أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل حسين عبدالله - تأملات فلسفية 9















المزيد.....


تأملات فلسفية 9


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 5081 - 2016 / 2 / 21 - 16:10
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إذا كانت الحقيقة متعبة في مجتمعات تقدس المعاني المحسوسة الظاهرة، وتكره المباني الغامضة، لأنها لا تدل على قيمتها إلا عند من يتذوق سر مركب الإنسان، ولغز تقدم فكره، ورمز نبل سلوكه، فإن ثمن المشي بين الدروب مكلِّف للإنسان الذي لا يريد أن يرى لمعان الأشياء على ظاهره، وإنما يرى واجبه الكامن في مقتضيات ضميره، يستلزم منه أن ينقل تعب الأفكار من ذوات المفكرين إلى أفذاذ يعشقون ما تلِده الذوات من معان هادرة بصوت الصدق، والأمانة، ويبحثون عن فرصة تعرفهم بطرق انتشال بذرة اليأس من مواهبهم المتفتقة، وقواهم المكبوتة. وذلك مما لا يحصل دفئه في الذات، ولا لونه، ولا فلسفته، إلا إذا كان ألما في النفس، ووخزا في العقل، وجرحا في القلب، وولها في الروح، لأن تعوُّدنا على كثير من السلوكيات في المجتمعات التي تنطفئ معها جذوة التفكير الحر، وإلفنا لبعض المظاهر التي صارت مع الزمن ضرورية في الاعتبار، تجعلنا بين أمرين: إما التغريد خارج السرب، والركوب في عربات الدجل، والخرافة، وفي ذلك انسجام مع منطلقات الذات، وانفصال مع ما يستثير الإعجاب في خارج فقصها المولود بين دوائر تعطل الافتراض، والملاحظة، والتجربة. وإما اختراع محط قدم بين فضاء يحظى في عقل الناهل بالمحبة، والهيبة، وفي ذلك صراع العقل مع العاطفة، والتحام نسبي معلول مع أعراض حسية ومادية لا تقضى بين أقنية الحياة إلا بالتموضع داخل بؤرة الجميع. لكن، هل يعني هذا تصارع الأبدية مع الخوف من الموت فينا.؟ أم يعني أننا أدركنا حقيقة لما نساق إليه، وإن كان ذلك مقلقا لضميرنا الإنساني، والأخلاقي.؟ إن الإجابة عن هذا السؤال، لا يعني أن نبحث عن لون لتلك الصورة التي يرسمها الواقع للحياة عندنا، ولا أن نفتش عن تلك الملامح الغائرة بين البواطن المختزنة لما يلبس قناع الاستعارة في كشفنا، لكي نربطها بقانون السبب، والعلة، والمعلول، بل يعني أننا نريد أن ننظر إلى هذه المشية التي تهاب ظلها الشاخص فيها، وأن نلمس هذه الأبهة التي تضيف رواء إلى الإنسان الراغب في صناعة هالة له في خارجه، وهو عارٍ من وجع من الضمير الذي تزداد به حدة الإدراك الحسي للأشياء المتعبة لجنس الإنسان، لأن المعرفة التي تحمل شارة الحياة، كما تلبس جبة الموت، لم تكن أفعالا نبلغ بها المراد من أماني الشبع، والامتلاك، والتسلط، وإنما هي قيم نستشعر بها تميز مسؤوليتنا عن غيرنا، وتعاليَ نظرنا عن أنظار تخاطر من أجل العناء، والألم، ولكنها لم ترتفع عن حاجاتها البسيطة، وكأنها تنسج حول ذاتها مشانق لقتل ما تبقى من عمرها بلا معنى. لأن ما نجتازه من عقبات كئودة، يتساوى فيها العباقرة، والنبغاء، والبلداء، والدهماء، ويتهاوى بها جميعنا نحو منحدر سحيق، يقضي على كل آمالنا، وأحلامنا. لكن ما يميزنا عن غيرنا، أن ما نخطو على شوكه، إما أن يرهف حسنا الباطني، ويعلن انتفاضة على المعاني المبتذلة، والرخيصة، وإما أن يأسرنا في سجن ضيق بالشهوات الرديئة، والشعارات الغريرة. وذلك ما يفرقنا بين دوائنا، ويمنح كل واحد منا صفة خاصة به، ويدفع بنا إلى أن نستحلي الألم، لكي نحس بأننا ننعش حياتنا بشيء من المعنى، ونرش على ذواتنا ماء الحياة الناعمة، ولولا ذلك، لما رغب أحد في أن يقدم ثمنا غاليا من أجل اكتساب المعرفة، لأن توالي الألم، وتتابع الهزائم، لا يضعف الإنسان القوي، وإنما يكسبه دربة ومرانا على اختيار الطريق اللاحب، والأصوب. إذ لا يتذوق طعم المعرفة إلا من أحس بالألم المفضي إلى لذة الوعي، ومتعة الحقيقة. ومن هنا، تتضاعف موارد الألم عندنا، فذاك الذي نجاته في تخليص ذاته، ليس هو ذاك الذي يرى نجاته في فك أسر العقول من الخرافة، والدجل، والجهل. فكلاهما متألم، وهما إلى جانب غيرهما يشتركون في وليمة الألم التي تقيمها الحياة على كل الحظوظ البشرية، لكن سبب ألم ذا، أو ذاك، أو هؤلاء مختلف، ولكل حدود، ومدارات. بل الأغرب أن كثيرا من المعذبين، والبائسين، لا يتألمون إلا لأنهم يجملون وعيا زائدا على القدر المتاح لغيرهم، أو المطلوب في واقعهم، لأن تحديد مراتب الوعي، مما صاغه الإنسان لغيره، لكي تكون لكل مرتبة قيمة اعتبارية. ففرق كبير بين ما تتطلبه المراتب من وعي، وبين ما صاغه الدهاة تطاولا بالادعاء، أو بالاستغلال، أو بالاستلاب. وهذا مما يمكن دركه في مراتب الأفكار، فالذين يتألمون حسرة على غيرهم، لم يقتنعوا بشيء مما يتفاضل به الناس، ولم يرضوا بالكفاح الذي يخوضه الإنسان من أجل ضمان لحظة بسيطة لبقاء حلمه مترعا بالأشواق، والأتواق، بل رأوا جمال الحياة في تلك البهجة النازفة من عمق الأطفال، والفتيات، والآباء، والأرض، والأزهار، والربيع. ولذا كانت توليفة الطيور شذوا يطفح بالأمل في هذا الكون. والذين يرقصون وسط الجوقة بأجساد عارية، ولا يدرون إلى أين يساقون كالخرفان، لم تكن لهم رغبة سوى ما ينالونه من رغبات الغرائز، وآمال الهرب، والخوف، والاستسلام. ولذا لا نستغرب ما ينعق به المغفلون من ملذات سلبية، ما داموا لا يفقهون شيئا عن قصة الحياة التي تكتب بأيدي دهاقنة الوهم، والخداع. بل قصارى جهد هؤلاء، أنهم ينالون بوساطة هذا التمويه على مضمرات ذواتهم بلالة من عيش يتعللون بها بين الموارد، ومهما كان مهينا، ومشينا، ما دامت القضية تخرجهم من برودة العيش إلى دفئه، ومتعته، وتحميهم من طاحونة الواقع الذي لا يذرف دموعه على من فقد همزة وصله به. ومن هنا، لا يضير هؤلاء أن يطبخوا طبيخ الرداءة، أو ينسجوا جبة تستر جسد هذا الإنسان المرزوء ببكاء اليتامى، وأنين الثكالى. فأي جحيم هذا الذي عناه فولتير، حين رفض متعة الزوجة، لكي يخلد إلى شقاء الحكمة البرهمية.؟ قد يكون الألم محتدا عند قوم، ويكون خفيفا عند قوم، ومنسيا عند آخرين، لكن ما يميزنا، أن مخاطرتنا ومجازفتنا في كشف هذا الوجه المتبرقع بنقاب الحقيقة، سيجعلنا نتألم كثيرا، وربما سيكون ألمنا أقوى من ألم غيرنا، لأن ما يجده هو من لذة في متع الحياة، قد لا نجده، بل نجد ذلك في سيادة الحقيقة على الذوات، وإذ ذاك، سيكون خلاصنا في أيدينا، لا في أيدي غيرنا. والأغرب أن يكون حرصنا على إتقان منطق الماديات أقوى من حرصنا على صناعة سياج يحمينا من الدجل، والخرافة، والأوهام، لأن تفاحش المادي في ذواتنا، قد صرفنا عن كثير من حقائقنا الروحية، والمعنوية، وفي ذلك زلزال عميق سيحدث في كياننا دمارا، وخرابا، وفي ظاهرنا ضجرا، ونزقا. فلا حرج إذن إذا أقررنا بأن الحقيقة لها معنى في باطننا، ولو لم نعرف ذلك، أو لم نعبأ به، بل ما خلقت الذوات إلا وفيها حقيقتها، ومن ابتغاها في خارجها ضلت به السبل، ومن ابتغاها فيها، لا يؤلمه أن يكون كده جاريبا بخيبة آماله، وكسر جرار حلمه، وهدم قلاع بيته.

وهكذا، فإن انتقالنا من ضفة إلى ضفة التفكير، توحي إلينا بأننا ننتقل بين طبيعتين مختلفين، ولكل واحدة منهما أهلون، وبنون. وهذا الانتقال، هو الذي يدفعنا إلى أن ننظر إلى حقيقة كل واحد في صيرورة الطبيعة البشرية، ولو عسر علينا أن نفضي إلى ذلك الجامع الذي يشركنا في مصير واحد، وإن كان ذلك موضوعا قابلا للإدراك الخالي من ملوثات الإحساس، والحس، لأن الحقيقة التي تشق لنا طريقا نحو المبادرة المفتوحة، ومهما فحصنا ظاهرها، فإنها ستبقى عصية علينا، بل صعب علينا أن نتمرغ في ذلك الوحل الذي خلقه الزمن في باطن واحد منا، وأن نعبث في وضع حد له، يكون صداه انعكاسا لما في عمقه من جؤار، واستغاثة، وألم، وحرص، لأننا سنكون بين خيارين: إما متأوه من ملله في نعم واقعه، وهو يأنف أن يعود إلى لمس تلك المرآة القديمة، لئلا تنعكس عليها أتربة الماضي، فتدب في عمقه وحشة قد تغير مزاجه المصنوع من قش الغرور، ثم يتحول جمعه إلى غربة، لا يطيق الخروج من ظلمتها القاتمة، لأن الماضي في شدة برودته، أو حرارته، قد يكون ألما حين يبنى الحاضر على أساسه، وهو هش في إقناع للإنسان بأن ما توشحه على صدره من عزة، ليس له من صورة يستحقها في الأفكار السامية. وإما متألم بين نسمات ترعى هشيم الحياة، وهو يبحث عن أمرين: الأول: أن يعيد الحاضر إلى الماضي، لأنه يضيف إلى الذات نوعا من السمو المعنوي الذي يسكب شرارة في عقول الجائرين. وذلك ما يشعر به كل من انبنت حصة رصيده على الزيف، والكذب، ثم تغيرت الحقائق بين منبسطات الأرض التي تضم فصيلة الإنسان، والحيوان، والوحوش، ولبست الوقائع لبسة أخرى غير التي كانت تذكرنا باللحد الذي دفنت فيه الفضيلة، والكرامة، ففقد غِرة ما تعاظم به من تاريخ، وأفضلية، وجدارة. الثاني: أنه يرى في الماضي عشا يحتضن كل آهاته الزافرة في مراحل حياته التي أجزلت العطايا ما بين ألم، وأمل. وهذا قد استوت عنده النغمة، وتوالت في قاعه تلك النبرة التي لا يحدث بين كيانه نشازا، ولا اختلالا. لكن، يمكن لنا أن نجمع بين هذه الانفعالات في طابع واحد، ولو حصل في مراسيمه التفاضل، والتمايز، وهو أننا حين نتعالى بالماضي، لا نمقت إلا الحاضر. وهكذا كل من يتعالى بالماضي الذي يخلق بين الناس فروقا، وسدودا، وهو لا يشعر في تحوله نحو الحاضر بوحدة الزمان، والمكان، ولا ينظر إلى أن ما وصل إليه الإنسان من تقدم مرهق، ما هو إلا امتداد لازم في بناء حصيد العمر على التوالي، واستمرار للنوع الذي يحدث، فيجد، ثم يبلى، لكي تخطو حاجات الحياة إلى الأمام الذي لا نعلم متى نهايته. ومن هنا، فإننا حين نقفز نحو الغد المبهم المعالم، لا نحمل معنا إلا سر الحياة التي نعشق خلدها، ولو أمكن لنا ذلك، لضحينا من أجله بكل شيء سوى بأرواحنا. وهذا القفز الذي ننفث فيه زفير حلمنا، هو حقيقتنا التي لا يمكن أن نتخلى عنها، لأن ما نصير إليه جميعا بجهدنا، ليس لنا خيار في معاداته، ولا في معاندته. فهو حادث فينا، وحاصل معنا، ولو تغيرت فينا وسيلة إدراكه، وطرق استيعابه. فإلى أين المسير إذن.؟ هذا السؤال قد حير لب الإنسان المتقد بالأحاسيس الوافرة، وكان حريا به أن لا يشغل به باله، ولا أن يقدم من أجله كده، لأن ما كمُن من معان فيه، تكفيه عن المجادلة في حقيقة لا يطيق رفضها، أو إنكارها، ومهما تظاهر بالنسيان، أو عدم الاكتراث. لأن وجودها في هتافنا بالحياة، وضجرنا منها، لا يحتاج إلى دليل خارجي، أو برهان يقيم الدليل على أننا لسنا إلا ذواتنا. فالفطرة كافية في تحديد ذلك، وتوجيه النظر إليه، بل تغدو تلك الحقيقة مع أول إدراك في المحيط البشري بدهية، لا تقبل الغموض، أو المنطق، أو الحجاج. ولعل هذه الحقيقة عندي من المسائل التي يصير فيها النقاش لغوا، وحشوا. لأن النقاش حولها، لن يؤدي إلى نتيجة فيها، فما فائدة أن تناقش بدهيا يجوز لنا أن تدركه فيك بسهولة.؟

إن كثيرا من النقاشات التي يندفع إليها بعض بحماسة، وشجاعة، لم يكن الهدف في غالب مطارحاتها، هو استجلاء الحقيقة، واستظهارها، والاستدلال عليها، بل قد يسوق إليها كثير من الأمور التي يمكن لي أن أجملها فيما يلي: أولا: إنني في تتبعي لما ينشر حول رفض المسلمات التي تصطدم مع بعض الظواهر العلمية غير الناضجة، لم أجد ذلك إلا تعويما للقضية الحقيقية التي يجب أن نناقشها، ونبحث عن حلول لها، وهي كيف يمكن أن نستفيد من واقعنا ما فيه سعادة ذواتنا، وهوياتنا، وكيف يحق لنا أن نكون أهلا للقرار في حياتنا، وكوننا. فلو استقل النقاش عندنا في هذه القضية لتي تعتبر جوهر أمنيتنا، لاكتفينا به عن كثير من المهاترات التي نضيع بها زمن الحقيقة في واقعنا. لأن ما يندفع إليه الإنسان بإرادته، إما أن يكون خاصا به، فهو يخوض لجته من أجل صناعة رأي خاص به في القضية، وإما أنه يحاول أن يسوغ في الأعين فعله، لئلا يكون محل نظر السؤال، والتساؤل. لكن لو بدا للإنسان أن ما هو خاص به في مجاله المعنوي، والنفسي، لا يمكن له أن يكون مقبولا إلا عند من يعيش التجربة نفسها، لأيقن بأن ما يريده من إخناع الناس لفكره، ما هو إلا سباحة في بحر لا قاع له. فهب أن بعضا استجابوا لذلك، فهل يعني أن ما تبقى سيستجيب غدا.؟ إن إنكار المسلمات التي تواطأ عليها الإنسان منذ زمن سحيق في التاريخ، هو مضيعة للوقت في دراسة يقل شأنها عن حقيقة وضعنا، ومقتلة للهم المشترك الذي يجب أن نندفع إليه جميعا من أجل صناعة ذلك الأمل المحبوب، والمرغوب. ثانيا: إن كثيرا من الخطابات التي تناقش هذه المسلمات، تتسم بالسطحية، وعدم التواشج بين الإدراك لما هو ثابت، وما هو متحول. وإدراك ذلك، وفهمه، ووعيه، يؤدي بنا إلى أن نقر بحقيقة ضرورية، وهي أنه لا يمكن أن نعيش بدون مطلقات، أو ثوابت، وإلا، فإننا سنتوه بين الحقائق التي لا نهاية لها. ومن هنا، فإن ما يبديه بعض الرافضين للمسمات من توازن، وتواضع، ما هو إلا ذلك الاطمئنان الذي يلتزم به الإنسان في خاصته، لكي ينسى ما يتعبه من انغلاق الأفق المسود بالألم، والقلق، وإلا، فإن أتعس الناس في مجالات السكينة المزيفة، والمصطنعة، هم من يدركون الحقيقة الجلية، ويبحثون عن معبد الكون الغامض. لأن الحقيقة، لا تدفع بنا إلى ذلك المحيط الهادئ الذي تصنعه الأفكار المبللة بالشهوات المختنقة، بل تربطنا بمصير نأمل أن نصل إليه، وقد خلفنا من ورائنا معنى في الحياة الموروث سرها بين الأسلاف، والأخلاف. ولذا، فإن الذي أغرق ناكر المسلمات في حمأة الشتات، والضياع، هو بحثه في شيء لا بداية له، لكي يدرك له نهاية. فالعقل الذي لا يمتلك قدرة على تصور الأبدية، لا يمكن له أن يخلق تصورا لنقيضها، وهنا يحدث الزلل، والخلل، لأن قيام السبب بمسببه، أو العلة بمعلولها، لا يؤدي بنا إلى نتيجة عكسية، وهي الرفض، بل يؤدي بنا إلى العجز، وهو الإثبات عينه، وإلا حصل التماهي، والدور، والتسلسل، وكل ذلك لا نهاية له، بل هو في ذاته أبدية وصل إليها العقل في بحثه عن تصور معنى الأبدية التي تفرد بها الأزل. لأن ذلك انتقال من المحدود إلى غير المحدود، وتحول من عالم الماديات المدركة بالحواس، والإحساس، إلى عالم لا يكون الإدراك فيه إلا تسليما، وتفويضا، وإلا، فلا وجود لفائدة فيما خاضه الفلاسفة، ثم أقروا فيه بوجود حقيقة تضبط كل الحقائق الوجودية، والكونية، والطبيعية، وهي غير مدركة للعقل، بل لا يطيق العقل تصورها، وإن استطاع الوجدان أن يسلم بها، وكل خوض فيها، لن يؤدي إلا إلى الأبدية في كل خط من خطوطها.

وهكذا، فإن الارتباك الذي حصل في كثير من الخطابات الهادمة للمسلمات المتسلسلة في وحدة التفكير البشري، قد لا يدرك إلا في اللحظات الأخيرة لهذه الحياة التي تزال الستائر عن نوافذها، ثم يبدو ضوء الشمس مشرقا بين الآفاق، وهناك تكون الحقيقة جلية، ويرى الإنسان مصيره بعين حادة، فيأمل النجاة مما لم يحط به علما، ولو أقام فيما مضى ملايين الحجج على نفيه لذلك المدار الذي اعتبره سديما من الفوضى، لأن شتات الأفكار في لحظة التوهان، قد يصرف الإنسان عن معين الحقيقة الخالدة، لكن في الزمن الذي تتلاشى بين أعيننا كل الحقائق، ولا يبقى لنا في النصيب إلا حقيقة واحدة، ستلبس هذه المعاني المتشبثة بوحدتها لبستها الأصلية، وإذ ذاك لا مهرب من النظر إليها في جلائها، وصفائها. ولذا، فإن ضحالة النظر عند كثير ممن رأوا الإنسان مادة، ولم يروه روحا، قد منعهم من المعرفة الحقيقية لموجة الحياة التي يخوضها في الكون، ولو ادعوا أن لهم قدرة على إثبات ما يقولون بالبراهين الساطعة، والأدلة الدامغة. ثالثا: إن كثيرا ممن ينكرون المسلمات، ينتهون إلى تسويغات هي أشد عماء مما نَفَوْه، لأن ما نفوه، يمكن أن يقام عليه الدليل بالفطرة التي تشعل سمفونية التمازج مع لغة الكون، بينما منكر المطلق بتوهم ذاته لمثل عليا غير التي استسلم لها قانون الذات، يحتاج إلى أدلة قوية، تزيل اليقين، وتحول هذا الفطري البسيط إلى مكتسب معقد. وذلك مما لا يمكن الوصول إليه، ومهما استعدى الإنسان بدعاوى تحتاج في ذاتها إلى دليل على وجود دليلها، لأن نفي المطلق، إذا كانت الدعوى فيه هي العلم، فعن أي علم نتحدث.؟ لو قلنا ببعض العلوم الوضعية التجريبية، فإنها تحتاج إلى علم آخر يفسرنا لنا ماهيتها، لأن ما وصل إليه العلم من مواقف بين مدارات تطوره، ما هو إلا نظريات يمكن الاستغناء عنها في مسيرة الغد المشحونة بحواجز تعطل نظرنا عن الوصول إلى ما هو أبعد مما سنخبره بالتجربة. ولذا، فإن كثيرا من تلك النظريات قد تجاوزها العلم ذاته، وتخلى عنها، وغدت طريقة للاستدلال على نمط قديم من التفكير في الميتافيزيقيات، والطبيعيات، والبشريات. فهل يمكن اعتماد نفي من ظهرت له بعض ملامح العلم بالأمس دليلا على نفي المطلق، وقد تجاوز التاريخ ذلك في محاولاته لكشف النقاب عن الحقيقة النهائية.؟ لو قلنا بأن ما وصلنا إليه اليوم، هو نهاية العلم، فذاك أمر غير مستساغ في النظر الحصيف، لأن امتداد العلم إلى الغد، مما لا يمكن إنكاره، بل إنكاره خروج عن العالم، وصيرورته، وإلا، فإن دائرة العلم ستنتهي بهذا القول السخيف، وإذ ذاك سنغدو في الغد بلا بحث عن العلم الذي يضمره الزمان، والمكان. ومن هنا، فإن اعتبار ما وصل إليه العلم من إدراك للمادة والطاقة سببا إلى نفي المطلق، مما لا يزحزح الأثر القديم في الإنسان الذي يجد نحو بلوغ الخير النهائي في وجوده البشري، لأن قوة التاريخ، وتواتر البشرية على مراد واحد في التصور، والتصديق، لا يهدمه بعض ما يظهر على مرآة الطبيعة من ألوان، وأطياف، وإلا، فإن مت يحدث اليوم، هو النهاية الحتمية لامتداد هذا الكون، لأن توقف العلم، هو توقف للمعلوم، وهناك، سيتلاشى الكون. إذ ما هو إلا معلوم مستلزم لعلم، وعلم مستوجب للالتزام، والتسليم. رابعا: إذا كان العلم قد أثبت بعض الحقائق في ميدانه، فكيف يمكن له وهو غير محيط بالحقائق كلها، أن يكون هو الدليل الناسف للمطلق، ونحن موقنون بأنه مطلق روحي لا نهاية له، بينما ما وصل إليه في عالم الماديات، ما هو إلا نسبي لا يستقر فيه دليل اليوم على ما كان عليه بالأمس.؟ إن ما وصل إليه العلم الحديث من إظهار بعض المظاهر، لا يعني أنه أوجدها على غير مثال سابق، بل أبرزها بوسائلها التي كانت مجهولة لنا، وقد يمضي علينا زمن، فتزول جدتها، ويضحمل الذهول بها، لأن الصورة التي تكشف اليوم للعلم، بمقدار ما يتعاقب عليها الزمن، تبلى، وتأخذ صفة أخرى، وربما قد تنسى، أو ربما تكون تلك الصفة هي السبب في ولوج ذلك المكتشف إلى متحف التاريخ، أو إلى عالم المثل، لأن مقارعة الحقائق للزمن، يكسبها قوة، وشدة، فتكون أجلى وأوضح مما كانت عليه في السابق. وهنا يحصل الإغراء بها كما حصل التأثير بالمعجزات التي ركبت عقل الإنسان في قديم نشأته، وتطوره، أو ربما يحصل بها ما لم يأت لها وجوده في زمنها الأول، فتنال شهرتها، وعموميتها، ولكن، ومهما كانت قوية في الدلالة على عنصرها، وعصرها، فإنها تتحول مع مرور الزمن إلى نثر عتيق، وتليد. وتلك هي مسيرة الفكر البشري، فكيف يمكن اعتبار ما وصل إليه العلم دليلا على رفض المطلق، وهو متعرض لصيرورة الكمون، والظهور، والخفوت.؟ خامسا: إن كثيرا من هذه الخطابات منشأها أحد أمور يمكن لي أن أختصرها فيما يلي: أولا: قد أيس هؤلاء من تصالح المادة والروح في ذواتهم، فلم يجدوا إلا نفي الروح، كما لم يجد غيرهم عند احتدام الصراع بين ازدواجية مركب الإنسان إلا نفى المادة، لكي يحدثوا في ظاهرهم اتزانا، ولكنهم في باطنهم، يسعون إلى أن يسكتوا صوت الضمير، ويقتلوا الإله، لئلا يثير ذلك قلقا في حياتهم المتعطشة إلى المتعة، واللذة. هذا في الطرف الأول، وفي الطرف الثاني، تاهوا بين سراب خادع، ودخلوا متاهات لم يطيقوا الخروج منها، ولا الاستمرار في كشف حقيقتها، فلذا لم يكن لهم من مصير سوى التيه الذي لا يضمر في عمقهم عشقا للأحدية، والأبدية. ثانيا: بعد أن اغتر الإنسان بالعلم الوضعي، ورأى تخلف العقل العربي، حاول أن يتهم المطلق، بل جعله سببا في كل ما حدث من فقر، وجهل، وظلم، وفساد، وقسوة، وغدر، وخيانة، ونفاق، ورياء. والعجب أنهم تحولوا من اتهام الذوات بالعجز عن المعرفة إلى اتهام المطلق، وهو قد منح الإنسان القدرة والإرادة على صنع حياته من نعيم، أو من جحيم. ثالثا: حين امتدت الخطابات المتأزمة إلى المجتمع، وغيرت كثيرا من الأنساق القديمة، لم يؤد بهم ذلك إلى الاقتتال، والتحارب، وذلك ما أحيى الجرح القديم، وأترع المجال بالدماء المسفوحة من أجل السماء. فهل الإله هو المحارب والمقاتل هنا، أو هناك.؟ أم هذا الإنسان البائس الشره الجشع، وهو لا يقاتل إلا رغبة في جوهر حقيقته المعلولة بحب الولوغ من شرب دماء البشرية، ونزيفهم، ونجيعهم، وأوجاعهم، وآلامهم.؟

ولذا، أقول بأن هذه الخطابات المأساوية، كانت وراء شكوك كثير من أبنائنا الذين انطلقوا من الرحمة إلى القسوة، بل سببت في السؤال الحرج الذي أدى إلى التعاسة، والاتهام للأديان، والخوض في ذات الله عز وجل. فلا غرابة إذا قال أحدهم: كيف يكون هذا دينا، وهو يقتل، ويهدم، ويخرب.؟ إنه وضع مؤلم حقيقة، ونحن نرى في كل براكين الدم تنفجر بين قرى ومدن هذا الوطن السليب، لكن أن يؤدي بنا إلى رفض المطلق، وإدانته، واحتقاره، فهو قفز من قضية إلى قضية أخرى مناقضة، وجبن في التحليل لكليات هذا الوضع الذي يتاجر به صناع الأسلحة، والأدوية، والأغذية. فلو نوقش هذا التوجه السلبي للعالم اليوم، واعتبر بأنه توجه لا يجسد حقيقة ذات الإنسان بكل مكوناته الروحية، والمادية، فإننا سنتفق على خارطة الطريق، وإذ ذاك سنهتدي إلى سبيل آخر نروض فيه عقولنا على فعل صناعة الحياة، وإدانة الموت. لكن أن ينط بنا الأمر إلى سب الله، ورفضه، واتهامه بما يقع في عالم البشرية من قتل، وتخريب، فذلك من ضلال العقل، وعماه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يمكن لهذه الموجة كما أشرنا إلى ذلك أن تعبر عن ذلك القلق الذي يؤدي إليه التسليم غير المؤسس على العقل للمطلق، حين يكون كابحا للإنسان عن كثير من غرائزه، وشهواته. كلا، بل هذا هو السبب القوي في ظهور رفض الدين، لأن كثيرين ممن دهمهم التراث بإفرازاته العقيمة، لم يفرقوا بين الدين، والتراث، بين النص والتجربة، وبين الفكر، والعمل، فخالوا ذلك كلا، لا يتجزأ، وغاب عن إدراكهم أن في هذه التجربة ما هو إلهي، وما هو بشري، ولذا رفضوا الكل إخلادا إلى تلك الرغبات الممحونة في الباطن، وإهدرا لصوت الضمير المستجن في عمق الفطرة الإنسانية. لكن ذلك لا يدل على قوة المعرفة، وإنما يدل على غليان الشهوات في النفوس، فلم تؤثر في صراعها إلا أن تسكت صوت الداخل، لكي تتجاوز إلى تلك الضفة بأمان، وراحة. وهذا مما يدل عندي على خاصية متميزة عن غيرها في النفس، وهي سمة خاصة بها، يحق لها أن تؤثر في الصيرورة البشرية.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات فلسفية 8
- تأملات فلسفية 7
- تأملات فلسفية 6
- تأملات فلسفية 5
- تأملات فلسفية 4
- تأملات فلسفية 3
- تأملات فلسفية 1
- تأملات فلسفية 2
- صيد الذكرى
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 2-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الأولى
- عطر الصباح جنون الكتابة
- عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
- عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
- عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص ...
- عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية ...
- عقيدة الكاتب
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1


المزيد.....




- اصطدمت بسيارة أخرى وواجهته بلكمات.. شاهد ما فعلته سيدة للص س ...
- بوتين يوعز بإجراء تدريبات للقوات النووية
- لأول مرة.. دراجات وطنية من طراز Aurus ترافق موكب بوتين خلال ...
- شخصيات سياسية وإعلامية لبنانية: العرب عموما ينتظرون من الرئي ...
- بطريرك موسكو وعموم روسيا يقيم صلاة شكر بمناسبة تنصيب بوتين
- الحكومة الروسية تقدم استقالتها للرئيس بوتين
- تايلاند.. اكتشاف ثعبان لم يسبق له مثيل
- روسيا.. عقدان من التحولات والنمو
- -حماس-: اقتحام معبر رفح جريمة تؤكد نية إسرائيل تعطيل جهود ال ...
- مراسلنا: مقتل 14 فلسطينيا باستهداف إسرائيلي لمنزلين بمنطقة ت ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل حسين عبدالله - تأملات فلسفية 9