أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود غانمي - تبكي الطيور ..و يبكي الرجال















المزيد.....

تبكي الطيور ..و يبكي الرجال


محمود غانمي

الحوار المتمدن-العدد: 5320 - 2016 / 10 / 21 - 13:46
المحور: الادب والفن
    


تبكي الطّيور و...يبكي الرجال...

محمود غانمي – سيدي بوزيد -

طيلة سنة كاملة أو ما يقارب السنة (2014 /2015 ) و إلى حدود هذا المساء 28 / 04 / 2015 كنت سيّد المكان ،كنت أسدا يرتفع زئيره بحسب جرعة الغضب،... إذا دخلت القاعة في معهد 2 مارس بسيدي بوزيد، حين أكون في حضرة تلاميذ الرابعة آداب ، تلاميذ أغلبهم درّستهم في مادّة العربية ثلاث سنوات في مستويات متتالية ،إذا جاوزت عتبة القاعة أتذكّر قول صديقى المتنبّي " أنا ترب النّدى وربّ القوافي و سمام العدى وغيظ الحسود ". وبعدها أجرّد ذاتا من ذاتي فأكون أنا الأستاذ المربيّ الذي يحنو على تلاميذه الذين يراهم أبناءه ، فأمضي معهم في دروب المعرفة ، و كان الآخر منّي، الذي جرّدتُه منّي يلبس قبّعة الدكتاتور أو إهاب الأسد الذي يعنيه أن يترصّد هفوات أبنائي التلاميذ ممن لا يُعنى بالدّرس إعدادا و سماعا ومشاركة و يمضي في الأحاديث الجانبية أو يمارس معي لعبة" تومو " و جيري " حين ألتفت إلى السبّورة لكتابة بعض الجمل و الشروحات ، كان الدكتاتور ينبّهني إلى مثل هذه اللعبة أو سواها ، مثل صمت التلاميذ وعدم مشاركتهم في إنتاج الدّرس، فالدكتاتور يوجد لي القوالب جاهزة فيزّين لي أن أتّهم أبنائي التلاميذ بالإضراب عن الكلام في الدرس إلاّ من رحم ربّك ...كنّا دخلنا في هذه السنة الكبيسة بسبب الإضرابات بشيء من التأخير في مباشرة التلاميذ الدّرس و طوّحت بنا العربية كعربة السندباد السحرية في مدائن الحماسة الشعرية و ممالكها مع أبي تمّام و المتنبّي وابن هانئ أيضا. في الحقيقة كانت قلّة قليلة متحمّسة بسبب من الوضع العام في البلاد والذي عطّل حتّى حبّ الدراسة والوطن ، ... و مكّنتنا العربية من دخول عوالم الجاحظ و سراديب العقل المعتزلي فاستفدنا من منزع الجاحظ في ّمقولة أنّ الصبيان بلا عقول ،فما سمعت الدكتاتور إلاّ وهو يقسو على أبنائي التلاميذ و ينعتهم بغياب العقلانية عندهم فيبتسمون في براءة . و دخلت و الدكتاتورَ معا رِفقَة أبنائي التلاميذ إلى جنّة أبي العلاء المعرّي نزاحم ابن القارح و نضانك الجموع للفوز بصكّ الغفران مع ابن القارح، و أبنائي التلاميذ لا يحرّكهم حتّى الشوق للجنّة. و يحملنا جسر العربية إلى مسرح سعد الله ونّوس فحاولنا الإناخة في مقهى الحكواتي لسماع قصص البطولات وسيَرِ الملا حم ، و إخال أنّي أوعزت لتلاميذي أن يكونوا أبطالا في القسم فهم أحرار أمامي و في عيني و في غفلة الدكتاتور .
تمضي الأيّام والساعات و أجدني وحيدا غير قلة قليلة من التلاميذ أمارس النصوص و أطاعنها وحيدا وما قولي كذا ...و معي الصبر و أيضا معي الدكتاتور يقول لي شدّ عليهم و يزيّن لي تعييرهم وتقريعهم ويزيّن لي الخروج من جبّة الأستاذ لأصير كتلة من الغضب . و كنت في كلّ مرّة أعتذر لعيون تلاميذي البريئة التي لا يسكنها شيطانٌ، أعتذر لشخوصم التي لا تسكنها الذئاب. و دارت الأيّام و التقينا مع أبي هريرة المسعدي ليحدّثنا بما يغري بعشرته في نهاية سنة كبيسة مشحونة بالإضرابات ، سنةٍ مليئة بالثقوب مليئة بالزّبد السياسي حدّثت تلاميذي عن وجودية محمود المسعدي الذي سُمّيت باسمه و قلت لهم إنّ أبا هريرة ماكث فينا و في كلّ إنسان فلنصاحبه إلى آخر تجاربه، لكنّ السنة الدّراسية إلى هذه الحدود ثَقلت على شخوصهم الحائرة المثقلة فلم يصحبوا أبا هريرة إلاّ إلى دير العذارى انتظروه إلى أن نزل منه تحت نداء النفس تأمر بالسوء.
ترك أبنائي التلاميذ الحكمةَ في حضرة أبي هريرة و لاذوا بفكرة إنهاء الزمن، الآن و هنا في معهد 2 مارس يوم 28 / 04 /2015 ، فأقام تلامذة 4 آداب 1 حفلة تكريم لأساتذتهم ، دعيتُ إليها باستدعاء كتابي ممن تزعّم هذه الاحتفالية لقتل الدكتاتورية فينا ، هذا نصّ الاستدعاء
" بسم الله الرحمان الرحيم ،
الصلاة والسلام على أشرف المرسلين
نتشرّف نحن تلامذة رابعة آداب واحد بدعوتكم أساتذتنا الأعزّاء لحضور حفل تكريمكم.
و ذلك بمشيئة الله يوم : الثلاثاء 28 أفريل 2015 على الساعة الثالثة ظهرا
المكان : قاعة عدد 1 معهدنا 02 مارس سيدي بوزيد
أكيد جدّا: الحضور إجباري
مع الشكر والسّلام
إلى السيد محمود غانمي " .
الأكيد أنّك حين كنت تلميذا صغيرا كنت تحلم أن تصير معلّما و حين ارتقى بك العلم كنت تحلم أن تصير أستاذا . و ها أنت كُنْتَه ، فهل حلمت بهذه العبارات من تلاميذ أبرياء براءة الذئب من دم يوسف ؟ بعد حوالي خمسة عشر عاما من التدريس و قد بدأ اليأس يراودك عن كلّ طموح ، بعد عودتك للتعلّم . و قد أعياك أن ترى ذاتك و حقيقتك في التعليم، تأتي لحظة مشرقة ، لحظة صعبة لك أن تروي تفاصيلها بأنا الراوي ، الراوي العليم .
دون تفاصيل هامشية و أنا أسرع السيّارة لأكون في موعد الثالثة و قد نُصّ على الحضور الإجباري دخلت المعهد لا لأقدّم درسا لأبنائي التلاميذ بل لأنال و زملائي منه تكريما وعرفانا بالجميل.و أنا في الطّريق مسرعا أشرقت في ذهني فكرة ، عبارة اختزلت فيها حفل التكريم المنتظر " دمعة وابتسامة " عبارة أثيرة في نفسي تركها فينا جبران خليل جبران ،لا يفهم سرّها إلاّ رومنسي، عبارة جبرانية تختزل ائتلاف شعورين نقيضين الفرح و الأسى مثلا .
في القاعة أحضرَ التلاميذ مذاقات متنوّعة من الحلويات و المشروبات الغازية و قهوة و شموع و بعض الزينة لتجميل القاعة ،حضر الأساتذة و مدير المعهد و القيّمون و بعض الإداريين . كان البعض يبتسم أو يضحك ليضفي على المكان جوّا من المرح و البعض الآخر كان مسهبا في الصمت والتفكير ، و التلاميذ و التلميذات يكملن آخر اللمسات لبدء فعاليات التكريم .أمّا أنا فكانت تمرّ بذهني و أمام بصيرتي أمَمٌ من التلاميذ و جحافل من السّاعات و قارّات من الزمن تتساقط يومياتها الورقة تلو الورقة ،كنت أرى أبعد من أفق القاعة وما احتوت ،كنت أرى أوراق شجرة العمر تذروها الأيّام فتسقط ورقة ورقة ..اغرورقت عيناي بالدموع ولم أبك فصعب أن يبكي الرّجال...
و كانت البداية بكلمة ألقتها التلميذة أ. ب ، كلمة كتبت على ورقة كرّاس عاديّ ،كلمة فيها للأساتذة من التّرحاب و الإجلال الكثير ومن التقدير والاحترام لهم ما يذيب قارة من الثلج بين تلميذ بريء و أستاذ حان عطوف، وفيها من الاعتراف بالجميل ما يزيح كلّ الذّنوب و يلين القلوب ، وفيها من البرّ ما يقيم صرح البنوّة والأبوّة بين تلاميذ أشقتهم الحيرة و سؤال المصير و أساتذة أشقاهم غياب وضوح الرؤية لانعدام ربّان صادق يقود سفينة البلاد لبرّ الأمان...ثمّ أدلى مدير المعهد ع. ب بكلمته شاكرا التلاميذ على لمسة الوفاء والتقدير لأساتذتهم حاثّا إيّاهم في ثناياها على الاجتهاد و الكدّ في الاستعداد للامتحانات متمنّيا لهم النجاح والتوفيق .
و طلبتُ الكلمة ،يا سادتي طلبت الكلمة ، و لكنّ دموعي سبقت كلماتي قطَعَتْ عليها الطّريقَ اغرورقت عيناي و بكيتُ... و صعب أن يبكي الرجال !! بكيت يا سادتي و أنا في حضرة لحظة صعبة بالمعنى الوجودي للكلمة .أنا الذي تأستذت في حضرة تلاميذي، البعض منهم أو أغلبهم و مارست معهم غرور الأستذة ...من قال أنّ الأسد الذي كنتُه و الدكتاتور الذي جرّدته منّي سيبكي مثلما يبكي فيّ الأستاذ المربّي ؟؟؟؟ بكيت يا سادتي و أبكيت تلاميذي في حضرة كلّ الحضور . بكيت كمن يبكي ملكا ضاع منه ، كمن يبكي ابنه المزمع السفر إلى ما وراء البحار ، كمن يبكي ابنه الذاهب لجبهة في جبل الشّعانبي!! و تسألني صديقي القارئ أفعلا يبكي الرجال ؟ هل حقّا بكيت في حضرة من كنتَ تزأر فيهم وبينهم ؟؟ الحقَّ أقول لك : نعم بكيت بكاء الحاني و المشفق و الخائف على مستقبل أبنائي التلاميذ ،بكيت بكاء الأب يحدب على أبنائه الصّغار يواجهون مستقبلا غامضا ، أوّله امتحان الباكالوريا الذي أراه بحرا و يرونه نهرا .بكيت لما قرأت في عيونهم من أمل خائف متردّد رغم ما يبدو في حركاتهم من حبور و فرح .بكيت لما أحسست من براءة في عيونهم التي خلت تماما من شياطين التّلمذة !! بكيت لأنني رأيتني في لحظة مهيبة كهذه لا أقدر على التعبير عن حبّي لأبنائي التّلاميذ إلاّ بالبكاء ، فلا لغة أروع من البكاء للتعبير عن مثل هذا الحبّ والحنوّ .
بكيت يا سادتي و لا عجب . و غالبت البكاء و كفكفت دموعي و قلت كلمتي بكثير من الشجن و التأثّر :« تحضرني الآن عبارة أصبحت مألوفة من جبران إلى عبد الرزّاق الشابي " دمعة وابتسامة ". هذا ما كان يخامرني و أنا آت بإصرار و حرص نزولا عند رغبة تلاميذي الأعزّاء الذين لطالما شيطنّا بعضهم بسبب الأمور المصطنعة في التعليم ...اليوم تغيّرت نظرتي للتلاميذ و سأحرص على تغييرها و المهمّ هو الانتباه إلى الإنساني في الأستاذ ، الإنساني في التلميذ أشكر تلاميذي على هذا التكريم و أرجو لهم النّجاح و التوفيق ،وأنا على استعداد لمساعدتهم ... » . و توالت بعض الكلمات من بقية الحضور . و بعد تناول بعض من المذاق و العصائر تصافح أثناءها الأساتذة و التلاميذ الذين ألحوا كثيرا " سامحني يا أستاذ " معتذرين لكلّ الأساتذة في كثير من الخجل و البنوّة ما يذيب قلوب الآباء حنوّا . و تمّ التقاط صور للذكرى ، لمقاومة النسيان في قاعة التكريم و خارجها ...و أنا بصدد مغادرة هذا الجوّ الاستثنائي جدّا الذي فنّد كل المقولات الزّائفة عن تردّي علاقة التلميذ بالأستاذ ..استحضرت بعضا من المقولات مثل عنوان مسرحية شاهدتها منذ سنوات في المركّب الثقافي أبو بكر القمودي سيدي بوزيد في شكل وان ما نشو عنوانها " انحبّك يا بروف " . كما استحضرت إحدى رباعيات الخيام : " تعال أحدّثك بمصيرنا /نحن الذين تتلمذنا صغارا و تأستذنا كبارا / و أفنينا عمرنا بين مسرّات التّلمذة و غرور الأستذة / لقد جئنا كالماء ومضينا كالهواء " .



#محمود_غانمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شتاء الروح
- سيسقي الله زيتوناتها
- في سماء الخريف
- أيلان ..أه
- حوار مع الروائي الحسين لحفاوي


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود غانمي - تبكي الطيور ..و يبكي الرجال