السيرة الظاهرية

محفوظ أبو كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 5231 - 2016 / 7 / 22 - 15:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

السير الشعبية هى وجدان وضمير الناس وتعبر عن احلامهم وخيالاتهم بطريقة فطرية لا تعقيد فيها وبالتالى فقد يتخللها كثير من الروايات المتناقضة مع الوقائع التاريخية أو الخطاب الديني الرسمي أو القيم الأخلاقية العلنية، تنتج من أن الاصل التاريخي واقعه صراعات فؤية سياسية و مذهبية ، في السير لايوجد شيئا من هذا القبيل ، الوعي الجمعي يطوى مثل هذه الصفحات ويعيد صياغة و (تبييض ) التاريخ و حذف مثيرات الفتن و نزعاتها، تعبر السيرعن وجدان الشعوب .. تاريخ لا يمكن ان تعبر عنه الاف الكتب، و يظل للمبدع الشعبي منطقه الخاص في اقصاء ما يرى....
وفق هذه الرؤية يمكن تفسير سبب تمجيد وتخليد المصريين للظاهر بيبرس، فالسيرة الظاهرية هي ملحمة طويلة تروي حياة السلطان المملوكي الظاهر بيبرس وأعماله البطولية وتصديه للصليبيين والمغول. تختلط فيها الوقائع التاريخية بالخيال تشكلت ملامحها في بدايات العصر المملوكي منذ عام 1250، وتطورت ونمت عبر السنين، خلال فترة تمتد إلي نحو قرنين ونصف من الزمان تعاقب خلالها مالا يقل عن 45 سلطان. إلى أن أخذت شكلها النهائي في بدايات العصر العثماني عام 1517. كانت شجاعة الظاهر بيبرس، صفة جعلت المصريون يعجبون به وبشخصيته ويجعلون منه بطلا يتناقلون سيرته ويرونها ويتحدثون بها دون ملل أو سأم. وزاد من وقع شجاعة بيبرس فى نفوسهم انها تشكلت فى وقت كان المصريين أشد الناس حاجة إلى زعيم شجاع يستطيع مواجهة خطر الصليبيين والمغول، ومن ناحية أخرى يستطيع تحقيق الأمن والأمان وإقامة العدل وتشييد العمران. وقد ذكر المؤرخون أن بيبرس توخى العدل فى حكمه. وكان أحيانا يرتدى أسمالا بالية حتى لا يعرفه أحد ويتنقل من مدينة إلى أخرى ليتعرف على أخبار الولاة وسياستهم فى الحكم. وقد أنشد الناس أشعار على لسانه منها:

لمـــا بقيت سلـطـان بـدأت متـــــاعبـــــى وبقيت أفكر فى هموم وهموم
مسئول أمـــام الله عــن كــل مظلمه يحس بيها فى البلـد مظلــوم
مسئول عن الطفل اليتيم اللى خده يبـــات بكـف معلمه ملـــطــــوم
مسئول عن الشغال إذا طاح وانكسر يبات ليلتها من عشاه محروم
مسئول أنا السلطان عن كل أرمله فى العيد ولادها ما تلاقى هدوم
إذا الجنود ضربوا وشتموا الرعايا مسئول عن المضـــروب والمشتـــوم
كما أثبتت جميع المراجع التاريخية ان عصر السلطان الظاهر بيبرس شهد نشاطا اقتصاديا واسعا فى ميادين التجارة والزراعة والصناعة. ففي مجال التجارة شهدت مصر نشاطا تجاريا واسعا حتى صارت تمثل الطريق الرئيسى للتجارة بعيدة المدى بين الشرق والغرب ، وصارت مصر مركز تجارى عالمي يقصده تجار الغرب الأوروبى لابتياع ما يلزمهم من محاصيل، ومنتجات الشرق. ووصلت فى مجال الصناعة إلى درجة فائقة من الجودة والدقة تشهد بذلك البقايا والآثار التى ترجع إلى هذا العصر. ولم تقتصر المهارة الفنية للعمال والصناع على ما خلفوه من صناعات دقيقة في الأسلحة والزجاج والخزف والنسيج والحلى المعدنية وغيرها؛ وإنما ظهرت أيضا في الفنون الكبرى كالعمارة والتصوير والنحت التي تزخر بها القاهرة المملوكية كالقصور والجوامع والمدارس والخانات والسبل... وغيرها من المنشآت التى مازالت بقاياها قائمة حتى اليــوم. مشيدة بأعمدة من الرخام وأبواب مزينة بزخارف جميلة. وحرصت الدولة على العناية بالزراعة بتوفير مياة الري وتوصيلها وإنتظام جريانها، فحفر عدد كبير من الفروع والترع والخلجان الجديدة وتم تطهيرواصلاح القديم منها, وبنيت كثير من القناطر والجسور، التى وصفها المقريزى بأنها "أجل قناطر أرض مصر " ولا تزال بقايا هذه القناطر باقية حتى اليوم.

وقد أنشد الناس أن السلطان بيبرس اعلن على المنابر إعفاء الناس من الضرائب والمكوس لمدة خمس سنوات، وأنه سوف لا يأخذ فلوسا من الخياط ولا النجار ولا الحداد ولا الصياد ولا الزارع ولا التاجر، ولكنه سوف يأتى بالخير من نهر النيل، وفى هــذا المقام أنشد الناس:
عجبـــى علـى بلــــدان يمــر عليهــــا الـنيــل و نلقى فـوقهــا مظـالـيـــم
أو ينـوجـد مـديــون ضـاقت مذاهبـــه فى المحكمه ماســك رقبته غريـم
أو أرمـله فى الليـــل نسمــع نواحهــا ويتيمـه تبـكــى جـنبهـــــا ويتيــــم
أراضـى فـوقهـا الـنيـــل جـنـه هـديــه لو كان حاكمها فى السياسه حكيم
يا نيـــل أنـا بايــدى رايـــح أقسمــــك علـى الأراضـى كـلهـــا تقـسيـــــم

وقد نسب الناس الفضل في نجاح بيبرس إلي مجموعة من معاونيه من أبناء البلد الشجعان الحكماء المخلصين، ساعدوه في محاربة الأعداء وعمارة البلاد وإقامة العدل، من أبرزهم جمال الدين شيحة ، وانشدوا الأشعر عن قدراته العجيبة على التنكر والتخفي وتقمص الشخصيات، وقدرته على الاستيلاء على القلاع وامتلاكها، وهو شيحة الذي تنسب إليه الملاعيب في المثل الشعبي الدارج "ملاعيب شيحة"، إضافة إلى شيحة هناك أيضا سليمان الجاموس، والأسطى عثمان بن الحبلة، و إبراهيم الحوراني المعروف بالسرعة الخارقة في العدو، والفداوية أولاد إسماعيل وغيرهم من الشخصيات التي تزخر بها السيرة. كما تسخر السيرة من الشخصيات أعداء بيبرس فتمنحهم أسماءً تهكمية مثل: أبو الشر، سرجويل المهري، ظنيط، العايق، عكرتر، عقيرب، حبظلم بظاظا. وقد ابتكر الناس فناً جديدا أشبه بمسرح العرائس، أسموه خيال الظل، أنتشر انتشارا واسعا لأنه أتاح لهم تمثيل مشاهد السيرة.
وهكذا فإن سيرة الظاهر بيبرس التي يعتبرها المؤرخون من أهم السير في تاريخ البشرية، قد منحت شرعية شعبية لحكمه وحولته من عبد مملوك إلى سليل ملوك، ومن جهة أخرى برأته من جميع التهم التي الصقها به التاريخ، من ضلوعه في مؤامرات قتل السلطان توران شاه، وقتل السلطان قطز، والغدر بكل أساتذته ورفاقه ممن شكلوا أمامه عائق من أجل الإستيلاء على الحكم وأستتبابه. لقد طوى الوعي الجمعي كل هذه الصفحات وأعاد صياغة و (تبييض ) التاريخ و حذف كل مايسئ الى الظاهر، لقدعبرت السيرة عن وجدان الشعب الذي أحبه وأفتتن به كبطل أسطوري حقق له الأمان والعدل والأذدهار والرفاهية.

#محفوظ_أبو_كيلة (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات