أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل حسين عبدالله - تأملات فلسفية 7















المزيد.....



تأملات فلسفية 7


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 5069 - 2016 / 2 / 8 - 14:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ومن ثم، فإن المعرفة كما مرت معنا في سياق ما ذكرناه، قد تتجدد مع الانتقال الذي يحصل بين المراحل في الزمان، والمساحات في المكان، والمنازل في المدى، والمراتب في الآفاق، لأن كل هذه الكليات مسافات تقطعها الذات في بلوغ لحظة الانتماء إلى نفسها، وعقلها، وقلبها، وروحها، إذ لا فضيلة لكل هذه المعارف إلا في صناعة الإنسان العاقل، المكلف بذاته، والمفجر لإرادته، والمسؤول عن أفعاله. لكن هل يمكن تقوية هذه المعرفة بعامل الزمن وحده.؟ إن الزمن الذي نعنيه، ليس هو طول أعوامه، بل الزمن الذي تحس به، وأنت موقن بأنه ضاغط عليك، تصارع ما يأتيك فيه من ضروب المحن، وفنون الفتن، لأن مقاومة عوارضه المفجعة، والمؤلمة، مما يتطلب منا أن نبحث في صرف ذواتنا عن بؤرة القلق التي تنتابنا، وتعتادنا، حين لا ندرك ما نحن فيه، وما نحن معه. وهذه المعرفة، قد يحوزها كل من اهتم بمستحدث الزمن في كياننا، وحياتنا، لأن تاريخ الزمن غني بالحقائق التي كانت مجهولة، وثري بما يمنحنا من صفة الوعي بمعنى الأشياء في بعدها التطوري نحو حقيقتها النهائية. وبمقدار ما نحصل على كل شيء ينبجس من قاع المجهول إلى سطح المعلوم، لا بوضعه في مِلك أيدينا، بل بمعرفة سياقه، وربطه بتاريخه، ودرك علاقاته مع التاريخ، ومع الحضارة، ومع الإنسان، فإننا نتحرك إلى الأمام بقوة الإدراك، والشعور، ونبني أساس الغد على أسس قويمة، وحكيمة. ومن هنا، فإن هذه المعرفة، وإن كانت عندي ضرورية في مواكبة أعاصير الواقع، ومظاهره، وضروب تنظيماته، ويمكن أن يتساوى فيها جنس الإنسان على اختلاف طبقاته، وشرائحه، يجوز لنا أن نعتبر من فوائدها أنها لا تجعلنا غرباء في واقعنا، ولا بعداء عن سياق بناء تاريخنا، إذ لو تباطأ السير بنا قليلا عن مواصلة جهدنا في مواكبة مستجدات واقعنا، لتخلفنا وراء ما سبق إدراكَنا، وعقولَنا، وحيئنذ، سنعيش في بؤرة وضع جامد، لا يتحرك بحركة الإنسان الفاعل، والمشتق من الحدث، وإن ادعى الانتشاء بالحياة، والوجود، واتصف بالنعوت الفاقدة لمعناها. وهو في حقيقته غير ملازم لدورة الزمن، والتاريخ، والحضارة. ولذا، فإن تعلمنا من الزمن فعل ممكن، إذا استوعبنا تلك العلاقة التي تربط بين ذواتنا ومحيطها في الكون، والطبيعة، بل الأغرب أن المعاق ذهنيا، أو المتخلف عن السير العادي بعارض يفل حدته في التطور، يستطيع أن يتعلم من الزمن في حدود إدراكه العقلي لماهية الأشياء، وفي حدود طاقته على رسم لوحة مفاهيمه في عمق ذهنه، سواء في ذلك ما له وجود حقيقي، أو ما له وجود اعتباري. فالشعور بالزمن، هو الأمل الذي يبحث عنه الإنسان في هذا الوجود المخصب بالتناقضات، والمتآلفات، لأنه يدرك أن كل ضاع منه من الشعور به، لن يعود أبدا إلى بهجة الدهر. وتلك هي الحقيقة التي شغلت بال الإنسان، وعذبته، وآلمته، وتمنى أن تكون له قوة على تطويع هذا المارد، وتطويق سرعة انفلاته، وشدة انقلابه، لئلا يقترب من نهايته التي يتلاشى فيها كل معنى، ولا يبقى بين يديه إلا رؤية معنى الفقد حقيقيا بلا عناء في التأويل. فلو حدثت مصيبة، أو فاجعة، فما السؤال الذي يطرحه الإنسان ذهلا، ودهشا.؟ ألم يتكرر على لسان الإنسان عند إحساسه بالملمات الغاضبة: هل نجوت بروحك من ألم النهاية.؟ أجل، إنه الإحساس بالزمن الذي يغدو قويا حين نحس بطارئ يهدد أمنه، وراحته، لأن كل هلاك يؤدي إلى فقدان معناه بين الذوات، وضياع حقيقته بين الموجودات. وإذا فقده، فمن سينقذه من مخالب الفناء.؟ ومن هنا، فالزمن، هو ما نحس به، ونبتغي معه خلدا، وبقاء. فسواء أدركنا أننا نقيم للزمن وزنا، أو لم ندرك ذلك، فنحن نحس به حقيقة، ما دمنا نعد الأيام، والشهور، والأعوام، ونحصيها، ونضع الخطط لاستغلال الوقت، ونخضع كل غاياتنا لنظام معين، وترتيب خاص، لا لأننا نسعى إلى أن نتمتع بالحياة، ومسرتها، بل لأن ما بين أيدينا نخاف منه، ونخشى عليه، فنحن حين ينتابنا الخوف معه، لا نخشى إلا من فقدانه، وزواله. إذ لو لم يكن مخيفا بقوته، لما أثار فينا شعور الحرص عليه. وهنا تكمن قوة الأشياء في تضمنها لعامل الزمن، ويبرز حياله ضعف الإنسان في قلة وعيه بالحركة بين مداراته، إذ ما زعم الإنسان في يوم أنه من غير هذه العلاقة بالحياة المرتبطة بدورتي الليل والنهار بين فلكي الشمس، والقمر، سيكون شيئا موجودا، ومذكورا. فالخوف من مداهمة الشعور بالنهاية المفزعة، هو الذي علمنا الحرص، والأمل، وصبغ حياتنا بالشقاء، والعناء، لأن كل واحد منهما يعبر عن الرغبة في الخلد الذي ننتظر هروب لحظته بين لحظات الزمن الكوني. إنها مغامرة خطرة بين أوجاع هذا الإنسان النكد الموارد، والمطالع. فنحن حين نحرص على التلذذ بقيمة الأشياء المملوكة لنا، أو المرغوبة فينا، فإننا لا نبحث بين أدراج الزمن إلا عن وسائل بقائها، واستمرارها، وتنميتها، وتكثيرها، لأن ذلك مما سيضيع وقته حتما، وذلك ما نوقن به جميعا، لكننا لا نطيق أن نحدث فينا إحساسا مغايرا، يحول كل ما سيضيع منا إلى شيء بدون قيمة، ما دمنا سنفارقه، ونودعه. وهنا يغامر الإنسان حين أراد تطويع الزمن، وهو مدرك بنهايته، وكل ما أدركت نهايته، فلا محالة لن يخلق فيك أملا، لا عنفوانا، وإنما سيتعبك، ويقلقك، ويضجرك، وإذ ذاك ستعاند ذاتك حين تفر منه، وهو طالب وصالك، وأنت راغب في ارتكاب أخف أضراره في حقيقة عمرك. فأي محاولة أعسر مما يهتف به طالب الخلد، وهو مشنوق على صلبان العدم.؟
إن الزمن، ومهما كان معلِّما ماهرا، ومتقنا، ومجيدا، إذ يعلمنا حقائق الأشياء كما هي مكتوبة في لوحة الوجود، وسواء ما كان في تعليمه مكتفيا بالنظريات، والاتجاهات، أو ما كان منه تمثيلا، واستقراء، فإن تعليمه ثقيل ببطء وعينا بدقاته، ودقائقه. لأننا لو أطقنا أن نقرأ الأشياء المكتوبة قبل أن تمسح في ذاكرتنا، فإننا سنبني هرما لمعرفتنا، إذ لا يمكن لنا أن نصل إلى لحظة من الوعي، ما لم تتأسس على ما سبقها من مقدمات، وممهدات. ومتى لم نجد فنَّ درك تلك الساعات التي تمر علينا سريعة، فإننا لن نقدر على حصره، وحبسه. فحصره حين نعصر منه لحظة تهبنا لطيفة، أو فائدة، أو معنى، أو حكمة. وكل ما نقلك من وعي إلى وعي، ومن فهم إلى فهم، ومن حقيقة جلية إلى أخرى خفية، ومن معنى معلوم إلى معنى مهجور، ومن فكر مرغوب إلى فكر ممنوع، فهو الزمن الحقيقي الذي تعيش بين ظلاله مترنحا، ومنتشيا. وكل ما جعلك غبيا بالموارد والسبل التي تسلكها نحو تحقيق الذات، والكيان، والهوية، أو بليدا في صياغة مواهبك، وطاقاتك، وكفاءاتك، فهو زمن غير محسوب لك في النتيجة، بل سيكون ناقصا من الحصة، وخائبا في الأمل، والأمنية. فأنت زمن، كما أنت ذات متكلمة، إذ لولا نطقك، لما مُيزت بين غيرك. وذاتك، لن تطيق حصرها عن مجاراة عداد الساعات، ولو حاولت، وأسرفت في التجربة، وأوغلت في أرض العراك بجرأة، وحماسة، وشجاعة، وتحركت بين الدروب بسرعة فائقة، وغامضة، لأن الذات التي تحتضن كل مكوناتنا المركبة لهويتنا في باطننا، وظاهرنا، لن يستقل منها جهاز عن جهاز، ولن ينتظر أحد منها الآخر في اللحاق، إذ هذه الطبيعة الصلدة في قوانينها الثابتة، لا تعفو عمن هجر معرفة نواميسها، وسننها. لكن من غباء العقل أنه الجهاز الوحيد الذي يحاول أن يعاند الطبيعة، ويفارق الحقيقة، لكي يكتشف من لحظاته المشحونة بآلامه أسس صناعته لمهد خلده. ولولا عقله الذي يجري بمشقة كالأرنب بين صيادي غفلاته، لعاش كما تعيش الكائنات كلها على صهوة اليابسة، فإما استغناء عن الأشياء إلا عند الاحتياج إليها للضرورة الملحاحة، وإما منتجٌ فيها للحاجات بلا وعي بما ينتجه من هدم، أو خراب. فالأشياء تتكاثف مع صورة الإنسان في صياغة هذا الكون الممتلئ بالإرادات المتنافسة حول الخلود، وما هو منها إلا جزء بسيط في هذه الكفاءة، والمهارة. فلو أدرك ضحالة قوته في إحراز غاياته، لأيقن بأنه لن يستطيع إخضاع الأشياء إلى إرادته، لأنها تعمل بنظامها لا بنظامه، ونظامها جزء من نظام الكون القائم على الدقة في التدبير، والتصريف، والحركة، والفعل. إذ هذه الأشياء في سنة التطور، والارتقاء، لا تمتلك ذلك الغرور الذي يمتلكه الإنسان حين ظن وعيَه أكمل في الإدراك من جميع الأجناس. بل لولا هذا العقل الذي تمرد به حين ارتجى أن يكون صاحب وظيفة ومسؤولية تخضع غيرها لقوانينه المحرفة عن النظام الكوني الكلي، لبقيت حياته مصدر أمل له بين سائر الكائنات، ومهيع سعي متواصل لتحقيق الغاية في الوجود بلا تعب، ولا نصب. فها هو ذا قد امتلك هذه الخصيصة العقلية، فما الذي أضافت إليه حين أدبر عن قصد الحقيقة النهائية للكون.؟ إن مشاهد الحياة التي تتنازعها إرادات متناقضة، تبين كيفية صياغة عقول أهلها، ولغتها المتداولة في نزال رغباتها، إذ لا يمثل الواقع إلا ساكن حلمه، أو ووهمه، لأن الواقع، ولو بدا مؤثرا في رأي، أو مصنوعا في رأي، فإنه يجسد حقيقة الإنسان بكل ما فيه من سمو، ونبل، وخبث، ومكر. فسمو عقله يبرز في سمو مدنه، وأوضاعه، وحركته، ودنو عقله يظهر فيما يحيط به من حقائق فقد صلة الاتصال بها، وغدت من شدة الإهمال متجاورة عنده في سياقاته الآنية. فإذا ولجنا باب أوربا إلى محيط ما صنعه العقل فيها من سياقات معرفية، فإننا سنجد ذلك العقل الفذ الذي حول الإنسان من معادلة إلى معادلة، لم يأت من فراغ في الطبيعة، أو عدم في الوجود، وإنما بنى القديم عنده ما فيه حركة الحديث، وكان الحديث عنده خطوة في الزمن، لا عودة إلى الوراء، لأن جوهر التقدم في تخطي الماضي، والإيغال في الحاضر. ولذا استحق قيمة الوجود بين نظم الطبيعة، وقيم الحقيقة، واستوجب أن تكون له آثار في بناء المعرفة البشرية، ولو طغى العقل المستعر بالمحاربة على القديم، وتجبر، وأقام ميادين للقتال بأراجيفه، وأغاليطه، لأن إنكار تقدم الإنسان إلى الأمام بدعوى العلمانية، أو الإلحاد، ليس إلا فزاعة يفزعنا بها هذا العقل الذي لم يحدث فينا تطورا، ولم يصمت لنرتاح من نقاشاته الحمقاء، وحروبه الجرباء. فالتقدم حاصل، والإنسان تغير حاله من بؤس إلى نوع من السعادة، والحضارة تفرز الحياة كما تفرز الموت. وتلك هي سنة تداول المعنى في الكون. ولعل أعظم شيء في الفلسفة التي قامت عليها الأنوار في أوربا، ليس هو في مدارات نقاشها، وحواراتها، بل في استطاعتها أن تخلق مهدا لتلك القفزة من سياق فكري إلى سياق آخر، ومن نمط سلوكي إلى نمط آخر. وهي حقا عجيبة في قدرتها على الاندماج في بؤرة الكون بطرق سلسلة، اكتشفت سر المعادلة التي تقوم عليها أنظمة تفاعل الإنسان في مطلق الوجود، لأنها تحولت من طغيان الكنيسة، والإقطاعيين، إلى مرحلة يسود فيها العقل الإنساني الذي تؤيده مسيرة الكون الإلهية.
وهنا يخطر لي في بالي أن ما وصلت إليه أوربا من حضارة، (ولا أعني الصناعة، لأنها مظهر من مظاهر التحضر.) لم يكن أمرا عاديا، أو بسيطا كما تشرحه عقولنا المختلة المفاهيم، أو عقولنا التي صنعها منطق الصراع المحتدم بين الأديان، والثقافات، والحضارات، بل كان شأنا عظيما ارتقت به ذروة السمو، والكمال البشري، لأن ما حدث، لم يكن نصا روائيا يسرح فيه الخيال بين الأمداء، لكي يصف لنا تلك المدينة الفاضلة، أو اللحظة الهاربة، بل كان وجوده حقيقة لا تقبل الإنكار. وإلا، فإننا نعاند الحقائق التي جسدناها في مراحل كثيرة من علاقتنا بهذه الحضارة. والأغرب أن إنكارنا لذلك، لم يخلق فينا رغبة لصناعة تلك الحضارة التي نريد أن ترتفع عليها أعلامنا السوداء، ويسود فيها صوت ذلك الراهب الذي يفسر لنا لغة الإله، ويشرح لنا كيفية نيلنا لمرادنا، ومرامنا، ويبين لنا مواقع الزلل والخطأ في تصوراتنا، وتصديقاتنا، بل استنفذنا كل قوانا في أوطاننا العربية من أجل صناعة هذا العقل العربي الذي ينقلنا من لحظة الشتات، والعربة، فلم نجد إلى ذلك سبيلا، بل تهوجت فينا عقول بعدما تواطأت على الخدعة، والدسيسة، فحولت إلى حقول لتجريب الأمراض، والأسلحة، والأفكار. والسبب في اعتباري يكمن في أمرين: الأول أننا ما زلنا وإلى يومنا هذا نحلم بصناعة هذا الإنسان من رمة ذلك العقل الذي نتصوره، ولو خيالا، بأنه كان فذا، ومتفوقا. وفي هذا نفي لسنن الطبيعة التي تحكم مسارنا في الزمان، والمكان، لأنها قائمة على التطور، والتحول، والتغير. وما دمنا نؤسس لهذا العقل بما ظنناه سببا في تميز تاريخي معين، فإننا ننكر قانون الحركة، وهي العلة التي يطوى بها الماضي من أجل الدخول في خضم الحاضر. الثاني: أن هذا الانتظار الذي نرقب فيه ولادة عقل عربي جديد، لم نهيأ له مهدا، ولا محضنا، بل لم ندخر له مشفى مريحا، يمتع هذا الأم بمولودها الكامل في بنيته، وينعشها به. والأغرب أن صور مشفياتنا شبيهة لهذا المكان الذي نهيئه لولادة هذا العقل المنتظر بزوغه من سماء المعجزات. وهنا يجوز لنا أن نقول: إننا ما دمنا لم نحترم ما ننجبه من ولدان بين غرف المشفيات التي تشبه عندي أقفاصا للآهات، والأنات، فإننا لا نمتلك جمالية في التفكير المؤهل لولادة هذا العقل بين الأماكن الهادئة. بل ما دمنا لا نحوط أبناءنا برعاية، وحماية، فإننا لن ننتج إلا الظواهر السلبية، والمريضة، وفي ذلك إرجاء مقصود لعملية التحول الحقيقي نحو التحضر، والتمدن. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، إن هذا العقل الذي ننتظر ولادته، لم نضح من أجله في اختيارنا للوسائل التي تجعل ولادته سوية، وكاملة، وإنما ترجينا أن يكون معجزة تأتينا من عالم غير عالمنا، لكي تهدم أقفاص إذلال الإنسان، وإهانة كرامته، واحتقار شأنه. وذلك مستبعد جدا، لأن عقلية انتظار المخلص، هي من آفات عقلنا العربي، بل من تداعياتها أننا نثق بلغة كل من يدعي الخلاص، فغدت عندنا في كل مكان مخلصون يبشروننا بعهد قادم، يقام فيه الحق، ويزول الظلم، وتعم الإنسان بركات السعادة. وهذا ضرر على تفكيرنا في حقيقتنا، وتعطيل لمشروع تخليق الحياة بقيم العلم، والمعرفة، لأن بناء العقول على الانتظار لزمن غير زمننا، يفرض علينا أن نحكم على زمننا بالفساد، وأن نرقب ذلك المجهول الذي نساق إليه متعبين بآلام الحياة، ومثقلين بأرزاء الفقر، والجهل، والفوضى. ومن جهة ثالثة، فإن ما نراه اليوم من ضوضاء، وجلبة، وصخب، لا يدل على أننا بدأنا في طريق الوعي، بل يبدو لي أننا في جهة من جهات حياتنا، نستورد ما أنتجه الغير، لكي يمكننا من درجة محدودة في التحضر، والتمدن، ومن جهة أخرى، نقاوم الجديد حماية للماضي، من غير أن نعرف ما يمكن الإبقاء عليه، أو ما يلزمنا أن ننفيه، ونغربه، ونقبره. لأن استيراد إفرازات الغير إلى قاع احتياجاتنا المعيشية، لا يعني إلا أننا سنكون في تلك التبعية بين أمرين: أولا: الكسل المؤدي إلى الكساد، وفي ذلك نهايتنا الحتمية، لأننا سنصير بدون عقل متحرر، ومبدع، ومنتج. وهذا هو التخلف عينه عن نواميس الطبيعة، وقوانين الكون، وضرورات الوجود. الثاني: أننا نقبل بذلك على مضض، وخجل، ولكننا نقطع طريق وصولنا إلى الحضارة بسوادوية اليأس، والإحباط. وإذ ذاك، سنعيش بأجسادنا لا بعقولنا في أوطاننا، ويكون أمل الهجرة رغبة محتدة فينا. وكل هذا قد حفر له بقعا سوداء في تفكيرنا الذي نواجه به معضلة الفقر، والأمية، والتخلف. وبناء على هذا، فإن محاربتنا لتطور ذواتنا، لن يفتح لنا باب التقدم إلى ذلك الغد المأمول، ولن يدع لنا فرصة لنتحرر، وننعتق، ونعلن عما نأمله في واقعنا من عدالة، ومساواة. إذ محاربة الذات، كما تتم في إغراقنا بين لجج المحبطات لصحتها، والمهلكات لقوتها، فإنها أيضا تتم بانغماسنا في شهوات العقول التي تقطع الطريق بيننا وبين تلك اللحظة المطلوبة في عقولنا، وعيوننا. لأن طبيعتنا مركبة من التناقضات، والمتباينات، فكما نحب أن نتحرر من أوجاعنا، فإننا نرغب في أن نذل غيرنا. وما دمنا لم نستطع أن نحدث ذلك التوازن في عقول أولئك الموجهين لمياه حياتنا، فإن ما يسقيه الألم فينا أعظم مما نناله من أخاديد الحياة البائسة، واليائسة.
ومن هنا، فإن تخبط عقولنا في واقعنا العربي، لن يدفع بنا إلى مرحلة أخرى، ولو عدلنا التنظيمات، ورقعنا السياقات. لأن ما لم ينشأ من واقعه المستجمع لكل شروطه، لن يكون استيراده ناجحا فينا، ولو جربنا ملايين الحظوظ بأزلام نقذفها في سلة الرغبات. ولنتأمل هذه الإزدواجية في واقعنا العربي، فإن ترسانة التنظيمات البشرية تكاد تفوق ما شرعه الأوربيون لبلدانهم، وحضارتهم، ولكننا على مستوى التشكل في ميادين الحياة، لا نجد أثرا لذلك في حركية استقلال ذواتنا عن متاهات انتظارنا، وتوقعنا، وإنما يبرز على سقفها ما هو كائن فينا حقيقة. لأن صناعة الأمل في أرواحنا المثخنة بالتجارب الخاسرة، يجب أن تنشأ من الإنسان في محيطه، لا فيما يأتيه من بيئة غير بيئته. وما لم ننشئ ذلك من إفرازات تطلعاتنا، واستشرافاتنا، ولم يطق عقل هؤلاء الأكاديميين أن يقوم به، فإننا لن نتغير، ولن نتطور. فمشاركة الإنسان في صناعة ما يحميه من تنظيمات، وترتيبات، هو الوسيلة الأولى في نجاحها، والطريقة الجديرة بحمايتها. وهكذا، فإن مفهوم الجماعية عندنا لا يؤدي دوره في حقيقة ما وجد له، فبدلا من أن يكون قائما على قيم التشارك، والتعاضد، والتآزر، والتعاون، فإنه يقوم على قيمة المحافظة على النسق الإيديولوجي المستبد بحركتنا الكلية داخل مكون مفهوم الجماعة في سياقنا الزماني، والمكاني. ومن هنا، فإن المتحدثين عن سياق واحد، وبلغة واحدة، ووسيلة واحدة، وغاية واحدة، لن يستطيعوا أن يصنعوا تلك الحقيقة التي يعبرون عن فاعليتها في تغيير واقعنا المسلوب، والمغلوب. بل ما يقومون به من جهد، وعناء، لا يؤدي إلا إلى تأييد ما هو قائم، وحمايته، ورفض كل صوت مخالف له، ومجاف لما يقوم عليه من حقائق. لكن، ألا تؤدي قولبة العقول في قالب واحد إلى نفي التعدد، والتنوع، والتميز.؟ لو نظرنا بعين تفحص مخبآت المعاني، فإننا سنعثر على سببٍ يقوم وراء هذا التنميط للعقول، والأفكار، والتحجير على الطاقات، والإرادات. لأن عملية الحجز التي يقوم به الفكر الجماعي على العقول المتميزة، يمكن إعادة سببه إلى الرغبة في المحافظة على السياق القائم بدوره، ووظيفته. ولكل سياق ضد يقابله، ومعنى يعاكسه. فالذين يحمون دائرته، ويذودون عن حوزته، لم يشعروا فيه بالألم الذي يشعر به من تحمل شقاءه، وإنما شعروا بالخوف عليه، ولذا شنقوا كل من يقف ضده. والذين يحاربونه، قد أحسوا بضغط بؤسه، وشعروا بأنهم قد فقدوا كرامة إنسانيتهم بسببه. ومن هنا، تتعدد الرؤى، والمواقف، لكن ما يدفع إلى قبول ذا، أو رفض ذاك، هو ما يقوم به النسق من خدمة حقيقة الإنسان المتعالية. فإن خدمه، كان جديرا بالبقاء، وكان كل تمرد عليه نابعا من حب الفوضى، والعبث. ولكن إذا سببا في العذاب، والحرج، والضيق، فإن مداخل البحث عن غيره موجودة فيه، ولا يمكن رفض صوت الإنسان الباحث عن حقيقة سعادته، بل يجب على السياق أن ينحني، وينعطف، لكي يدرك ما فيه من كوامن الضعف، ومكامن القوة. ولذا، فإن التحدث باسم المنافحة عن السياق، قد يحدث ضررا في صيرورة الآخرين، لاسيما إذا كان المتحدث عن ضرورته صاحب مكانة في الترتيب الاجتماعي، وكانت الغاية منه هو تحقيق فرضية التميز بإسكات الأحاسيس، والأصوات، وكانت الأماكن مهيأة لوجود صوت آخر معبر عن حرج الإنسان المتألم بأحداثه المرزئة، وكانت الأنامل المتحسسة واقعة على محل الداء في الجسم المتهدل بالأوجاع، والأمراض، والأوضار. وهكذا، فإن مجثم العلة، لن يلفه سراب الأحلام بستر يقي من الشعور فيه، بل الإحساس به، يدعو إلى استئصاله، وإنهاء ألمه، لأن حقيقة الإنسان تكمن في قوته على إنقاذ ذاته حين تقع فريسة للعلل الغامضة، والعميقة. وهل سيتم هذا في دورة جماعية كما يتوهم الفكر القائم على تقديس الجماعة.؟
إن العقلية الاجتماعية في حقيقتها، قد صنعت مفهوم المخلص، وهو فرد يمتلك خصوصيات معينة، تؤهله إلى أن يكون صوت الإله في الكون. هكذا وضع العقل رسما كاريكاتوريا لهذه الشخصية الأسطورية الفذة، لكي يعطل من مفهوم الخلاص الذاتي، ويربطه بذلك القادم من مجاهل الزمن، والمتحرك من أقصاه إلى أدناه. شيء مخالف للمنطق، ومجاف للعادة، لأن المخلص الحقيقي، يجب أن يكون متحركا مع الزمن، لا شخصا آتيا من جهة الأمام المستغرق في سديم العماء، وهو مكابد في أن يقطع مدد الزمن المجهول، كما نكابد نحن في أن نقطع مراحل الزمن المعلوم. فصناعة هذا الشخص الأثيري، يعني أننا ننفي تراكم التجربة البشرية في الزمن المدون لحركتنا البشرية، لكي نثبت قوة لتلك المعجزة الخارقة التي سوف تغير ما عجزنا عنه، وأيسنا منه. وهذا يدل على أن الإنسان المنتظر لشيء غير معروف يمكن له أن ينقذه من جحيم الاختناق بأوضاعه الفاسدة، قد استسلم للمجهول، واستكان إلى المعلوم، ولم تبق لديه رغبة في مواجهة تغيرات واقعه، وتقلبات مصيره، ولا قوة في بناء مستقبله، ولا في عتق غده. وهكذا احتاج الإنسان إلى ظل ينفس فيه عن كربته، كما يحتاج إلى فكر يمنحه قوة على اتهام غيره، لأن ذلك من مسببات شعوره بالحياة التي لم يظفر فيها بسعادته، ولكنه رضي فيها بما هو بين يديه، واحتمى من زواله بتسويغ قيام الأمر بذات غير ذاته، لئلا ينتهي أمله قبل أجله. ولا غرابة إذا حاول ربط ذلك بالزمن، ولو في صورة مشوهة التفكير، ومزيفة التعليل، إذ انتظار المخلص عنده، يعني أنه غير موجود معه، وإنما هو في مكان آخر بعيد عنه، ولن يظهر في زمن غيبته، بل في زمن آخر لا حدود له، ومكان لا يقربه إلا ما صاغه لواقعه من رداءة. وبمقدار ما يعجز عن التغيير، ويراه مستحيلا، فإنه يقربه بعقله إلى ذاته، أو بمقدار ما تكون حاجاته غير واضحة، فإنه يبحث عن الركوب في عربة الزمن غير المحدود، لأن ما يتفتق عنه الواقع من مظاهر لم يأت إلا من عبث الإنسان بحقيقته، لا يفرض إلا كآبة تؤدي بالإنسان إلى التذمر، والتحسر، لاسيما وأن الماضي، ومهما كان سيئا في واقعه، قد يستحيل بحكم قدمه جميلا، ووديعا. فهو يتمنى أن يعود إلى ذلك الماضي الذي لم يتضح عنده إلا لكونه صورة ذهنية لا قيود عليها، ولا حدود لها. وأنى لقانون الطبيعة أن يسمح بتلك العودة إلى مدفأة الماضي.؟ فلا بد إذن من وجود مخرج لهذا الأمل الذي يعانقه الألم، وهو ظهور المخلص الذي سيعيد واقعنا إلى ما كان عليه في تلك الصورة الجميلة التي صنعناها للماضي. والإنسان هنا، قد أقر بعامل الزمن في تغيير الأحوال، والأوضاع، ولكنه في مباشرة تغيير ما يراه معطلا لنبل الحياة، وجمال الواقع، لا يطيق أن يتحرر من تلك الصور القديمة. ولذا استمسك بها، واستسلم للحاضر، والمستقبل، وهو ينتظر قدوم ذلك المخلص الذي سيشنق الشيطان في مسرحية درامية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الإنسان يعلم يقينا أن ما عليه تيار واقعنا من مآس جمة، هو من صناعتنا التي دفعنا ثمنها غاليا، لكنه حين عسر عليه أن يدرك أن ما صنعه الإنسان، لن يزول إلا به، انتحى عقله منحى آخر، وهو الاندفاع في اتجاه الخوارق التي تعيد إليه رمزية اللغة المشفرة في ذهنه. ومن هنا، تلاءمت الصورة في الذهن، لكي يحاول العقل أن يجد لكل اعتراض مخرجا. ففي انفصال الزمن بينه وبين المخلص، سمى الزمن زمن الغيبة، وحقا، هي غيبة، أي غيبة الإنسان عن الفعل الحقيقي، لا غيبة المخلص الذي صنعه الغموض حين أودى بعقل الإنسان، ولم يستطع أن ينتج الأفكار، بل أنتج الأوهام، والخرافات، والخوارق. ولكي يخرج من هذا المأزق الذي أوقعة ضحية في منطق الأشياء، أثبت للمخلص نوابا، وخداما. وهنا انتحر العقل حين التجأ إلى العقائد التي صنعها منطق الصراع، فقال في بساطة تفكير بعد بكاء عسير: اتقد، ثم يتغير لك تاريخ الزمن، وقانون الكون، وناموس الطبيعة. أجل، كان هذا البكاء مرا في الذات، ولا محالة، سيحتاج الإنسان إلى إراحة جسده، ولو بتصنع العفو على من أودى ببهجة حياته، وأغرقه في وحل العناء. فلا مناص إذن من مغازلة منطق الأشياء بصناعة النواب لهذا المخلص، لكن لو كان النواب حقيقة يشعرون بهموم الإنسان على مدرجة التاريخ، فإنهم سيحاولون من باب الأمانة على سر الإنسان أن يغيروا ما كلفوا به. وإن لم يكن ذاك مقدورا لهم، فيكفيهم أن يستغيثوا بالمخلص الذي صنعوا له صورة الإله، ورسموا له خطا يتجاوز منطق الأديان الذي جعل هداية الإنسان بعامل خارجي أمرا نسبيا، بل جعل التفاف الأكثرية على معنى الإطاعة دالا على وجود مناخ غير طبعي لبذرة النفاق، والمكر، والخبث. وإذ ذاك سيكون دورهم ممكنا في الإدراك. لكن أن نقول بأنهم يحملون آلة الزمن بين أيديهم، وقضية هداية الجميع في عقولهم. فكيف يرث الثاني منهم الأول.؟ وكيف يحملون تلك الرسالة.؟ أجل، قد استطاع العقل أن يجد لهذا المنحدر السحيق في الفكر أملا، فقال بأن المخلص موجود، ولكنه خفي، وسواء كان مختفيا في سرداب، أو كان مختبئا بين الناس، ولا يعرفه أحد ممن يرجو ظهوره للقضاء عليه. فإذا اختفى، فهل لخوف فيه.؟ أم لعدم وجود الصياغة النهائية للواقع الذي يجب أن يتغير.؟ وإذا خفي أمره، فلم لا يتدخل في إصلاح الواقع، وهو مكلف في حدود الزمن الذي يحسب من عمره، لا أن يسكت عن الظلم، وينتظر لحظة أخرى، تعود فيها الأرض كما كانت، ثم تفنى، وتزول. فأي قيمة للعدل في تلك اللحظة.؟ إن وجود النواب، وهم يتوارثون السر، هو عين الغباء، والبلادة، لأن سر الكون ليس في طلسم يعرفه أهل الجفر، ولا في تميمة أو تعويذة يقرأها راهب، بل سر الكون في قوانينه المنتظمة بروح فياضة من عالم الوجود الحقيقي. ولعلنا قد أسرفنا كثيرا حين صنعنا مفهوم السر المتوارث، لأنه قد عطلنا جهاز التفكير العملي في واقع حياتنا المغتصة بأحلام الإنسان، وآماله، وآلامه. لكن صناعة هذه الرموز، أو الأسرار، لا يتأتى للعقل المنهار بالخرافة أن يتخلى عما تهبها له من ملح يحلي به طعم حياته، وإلا فقد جزءا كبيرا من حيويته المنتشية ببله الإنسان، وحمقه. ومن هنا، فإن حملة السر من زمن إلى زمن، أو ما شاكل هذا من أفكار تميز بين العقول بالأوهام التي لا حدود لها، لا يصير واقعهم حقيقيا، ما لم يصنعوا ذلك المخلص المخالف للإنسان في طول عمره، لو كان موجودا بيننا، أو المخالف له في قوته، وطاقته، وهو موجود في العدم، أو له وجود آخر غير وجودنا، وفي مكان آخر تحمل إليه رسائل الضعفاء والفقراء والمساكين فينا. ومن هنا، ألا يحق لهذه العقول التي جادلت حول إقامة الحق في زمن الغيبة، وقالت بعدم فرض ذلك، أن تنادي بملء صوتها فوق الربوة التي صنعتها الحروب من جماجم البشر، لعل هذا المخلص أن يستجيب لأنات المظلومين، والمنكوبين، والمنكورين، والمغتربين.؟ إن صناعة المخلص في العقل العربي، لا تختص به فئة دون فئة، بل لكل طريقة في صناعته، وإن اختلفت وسائل ظهوره، وأماكنه، وزمنه. فهل سيولد مستقبلا.؟ أم هو مولود الآن.؟
حين نفكر في المخلص، فإننا نرجئ الإصلاح إلى زمن غير زمننا، ونؤخر كل فعل يمكن له أن يحدث نوعا من التفاؤل في حياتنا، ونؤسس لمستقبلنا بأوهام قد لا تدفع عنا غائلة معاناتنا، ومصائبنا، لا لأنها نرى وجه الحياة بمنظار قاتم، بل لإحساسنا بأن هناك شيئا غير مستقيم في النظرة، فيجب تعديل أبعاده حتى يستوي الكلام عليه في الرؤية. ولذا، فإن البحث عن الخلاص في الفرد، ينفيه ما نقوم به من حروب لحماية للجماعة. فإما أن ننساق لفكرة الفرد الفذ، وإما أن ننجر إلى الغد بآمال ظهور المخلص الذي ينقذ الإنسان من علله، ويداوي جراحه المثخنة بدماء الأمانة المغتصبة. وسواء قلنا بذا، أو بذاك، فإن وجود الفرد الفذ، مما درج العقل على التصديق به، وإن حارب من أجل المحافظة على سياق يستقوي فيه عقل الفرد بغباء الجماعة. ولا غرابة إذن إذا حارب السياق كل عقل يريد أن يتحرر، أو يفكر في صناعة نسق جديد، ما دام السياق المتوارث بكل مكوناته، لم يحقق للإنسان لحظة سعادته. ومن هنا، فإن قيمة الفرد الفذ قائمة فينا، وسواء ربطناها بالمخلص، أو ربطناها بغيره، لأن العقل حين أنتج تلك الأفكار البلهاء، وأعوزه الدليل عليها، جافى المنطق، وبحث لها عن نصوص أخرى. وهو في صورة محاولته، قد ربطها بالسياق في الجماعة، ولكنه انتفض من أجل أن تبقى تلك الصورة لا تحتمل إلا هذا الفرد، وهو الذي سيقوم بعملية التعديل في المعادلة.
قد يكون هذا مستساغا في وجهة نظر أخرى، لأن العقول الفذة حقيقة تعرف كيف تهدم الأفكار المريضة في ركائزها، ودعائمها، ثم تطيق من خلال قراءتها لشبكة العقول أن تبني فكرا جديدا، لئلا تحصل الفوضى، وتعم البلوى، وتكثر الشكوى. وهنا كان الأنبياء والحكماء أفرادا، ولكن الفرد فيهم يعبر عن حس الأمة، ومشاعرها، ورغباتها، لأن القادة الحقيقيين أفراد، لما يتمتع به هذا الفرد من طاقات ومواهب لا تتأتى في الغالب إلا للأفذاذ. فإذا نظرنا إلى الحضارة الغربية، وأثرها الإيجابي في تحسين وضع الإنسان بين فضاء محيطه الاجتماعي، (ولا أعني الحضارة في بعدها السياسي، والاقتصادي، لأن ذلك مما صارت معه أوربا تابعة للإمبريالية العالمية التي تتزعمها أمريكا ذات الأعراق والأمشاج المتعددة. وإنما أعني ذلك السلوك الإنساني اليومي، وهو قريب من حلمه، وأمله، بل عثر عليه كل مهاجر رأى صورة الوطن العربي، فقابلها بما وجد هناك، فلمس نسبة التفاوت بيننا، وبينهم.) فإنه سيجد، أن أوربا لم تظفر بسر التمازج في دائرة الزمن، إلا بعد أن انحلت عقدتها مع ذلك القديم الذي استحوذت فيه زمرة من الإقطاعيين بمباركة الكنيسة على موارد القرار، وتخلت عن ذلك العقل الفاعل من أجل الاندماج في سياق أفرز واقعا اجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديا. ولكن لو تأملنا في ذلك، فإننا سنجد أن شعوبها لم تستجب لذلك، إلا بعد أن بقر أفراد بطن هذا التراث الميت في لحظة مخاضه، لكي تخرج منه مولودا قرت به العين ولسنوات طويلة. وهؤلاء الأفراد، هم الذين ضحوا بدمائهم في سبيل المعرفة، فسواء منهم من قتل من أجل بناء نظرية، أو من قتل من أجل إيمانه بالحقيقة التي وصل إليها العلم في التجربة، والملاحظة، والقياس. ومن هنا، كان العقل الفذ قويا حين أخضع حركة المجتمع لنواميس الكون، والطبيعة، فاستطاع أن يرفع دعامة جيل جديد، يفكر في الأشياء كما هي، لا كما صورتها له الجماعة المحتفظة على ما تناله من امتيازات في سياق معين. وهذا العقل الفذ، قد راكم التجربة، فاستحق أن يكون معجزة تحير لب كل من زار أوربا، وشهد حقيقة أثر الأنوار على بنيات المجتمع، وتنظيماته، وتفاعلاته مع الأشياء الموجودة في طبيعته. بل هذا العقل قد استطاع بقوته أن يغير مجرى التاريخ من مسار إلى مسار، وأن يصحح المعادلة، وينتصر على التخلف، ويقلع مع الزمن في طيرانه حول أسرار الكون، والوجود. ولا غرابة إذا استحق هذا العقل الاحترام من هذه الحيثية، ولو أنجب ولدانا خرجوا عن دائرته بعدما نسوا زمن التحول، وأسبابه، وغاياته، كما ينسى الناس مع طول الزمن أسس نظر المقاومين للاحتلال، والاستعمار، لكي ينشأ الغافل عن سر الحرية على ما وجد في واقعه، ولو لم يدر أنه يجسد حقيقة الدماء التي أريقت في سبيل صفاء مورده. فأوربا انتقلت من سلم عددي إلى سلم آخر عددي، وقد تجاوزت تلك اللحظة التي يمكن أن يختل منها رقم في المعادلة، ويحدث عكس ذلك المراد في التغيير، والإصلاح. وهكذا كل الثورات التي نجحت في مواصلة السير مع النظم الكونية، فإنها تدل على العقل الكامن وراءها، وعلى الدماء التي أريقت من أجل آثارها. وما لم يطق العقل أن يصنع تلك اللحظة التي تفجر المعجزة الخالدة، فإن ما يهرف به من نظرات حزينة، لن تغير صيرورة الزمن، ولن تدخل في سر أرقام معادلاته قضايا أخرى.
إن هذا العقل، ولو بدا قادرا على تحمل رزأ الحياة البائسة، ليس ملكا لكل الناس، بل هناك عقول تجاوزت المحطة التي توقف عندها العقل الخامد، الكاسد، إما لقوة إدراكها للحقيقة، وإما لمساعدة من بعض عوامل الطبيعة. فانحباس المطر حرب تعلنه الطبيعة على الإنسان، ولا أعني أنها غضب انفجر فيها، ولكن أعني اختلال بعض نتائج أنظمتها المرتبطة بمجالاتها المتعددة. وإذا شحت الأمطار، ويبست الآبار، وانطلت الحيطان بأدخنة الأفرنة، والحمامات، والسيارات، والمصانع، انقبضت الذات، وانكمشت الوجوه، واكفهرت الأماكن، واسودت الآفاق. وهنا قد يحصل الاختناق الذي يؤدي إلى النفور، والهروب، والهجرة. إذ لا يهاجر إلى مأمن آخر، إلا من تحول عنده فسيح المكان إلى سجن، وقفص. ولكن إلى أين المهرع.؟ فالمكان الذي قبلنا بالأمس، قد صار مع تداعي غرور العقل المتعالي بقوته التي ادعاها له، لا بقوته التي نالها من آثار فعله، مهيعا تؤول إليه النفوس العاشقة للموت، والانتحار. بل صوت الحزن فيه أقوى من صوت الفرح، ولغة الموت فيه أفصح من لغة الحياة. فإلى أين المهرع.؟ قد يصير الضيق تضايقا في الذات من كل شيء. إذ التضايق، ولو ظهر لنا أنه يحتمل قبول الشيء على مضض، فإنه لم ينشأ إلا من تربة الضيق. بل ما هو إلا تعبير نفسي عن الوجع، والألم. ولذا، فالضيق في غالب أحواله محله الذات، والتضايق محله المثير الذي يغريك على البكاء، والنوح، والصراخ. فالكون في حقيقة الأحوال المتآلفة على الأنانية المترعة بالجشع، والطمع، قد انسدت أبوابه، وغضبت طبيعته، وشحت يده، ولم يبق للإنسان من أمل. فالموت أهون عنده من الحياة، لأنه يرى لحظة الموت دقائق معدودة، بينما يشهد ألم الحياة مرارة توجعه إلى حين نهايته بلا رسالة يحملها إلى عالم السماء. فهل سيؤدي ذلك إلى تقبيل الأرض التي مرحنا فوقها، وتجبرنا، وتكبرنا.؟ أم سننتظر ميلاد المخلص الذي سيغيثنا بعد أن عجزت الأمهات عن إنجاب هذا العقل الفذ.؟ سينتهي زمن الانتماء إلى الأم التي تئد أبناءها، وتأكلهم، وترمي بعظامهم إلى قمامة التاريخ، وسيبتدئ زمن آخر، تكون السماء فيه أوسع من الأرض، والرغبة في الله أقوى من الانتصار للأنانية المستعلية، والمفرطة. ولا غرابة، فبالأمس كان الضيق يعلمنا الهجرة من هنا إلى هناك، والانتقال بين الديار بحثا عن لحظة يضع فيها المسافر عصا التسيار، لكي يخلد إلى الهدوء، والسكينة، والطمأنينة. وعلى رغم اختراع الحدود بين الجغرافيات المحلية، فإنها كانت تخترق بإرادة الإنسان الذي يرتجي أن يستوطن ظهر الأرض بكرامة، وحرية. لكن بعد انقضاء ذلك الزمن، سجر باب البحر، وأغلق منفذ الجو، وأحيط الإنسان بشباك ومتاريس حجبت رؤيته إلى الآفاق البعيدة. فما الذي تبقى بعد انتهاء الأمل في خروج المعذبين من قفص العذاب.؟ سيكون هذا السجن محنة حين يعلم الإنسان أنه يفقد خاصيته، وهو الانتظام في سياق لا يحفظ حقيقته، لأنه بدون الإحساس بلحظة التلاقي على المشتركات، لن يعيش بين قوانين الطبيعة أمينا، وسليما. وإذا تهاطلت عليه فكرة الهجرة لترتيب بيته، ووجد الأرض قد مزق دثارها عقل جشع، فإنه سيغتصب ضمير خلقه، ثم يسافح عهر الموراد الآسنة، ويضاجع لذة آماله بشهوات حارقة. وإذ ذاك، لن يكون إلا فسلا لا يعبأ بقيم، ولا يأبه بشيم. ففي أي مكان ستنبت هذه البذرة إذا خلعت الأماكن عذار حياء عقلها من معرة تخلف همم الإنسانية.؟
إن هذه الأشياء، وعلى رغم إقرارنا بأنها خاضعة للزمن في الطبيعة، وللعقل في الحظيرة البشرية، فإنها تنتج عندنا معرفة، قد نجدها في قليل من الأحيان مرتبطة بالذات، وفي كثير منها مرتبطة بالمجتمع، لأن الانتهاء إلى الذات، هو سبيل الفلاسفة، فهم وإن أدركوا فقدان الأشياء لسرها في الذوات، فإنها تحاول أن تركب المفاهيم من جديد، لكي تحدث تلك النقلة النوعية، أو تلك الطفرة من عالم إلى عالم. وتلك هي المهمة الصعبة للفيلسوف، والوظيفة التي يظهر فيها قدرته على تفوقه في درس الرياضيات، والهندسة. إذ لا وجود للأشياء بدون قانون رياضي، ولا معرفة بدون وعي بالقوانين التي تحدد الحركة، وتملأها بالمعنى الذي يهبها قوة، وفعلا، وأثرا. وذلك ما حدث في أوربا، فقد ضحت بكثير من الدماء لمحاربة الأوهام، والخرافات، والتخلف، ومدت يدها إلى تلك التحفة الثمينة التي حرص عليها قوم يقطعون راحة كل من خال نفسه الأقدر على كشفها، وعريها، لئلا تفتن الناس بما وصفت به من كمال، وما هي في حقيقتها إلا إكسير حياة لمن استغفل الناس، ورآهم بين عينيه بلها، وعميا، وبكما، وصما. أجل، قد يعجبنا من لا يرد رأينا، ولا من ينكر مقامنا، ولا من يسيء إلينا، لأننا من شدة الحرص على تلك التحفة، نريد أن تبقى غامضة، لئلا تزل الأقدام عن تلك العتبة المرتفعة، وتدنو الهمم إلى الحضيض الذي انطلقت منه. ومن هنا، فإن أروبا ضحت بكل هذا، واستطاعت أن تكشف التحفة، وأن تسلب سارقها بهجتها، وتحرق تاريخه في تاريخها، وتنسف قببها التي أغرت بما وضع على رأسها من أعلام، وألوية، وأضواء، وسيوف، وخود. وحين استطاعت أوربا أن تحول ذلك الكلام الذي لو قيل في الدير لأحرق قائله إلى كلام ينشده شعرا نديم الحانة، فإنها قد اكتملت عندها الصورة لكي تتحول من وضع إلى وضع، وأن تنقل ذلك الدم الزكي الذي أهريق من أجل إنصاف الشمس أمام الأرض إلى دياجير الأماكن المنتحبة بالضياع، والفراغ. وإذ ذاك تحررت، وتنورت، وأثبتت لنا أن ثمن دم الشهيد هو الحرية. وكل شهيد لم ينتج دمه حرية، فما كلامه إلا تجديف وهرطقة أدت إلى شق الجسد عن رأسه.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات فلسفية 6
- تأملات فلسفية 5
- تأملات فلسفية 4
- تأملات فلسفية 3
- تأملات فلسفية 1
- تأملات فلسفية 2
- صيد الذكرى
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 2-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الأولى
- عطر الصباح جنون الكتابة
- عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
- عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
- عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص ...
- عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية ...
- عقيدة الكاتب
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل حسين عبدالله - تأملات فلسفية 7