقدٍ شاملٍ وعميق3. وتجديد العقل العربي يحتاج كسرًا لبنية هذا العقل، ولا يعني هذا إحداث قطيعة مع التّراث، وإنّما يعني تخلينا عن الفهم التّراثي للتراث، وتحرّرنا من الرّواسب التّراثية في عملية فهمنا للتراث4.
إنّ أخطر القراءات تلك التي تبحث عن حلولٍ للحاضر في الماضي انطلاقًا من الاعتقاد بأنّ حلًا سحريًّا ما موجود فيه يمكن استدعائه للإجابة عن التّساؤلات المطروحة في حاضرنا، وهذا خطأ كبير، فالبحث عن الحلول هروب من استحقاقات الحاضر، وإنّما المجدي لنا أن نتجه إلى قراءة التّراث لاكتشاف أوجه الخلل والبحث عن جذور التّخلف والتّخبط الذي يغرق واقعنا الثّقافيّ والفكريّ، وكذلك لا يجب أن نقرأ التّراث للاحتماء به كأنّه أبٌ حان فنحن لا نحتاج إلى آباء منقذين أو مخلصين، وإنّما دورنا أن نؤسّس ذاتنا ولا نتركها تحت حماية هذا الأب سواء أكان أفرادًا أو جماعات، حاضرًا أو ماضيًا، دينيًّا أو علمانويًّا، ...إلخ، ويقتضي هذا التّأسيس تنشيط دور الذّات الفاعلة التي يجب أن تقود المجموع لا أن تقاد للمجموع.
أمّا قراءة الماضي المشرّف لرفع المعنويات وتقريض الذّات فليس أمرًا سيئًا، فللتاريخ دوره في رفع الهمم بشرط عدم تعارضه مع العلم الحديث والتّطلعات الإنسانية دون المبالغة في ذلك فيصبح سلاحًا فتاكًا في مصادرة وعينا بالمشاكل التي قادت الأوضاع إلى ما هي عليه الآن، لابد أن نعترف دونما خوف أو خجل من أنّ الواقع المعاصر ليس هو ابن عطاءات أبناء هذا القرن فقط، وليس رحلة تاريخية كان نتاجها هذا القرن؛ فالتّخلف لا ينشأ فجأة وإنّما هو مرض مزمن يفعل فعله بالتّراكم عبر قرون، ويجب ألّا تحجب إشراقات بعض لحظات التّاريخ القديم خطوط القصور التي شكّلت واقعنا الحالي الذي نعانيه، ولو كان الماضي كلّه، أو حتّى أغلبه، مشرقًا لما كانت اللحظة القائمة موجودة من الأساس.
إنّ الحراك التّاريخي لا زاوية واحدة له، فهو ليس سلبًا كلّه وليس إيجابًا كلّه، فهو ظاهرة بشرية تخضع للوعي البشري وتقلباته، فقد تركد رياح أمة في عصر لتبعث في عصر آخر، وقدرة أي أمة تبرز في تجدّدها وإعادة إنتاج شروط الفاعلية فيها، واليوم نقف أمام تاريخنا باعتباره معطًى موضوعيًّا مؤثرًا في حاضرنا بغض النّظر عن موقفنا منه، فالأمر لا يتعلق بالإدانة أو بالتّمجيد، ولكن بالاستفادة من الإنجازات الكبرى التي نتجت عن هذا المخاض الطّويل، واستعادة الفاعلية في الملايين الذين ينتظرون فاعلية مع التّقدم الحضاري الرّاهن من المنتمين للتراث العربي الإسلامي لدخول التّاريخ وتشكيل قيمة مضافة للبشرية، ولن يتحقق ذلك إلّا بإعادة النّظر في العوائق التي يحملها التّراث لكلّ هذه الجموع الملتزمة به في رحلتها نحو التّقدم5.
وإعادة النّظر هذه تحتاج إلى قراءة عميقة تنظر إلى التّراث على أنّه منتج بشري قابل للنقد والمحاكمة، وهو بكلّ تجلياته السّياسية والاقتصادية والاجتماعية ومناهج البحث المختلفة التي شكّلت فضاءنا المعرفي كلّها تحتاج إلى قراءة عميقة حتّى وإن أدت إلى اكتشاف القصور في التّراث والمنتج البشري، لابد من الإقرار بأنّ ما أنتجه البشر يحتاج إلى مراجعات بعضها كبير لكنّه ضروري لمواصلة التّقدم، فلكي نخرج من هذا المأزق التّاريخي يجب البناء بجرأة واستمرارية على الصّالح من المنجزات التّراثية تلك التي لا تتعارض مع العلم وتشكل أساسًا لأنماط ثقافية جديدة.
إنّ التّراث الذي بين أيدينا تراث غني يحمل بصمات الفترة التي تشكّل عبرها كما يحمل إشكالياتها ووعيها بزمنها وعبقرية أو قصور أصحاب هذه القرون في الوقت ذاته، فإذا كنا حقيقة نريد مقاربة عصر جديد لابد أن نزور هذا التّراث بعيون فاحصة لمعرفة كيف أثّر جزء منه سلبًا في حركة الأمة في الماضي، وكيف يؤثر اليوم فينا، وهذا الجزء المعيق يلامس التّصور التاريخي كما يلامس العقائد وأصول الفقه وعلوم الحديث وعلوم التّزكية وعلم التّفسير، وعلوم اللغة والبلاغة والإنتاج الأدبي وغيره، فكلّ ما على السّطح هو ابن ذلك العمق الدّفين سواء بفهمٍ أو بسوء تأويل. إنّ الكشف عن طبقات التّاريخ للغوص في جذور حالة عدم الفاعلية، وكيف تراكمت عبر القرون لتشكل واقعنا المعاصر، هو الطّريق الوحيد لفك أسر الدّين وأسر مجتمعاتنا من الرّكود؛ فالتّقدم ابن الفاعلية، والفاعلية بنت تحرير التّصوّرات ومنظومات الفكر6.
ولكي ندرك العوامل التي أوقفت نمونا عبر قرونٍ متطاولة نحتاج إلى سبر لهذه العوامل التي سطّحت العقل المسلم في الماضي والحاضر، وجعلت هذا العقل يدور في حلقةٍ مفرغةٍ من الوعظ العاجز عن تغيير الواقع الفردي أو الجمعي بشكل يغير حياة المجتمع. إنّ واقعنا الحالي وقضاياه لا تنفك عن أزمات الفكر في تاريخنا وأقضيته؛ فظواهر كـ: الاستبداد، ونظام التّفكير اللاعقلاني، والعلاقة السّيئة بالعلم والكشف والسّؤال، والشّعور بالعجز، والفكر المضطرب العلاقة بالدّنيا، والفكر المضطرب العلاقة بالآخرة، وغياب آلية التّداول السّلس للسلطة، والصّراعات المذهبية والطّائفية والعرقية.. إلخ كلّها آفات نعاني منها الآن ولا يمكن فهمها إلّا بالغوص عميقًا في كيفية إنشاء الوعي الجمعي في أمتنا، والظّروف التي قادت إلى تكوينه7. إنّ مشكلة أمتنا ليست من خارجها ولكنّها في منظومتها المعرفية الأعمق، فلا ينبغي أن نتوقف عن طرح الأسئلة، أو نجهضها بموقف دفاعي مسبق، في سبيل كشف الآثار السّلبية المتعلقة بالتّراكم التّاريخي الذي ما زال يشكل واقعنا حتّى اليوم.
إنّ التّجديد يعني بناء فهمٍ جديدٍ للتراث يرتكز على المعاصرة وينطلق من الأصول مباشرة، ويعمل على تحيين التّراث وجعله معاصرًا لنا وأساسًا لنهضتنا وانطلاقتنا، ففصل الذّات عن الموضوع عند قراءة التّراث أمرٌ ضروري، لأنّ القارئ العربي المعاصر، كما يقول د. عابد الجابري، "مؤطر بتراثه، مثقل بحاضره ..مؤطر بتراثه، بمعنى أنّ التّراث يحتويه احتواء يفقده استقلاله وحريته.. ولذلك فعندما يقرأ القارئ العربي نصًّا من نصوص تراثه يقرأه متذكرًا لا مكتشفًا ولا مستفهمًا..والقارئ العربي..مثقل بحاضره، يطلب السّند في تراثه ويقرأ فيه آماله ورغباته، إنّه يريد أن يجد العلم والعقلانية والتّقدم و.. و.. أي كلّ ما يفتقده في حاضره، سواء على صعيد الحلم أو صعيد الواقع، ولذلك تجده، عند القراءة، يسابق الكلمات بحثًا عن المعنى الذي يستجيب لحاجته، يقرأ شيئًا ويهمل أشياء، فيمزق وحدة النّص ويحرّف دلالته، ويخرج عن مجاله المعرفي التّاريخي. القارئ العربي المعاصر يعيش تحت ضغط الحاجة إلى مواكبة العصر، والعصر يهرب منه، إلى مزيد من تأكيد الذّات، إلى حلول سحرية لمشاكله العديدة المتكاثرة، ولذلك تجده على الرّغم من أنّ التّراث يحتويه، يحاول أن يكيف احتواء التّراث له بالشّكل الذي يجعله يقرأ فيه ما لم يستطع بعد إنجازه، إنّه يقرأ كلّ مشاغله في النّصوص قبل أن يقرأ النصوص"8.
نحتاج نحن أبناء الأمة العربية والاستمرارية التّاريخية التي بدأت قبل الإسلام أن نتصالح مع تراثنا الضّخم وتاريخنا العريق لأنّنا تطور له، وإذا كنا الآن نعاني من تخلفٍ معرفيٍّ فإنّنا نحتاج إلى ثورة داخلية في الفكر، ثورة لا تفكك الهوية ولا تزدري التّاريخ ولا تكفر بذواتنا الفاعلة أو التي يجب أن تكون فاعلة، بل تبعث روح تراثنا متجددة فياضة، فلا يقف عائقًا أمام دخولنا الحداثة التي هي قطيعة معرفية "تتم على مستوى النّصوص وفهمها، وإعادة تأويلها، وليس إهمالها، فنحن أمة تراثية، ملبوسون بالتّراث من قمة رأسنا إلى أخمص قدمنا، وبالتّالي لا نستطيع أن ندخل الحداثة عراة من هذه النّصوص فهي مؤسّسة لكلّ ما فينا. إذن حتّى ندخل الحداثة لا يجب علينا أن ننقطع من النّصوص، ولكن يجب علينا إعادة تأويلها، وأن نربط النّصوص بتاريخها وسياقها، ونفهمها على ضوء حاجاتنا نحن لا كما فهمها الأقدمون على ضوء حاجاتهم هم"9.
التّاريخ هو الماضي متصلًا بالحاضر، وقراءته تستلزم وعيًّا يتجاوز عملية النّقل والتّسليم بالرّوايات، فمفهوم التّاريخ لا يتميز إلّا إذا انحاز للوعي وحلّ كلّه فيه10، بل إنّ وجود التّاريخ في حد ذاته يستلزم الوعي الشّامل التّام به، فـ"إذا حضر كان التّاريخ وإذا غاب انعدم بغيابه التّاريخ...المخرج الوحيد هو التّجاوز لا بمعنى تخطي مدرسة أو مقولة بعينها، ولكن بمعنى القفز فوق ممارسة محددة في نقل الأخبار، ممارسة دامت قرونًا وقرونًا ولا تزال إلى يومنا هذا"11، ففي المجتمعات التي لم تعرف ثورة علمية، كمجتمعاتنا العربية، لا يوجد فرق بين التّاريخ والرّواية، الماضي والحاضر، الفرد والجماعة12، ومن ثمّ لابد من تحقق الوعي بالترّاث وبالدّور التّاريخي، ذلك أنّ "الوعي بالتّراث دون وعي بالدّور التّاريخي من شأنه أن ينتهي بهذا التّراث إلى الجمود، حيث تغيب كلّ الفعاليات اللازمة لاستمرار حيويته، والوعي بالدّور التّاريخي دون وعي بالتّراث يمثل قطيعة أبستمولوجية ضد تاريخية الإنسان النّفسية والعقلية"13.
تحقيق النّهضة العربية مرهون بتحرير العقل، على وجه العموم، وبتحقيق ثورةٍ فكريةٍ تبدأ بعملية نقد جذرية لتراثنا، وهو ما ليس متحقّقًا حتّى الآن، بسبب العديد من العوائق التي جابهت وتجابه فكر النّهضة العربية الحديث.
العالم الغربي لم يبن نفسه إلّا بقدر ما نقد نفسه، و"العقل الغربي صار متفوقًا وعالمي الحضارة حين مارس النّقد الذّاتي، أمّا نحن الذين لدينا موروث لا يقل أهمية أو حجمًا عن الموروث الغربي، فإنّنا لن نستطيع أن نباشر مهمة التّحديث والوصول إلى النّهضة المرجوة ما لم نقم بالعملية النّقدية نفسها التي أخضعَ الغربُ نفسه لها، لن نستطيع أن نخوض معركة الحداثة ونحن عراة من النّقد الحقيقي"14. فعلينا إعمال العقل في قراءة ومراجعة التّراث الإسلامي بكافة جوانبه الفقهية والكلامية والفلسفية والعلمية والأدبية...باعتباره تراث الذّات العربية.
العودة إلى قراءة الماضي تسهم في معرفة هويتنا، شرط أن تكون قراءة حديثة تنطلق من معطيات الحداثة ومناهجها لتقيم هذه الاستمرارية مع الهوية التّراثية فلا تحولنا إلى معاصرين للتراث بل تجعله معاصرًا لنا، هذه القراءة يمكنها أن تضيف وأن تغني الذّات العربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- د. جاسم سلطان، التراث وإشكالياته الكبرى(نحو وعي جديد بأزمتنا الحضارية)، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2015، ص16-17.
2- د. محمد عابد الجابري، نحن والتراث (قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي)، ط6، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1993، ص 13.
3- د. محمد عابد الجابري، م، س، 19.
4- د. محمد عابد الجابري، م، س، 20-21.
5- د. جاسم سلطان، م، س،17، وما بعدها.
6- د. جاسم سلطان، م، س، 25- 26.
7- د. جاسم سلطان، م، س، 30، وما بعدها.
8- د. محمد عابد الجابري، م، س، 22-23.
9- جورج طرابيشي، من حوار في إسلام أونلاين، يوليو 2008.
10- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ط4، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2005، ص 404.
11- عبد الله العروي، م، س، 41.
12- عبد الله العروي، م، س، 403.
13- د. عز الدين إسماعيل، توظيف التراث في المسرح، مجلة فصول، العدد1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، أكتوبر، 1980، ص 166-167.
14- جورج طرابيشي، من حوار في جريدة الحياة، يناير، 2006.

د. إيمان أحمد إسماعيل التهامي، باحثة مصرية.
[email protected]



#إيمان_أحمد_إسماعيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عمرو بن العاص ومكتبة الإسكندرية
- محمد حماسة وجزاء سنمار.
- قراءة في رواية نجيب محفوظ -ميرامار--2-
- قراءة في رواية -ميرامار- لنجيب محفوظ -1-
- أنا و الدواعش و ابن حجر
- زخاتٌ رومانسية في - أقبلي كالصلاة- لمحمود حسن إسماعيل
- العنصرية والمجتمع العربي


المزيد.....




- بـ4 دقائق.. استمتع بجولة سريعة ومثيرة على سفوح جبال القوقاز ...
- الإمارات.. تأجيل قضية -تنظيم العدالة والكرامة الإرهابي- إلى ...
- لحظة سقوط حافلة ركاب في نهر النيفا بسان بطرسبوغ
- علماء الفلك الروس يسجلون أعنف انفجار شمسي في 25 عاما ويحذرون ...
- نقطة حوار: هل تؤثر تهديدات بايدن في مسار حرب غزة؟
- حصانٌ محاصر على سطح منزل في البرازيل بسبب الفيضانات المميتة ...
- -لا أعرف إذا كنا قد انتشلنا جثثهم أم لا -
- بعد الأمر الحكومي بإغلاق مكاتب القناة في إسرائيل.. الجزيرة: ...
- مقاتلات فرنسية ترسم العلم الروسي في سماء مرسيليا.. خطأ أم خد ...
- كيم جونغ أون يحضر جنازة رئيس الدعاية الكورية الشمالية


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - إيمان أحمد إسماعيل - قراءة التراث وإنتاج شروط الفاعلية في الأمة العربية