أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح نيازي - اللون الابيض يفترس مكبث















المزيد.....

اللون الابيض يفترس مكبث


صلاح نيازي

الحوار المتمدن-العدد: 4884 - 2015 / 8 / 1 - 23:54
المحور: الادب والفن
    


صلاح نيازي
اللون الأبيض يفترس مكبث



تُرى ما أسباب شطط بعض المترجمين عن الأصل ووقوعهم في أخطاء محزنة، حتى لو كانوا متضلعين من اللغتين؟ هم في أحسن الأحوال ينقلون المعنى ولكنّهم حتى لو نقلوه صحيحاً إلاّ أنّ شيئاً ما يبقى مفقوداً. قد نصطلح على تسمية هذا الشئ المفقود بالروح، فنقول إنّ هذه الترجمة أو تلك خالية من الروح. ونشير بذلك إلى عدم قابلية النص المترجَم على التفاعل. ولكنّ ألفاظاً مثل: "شئ مفقود" و "روح" و"تفاعل" وتنويعاتها، ألفاظ لا علمية وبالتالي لا يمكن الاطمئنان إلى حدودها أو مدلولاتها.
قد نهتدي إلى جواب أكثر إقناعاً لو أننا وُفِّقنا إلى جواب أو أجوبة عن الأسئلة التالية: لماذا تعددت نسخ كل مسرحية من مسرحيات شيكسبير؟ بكلمات أخرى، ما الفرق بين هذا المحقق وذاك؟ هل مردّ ذلك، إلى الاختلافات في المخطوطات الأصلية، أم في ثقافة المحققين؟ أمْ يا تُرى في فهم صناعة التأليف عموماً، والإحاطة بمعرفة تقنيات شيكسبير على وجه الخصوص؟
من المحتمل أنّ معرفة تقنيات الكاتب، شاعراً كان أمْ ناثراً، هي سرّ الاختلاف بين المحققين وبالتالي المترجمين، وسر البعد أو القرب من النصّ الأصلي.
خشية الإطالة، سنتناول هنا تقنية واحدة من تقنيتين هما: 1- الحواس. و2- المنظورية Perspective ونرى كيف يؤدي فهمهما إلى اقتراب الترجمة من النصّ الأصلي. على هذا ، فشطط بعض المترجمين يعود إلى إهمالهم أو عدم التفاتهم إلى هاتين التقنيتين. هذا الإهمال ينطبق على المحقق الإنكليزي كما ينطبق على المترجم العربي.
لم يلتفت جبرا إبراهيم جبرا، _ على ما يبدو_ إلى قدرة شيكسبير العجيبة على استعمال الحواس، ولا إلى أهمية المنظورية في رسم الصور الشعرية.
على سبيل التطبيق، لنأخذ الحوار التالي بين مكبث وخادمه (الفصل الخامس –المشهد الثالث). بلغ تمزّق مكبث في هذه المرحلة، حدّاً، بات معه يكره النور، ويتطيّر من اللون الأبيض.
أدناه ترجمة المرحوم جبرا:
مكبث : سخطك الشيطان عبداً أسود، يا وغداً حليبي الوجه
من أين لك سحنة الأوزة هذه؟
خادم: هناك عشرة آلاف –
مكبث: أوزّة يا نذل؟
خادم: جندي يا سيدي
مكبث: إذهبْ وخزْ وجهك، وموّهْ خوفك بالأحمر
يا ولداً زنبقي الكبد. أيّ جنود، يا مهرّج؟
موتاً لروحك خدّاك بلون الخام
يلقنان الفزع. أي جنود، يا وجهاً من حليب؟

قد لا يخلو سطر من الترجمة أعلاه، من تحذلق مؤذٍ.
لا يمكن ردّ شططٍ كهذا، إلى عدم تمكّن المترجم من اللغة الإنكليزية، ولكن إلى عدم التفاته إلى دور الحواس أوّلاً، وإلى التقنية التي استعملها شيكسبير في تصوير الخوف عن طريق استعمال اللون الأبيض.
أوّلاً لنتذكرْ أنّ شيكسبير، صوّر في الحوار أعلاه حالة رهيبة من الهلع تتراوح بين الحياة والموت. ومما يجعل هذا التراوح يأخذ طابع الطوارئ هو أنّه يحدث في زمن محدود وقصير وحاسم، وأكثر من ذلك لا يقبل التأجيل.
جَلَبَة الأعداء زاحفة على مكبث. زاحفة خلال سمعه وبصره. سمعه وبصره هما الثغرتان الواهيتان في حصن جسده. سمعه وبصره يقاتلانه. حاستان تستميتان في إنكار وجودهما. كأنّهما لفرط هلعهما تصطفّان إلى جانب أعدائه . بكلمات أخرى، بدأت المعركة في داخله قبل أن تبدأ معركته الحقيقية مع أعدائه في الخارج. أجلُهُ يجئ مع ما يحمل إليه خدمه من أنباء، ومصيره يتجسد فيما يراه من زحف. أيّ بلاء أشدّ من تراوُحٍ بين الحياة والموت؟ عزّ الظلام. ما من ظلام ، إذنْ ما من مهرب. يصيح مكبث: "لا مهربَ من هذا المكان، ولا مكوثَ هنا".
بلغ الهلع حدّ الهذيان، واندلق اللسان. الحوار لهاث بالكامل وأخذ صيغة فعل الأمر. فعل الأمر يكتسح كلّ صيغ الفعل الأخرى. ما من ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل. أمرٌ فقط. ولأوّل مرّة ربّما في تأريخ الأدب، تتحوّل الألوان من صفات لمواد، إلى مجرّدات قائمة بذاتها. ألوان بلا موصوفاتها. و ها هو اللون الأبيض يفترس مكبث.
كان وجه الخادم مبيضّاً من الخوف، فكيف ترجمها جبرا إبراهيم جبرا: "يا وغداّ حليبي الوجه" ؟ ولكن هل : حليبي الوجه صفة مذمومة؟ ولو أُخِذتْ الجملة على حدة فهل يُفهم منها الخوف؟ وهل Cream: حليب؟ ولماذا أضاف كلمة:"عبداً"، في البيت: "سخطك الشيطان عبداً أسود". أوّلاً كان شيكسبير معنياً بالمجردات في هذا المقطع، وثانياً لم يكنْ عنصرياً قط. راح مكبث يفتش عن اللون الأسود، عن لون الظلام، حتى وإن كان بلون اللعنة.
كانت"سيماء الخادم مقشعرّة كجلد الأوزّة"، فكيف تُرجمتْ إلى "سحنة الأوزة". ما من سحنة هنا، وإنما المقصود: قشعريرة الجلد التي يعبّر عنها بالإنكليزية: Goose flesh ، عند الخوف أو البرد.
يطلب مكبث من خادمه، أن يخز وجهه ليجعل: "بياضه أحمر بالدم". إلاّ أن جبرا عبّر عن ذلك بما يلي: "وموِّهْ خوفك بالأحمر". ما من تمويه في النصّ، ووضْع اللون الأبيض بدلاً من الخوف أفضل وأكثر منطقية وتأثيراً.
كذلك يصف مكبث خادمه بأنّه: Lily-liver’d ، أيْ مخلوع الفؤاد، وهو تعبير لا يخلو من اللون الأبيض، إلاّ أنّ جبرا ترجمه: "يا ولداً زنبقيّ الكبد".هل هذا تعبير ينبئ عن خوف أمْ عن غَزَل؟.
يقول مكبث أيضاً: "خدّاك الأبيضان كالكتان، يدفعان الآخرين إلى الخوف". جاءت ترجمة جبرا بالصيغة التالية: "خدّاك بلون الخام يلقنان الفزع". ليس في البيت تلقين، وإنّما عدوى تصيب الآخرين، كما أنّ بياض الكتان، يذكّر ببياض الكفن.
ثُمّ يخاطب مكبث خادمه بقوله: "يا وجهاً بلون مصل اللبن"، إلاّ أنّ جبرا ترجمها: "يا وجهاً من لبن". ما من لبن. مكبث أراد اللون. كان يشبّه وجه خادمه بلون مصل اللبن أيْ اللون الأبيض. ربّما الأبيض المائل إلى الصفرة.
هذه الصفرة تتوضح بعد ذلك مباشرة عندما ييأس مكبث من نجاته، فيخاطب خادمه سيتون:
"لقد عشتُ طويلاً: إنّ سياق حياتي
مثل ورقةِ خريفٍ ذابلة صفراء"
من نافلة القول، إنّ سقوط "ورقة خريف" لا يعني بأية حال نهاية الشجرة.على العكس إنها تستعدّ لحياة جديدة. إلاّ أنّ تشبيه موت مكبث بـ "ورقة خريف"، إنما جاء لتجسيد المأساة أكثر لأنه سيموت قتلاً وهو بعدُ ممتلئ بالحياة. تزداد الصورة الشعرية مأساوية أشد حين جعل شيكسبير ورقة الخريف مفردة أوّلاً ونكِرة ثانياً، وكأنما سيكون موت مكبث موتاً زهيداً وليس بذي بال.
على أية حال، ربّما بهذا البياض المرتعد والصفره المتوشلة تأثّر الرسّام الإنكليزي تيرنر فرسم أشهر لوحاته عن الموت في شيخوخته وكأن اللونين، فقدا كلّ قدرة على النبض أو الحركة أو حتّى اللمعان.



#صلاح_نيازي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في نص شيكسبيري
- عن ترجمة القرآن
- العين البريئة لهربرت ريد
- دور المنظورية في تضخيم الرعب
- ثلاث قصائد
- قلعتا المتنبي وشيكسبير
- اكبادنا تمشي على الارض
- من أفانين شيكسبير
- الوجه الثالث للعملة
- لا نهاية الكائن الحيّ
- الشعر وصغار العقارب
- مأساة الملك لير جنونه الذي لم يكتمل
- بعض وجوه استحالة الترجمة
- ثلاثة تحوّلات أدبية بعد عام 2003
- قصيدة الدائرة
- كلمات ثلجية
- المنظورية في تفسير النص
- النحو الواضح غير واضح
- الليل والخيل والبيداء... معالجة انجليزية للأدب العربي
- ولتر دي لا مير De La Mare - (1873 – 1956).. قصيدة -السامعون-


المزيد.....




- مصر.. الفنان محمد عادل إمام يعلق على قرار إعادة عرض فيلم - ...
- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح نيازي - اللون الابيض يفترس مكبث