عبدالله عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 4729 - 2015 / 2 / 23 - 08:28
المحور:
الادب والفن
غطى أبي ، محمود عيسى ، بيديه النحيلتين وجهه المنهك النحيل ، وكأنه يدفن دمعتين عزيزتين كبيرتين . وإذ دار ظهره ، لرجال المخيم الذين أخذوا يدورون حول قاماتهم كمن أغشي عليهم ولنسائه اللواتي علت صدورهن وهبطت على وقع نشيج بلا رحمة ، واضعاً يديه خلف ظهره ، ميمماً شطر نهر " شق العجوز ". اقتفيت أثره بخطى طفلية مرتعشة في طريق بدا يهتز من خبط مشيته القلقة ، فيما عيناي تعودان بي إلى مرأى أمي ، فوزية الحسن ، التي ظلت واقفة تشير لي بأن أتبعه بلا هوادة ، حتى غابت وغاب المخيم معها .
ظل يرمي حصى شاردة يلمّها بذات اليمين وذات اليسار دون أن يلتفت إليها في النهر ، فتحدث دوائر حول الدوائر ، يحدق بها طويلاً حتى تختفي في الماء ، ويلفني بذراعه اليمنى كلما وطأت نسائم سبتمبر المسافة التي تلتصق بنا .
كالسماء الشامية تلك التي كانت صافية قبل قليل ، تلبدت عيناه السوداوان الكبيرتان بحزن نبلّل بخيوط حمراء طفرت منهما من غضب مكبوت ، فيما شيّعتنا زخات مطر عجول وخجول في آن ، ونحن ندخل المخيم ، وجمهرة أهله تتلقف عودتنا بهمهمات غامضات ، بالكاد يخرج من فجّها العميق توحيد الله ، والصلاة على النبي .
وكأنه أسند يده على رأسي ، ولعله أراد أن يكلأه من قطر المطر الخفيف ، وقف قبالة الأجساد التي بدت تستند على ظلال واهية ، مرتعشة . قال ، كمن يلقي خطبة الوداع : " زعيم الأمة مات ، ويا خوف قلبي أنهم قتلوه . مات دفاعاً عن دمنا المهدور في أيلول الأسود . عمّروا بيوتكم هنا . حلمنا بالعودة انكسر " .
وضرب الناس كفاً بكف ّ ، ومنهم من تمتم راجيا ً لطف الله إن قدّر : " محمود عيسى ، راح عقله مع موت جمال عبد الناصر " .
وبكيت ُ كثيراً إذ رأيت ُ ما رأيت ُ ، وسمعت ُ ما سمعت ُ .
وظل ّ عاقد الحاجبين , حتى خرجت علينا ، أنا وأبي وأمّي ، السيدة أم كلثوم . وكأنها مسٌت أبي بجِنِيّ صوتها ، فظل ّ يغني لأمي ، طيلة الطريق من سينما غازي ، حيث يعرض فيلم " سلّامة " وسط دمشق إلى مخيم ببيلا المرمي ّ على خاصرتها ، : " غني لي شوي ،شوي. غني لي غني ، وخذ عيني " ، حتى حفظها سائق سيارة الأجرة ، وبقيت أرددها حتى يومي هذا .
ولم تتركني السيدة وشأني بعد ذاك .
( نص من سيرة لم تكتمل )
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟