أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - هاني جرجس عياد - في عالم خارج نطاق الحياة : سكان القبور أحياء بدرجة أموات















المزيد.....


في عالم خارج نطاق الحياة : سكان القبور أحياء بدرجة أموات


هاني جرجس عياد

الحوار المتمدن-العدد: 4961 - 2015 / 10 / 20 - 17:52
المحور: حقوق الانسان
    


تشكل معضلة ساكني القبور في القاهرة إحدى أهم المعضلات الاجتماعية والاقتصادية ، فالملاحَظ أن هذه الظاهرة لا توجد في مصر إلا في القاهرة فقط ، ويبلغ عدد هؤلاء (2) مليون شخص بحسب تقديرات غير رسمية ، أما الأرقام المتداولة في الأوساط الحكومية فتتحدث عن مئات الألوف ، وفي ظل غياب إحصاءات علمية فإن الواقع يشير إلى أجيال تتعاقب على العيش في المقابر بعد أن يتم استثمارها من قبل النافذين . ويؤكد واقع العيش في المقابر أن ألوف الأشخاص ، بل العائلات ، تسكن في المقابر منذ عشرات السنين وتستشري في هذه البيئة الأمراض وتزداد فيها نسبة الوفيات عند الأطفال ، كذلك ينخفض معدل العمر لأغلبية القاطنين فيها ، وإضافة إلى ذلك فإن هذه البيئة تشكل تربة خصبة للإجرام والخروج على القانون بأشكاله وأنماطه المتعددة ، ولاسيما الاتجار بالمخدرات والأطفال ، فضلاً عن شيوع الأمية والآفات الاجتماعية على أنواعها .

وفي دراسته «سكنى المقابر في عاصمة مصر ... نظرة عبر العصور» ، يرصد "محمود محمد جاد" ظاهرة سكن المقابر التي ينفرد بها المصريون التي تعود إلى العصر الفرعوني لظروف لها علاقة بتقديسهم الموت ، ثم اختفت قبل أن تعود في العصر الإسلامي ، لتختفي مرة أخرى مع بداية نشأة الدولة الحديثة على يد "محمد علي" ، قبل أن تعود مرة أخرى بقوة منذ منتصف الثمانينيات ، التي سجلت مائة ألف ساكن في المقابر، كواحدة ربما من أولى علامات فشل «حداثة» الدولة .

ففي العصر الفرعوني كانت الظاهرة تمثل تجسيدًا لفكرة الخلود والحياة بعد الموت ، وساعدت على تعزيز السلطة السياسية للملوك من خلال تأليه الفرعون ، والاهتمام بإحياء ذكراهم بعد رحيلهم التي احتاجت إلى عمالة ضخمة ، للعمل على تخليد موتهم ، سكنت في «قرى محصنة» بجوار المقابر .

ثم عادت الظاهرة مرة أخرى مع العصر الإسلامي مع بناء القرافة ، التي ظلت تتبع العاصمة في تحركها ونموها ، ويتغير موقعها مع تغير العواصم ، فبعد سقوط الدولة العباسية تغيرت العاصمة من الفسطاط إلى القطائع ، قبل أن يبني "المعز لدين الله" القاهرة ، واكتسبت ما يميزها عن العصر الفرعوني مثل الوظيفة التعليمية ، والتكافل الاجتماعي ، والرعاية الاجتماعية والوظيفة الترفيهية ، وكان سكانها من القائمين على عمليات الدفن ، والفقراء وعابري السبيل والمتصوفة .

واتخذت في العهد الفاطمي شكل البذخ ، للتنافس بين الأمراء، فبنوا قصوراً لهم ملحقة بالمقابر التي سيدفنون بها ، وظهرت نوعية جديدة من المساجد بالقرافة ، احتوت على ركن لتدريس الأيتام وأولاد الفقراء علوم الدين على المذهب الشيعي ، وركن لإيواء الصوفية ، وساعدهم في ذلك نظامهم الاقتصادي الذي اعتمد على الأوقاف ، فحبسوا جانباً كبيراً من إيراد الأراضي الزراعية للإنفاق على المساجد ، وانتقلت عادة بذخ الصرف على المقابر إلى الأهالي ، مما جعلها عامرة بالسكان .

ووصلت أوج ازدهارها في العهد المملوكي ، إلى حد أنها أصبحت أشهر متنزه لأهل مصر، واستغلت النساء زيارات القرافة ، لإيجاد متنفس بعيداً عن القيود الدينية والاجتماعية المفروضة على خروجهن ، أو السير في الشارع سافرات الوجوه .

عاد التدهور مرة أخرى للقرافة ، ووصل إلى ذروته مع بداية اتجاه "محمد علي" لما يمكن تسميته «علمنة» الدولة ، عندما فرض ضرائب على أراضى الأوقاف ، وهو الأساس الاقتصادي لسكن المقابر، ومع اهتمامه بتحولات كنقل مراكز التعليم من الأزهر والمساجد والكتاتيب إلى المدارس وإلى المعاهد الحديثة ، كان قد قضى على الوظيفة التعليمية للقرافة ، التي كان أغلب المساجد والكتاتيب تقع بها .

لم تتبق سوى أعداد قليلة لم تشكل ظاهرة سكنية مثيرة للانتباه، قبل أن تعود مرة أخرى لتصل إلى مائة ألف نسمة ، لتصل في عام 2008 إلى 2 مليون مصري .

وترصد الدراسة في النصف الثاني من الكتاب طبيعة السكان ، التي تغيرت ممن يمتهنون مهناً لها علاقة بالمقابر وطقوس الموت ، إلى ارتباط بالأنشطة الاقتصادية والصناعية والتجارية والحرفية ، بعد أن أصبحت بمثابة مستودع للورش الصغيرة ، التي ضاقت بها المناطق الجنوبية ، والجنوبية الشرقية للمدينة بعد التضخم الحضري، الذي شاهدته المدينة منذ الأربعينيات ، وللباحثين عن سكن رخيص هرباً من ازدحام المدينة ، ثم انضم إليهم المهاجرون من الريف والصعيد ، هرباً من الفقر وبحثاً عن فرص عمل .

ويرصد "جاد" في دراسته خصائص مجتمع سكان المقابر الذي تشكل عبر عقود ، فيرصد بنيته التي تشكل جزءاً كبيراً منها طبقة التُرَبِية وكبار المعلمين منذ الثمانينيات ، فـ«التربي» هو من يتحكم في أحواش المقابر، وله نفوذ على السكان ، وهو المسئول عنهم أمام الحكومة ، ومانع الحكومة عنهم ، ويتم استخدامهم في الانتخابات لإجبار سكان المقابر على التصويت لمرشح بعينه ، أو عدم الإدلاء ببيانات تتعلق بالجرائم للشرطة .

الطبقة الأخرى، هي شريحة متوسطي التجار والحرفيين المهرة ومساعدي التُرَبِية ، تتبعها طبقة الموظفين والعمال في القطاع العام، والفئة الرابعة هي المحالون إلى المعاش ، والمسنون والعجزة ، وعمال اليومية ، والعاطلون .

وينتقل "جاد" إلى التصور المتبادل بين سكان المقابر وسكان المدينة ، فبينما ينظرون إلى من يقطنون في المدينة بوصفهم «ناساً مبسوطين» يعتبرون أنفسهم «مدفونين بالحيا» كأنهم «من كوكب آخر» ، وتتجلى أكثر أشكال الحصار الاجتماعي والنفسي الذي يعانيه سكان المقابر في مسألة الزواج ، ففور علم المتقدم للزواج بأن العروسة من المقابر ينفر فورا ، فضلاً عن نظرة المسئولين والشرطة لسكان المقابر . ويكتب المؤلف : «لا يختلف موقف المسئولين الحكوميين من سكان المقابر عن موقف باقي سكان المدينة منهم . ذلك أن هؤلاء المسئولين يعاملون سكان المقابر معاملة يغلب عليها طابع العداء واللا مبالاة في آن واحد».

في هذا السياق ، نفهم ما ذكرته بعض النسوة من سكان المقابر للمؤلف من أن بعض سكان المدينة ، بل من معارفهن الشخصيين لا يكفون عن معايرتهن بأنهن «بتوع القرافة»، وأنه عندما يترامى إلى سمع الحضور أنهن «بتوع القرافة» ينظرون إليهن نظرة «كما لو كنا ميتين وصحينا تانى»، ومن ذلك أيضاً ما ذكره بعض التلاميذ من أبناء سكان المقابر من أن زملاءهم في المدارس التي يذهبون إليها خارج المقابر لا يكفون عن معايرتهم أيضاً بأنهم «بتوع القرافة» .

ويشير "جاد" إلى أن تلك النظرة المتبادلة والتصور المتدهور بين الطرفين يمكن أن يفرزا الكثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية والتشوهات الثقافية لدى سكانها .

نظرة سكان المقابر نحو الموت تغيرت أيضا عبر مجاورتهم له بشكل يتمايز مع نظرة المصريين المعاصرين والمتأثرة بنظرة الأسلاف من الفراعنة والديانتين المسيحية والإسلامية ، فلم تعد رؤيتهم للمقابر تثير الرهبة كغيرهم من سكان المدينة ، فهم يخشون الجريمة المنتشرة في أحواش المقابر أكثر من عودة أرواح الموتى .

ينتهي "جاد" في دراسته إلى أن ثقافة الموت لدى المصريين، رغم تغيرها من تقديسه في العصر الفرعوني إلى مجاورته في العصر الحديث، ورغم أنها ثقافة تميزه عن شعوب العالم، إلا أنها تؤثر على مقدراته ، وأن على المصريين التخلص من ثقافة «التبعية للموتى» في الأفكار والطقوس والتقاليد .

ويتحدث "محمد الجوهري"عن الدوافع الرئيسية التي تدفع الناس لسكنى المقابر، فيرى أن أهمها بحثهم عن مأوًى بعد الهجرة من الريف ، فلا تجد هذه الفئة سوى المقابر تضمهم وتشجعهم على ذلك ، وأحيانًا لوجود أقارب لهم هناك . ولعل أهم الأسباب فعليًّا هو الاكتظاظ السكاني لمدينة القاهرة مع ما يشمله من مشكلات المساكن الآيلة للسقوط والانهيارات الفعلية ، أما البطالة فتشكل هي الأخرى، حافزًا للبحث عن العمل في أي مكان ولو كان هذا المكان هو المقابر، وهذا يمثل الفقر بمعناه الواسع .

وتتشكل القوة في هذا المجتمع في محورين رئيسيين يتجسدان في شخصيتين ، أولاً صاحب «الحوش» الذي يقوم بتأجير حوش مباشرة لبعض أقاربه أو معارفه أو رقيق الحال دون مقابل مادي، وذلك بدون توقيع عقود لأن هذه الأماكن غير مخصصة للسكن ، والثاني هو «التربي» وهو يمثل الشخصية القائدة لمجتمع المقابر وهو الذي يسيطر سيطرة شبه كاملة على كل ما يقع بالمنطقة من دفن وإسكان وجريمة وتأدية خدمات واتصال بالمسئولين . ويتضح من هذا أن «التربي» بهذا المعنى ليس إلا رمزًا لمجموعة من الأشخاص ذوي السلطة والهيمنة على منطقة المقابر؛ فلكل مجموعة من التربية «معلم» يقود حركتهم وينظم عملهم ويحدد لكل منهم منطقة نفوذ لا يتعداها ويعد هذا الواقع بمثابة التنظيم الرسمي لهذه المنطقة ، فهناك شخصية أخرى أقل سطوة من الشخصيتين السابقتين ، وهي تمثل السواد الأعظم من ساكني هذه المناطق ألا وهو «خفير المقابر» والذي يتم تعيينه من قبل التربي أو المعلم ولا تكون له أدنى درجة من حرية التصرف دون الرجوع إليهما .

ويؤكد "الجوهري" أن نسبة الأميين بين أفراد هذه المنطقة يصل إلى حوالي ( 64.4 %) ، أما الذين لا يرتفع مستواهم التعليمي عن حد القراءة والكتابة نسبتهم ( 23.3%) ، والحاصلون على شهادات أقل من المتوسطة فنسبتهم ( 6.1%)، وأصحاب الشهادات المتوسطة وأعلى من المتوسطة نسبتهم حوالي ( 6%) ، وأصحاب الشهادات الجامعية تتضاءل نسبتهم حتى تصل إلى حوالي ( 0.2 %) .

وينقسم سكان المقابر في هذا الإطار إلى فريقين، الأول فريق "يعمل"، والثاني "لا يعمل"، والذي يعمل ينقسم إلى نطاقين ، الأول داخل المقابر والثاني خارجها ، أما التقسيم المهني لساكني المقابر، فهناك أولاً الحرفيون وهذه الفئة تمثل أبرز المهن حيث تبلغ نسبتهم ( 37%) من إجمالي السكان العاملين ، ثم ثانيًا الموظفون وتنخفض نسبتهم حتى تصل إلى ( 9.4%) ، أما نسبة المشاركين في أعمال التجارة فتنخفض نسبتهم كثيرًا لتصل إلى (1.7%)، وأخيرًا أصحاب الأعمال المتصلة بمنطقة المقابر حيث تبلغ نسبة هذه العمالة نحو ( 5.5%) .

وعن نمط العلاقة الاجتماعية بين هؤلاء فإن هذه العلاقة تتسم بالعزلة الاجتماعية وتعود إلى طبيعة وخصائص سكان المقابر ذاتها بالنسبة لسكان المدينة.

ويضيف "الجوهري" أن المشاكل التي تواجه ساكني القبور هي الخوف من الحياة في منطقة المقابر؛ مثل الخوف من بعض المعتقدات والخيالات مثل العفاريت والجن التي تطرق على الأبواب ليلاً ، ولكن هذا الخوف ليس هو المشكلة الوحيدة التي يعانيها سكان المقابر فهم يعيشون في خوف مزدوج من الموتى تارةً ومن الأحياء حيث يستغل اللصوص هذا الاعتقاد الخرافي لدى السكان فيطرقون أبوابهم ليلاً لتخويفهم وذلك ليتمكنوا من سرقتهم أو دفعهم لترك المنطقة نتيجة إحساسهم بالخوف وعدم الأمان ، وهناك مشكلات أخرى داخل المسكن مثل ضيق المساحة وعدم وجود مرافق مثل المياه والصرف الصحي والكهرباء والخدمات الصحية والمواد الغذائية مما أدى إلى إيجاد سوق سوداء يصرفون فيها السلع بأسعار أعلى ، وقد ساعدت المنطقة على ذلك . ويعاني ساكنو المقابر أيضًا من عدم وجود خدمات تعليمية ، فمعظم المدارس ابتدائية فقط إن وجدت ، كذلك عدم توافر وسائل المواصلات اللازمة حيث إن معظم وسائل النقل والسيارات هي سيارات نقل بالنفر ولا تصلح للاستخدام الآدمي .

على بعد خطوات قليلة من حديقة الأزهر الشهيرة بإطلالتها الرائعة ومساحتها الشاسعة والجمال الذي يفيض من أركانها ، والجو المبهج الذي يسودها دائمًا من عائلات تستمتع بنزهة جميلة ، أو عروسين يحتفلان بزفافهما أو مجموعة من الأصدقاء يرفهون عن أنفسهم في أحضان الطبيعة ، ترى سلما صغيرا يتسع بالكاد لقدميك يقودك لعالم آخر تمامًا متشح بالسواد ، معبق برائحة الموت والحزن والإهمال ، ترى الشكل المميز للمقابر فتكتشف أنك في "ترب المجاورين" الشهيرة .

يبدو لك كل شيء عاديًا ، فهي بالنسبة لكونها مقابر طبيعية جدًا ، وحالتها معقولة ، لكن دهشتك واستنكارك يبدآن حين ترى طفلاً يحاول قضاء وقته باللعب في أنحاء المكان ، مع صديقه الكلب الصغير الذي هو حارسه الأمين في هذا المكان المرعب بالنسبة للكثيرين ممن هم في مثل سنه ، تكتشف بعدها أنه ليس طفلاً مشاغبًا اتجه للمقابر ليلهو ويقضى بعض الوقت في مغامرة محرمة ستؤنبه أمه عليها بقسوة بعد ذلك ، بل هو ولد هنا ، ويعيش هنا ، وسيظل هنا إلى أن يشاء الله .

تشعر بالحزن والأسى لأجله ، وتشعر بالغضب بلا شك حين تكتشف أنه واحد من بين من يقطنون المقابر، يولدون فيها ويتزوجون فيها ليبدؤوا «حياتهم الجديدة» أيضًا بين أحضان الموت، يعملون داخلها أو لا يعملون ، وكأنهم سقطوا من ذاكرة الوطن ، فكونوا عالمهم الخاص الذي رغم بؤسه يتطلب دخوله «واسطة» ، حسبما يؤكد "م . ب" العامل الذي تخطى الثلاثين بسنوات ، قائلاً "لولا الواسطة ما كنتش عرفت أبدًا أخد الحوش دا... وعلشان كده حياتي في المكان بحساب"، ويستطرد "أصحاب الحوش ناس واصلة ، لو أتضايقوا مننا مش هنقدر نعيش في المكان لحظة واحدة ، علشان كده لازم نراعيهم ، ومثلاً الغسيل يكون بحساب وقعادنا بحساب لو هم جايين زيارة ولا حاجة ما ينفعش نضايقهم" .

تدخل لتتأمل "الحوش اللقطة" الذي حظي به "م . ب " بعد معاناة ولجوء للواسطة ، فتفاجأ بأنه عبارة عن غرفة مربعة بها المقابر، بني فوقها "صندرة" صغيرة هي كل حظه من الدنيا وأسرته المكونة من ( 5) أفراد ، في المكان الذي ينامون فيه ، يعدون طعامهم ويقضون حاجتهم ويخزنون ملابسهم وأمتعتهم .

أما الحاجة "ك . م" فكانت أفضل حظًا ، حيث حظت بحوش واسع : "بعد أن ربنا وسعها على جوزي الله يرحمه ونقلنا هنا"، وكانت تعيش في حوش آخر مع أقارب زوجها منذ كانت عروسا في الـ 16 من عمرها ، منزلها يبدو للوهلة الأولى كأحد البيوت العادية لإحدى الأسر رقيقة الحال ، حتى يصدمك لوح رخامي عليه كتابة منمقة في وسط الصالة المطلية حديثًا ، تمامًا كأنه صورة معلقة على الحائط ، لتكتشف بعد التدقيق أنه شاهد رخامي لقبر واحدة من المدفونات بالمكان ، فضلاً عن رائحة العطن التي يزداد تركيزها في أنفك لحظة بعد أخرى .

الحاجة "ك . م" ذات الـ 68 عامًا ، تشعر بالرضا تمامًا عن حالها رغم قسوته ، إلا أنها تشكر الله على «النعمة» خوفًا من أن تزول ، خاصة مع تهديدات مالكي الحوش المتكررة لها بالطرد واستجدائها لهم أن يتركوها تعيش ما تبقى من عمرها هنا ، لأنه ما من مكان آخر لتعيش فيه .

وبالرغم من أن الحوش الذي تسكنه مميزا نوعا ما ربما يكون مصدرا لحسد جيرانها ، بحيث يتكوّن من صالة وحمام ومطبخ وغرفة ، إلا أن "أ . ع " تتمنى اليوم الذي تترك فيه هذا المكان إلى شقة حتى لو كانت مكونة من غرفة واحدة لفقدان الأمان هنا . قالت "نحن نضطر إلى النوم من المغرب بسبب البلطجية والحشاشين والصايعين ، لا نشعر بالأمان هنا ، نخاف على أطفالنا".

وأردفت قائلة "لا تصدق أن الحياة هنا مريحة ، فالبنت بعد المغرب لا تستطيع الخروج من الحوش ، أنا زوجت ابنتي عندما بلغت ال 16 سنة قبل ما تأخذ شهادتها خوفًا عليها من المحششين والذين يتعاطون المخدرات ، خصوصًا وأنه في احد المرات ضربوني برخامة فبقيت ( 3) أشهر في المستشفى للمعالجة ، وعندما نبلغ الشرطة لا احد يسأل عنا". وأخذتنا (أ .ع " إلى مكان خلف المدفن تتناثر فيه حقن عليها آثار دماء، وسجائر محشوة بالحشيش والبانجو، وشرائط برشام .

وعلى بعد أمتار قليلة تقدمنا "ز . أ" إلى حوش أخر هالنا منظر شواهد القبور التي تملأ جنبات الحوش منها ما كتب عليه توفي صاحبه عام 1942، وآخر كتب عليه توفي صاحبه في 1997، والغرف المبنية بالمواد البدائية المنتشرة هنا وهناك . طرق باب إحدى الغرف وعرفنا قائلاً "هذه زوجتي "غ . ع" وأولادي الأربعة "ي" 15 سنة ثانية إعدادي و"ف" 16 سنة ثالثة إعدادي و"د" في سنة ثالثة ابتدائي و"ن" في سنة رابعة ابتدائي"، ولو قدر الله سبحانه وتعالى لثلاثة أطفال آخرين أن يبقوا أحياء لوصل العدد الذي يعيش في هذه الغرفة إلى ( 9) أفراد .

تبدو الغرفة منقسمة إلى قسمين بستارة قماش ، قسم يوجد فيه خزانة الملابس وسرير ينام عليه الأب والأم ، والقسم الأخر يوجد فيه كنبه انتريه متهالكة ينام عليها الابن الأكبر، وكرسيين ، وشانون يوجد فوقه تليفزيون ابيض واسود ماركة قديمة . أما البنات الثلاثة فينمن في سندرة على فرشة بطانية . وبجوار الغرفة توجد دورة مياه فيها غسالة عادية كانت السبب في وفاة احد الأبناء و بوتاجاز، وطرقة من دون سقف يوجد فيها موقد الطبخ .

قطعت "غ . ع" جدار الصمت وقالت "أنا اطبخ هنا في هذا المكان ، لكن التراب ينزل في الطعام لعدم وجود سقف" ثم أشارت بيدها إلى الغسالة قائلة بإحساس تغلفه المرارة" هذه الغسالة قتلت ابني "ع" صعقه التيار الكهربائي ومات ، كان عمره عامين ، ودفن في هذا المكان" مشيرة إلى المدفن الذي دفن فيه . وصمتت قليلاً وقالت "الأم المكلومة" على فكره توفى قبله اثنين ، "أ" مات عمره سنتين في المستشفى ، و"ه" بعد أسبوع من ولادتها".

أغمضت عينها لبعض الوقت ثم تابعت بقلب حزين على حالها "لا يوجد شيء في هذا المكان لا نعاني منه اليوم يبدأ عندنا بمآسي وينتهي بمآسي، أنا كنت أعمل لأساعد زوجي لكنني تعبت ، رزق زوجي على باب الله ، وأتمنى أن يتعلم أولادي، و"ي" ينال شهادة الإعدادية وليصبح مندوب شرطة".

قاطعها "ز .أ" وقال " أن المستوى الذي نعيشه لا يؤهل أن يتعلم أبنائي في المدرسة". " التعليم يحتاج إلى مصاريف ونفقات ، لا نقدر عليها ، أنا بحاجة للجنية الذي يعمل به ابني أكثر من تعليمه". التقط "ي" أطراف الحديث " أنا لا أخد دروس خصوصية والمدرسين يطردونني لا يريدونني أن أذهب إلى المدرسة، , يعطونني المقشة ويطلبون مني أن اكنس وأنظف الفصول حتى يجعلوني أكره المدرسة".

وتابعت "ن" قائلة " أنا من أول السنة لم اذهب إلى المدرسة " وسألتها عما تود أن تكون في المستقبل ، فقالت "أنها تريد أن تكون ممرضة حتى تستطيع الحصول على وظيفة بسرعة" .

دخلت "ف" وبيدها كيس مكرونة فئة كيلو واحد وأعطته لوالدتها وقالت "هذا اليوم استثنائي سنأكل فيه مكرونة ، بدلا من الروتين اليومي العدس والفول "وأكمل "ي" ضاحكا " لم نرَ اللحمة منذ عيد الأضحى، وسأل الأب" كم سعرها الآن؟ وتباينت ردودهم حول سعرها بشكل يبرز عدم شرائها منذ فترة طويلة .

ومن جانبها قالت "د" أنها أيضا لم تذهب إلى المدرسة منذ أول السنة ، ونظرت إلى والدها كما لو أنها تلومه عن تقصيره في حقها. وسألتها عما إذا كانت تتمنى أي شيء ردت بحسرة قائلة "أتمنى كل شيء نحن في حاجة لكل شيء"، ليبدو أن أحلام سكان المقابر في واقع الأمر لا تقتصر على مجرد حصولهم على بيت وجيران وشارع ينتمون إليه .

انه عالم خارج نطاق الحياة ، أطفال وشباب وكبار يعيشون كالأموات، لا يختلفون عنهم إلا بقلوبهم التي لا تزال تنبض ، لم تسعهم الأحياء الراقية والشعبية أو حتى العشوائية التي أصبحت كالسرطان في العاصمة المصرية ، فزحفوا نحو الأموات ، استكثروا عليهم المساحات الخالية التي تحيط بقبورهم ، زاحموهم واستقروا بجوارهم واقلقوا منامهم ، وان كان الأموات في راحة عنهم . أنهم سكان المقابر في القاهرة الذين تقدر إحصاءات غير رسمية عددهم بحوالي 2 مليون نسمة .

وتعليقًا على هذه الظروف غير الآدمية والأوضاع المعيشية المحزنة التي يعانيها سكان المقابر في مصر ، اللذين لا تتجاوز أحلامهم أربعة جدران خارج المدافن ، أو جيران غير الموتى ، أو قسط قليل من التعليم أو وظيفة في ادني درجات السلم الاجتماعي ، أو حتى مجرد طبخة تحتوي على قطعة من اللحم ولو مرة كل شهر ، فانه من الصعب جدًا أن نرى أشخاصا يعيشون في القبور مع الأموات ، بل الكثير منهم يعيشون مع أهلهم الذين ماتوا في المقابر ودفنوا في المكان الذي عاشوا فيه، أن هؤلاء الناس لا يحتاجون صدقات ولا مساعدات مالية كما يفعل البعض ، بل يحتاجون من يوفر لهم مكانا آدميا للمعيشة ووظيفة يعيشون منها هم وأولادهم .



#هاني_جرجس_عياد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التحرش الجنسي بالمرأة العاملة : مأساة تتكرر فصولها كل يوم
- حوار الثقافات في زمن العولمة : هل هو ممكن ؟
- ماهية الحوار الثقافي
- المسؤوليات الأمنية بين الشرطة والمجتمع (الشرطة المجتمعية )
- المطلقة وتجربة الزواج الثاني
- تعالوا إلى كلمة سواء: الدور الوطنى للمشير لا يؤهله للرئاسة
- ما بعد الستين
- عن «المؤسسة العسكرية»... وتوظيف ثورة بلا قائد
- رسالة مفتوحة إلى الفريق أول عبد الفتاح السيسى
- نحو إعادة بناء الدولة المصرية 1 - عن السيسى والمؤسسة العسكري ...
- تخاريف صيام
- بيان «استرداد الثورة»... من الشعب
- خطاب مفتوح إلى وزير الدفاع
- المرتزقة وتجار الدين من بغداد إلى دمشق مرورا بالقاهرة
- موقعة وزارة الثقافة... دروس لمن يستوعب
- «تمرد» داخل جبهة الإنقاذ... هل من سبيل؟
- تجار العملة والدين عندما يصدرون قانونا!!
- عن جريمة خطف الجنود: عشر حقائق ثابتة
- سحل مواطن ونطاعة سلطة وهموم نائب عام
- وثيقة الأزهر بين «عنف» ثورة وجريمة نظام


المزيد.....




- عائلات الأسرى تتظاهر أمام منزل غانتس ونتنياهو متهم بعرقلة صف ...
- منظمة العفو الدولية تدعو للإفراج عن معارض مسجون في تونس بدأ ...
- ما حدود تغير موقف الدول المانحة بعد تقرير حول الأونروا ؟
- الاحتلال يشن حملة اعتقالات بالضفة ويحمي اقتحامات المستوطنين ...
- المفوض الأممي لحقوق الإنسان يعرب عن قلقه إزاء تصاعد العنف فى ...
- الأونروا: وفاة طفلين في غزة بسبب ارتفاع درجات الحرارة مع تفا ...
- ممثلية إيران: القمع لن يُسكت المدافعين عن حقوق الإنسان
- الأمم المتحدة: رفع ملايين الأطنان من أنقاض المباني في غزة قد ...
- الأمم المتحدة تغلق ملف الاتهامات الإسرائيلية لأونروا بسبب غي ...
- کنعاني: لا يتمتع المسؤولون الأميركان بكفاءة أخلاقية للتعليق ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - هاني جرجس عياد - في عالم خارج نطاق الحياة : سكان القبور أحياء بدرجة أموات