أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - ياسين الحاج صالح - السياسة الأميركية في -الشرق الأوسط-: من الاستقرار إلى الفوضى الخلاقة















المزيد.....


السياسة الأميركية في -الشرق الأوسط-: من الاستقرار إلى الفوضى الخلاقة


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1411 - 2005 / 12 / 26 - 10:46
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


قد يمكن تقسيم تاريخ السياسة الأميركية حيال "الشرق الأوسط" إلى ثلاثة مراحل. تمتد الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو عام 1943 (لقاء الرئيس آيزنهاور والملك عبد العزيز بن سعود)، حتى نهاية الحرب الباردة عام 1989، والثانية بين عامي 1989 و2001، والثالثة بعد هجمات 11 أيلول 2001 حتى يومنا. المرحلة الأولى هي مرحلة الحرب الباردة، العدو هو الشيوعية العالمية، وأدواتها هي الأحلاف العسكرية والانقلابات ومشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط، ونهجها هو الردع والاحتواء، المفهوم الأساسي فيها هو الاستقرار؛ المرحلة الثانية هي نظام القطب الواحد، وتميزت بالاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران، وبإدارة "عملية السلام" العربية الإسرائيلية التي تمخضت عن اتفاقات أوسلو والمعاهدة الأردنية الإسرائيلية، ولم يكن فيها عدو واحد، وإن كان عالم الإسلام هو المرشح المفضل؛ المرحلة الثالثة هي مرحلة الامبراطورية، العدو هو الإرهاب الإسلامي، ومفهومها الدال هو الفوضى الخلاقة، ونهجها هو الحرب الوقائية، وهدفها تغيير الأنظمة وإعادة رسم الخرائط، ورؤيتها الشرق الأوسط الكبير أو الأوسع.

الحرب الباردة: الاستقرار أولا والانقلاب حين يلزم
لم يكن فوز الولايات المتحدة في الحرب الباردة أمرا يقينيا كما قد نميل اليوم إلى الاعتقاد بمفعول رجعي. فرغم تفوقها الذي لا جدال فيه على خصمها السوفييتي والمعسكر الشرقي في مجالات العلم والتكنولوجيا والقوة العسكرية والناتج القومي ودخل الفرد، ورغم فاعلية ومرونة نظامها السياسي والاقتصادي، فإن وتيرة توسع الخصم الشيوعي ونمو اقتصادياته كانت أعلى من وتيرة نمو المعسكر الرأسمالي العالمي حسب لغة تلك الأيام. الأهم من ذلك أن الحركة الشيوعية العالمية حركة ثورية، وتقدمها لا يقاس بمنطق الدخل والناتج والقوة الفعلية، بل بالفاعلية التغييرية والنجاح في استقطاب جمهور واسع يكافح من أجل المثل الأعلى الشيوعي، الذي بدا جذابا لملايين البشر حتى أواسط أو نهايات سبعينات القرن العشرين.
ابتداء من عام 1947 بلور الدبلوماسي الأميركي جورج كينان الذي كان سفير بلده في موسكو مذهب الاحتواء والردع. يجيب المذهب على سؤال كيف لا تتخلى الولايات المتحدة عن إلحاق الهزيمة بالعدو الشيوعي دون أن الاضطرار إلى خوض مجابهة مباشرة معه. كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت لتوها. وبعد قليل سيغدو المذهب أكثر راهنية مع نجاح الاتحاد السوفييتي في تفجير قنبلته الذرية الأولى عام 1949. ففي العصر النووي تجلب المواجهة كارثة على المنتصر والمهزوم معا. تمثل جواب كينان في إحاطة الاتحاد السوفييتي بحزام من الدول العازلة الصديقة أو الحليفة للولايات المتحدة. كان الاحتواء استراتيجية عالمية تستجيب لعالمية الصراع بين القطبين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية. من اليابان إلى أوربا الغربية سيتم تطبيق هذه الاستراتيجية بحرص واهتمام. أما أمريكا اللاتينية فقد كانت خاضعة منذ عام 1819 لمبدأ مونرو الذي يحظر على الدول الأوربية التدخل في شؤون "العالم الجديد".
كانت بلدان المشرق والجزيرة العربية ومصر ضمن الحزام القريب لصد التوسعية السوفييتية المفترضة. وقد وفر مفهوم الشرق الأوسط الذي وضعه الفرد ماهان عام 1902 إطارا مناسبا لبلورة استراتيجية أميركية موحدة حيال المنطقة ودوما في سياق مواجهة الخطر الأحمر ورده على أعقابه. قامت هذه الاستراتيجية على إقامة أحلاف عسكرية (السنتو، السيتو، حلف بغداد..) في إطار ما كان يسميه الأميركيون والبريطانيون الدفاع عن الشرق الأوسط. مبدأ الفراغ الذي وضعه الرئيس أيزنهاور عام 1957 يندرج ضمن مفهوم الاحتواء ومشاريع الدفاع عن المنطقة. وكذلك العمل على قلب النظم الاستقلالية التي ترفض هذه الاستراتيجية. "المؤامرة الأميركية" على سوريا عام 1957، بالتفاهم مع تركيا وعراق نوري السعيد، والتي سرعت من اندفاع طبقة العسكر السوريين الوحدة مع مصر، كانت من تطبيقات الاستراتيجية نفسها.
ينبغي أن تبقى روسيا بعيدة عن "المياه الدافئة" التي لطالما اعتقد الغرب، وحتى قبل الثورة الشيوعية قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، أنها تتطلع إليها. سيرة التوسع الروسي نحو الجنوب والشرق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (توازي تماما التوسع الأميركي نحو الغرب حتى المحيط الهادي على حساب الهنود الحمر والمكسيك، وهو "التجربة المكونة" للولايات المتحدة حسب المرحوم إدوارد سعيد) كانت هي الأساس الواقعي لهذا الاعتقاد. اكتشاف البترول في العراق عام 1928، ثم في دول الخليج الأخرى، أضاف أهمية أكبر على المنطقة، وعلى ضرورة احتكار الهيمنة عليها. معلوم أن أوربا الغربية أعيد بناؤها بمال أميركي ونفط عربي وإيراني رخيص.
من سمات نظام الحرب الباردة عالميا وشرق أوسطيا انتشار حروب الوكالة، بالنظر إلى صعوبة، إن لم نقل استحالة، الحرب المباشرة بين القوتين العظميين. غير أنه ينبغي ألا نفهم من ذلك أن كلا من القطبين كان يخترع حروبا ضد حلفاء الآخر. الأصح أن نقول إن عنصرا "وكاليا"، إن جاز التعبير، طرأ على كل حرب في حقبة الحرب الباردة، دون أن تكون الحرب ذاتها بالضرورة مصطنعة. الصراع العربي الإسرائيلي لم يكن حربا بالوكالة، لكنه خضع لمنطق فيزياء الكتل الكبيرة خلال عقدي الستينات والسبعينات. أعني انه تم اجتذابه إلى مدارات "اللعبة الكبرى"، بحكم قوانين علم الفلك الاستراتيجي، إلى منطق المواجهة بين الجرمين الجبارين.
رأى الأميركيون أن الشيوعيين يستفيدون من حركات المقاومة الوطنية وموجة نزع الاستعمار التي تلت الحرب العالمية الثانية. الصراع يخدم المعسكر الشيوعي بالنظر إلى أهدافه الثورية وتمرده على الأوضاع القائمة. لذلك انحازت السياسة الأميركية للاستقرار لأنه الشرط الأنسب لتحقيق مصالحها. ومن هنا تحالف الأميركيون مع الأنظمة المحافظة والمعتدلة. طوال قرابة 6 عقود كانت أنظمة المنطقة تصنف إلى أنظمة معتدلة وأخرى متطرفة. يصادف دوما أن الأولى موالية للتوجهات الكبرى للسياسة الأميركية، والثانية ذات نزاع استقلالي. لم يتبدل هذا النسق حتى 11 أيلول حين تحولت واشنطن إلى قوة تغيير في الشرق الأوسط. قبل ذلك كانت واشنطن قوة انقلابية ونازعة للاستقرار حين يناسبها. دورها معلوم في الانقلاب على نظام مصدق في إيران، وفي أول انقلاب عسكري شهدته سوريا عام 1949. على العموم، كانت واشنطن قوة استقرار أو قوة تغيير حسبما يناسبها. لكن يصح القول إنها كانت أميل إلى دعم الاستقرار في الشرق الأوسط بالنظر إلى أنها كانت تحتل موقعا أقوى من خصمها فيه طوال مرحلة الحرب الباردة. تحولها الراهن نحو التغيير مرحلي مرتبط بانتهاء صلاحية النظام الشرق أوسطي الموروث عن عهد الحرب الباردة الذي لم يطرأ عليه تغير مهم في حقبة نظام القطب الواحد الانتقالية (عدا تمكين المركزية الإسرائيلية). والأرجح أنه مع إن تنجح واشنطن في بناء شرق أوسطها الجديد الكبير أو الواسع حتى تعود إلى منطق أصحاب الملك: المحافظة على الوضع القائم.

نظام القطب الواحد 1989-2001
كثير من الدراسيين يتحدثون عن نظام القطب الواحد بدءا من نهاية الحرب الباردة وحتى اليوم. رأينا أن نظام القطب الواحد كان انتقاليا ولم يعمر سوى دزينة من السنين امتدت بين عامي 1989 و2001. زال قطب وبقي قطب واحد سعى إلى فرض أرجحيته في توجيه الشؤون العالمية، لكنه لم يحقق هيمنة تامة إلا بعد 11 أيلول 2001. بين نهاية الحرب الباردة و11 أيلول كانت أمريكا القوة الأعظم في عالم لم تصنعه بل ورثته كما هو، بعد 11 أيلول جنحت نحو إعادة تشكيل العالم بما يناسبها. قبل 11 أيلول كانت تكتفي بأن تعرقل التفاعلات الإقليمية والدولية التي تتعارض مع مصالحها وسلطتها العالمية، بعده تحولت نحو فرض التفاعلات المناسبة. باختصار ثمة اليوم سيادة عالمية عليا تتطابق إلى حد كبير مع دولة قومية بعينها هي الولايات المتحدة: سيادة امبراطورية . قبل ذلك كانت هناك سلطة عالمية لكنها أقل جزما في فرض سيادتها الكونية.
توافق مرحلة القطب الواحد الانتقالية عهدي بوش الأب وكلينتون. تميزت في منطقتنا بالحضور العسكري المباشر للأميركيين في الخليج وحضورهم السياسي المباشر في عملية السلام. وخلالها بقيت السياسة الأميركية وفية لمبدأ منع أي تغيير جيوسياسي مهم في المنطقة أو بروز "أقطاب" إقليمية تنافس نظام القطب الأميركي الواحد على الصعيد الشرق أوسطي أو العالمي. بعد أيلول 2001 انتقلت إلى احتكار القرار الجيوسياسي الشرق أوسطي وحيازة قرار التغيير السياسي في المنطقة. كان عنوان هذه الاستراتيجية الكبرى هو إعادة رسم الخرائط وتغيير الأنظمة. والسيادة على التغيير هو القفزة الجديدة. ويتجسد الفارق بين الاستراتيجيتين في نوعية التعامل مع لعراق والنظام العراقي. عام 1991 تم تحطيم القوة العراقية، لكن الحرص على الاستقرار والخشية من سلسلة تفاعلات يصعب السيطرة عليها والاحتجاجات العربية (السعودية أولا) والدولية المحتملة قضت بألا تندفع واشنطن نحو إسقاط النظام العراقي. كان هدفها من حرب الخليج الثانية ضرب احتمال بروز قطب إقليمي وفرض الحضور الأميركي المباشر، لكن دون التورط في تغيير عميق في النظام الشرق الأوسطي أو أي من الأنظمة الحاكمة فيه. بعد زوال نظام القطب الواحد في 11 أيلول تحولت واشنطن نحو سياسة أشد عدوانية وتوكيدا وأحادية جانب. احتلال العراق وإسقاط النظام العراقي وتدمير الدولة العراقية وإلزام الدول العربية بالمشاركة في العملية أو تقبلها نموذج باكر عن السياسة الجديدة، الامبراطورية.
المثال الثاني هو السياسية النفطية. فقد انتقلت واشنطن من ضمان تدفق النفط إليها وإلى حلفائها بأسعار "عادلة" إلى التحكم بسياسات الطاقة العالمية أو إلى السيادة على السلسلة البترولية بكاملها. فالمسالة ليس في نزع سلاح البترول من أيدي دول أوبك، ولا في الحصول عليه دون عوائق، بل في حيازة هذا السلاح الاستراتيجي الذي يساعد في مراكمة الأفضليات العليا والتحكم بهامش استقلالية القوى الدولية الأخرى. على العموم جوهر سياسات ما بعد 11 أيلول هو حيازة السيادة وليس الأفضلية السياسية فقط. أي احتلال الموقع الامتيازي للسيطرة على التفاعلات الدالة ضمن النظام العالمي ككل أو ضمن النظم الفرعية. هذه هم معنى التحول الامبراطوري.

نظام الامبراطورية: التغيير والفوضى الخلاقة
سقنا ما تقدم كخلفية لفهم تحول السياسة الأميركية في المنطقة نحو التغيير بدل الاستقرار ومنهج الفوضى الخلاقة كطريقة للتغيير.
يلخص هذا التحول ويمثل عليه روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الأميركي: "تاريخياً، كان السعي للحفاظ على الاستقرار ميزة أساسية في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. جورج بوش كان أول رئيس يقول إن الاستقرار بحد ذاته عثرة في طريق المصالح الأميركية في المنطقة. بعد أحداث 11 أيلول، سعت الإدارة نحو سياسة من عدم الاستقرار البناء، بناءً على الاعتقاد بأن حماية المواطنين الأميركيين والمصالح الأميركية يتم عبر تغييرات أساسية في أنظمة الشرق الأوسط. وفي هذا الاتجاه اتخذت الولايات المتحدة عدداً من الإجراءات القسرية وغير القسرية بدءاً من الحرب على أفغانستان والعراق، وصولاً إلى عزل ياسر عرفات وتشجيع رئاسة فلسطينية جديدة مسالمة ويمكن التعويل عليها، ثم إلى الضغط بلطف على مصر والسعودية للمضي في طريق الإصلاحات" .
مثلت هجمات 11 أيلول تحديا فريدا للولايات المتحدة. كان عليها إما أن تغير نظامها وعقلها السياسي أو تسحق من هاجموها وتلاحقهم في كل أرجاء الأرض. لن نناقش الاحتمال الأول وإن كان ليس ثمة ما يسوغ صرفه من الأذهان.
تكونت لدى الأميركيين الصورة التالية عن "الشرق الأوسط": منطقة تمتد من مصر إلى الباكستان أو من الدار البيضاء إلى طشقند أكثر سكانها مسلمين، وجميع العرب ضمنها، "حدودها دموية" (صموئيل هنتنغتون)، منبع للبترول، معادية لإسرائيل، وتشكل على العموم استثناء من المد الديمقراطي العالمي. فوق ذلك هي خزان لا ينضب للإرهاب في العالم. النتيجة: لا ينبغي ترك المنطقة على ما هي عليه لأنها ستتسبب في انتشار الإرهاب وإلحاق الضرر بأمريكا والغرب. من أجل ذلك ينبغي إحكام الهيمنة الأميركية عليها، ولا يكفي ضرب قواعد الإرهابيين المحتملة. الامبراطورية لا تتصرف كمحض قوة عظمى ترسل سراياها لتأديب العصاة: تغير العالم في كل مرة تتعرض فيها للإزعاج. الشرق الأوسط هو دار الحرب الأميركية، ملعب صبا الامبراطورية.
تتقاسم تفسير الإرهاب في الولايات المتحدة نظريتان: تقول الأولى إنه حصيلة غياب الديمقراطية والنظم الاستبدادية الحاكمة في دول المنطقة، وتقول الثانية إنه نابع من الإسلام. النظريتان متكاملتان في الغرب إذ كثيرا ما ينظر إلى نظم المنطقة بأنها تجسيد لمبادئ الإسلام أو ثقافته أو نظريته السياسية. ومن المفهوم تاليا أن تكون السياسة العملية المزكاة بناء على هاتين النظريتين هي تصدير الديمقراطية و/أو إصلاح الإسلام، وهذا شيء يتراوح بين استئصاله عند أصوات أميركية متطرفة، أو إعادة تأويله وتعديل المناهج التعليمية وما إلى ذلك.
سواء كنا إزاء نظرية واحدة أم نظريتان، فإننا نواجه تناقضا يتفاقم حين ننتقل من النظرية إلى السياسة. إذ لم يخف على المراكز البحثية الأميركية وقبل 11 أيلول بعقد كامل على الأقل، أن الطرف الذي قد يستفيد أكبر فائدة من الديمقراطية هو الإسلاميون الذين يفترض أنهم معادون عداء جوهريا للغرب، وأن أنجع سياسة لاستبعاد الإسلاميين هي دعم النظم الاستبدادية القائمة. بعبارة أخرى الديمقراطية تؤدي إلى فوز الإسلاميين المقاومين للغرب، وبديلها دعم الأنظمة القائمة يؤدي إلى الإرهاب كما تقضي النظرية.
كل النظرية/النظريتين والسياسات المبنية عليهما في رأينا مزيفة. فالإدارة الأميركية ومراكز البحث الملهمة لها تعتبر كل مقاومة إرهابا، وكل استقلالية عربية تطرفا وعدوانا على الغرب، وكل كفاح من أجل الديمقراطية انحيازا لسياسة الأميركية.
يسود كتابات أميركية عن المنطقة بعد 11 أيلول واحتلال العراق شعور بأن ثمة شيء زائغ بصورة جوهرية في تكوين المنطقة ونظمها السياسية ونفسية أهلها، فساد كياني لا يعالج علاجا عاديا ولا يقبل إصلاحا بالمناهج التي قد تجدي بخصوص مشكلات الصين أو أمريكا اللاتينية أو بالطبع الغرب. يقول توماس بارنت، وهو محاضر في وزارة الدفاع الأميركية: "الشرق الأوسط كمنطقة للبدء بتطبيق الاستراتيجية الجديدة‏،‏ ويقول إن الدبلوماسية لا تعمل في منطقة‏ [ تتصف بأنه]‏ لا توجد اكبر مصادر تهديد الأمن فيها فيما بين الدول وبعضها‏،‏ لكن هذه التهديدات تكمن داخل دول المنطقة ذاتها" .‏
ولعل أبوة هذه التوجه تعود إلى برنارد لويس في مجمل كتبه، وبالخصوص كتابهWhat Went Wrong: Western Impact and Middle Eastern Response الذي يعلن مضمونه أن قطار عالم الإسلام قد انحرف عن سكة التقدم في القرن الخامس عشر، وأنه بات يعاني من عطب أساسي في وعيه لنفسه وللعالم، فبدلا من النظر إلى المرآة يلوم العرب الأوربيين أو اليهود، والنتيجة أن عدم اهتدائهم لمكامن هذا العطب هو الذي يضعهم في مواجهة مع أمريكا والغرب. إلى ذلك ثمة أدب صحفي وبحثي غزير بعد 11 أيلول في الولايات المتحدة يذهب في اتجاه الشذوذ والفساد والانحراف الجوهري للحالة العالم العربي والإسلامي، ما عبد الطريق أمام ولادة نظريات شاذة ومنحرفة مثل "الفوضى الخلاقة".
شذوذ المرض الإسلامي والعربي يقتضى علاجات جذرية، توفر كذلك مخرجا من تناقضات النظريات الأميركية والسياسات الأميركية والحيرة حيال اللامعقول في المنطقة. على هذه الخلفية برزت نظرية الفوضى الخلاقة. يلخص سعد محيو هذه النظرية بالشكل التالي "استمرار الأمر الواقع الراهن في المنطقة لم يعد ممكناً. ولذا يجب تغييره بشتى الوسائل السياسية والاقتصادية، وصولاً إلى الخيارات العسكرية. وبما أن أي تغيير يؤدي حتماً إلى مرحلة انتقالية غير مستقرة، يتعين على الولايات المتحدة قبول درجة من الفوضى في الشرق الأوسط. وهذا لن يكون في المحصلة النهائية أمراً سيئاً. فهذه الفوضى ستكون "خلاقة"، لأنها وبعد أن تدمر القديم ستمهد الطريق أمام ولادة الجديد. وبالطبع، الولايات المتحدة ستكون الطرف الأقوى القادر على توجيه هذه الفوضى الخلاقة لمصلحتها، بسبب عدم وجود منافسين دوليين وإقليميين لها يعتد بهم" .
مفهوم الفوضى الخلاقة مستورد من فيزياء المقادير الكبيرة حيث ثمة احتمال حدوث سلسلة مناسبة من التفاعلات أعلى كلما كانت المقادير هائلة. مجال هذه النظرية هو الفيزياء الكونية والفيزياء الذرية. ثمة معقولية عليا خلف التناقض الظاهر لمفهوم الفوضى الخلاقة، لكنها معقولية لا إنسانية، تتعامل مع كميات وذرات وأجرام تتحرك بمنطق فيزيائي يمكن فهمه لكنه بلا عقل، عاجز عن فهم ذاته. نريد من ذلك أن نستخلص أن نظرة الأميركيين لمنطقتنا هي نظرة تنكر على شعوبها وثقافتها العقل والحرية، وهي لا تنم عن أدنى قدر من اللامبالاة بالأثمان الإنسانية التي يمكن أن ندفعها مقابل احتمال أن تخلق منا الفوضى في النهاية شيئا معقولا. ومن الواضح أن النظرية الفظة التي تكثر فيها تعابير التدمير الخلاق واللااستقرار الخلاق... هذه تضمر تصورا بالغ العدائية والاحتقار للعرب والمسلمين ولا ترى في معاناتهم ندا لكل معاناة إنسانية. واشنطن تحل نفسها محل خالق يرصد التفاعلات العشوائية الهائلة العنيفة وغير المستقرة التي قد "تدمر القديم وتمهد الطريق أمام ولادة الجديد"، وقد يقرر في لحظة ما التدخل لوقفها كما يتدخل عالم في مختبره عند حصوله على النتيجة المرغوبة. محيو محق في وصف التفضيل الأميركي للا استقرار بأنه "بيان انقلابي خطير وتاريخي". ومن الواضح أن شرط إمكان هذا التحول هو قدرة واشنطن الحقيقية أو المفترضة على توجيه التفاعلات الفوضوية المحتملة لمصلحتها دون أن يصيبها نثار الفوضى.
لا تتضمن التصريحات الأميركية حول الفوضى الخلاقة تحديدا زمنيا للفترة التي قد يستغرقها خروج إكسير الديمقراطية من حوجلة الفوضى الخلاقة. فمن المعلوم أنه في فيزياء المقادير الهائلة يدخل الزمن بملايين السنين وملياراتها من أجل احتمال حدوث التفاعلات المناسبة. هذا يعيدنا إلى الفكرة المستهترة والعدائية التي يكنها السياسيون الواشنطنيون للمنطقة وأهلها، بمن فيهم الأنظمة الموالية، وكذلك للفكرة المغرورة والمتعجرفة التي يحوزونها عن أنفسهم وعن قدراتهم. يقول مايكل ليدن، أحد اعلام المحافظين الجدد: "ان التدمير البناء هو صفتنا المركزية، وأن الوقت قد حان لكي تصدر الثورة الاجتماعية" . التدمير البناء خاصة إلهية حصرا.
هذا ليس نهجا غير عقلاني فقط، لكنه غير مسؤول وغير أخلاقي. وهو ما يمنح الشرعية للتفكير بـ"تغيير النظام" الأميركي أو لانخراط قطاعات أوسع من الفاعلين السياسيين والثقافيين في جهد للمخيلة والعقل من أجل تغيير عالم لم يعد يعامل مئات البشر فيه إلا كمدخلات لتجربة مختبرية، ولم يعد ينظر إلى معاناتهم إلا كشيء لا قيمة له في ذاته ولا يحوز أية قيمة إلا من الثمرة الديمقراطية المحتملة التي قد يفضي إليها يوما.
قد نتذكر على كل حال أنه بعد 11 أيلول تحدث دونالد رمسفيلد عن أن "الحرب ضد الإرهاب" قد تستغرق أجيالا أو أطول من حياة كاملة. وأطلق جيمس وولسي، وهو رئيس سابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، على الحرب هذه تسمية حرب عالمية رابعة تتلو فوز الولايات المتحدة وحلفاءها بالحرب العالمية الثالثة، أي الحرب الباردة التي استغرقت أزيد من 4 عقود.

تذابحوا!
نظرية الفوضى الخلاقة أوثق صلة بموقع الولايات المتحدة في سدة السيادة العالمية منها بحاجات ومطالب شعوب المنطقة العربية والإسلامية. ويمتزج فيها غرور الجبروت الأميركي واللامبالاة بمنطقة تنحدر علاقاتها مع الأميركيين دون السياسة إلى مستوى الشعور والهوى والانفعال أو فوق السياسة إلى مستوى الأديان والعقائد والحضارات. أي في الحالين خارج الحوار والتفاوض والندية.
تمثل النظرية ذروة الأزمة التاريخية للعلاقات بين عالمي العرب والإسلام وعالم الغرب. وهي إعلان عدائي بالغ الفظاظة: تذابحوا، اقتلوا بعضكم، واغرقوا في العنف والحروب الأهلية، سندعم نحن هؤلاء أو هؤلاء منكم، وسنرى ما يمكن أن يتمخض عن كل ذلك! إنها فتوى نظرية لمذبحة مفتوحة. ما يجري في العراق قد يكون محض "بروفة" أولى على تنطع الأميركيين لتقمص عقل التاريخ وانتحال الزعم السوفييتي بمعرفة اتجاهه وحيله.
يبقى أن نقد نظرية الفوضى الخلاقة وكشف تضميناتها الفكرية والسياسة لا يعني بحال أن أوضاع العرب والمسلمين ليست في حاجة إلى تغيير عميق يخرجها من حكم الأسر والقبائل إلى السياسة المدنية. لكن هذا نقاش آخر.
**********
هوامش
الامبراطورية: مايكل هارت وأنطونيو نغري. ترجمة: فاضل جتكر، مكتبة العبيكان، الرياض، 2002. لا تلتزم هذه المناقشة بمفهوم الكاتبين الأميركي والإيطالي للامبراطورية.
السفير، 8/4/2005.
وارد عند د. صالح ياسر: ملاحظات مكثفة حول نظرية "الفوضى البناءة"، http://www.iraqcp.org/members3/0050816molahthat.htm
سعد محيو: أسابيع حاسمة في دمشق، الخليج، 3/4/2005. كذلك: جميل مطر: كوندي و"الفوضى الخلاقة" في المنطقة العربية، "الحياة"، 6/4/2005
الفوضى البناءة ومشروع ال 10 سنوات، عاطف الغمري ، الخليج، 29/6/2005. لا تفوت القارئ النبرة الثورية لدولة لطالما عادت غيرها لأنه يدين بمبدأ تصدير الثورة النازع للاستقرار. هذا يؤكد ما قلناه فوق من أن السياسة الأميركية لا تتابع استقرار دائما ولا "ثورة دائمة"، تلاحق فقط مصالحها القومية التي ارتفعت اليوم إلى مستوى السيادة العليا على العالم واتجاهات تطوره. تؤكد العبارة المقتبسة أيضا ان الولايات المتحدة هي آخر قوة سوفييتية على الكوكب.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ذكرى خالد العظم: رائد القومية الاقتصادية في سوريا
- الثالث المأوساوي أو فرص التركيب الوطني الديمقراطي
- تمرين في التربية الشمولية
- نزع مدنية المجتمعات يقوي التطرف والطائفية
- بيان في نزع القداسة عن السياسة
- -قيام، جلوس، سكوت-: مسرح الهوية وتجديد القبلية الثقافية
- مأزق الإصلاحية السورية
- النظام العربي الإسرائيلي
- المقاومة أم الاستسلام؟ بل التغيير
- نظرة إلى أصول سياسة الإنكار السورية
- حوار مبتور مع جريدة منحازة
- نقد -إعلان دمشق- ونقد نقده
- معارضة، إسرائيل، أميركا، مخابرات، شيبس، إلخ
- هل من سبيل لإبطال المخاتلة الطائفية؟
- الكتابة السياسية وسياسة الكتابة
- بين فراغ النماذج وضعف الطالبين، أي تغيير في سوريا؟
- -إعلان دمشق-: أوفاقٌ في زمن الانشقاق!؟
- عن نقد السياسة الأميركية ونقد نقدها
- المسألة المدنية: ضد العنف والتعصب والريعية
- المأزق العربي الأميركي المتبادل


المزيد.....




- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...
- مقتل عراقية مشهورة على -تيك توك- بالرصاص في بغداد
- الصين تستضيف -حماس- و-فتح- لعقد محادثات مصالحة
- -حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار .. ...
- اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
- مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
- 4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
- سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا ...
- ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - ياسين الحاج صالح - السياسة الأميركية في -الشرق الأوسط-: من الاستقرار إلى الفوضى الخلاقة