أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - التعويل على الحوار في فيلم سُبات شتوي لنوري بيلكَه جيلان















المزيد.....


التعويل على الحوار في فيلم سُبات شتوي لنوري بيلكَه جيلان


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 4800 - 2015 / 5 / 8 - 08:46
المحور: الادب والفن
    


ليس غريباً أن ينتزع المخرج التركي نوري بِيلكَه جيلان جائزتي السعفة الذهبية والفيبريسي عن فيلمه الروائي الطويل "سُبات شتوي" فلقد سبق له أن فاز بالعديد من الجوائز العالمية المهمة مثل جائزة النقاد الكبرى والبرتقالة الذهبية وما إلى ذلك. تُرى، ما سرّ التقنيات والمقاربات الفنية التي يعتمد عليها جيلان في معظم أفلامه الروائية الطويلة على وجه التحديد؟ وهل تلعب الأفكار الإشكالية العميقة دوراً مهماً في تجسيد رؤيتة الفنية التي تراهن على جماليات خطابها البصري لكنها لا تهمل بعضاً من جوانب الخطاب الأدبي الذي قد ينطوي على رؤىً ثقافية وفكرية متعددة تحمل في طيّاتها خميرة لجماليات الصور البصرية الراكسة في أعماق العمل الإبداعي الناجح.
وقبل الخوض في تفاصيل هذه التُحفة السينمائية لابد من الإشارة إلى ولع جيلان بالمنحى الوجودي للكائن البشري سواء أكان ثرياً أم فقيراً، قوياً أم ضعيفاً، مثقفاً أم جاهلاً، طيّباً أم شرّيراً؟ وفي السياق ذاته يركِّز جيلان على رتابة الحياة اليومية في محاولة لإنقاذ الإنسان من وحدته واغترابه وعزلته الفردية سواء أكانت اختيارية أم جبرية.
ثمة ملامح مشتركة في العديد من أفلام جيلان من بينها تصوير بعض الشخصيات الرئيسة من الخلف حيث يقرّبها غالباً لتغطي الشاشة الكبيرة بأكملها كما حصل في المشهد الذي تلى اللقطة الافتتاحية الكبيرة التي بدا فيها "آيدن" كائناً صغيراً أمام عظمة الطبيعة المنفتحة إلى أقصاها وكأنَّ المخرج يدعونا لأن نغوص في ذهن البطل ونتفحّص طريقة تفكيره على وجه الخصوص ورؤيته للعالم بشكل عام.

البناء الدرامي
لو لم ينطوِ هذا الفيلم الطويل الذي بلغت مدته 196 دقيقة على مجمل عناصر الشدّ والتشويق والإثارة لما استطاع المتلقي العادي أن يتحمله أو يواصل مشاهدته حتى اللقطة الاختتامية. وبما أن المخرج جيلان وزوجته السينارست إيبرو هما كاتبان محترفان ولهما باعٌ طويل في هذا المجال ويعرفان أسرار اللعبة الإبداعية فقد أدركا أهمية التشويق الدائم الذي يجب أن يكون مهيمناً وحاضراً على مدى الساعات الثلاث والست عشرة دقيقة. وقد نجحا فعلاً في شحن السيناريو الذي استوحيا مادته من قصة "الزوجة" للكاتب الروسي أنطون تشيكوف الذي يعتقد "أن واجب المبدع هو إثارة الأسئلة وليس تقديم الإجابات". تُرى، هل نجح الفيلم في إثارة أسئلة جوهرية تؤرق المواطن التركي الذي لا يختلف كثيراً في طبيعته الإنسانية عن أي مواطن عالمي آخر يعيش على وجه هذه المعمورة فكلنا بالنتيجة أناس من لحم ودم ومجموعة هائلة من المشاعر والأحاسيس الإنسانية العميقة؟
يتأسس البناء المعماري لهذا الفيلم على سلسلة من الوقائع الشخصية المتصلة التي تتخللها بعض الأحداث الجانبية التي توازي في أهميتها الحدث الرئيس للقصة السينمائية التي تقوم في جوهرها على عائلتين مختلفين، الأولى ثرية ثراءً فاحشاً وهي عائلة آيدن وزوجته نهال وشقيقته نجلاء، والثانية فقيرة فقراً مُدقعاً وهي عائلة إسماعيل وزوجته سيفدا، وابنه إلياس، وشقيقه حمدي إمام الجامع في القرية. هذا إضافة إلى ظلال عوائل جانبية مثل عائلة سوافي صديق آيدن، وعائلة ليفنت المعلم الذي سيعتبره آيدن شخصية مُخادعة ولعوبة لا يمكن الاطمئنان إليها.

تشابك الأحداث
لم يلجأ جيلان إلى تقنية السرد الروائي المتوالي الذي يشي بالكلاسيكية والقِدم وإنما اعتمد على التقنية المتشابكة التي تتداخل فيها الأحداث كي يكسر إيقاع السرد الطويل، ويُبعِد المُتلقي من السقوط في خانق الرتابة والملل.
يلعب الطفل إلياس دوراً مهماً في سياق الأحداث على الرغم من ظهوره الخاطف والمبتسر لخمس مرات متفرقة سنتوقف عندها تباعاً وذلك لأهميتها في سير الأحداث وتفاقهما، بل أن دور هذا الطفل يكاد يكون موازياً لدور آيدن في تجسيد ثنائية الغنى والفقر من جهة، والقوة والضعف من جهة أخرى، آخذين بنظر الاعتبار أهمية الدور المُناط بأبيه إسماعيل، الخارج من السجن لتوّه، والعاطل عن العمل بسبب النظرة النمطية السيئة عن السجين الذي يلفظه المجتمع ولا يتقبله بسهولة حتى وإن عاد نادماً عما اقترفه من مخالفات وانتهاكات يُحاسب عليها القانون.
ينتبه آيدن وهو جالس في جوف السيارة إلى النظرة العدائية التي يوجهها له أحد الأطفال الخارجين لتوّهم من المدرسة ثم يتأكد لاحقاً أن الطفل ذاته هو الذي ضرب زجاج سيارته بحجرة كبيرة وأوشك أن يسبب له حادثاً خطيراً لولا مهارة السائق هدايت الذي احتوى هذه الصدمة المفاجئة وظل مسيطراً على مِقْود السيارة. ثم نكتشف لاحقاً أن هذا الطفل قد انتقم لأسرته برمتها من آيدن الذي كان السبب وراء مصادرة بعض الأجهزة المنزلية كالتلفاز والثلاجة لأن والده لم يكن قادراً على تسديد إيجار المنزل لعدة أشهر وحينما منع الشرطة من مصادرة الأجهزة المنزلية ضربوه ضرباً مبرحاً أمام أفراد أسرته وجعلوه يشعر بالخزي والعار.
لقد سارع جيلان إلى زجّ المتلقين بهذا الحدث الذي يشي بثنائية الغنى والفقر من جهة، والقوة والضعف من جهة أخرى مشيراً من طرفٍ غير خفيّ إلى أنّ مْنْ يملك الثروة يملك القوة أو النفوذ بالضرورة. كما أنّ بعض شخصيات هذه العائلة الفقيرة مهمة جداً مثل حمدي، إمام الجامع، الذي يعظ الآخرين ويرشدهم إلى الطريق القويم لكنه في الوقت ذاته غير قادر على تسديد إيجار المنزل الذي يسكنه هو وشقيقه العاطل عن العمل.
يعوّل جيلان في هذا الفيلم على الحوار الذي يدور بين آيدن وبقية الشخصيات وعلى رأسهم شقيقته نجلاء وزوجته نهال وصديقه سوافي وإمام الجامع حمدي وبعض الزوار المقيمين في فندقه من الأجانب والسكّان المحليين، لكن القسم الأكبر من حوارات آيدن تكاد تنحصر بينه وبين شقيقته أول الأمر ثم زوجته لاحقاً غير أن هذا الأمر لا يمنع آيدن من خوض حوارات أخرى مع صائد الخيول البريّة أو مع صديقه القديم سوافي أو مع المعلم ليفنت وسواه من الشخصيات التي تظهر وتختفي على مدار الفيلم.
لا شك في أنّ آيدن"هالوك بيلجينير" هو الشخصية الأكثر إشكالية في هذا الفيلم. فهو ممثل سابق أمضى ربع قرن في التمثيل وأدى العديد من الأدوار التي أحبها لكنه آثر العزلة في كبادوكيا وتفرغ لبعض أموره الشخصية مثل كتابة عموده الصحفي والتفكير بإنجاز كتاب عن "تاريخ المسرح التركي"، وإدارة بعض شؤون فندقه الذي يحمل اسم "أوثيللو" في إشارة واضحة إلى أن صاحبه يمحض المسرح حُباً من نوع خاص.
وعلى الرغم من انشغال آيدن بالكتابة وانهماكه المتواصل في بعض الأمور الاجتماعية التي تدور في منزله إلاّ أن ذلك لم يمنعه من الدخول في حوارات طويلة مع شقيقته نجلاء وزوجته نهال لكن هذه الحوارات تتحول غالباً إلى نقاشات حادة وسجالات لاذعة تفضي به إلى التوتر والانفعال فهو في قرارة نفسه يشعر بأنه أفضل من الآخرين، وأذكى منهم، ولابد أن يكون هو الآمر الناهي وصاحب القدح المعلّى. إن تعويل جيلان على الحوار في بناء هذا الفيلم هو تحدٍ كبير بحد ذاته. فالخطاب الأدبي هو العدوّ اللدود للسينما لأن هذه الأخيرة تعوّل على الخطاب البصري، بل أن جُل ما يقوم به المخرجون المبدعون هو تحويل الخطاب الأدبي إلى خطاب بصري ينطوي على قليل من الكلام وكثير من الدهشة المرئية.
وما دمنا بصدد الحديث عن تشابك الأحداث فلابد لنا أن نتناول التناقضات الكثيرة التي تنطوي عليها شخصية نجلاء "ديميت آكباغ" وإحساسها بالزمن إضافة إلى شخصيات أخرى مثل آيدن ونهال "ميليسا سوزان" وسوافي "تامر ليفنت" الذين أمدّوا الفيلم بمعطيات أساسية لعبت دوراً مهماً في التصعيد الدرامي للقصة السينمائية التي شُيّدت بنيتها المعمارية بطريقة احترافية شديدة الإتقان.

الإحساس بالزمن
يتجلى الإحساس بالزمن بقوة لدى نجلاء التي انفصلت عن زوجها لسبب لم نعرفه على مدار الفيلم وقد أوقعها هذا الطلاق في فراغ قاتل لم تستطع أن تملأه إلاّ بالنقاشات المتواصلة مع شقيقها آيدن وزوجته نهال لكن هذه النقاشات لم تكن إيجابية دائماً، إذ سرعان ما تنقلب إلى النقيض لتصبح وسيلة للإثارة والاستفزاز اللذين يفضيان إلى الانفعال والسقوط في دائرة الغضب من قبل الطرفين.
تُبدي نجلاء اهتمامها ببعض الافتتاحيات التي يكتبها آيدن وتُعرب عن إعجابها بالافتتاحية التي حملت عنوان "فقدان الحسّ الجمالي في قرى الأناضول" وتتساءل باندهاش عن الكيفية التي يجد فيها آيدن الموضوعات المثيرة للاهتمام لكن هذا الإعجاب سرعان ما يتلاشى ليحلّ محله الغمز واللمز والاستفزاز خصوصاً حينما تشير إلى الصحيفة المغمورة التي ينشر بها مقالاته، أو أنه يدّس أنفه في القضايا الدينية ويتحول إلى إمام واعظ من دون أن يمارس أي طقس ديني. ثم تذهب أبعد من ذلك حينما تخبره بأنه لم يزُر حتى قبري أبيه وأمه فكيف يبيح لنفسه الحديث عن مفاهيم الدين الإسلامي ويقدِّم أحكامه النقدية في هذا الصدد؟ ونتيجة لهذا الفراغ الذي يعاني منه حتى آيدن نفسه فإنه ينشغل بقراءة رسالة بعثتها فتاة من قرية "غريب كوديّو" تطلب فيها المساعدة لأنها تريد أن تفتح دورة لتعليم القراءة والحياكة في القرية فيطلب رأي سوافي وشقيقته في الأمر.
سوف تتأجل هذه الحكاية مثلما تأجلت حكايات أخرى لتجد طريقها إلى الاشتباك الدرامي لاحقاً بحسب الخطة التي اقترحها كاتبا السيناريو جيلان وإيبرو ورسما فيها شبكة من العلاقات الداخلية المعقدة التي تكشف في أقل تقدير طريقة تفكير عدد من المواطنين الأتراك الذين يفكرون بخدمة مجتمعهم ثقافياً ومعرفياً بعيداً عن الدوافع الأخرى التي قد تقع في إطار الجوانب الضيقة التي لم يعرها مخرج الفيلم أي اهتمام يُذكر.
تتفاقم الخلافات بين آيدن وشقيقته حينما تتحدث نجلاء حول مفهوم الشر وكيفية التعاطي معه من دون مقاومته لكن آيدن يعتقد أن العكس هو الصحيح ولابد من مواجهة الشرّ والتصدي له بقوة. كما تفكر في إلقاء بعض المحاضرات في هذا الصدد الأمر الذي يكشف بأن نجلاء لم تكن امرأة بسيطة فهي تقرأ الصحف والمجلات والكتب وتتابع الافتتاحيات التي يكتبها آيدن وتتمنى لو ينشرها في الصحف التركية الكبرى كي تكون في متناول جمهور واسع من القرّاء. كما أنها كانت تترجم بعض الكتب لكنها انقطعت عن الترجمة لأسباب لم نتعرّف عليها، ويبدو أن الطلاق قد قلَب حياتها رأساً على عقب. وحوّلها إلى امرأة متقلبة تغيّر لونها مثل الحِرباء عدة مرات في اليوم الواحد.
لا يمكن التوقف عند كل الخلافات بين آيدن وشقيقته فهي كبيرة بمكان ولا نستطيع حصرها في هذا المجال الضيق لكننا يجب أن نعترف بأنهما يقفان على طرفي نقيض فهو مجد واجتماعي وهي كسولة وانطوائية. وبسبب اندحارها الصامت وخسارتها غير المُعلنة فقد تركت إستانبول وجاءت لتدفن نفسها في حفرة في كبادوكيا وتعيش بصحبة هذا الأخ المتكبِّر الذي يتطلّع للآخرين من علوٍ شاهق مُردداً على سمعها مقولته الأثيرة بأنّ الحياة تحتاج إلى عمل وشغف بشيئ ما في الأقل بينما تستغرق هي في كسلها وتطفلها على الآخرين.

قطع الأحداث والعودة إليها
يعتمد جيلان على تقنية قطع الأحداث ثم العودة إليها في الوقت المناسب كي يحقق فعل التشويق والإثارة ويتخلص من الرتابة والملل. فإلياس الذي كسر زجاجة نافذة السيارة سوف نراه غير مرة تحت ذرائع شتى من بينها الاعتذار عن الخطأ الجسيم الذي ارتكبه وشعوره بالندم تجاه سلوكه العدواني إثر مصادرة الجهات المعنية لأجهزتهم المنزلية. وحينما يرفع آيدن يده كي يقلبها إلياس يُغمى عليه ويسقط أرضاً ومع ذلك لم يتنازل آيدن عن ثمن الزجاج الذي حطّمه الطفل ولا عن الإيجارات المتأخرة التي لم يستطع إسماعيل تسديدها لأنه عاطل عن العمل فمنذ خروجه من السجن لم يجد فرصة عمل فأصحاب المهن الحرة يخشون من توظيف السجناء كما أن المجتمع لا يتقبلهم بسهولة لذلك ظل مُعتمداً على أخيه الأصغر، إمام الجامع الذي يتقاضى راتباً محدوداً جدا.

تأكيد الذات
يشكِّل مجيء المعلم ليفنت علامة استفزازية فارقة في حياة آيدن ذلك لأن نهال تريد أن تُبعد زوجها عن الاجتماعات التي تقوم بها الجمعية الخيرية التي تهدف إلى جمع التبرعات للمدارس المحلية الموجودة في قرى كبادوكيا لكن آيدن يرى في هذا المعلم وغداً وشخصاً مُخادعاً كما أن شكوكه تتفاقم حينما تطلب منه أن يغادر القاعة لأن الاجتماع خاص فتساوره الشكوك بأنها تريد أن تتحدث على سجيتها وهي مُحاطة بالرجال فقط وربما تريد أن تخفي عليه بعض الأسرار. كما شعر آيدن بالإهانة لأنها تريد أن تطرده من هذا المكان بطريقة مؤدبة لأنها تعتقد أن وجوده سوف يعقد الأمور وهي تعرف سلفاً أنه ميّال للتدخل في كل شيئ. وحينما يحتدّ النقاش بينهما تهدده بترك المكان والرحيل إلى إستانبول أو أي مكان آخر تجد فيه عملاً لأنها ببساطة شديدة بدأت تشعر بأن حياتها قد أصبحت فارغة بسببه على الرغم من أنها تعيش حياة ميسورة لا ينغِّصها شيئ لكنها تدفع ثمناً باهضاً لهذه الحياة وهو حريتها الشخصية التي تنهار يوماً إثر يوم بسبب تدخلاته في كل صغيرة وكبيرة الأمر الذي يدعوها للتفكير بالانفصال عنه.
وفي خضم هذا التوتر يصرّح آيدن بأنه يريد الذهاب إلى إستانبول لأمور تتعلق بالكتاب الذي يريد أن ينجزه لكن يعاود الكَرّة ويطلب منها أن تجلس لكي يتحاورا كأناس متحضرين فهو يحترم ذكاءها وقلبها لكنه يخشى عليها من مسألة جمع التبرعات التي قد تسبب لهما مشاكل جدية. فهي امرأة قليلة الخبرة من وجهة نظره كما أن جمع التبرعات منزلق خطر قد يلطِّخ اسمها بالعار ولن يكون بمقدورهما إيقاف الثرثرة والشائعات التي تسري سريان النار في الهشيم. وحينما توافق على طلبه برؤية قائمة التبرعات يكتشف أنها لم تحتفظ بإيصالات المتبرعين وليس لديها جداول موجزة أصلاً ولا تعرف شيئاً عن الدفع الضريبي فيأخذ كل شيئ ويعدها بأنه سيخبرها لاحقاً بما يجب أن تفعله.
تسفر هذه المماحكة الطويلة عن تبرع آيدن بمبلغ كبير من المال تحت اسم مجهول كما يفعل دائماً. وبعد أن يتفحص كل الأوراق يغيّر رأيه متذرعاً بأنه منغمس في العمل وليس لديه المزيد من الوقت لمراجعة كل هذه الأوراق على الرغم من أهميتها وخطورتها لكنه طلب منها أن تفعل ما تراه صحيحاً، وأنه قد عقد العزم على السفر إلى إستانبول ليقضي الشتاء كله في العاصمة.
ثمة عبارات حساسة توقف عندها آيدن حينما استنتج بأنها تكرهه لأنه عجوز وهي لما تزل صغيرة وجميلة. كما أنه لم يجبرها على الزواج منه ولم يقيّد حريتها الشخصية ذات يوم، ولم يمانع في منحها المزيد من الحرية، بل أنه لا يمنع فكرة انفصالها عنه إن هي أرادت الطلاق. لا يخلو كلام نهال من عمق فكري فليس خطأه أن يكون أكبر سناً، بل هي تشعر في قرارة نفسها بأنها أكبر سناً منه، وأنها لا تريد أن تتحرر منه لتتزوج رجلاً آخر. فجوهر المشكلة يكمن في شخصية آيدن التي لا تُطاق لأنه أناني وساخر ومتعجرف في كثير من الأحيان. لا تخلو شخصية نهال من تناقض هي الأخرى فبعد أن دمغتهُ بكل الأوصاف السلبية السابقة عادت لتؤكد بأنه رجل صادق وناضج ومحترم لكنه لا يتورع عن قمع الآخرين وسحقهم وإذلالهم والتقليل من شأنهم وهي تعتقد بأنه ثقته العالية بنفسه هي التي تجعلهم يكرهون العالم برمته.
تبدو شخصية نهال في هذه المرحلة وكأنها طبيبة نفسية تحلل شخصية آيدن الذي يكره المؤمنين والعاصين في آنٍ معاً. ويعتقد بأن الجميع لصوص لذلك فهو يكره غالبية الناس وليس لديه إلاّ عدد محدود من الأصدقاء. ثم تستدير نحو ذاتها لتقول بأنها امرأة صغيرة ومليئة بالصحة لكنها تذوب أمامه من الفراغ والملل والخوف، ولم تكن لديها الشجاعة والمال لتذهب إلى مكان أفضل يضمن لها إنسانيتها في الأقل. وتصل إلى ذروة تشخيصها حينما تقول بأنها كانت خائفة في السنوات الأولى لكنها الآن تشعر بالخزي لأنها فقدت كل مميزاتها وخصائصها وهي تناضل ضد غطرسة آيدن وعجرفته وتعاليه وعدم شعوره بالندم مرة واحدة في حياته. لقد عركتها الحياة الشاقة مع آيدن حتى تحولت إلى امرأة صعبة المراس، وقاسية، وخجولة، ومرتابة لكنها حسمت أمرها وقالت جملة شديدة الأهمية مفادها "أن طرقنا مختلفة ونحن نعيش تحت سقف واحد". ثم استدركت بأنهما كان يمكن أن يعيشا حياة أفضل لكن الأوان قد فات! والسؤال المهم الذي ينبري هنا: هل فات الأوان حقاً، وهل بإمكان آيدن أن يكفِّر عن بعض الأخطاء التي ارتكبها بحق الآخرين؟ وحينما يردّ عليها بضمير جمعي بأنهم ليسوا خبثاء، وأن أحلامهم نقيّة، ونواياهم صادقة وبريئة، تخبره بصراحة غير معهودة بأنها لم تعد تصدّقه وكأنه يقف هنا على المسرح ويكرر مقولته القديمة بأن الجحيم معبّد بالنوايا البريئة والصادقة. فلم تعد تؤمن بهذا الكلام الرومانسي المعسول لأنه مستعد على الدوام لأن يشهر بطاقته ويرميها بوجه أي شخص مهما كان قريباً أو بعيداً عن دائرة اهتمامه. لقد أمضت سنوات شبابها وهي تناضل ضدّه. وطلبت منه للمرة الأخيرة أن يدعها وشأنها لأنّ لديها ثقة بموضوع جمع التبرعات وقد وجدت في العمل معنىً لحياتها، وهي مصرّة على أن تكمل هذا المشروع الذي لا رجعة عنه من وجهة نظرها في الأقل.
خوّلها آيدن في خاتمة المطاف أن تفعل ما تشاء ولكنه طلب منها أن تكون حذرة من المعلّم الاستغلالي المخادع وأن تُحيط نفسها بأناس من ذوي الخبرة والكفاءة وأصحاب الضمير والأخلاق الحسنة. ذهب إلى حضيرة الجياد وأطلق الحصان البرّي من أسْره وكأنه يوحي من طرف خفي بإمكانية تحرير نهال من أسْر الحياة الزوجية والتخلص من الشكوك التي تنخر في ذهنه ليل نهار.

اختبار المشاعر
حينما يقرر آيدن مغادرة قريته الصغيرة إلى إستانبول تحت ذريعة إنجاز الكتاب أو قضاء فصل الشتاء بعيداً عن مضاربه القروية يتأخر وصول القطار إلى المحطة فيتجه إلى بيت صديقة سوافي وينهمك معه في أحاديث متنوعة يشترك فيها المعلّم ليفنت. وفي الوقت ذاته تتجه نهال إلى منزل إسماعيل وهي تحمل المبلغ الكبير الذي تبرع به آيدن لمشروعها الخيري. وبعد نقاشات طويلة خاضها آيدن مع ليفنت الذي كان متواجداً في بيت سوافي شعر بالتعب والإنهاك اللذين أفضيا به إلى التقيؤ لكنهم في صبيحة اليوم الثاني خرجوا إلى الصيد واصطاد آيدن أرنباً برياً، بينما كانت نهال في منزل إسماعيل وادعت بأنها قد جاءت لزيارة إلياس الذي كان مريضاً لكنها قدّمت في واقع الحال عشرة آلاف ليرة كمساعدة مادية كبيرة لم يستطع حمدي تقبلها. ثم تنقلب الأمور رأساً على عقب حينما يدخل الغرفة إسماعيل ويرى النقود الكثيرة على الطاولة فيقسِّمها بحسب المواقف الصعبة التي مرّ بها الجميع وأولها لإلياس الذي خاطر بحياته كي ينقذ كبرياء والده الجريح، وثانيها لأخيه المتفاني حمدي الذي جثا على ركبتيه معتذراً كي يطعم أفراد الأسرة كلها، وثالثها للأب إسماعيل الذي ضربوه أمام عائلته وأهانوه إهانة قاسية لا يمكن أن ينساها. وفي ذروة انفعاله يلقي النقود في الموقد لتلتهمها النيران في لمح البصر. وبينما كانت نهال منخرطة في البكاء كان إلياس ينظر إلى أبيه من فتحة الباب وقد سمع كل الحوار الذي دار بين أبيه ونهال التي قفلت عائدة إلى منزلها.
في طريق العودة إلى المنزل لمح آيدن قرية "غريب كويّو" فطلب من هدايت أن يتوقف قليلاً مستذكراً رسالة الفتاة الذكية التي طلبت منه تبرعاً للقيام بدورة للحياكة والقراءة، ثم طلب المضي في طريق العودة. وبينما كانت نهال واقفة إلى جوار النافذة وكأنها تنتظر عودته كان آيدن يتحدث بطريقة "الفويس أوفر" مخاطباً إياها بأنه لم يستطع أن يفترق عنها. فالرجل الذي في داخلة سواء أكان عجوزاً أم مجنوناً أم شخصاً آخر لا يريد الابتعاد عنها لأنها هاجسه الذي يطارده دائماً. فكل شيئ غريب عنه وليس لديه أحد سواها في هذا العالم. فهو يشتاق إليها في كل لحظة لكن كبرياءه يمنعه من الاعتراف وهو موقن تماماً باستحالة الابتعاد عنها لأنه يدرك أنها تحبه من أعماقها أيضاً. ربما تكون الخاتمة هي أشدّ وقعاً من قساوة الاعتراف حينما يقول: "خذيني كخادم أو عبد لنواصل حياتنا معاً حتى ولو على طريقتك الخاصة. سامحيني!". ثم نصل إلى النهاية بينما يجلس آيدن أمام شاشة الكومبيوتر ونراه يشرع في كتابة "تاريخ المسرح التركي". بعد أن وجد معنىً لحياته الشخصية مع ثنيّة روحه نهال التي أحبّها من الوريد إلى الوريد.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاعر السعودي حيدر العبدالله يتأهل للمرحلة الثالثة في مسابق ...
- القسوة والبشاعة وتقطيع الأوصال في أفلام أنتوني بيرنز
- الميتا سردية والبطولة المضادة في تل الصنم
- الرقص في الصحراء بعيداً عن أعين الباسيج
- النص الروائي المهجّن
- المزج بين الحقيقة الدامغة والخيال المجنّح في فيلم مدغشقر جزي ...
- الإسلاموفوبيا . . تنميط المسلمين وتحنيط الثقافة الإسلامية
- حدود الرقابة على السينما (2 - 2)
- حدود الرقابة على السينما العربية (1 -2 )
- حضور الهولوكوست في السينما البولندية بعد خمسين عاما
- التناص الروائي مع الأحداث التاريخية
- الهاوية . . رواية لا تحتمل الترهل والتطويل
- مذكرات كلب عراقي
- أوراق من السيرة الذاتية لكلاويج صالح فتاح
- الغربة القسرية والحنين إلى الوطن في منازل الوحشة
- حدائق الرئيس
- مشرحة بغداد
- ماذا عن رواية «دعبول» لأمل بورتر
- النحات البلغاري سفيلِن بيتروف وثيماته الإماراتية
- كيم دونغ-هو في فيلمه الروائي الأول صُنع في الصين


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - التعويل على الحوار في فيلم سُبات شتوي لنوري بيلكَه جيلان