ليس بالصلاة فقط..!!

نبيل عودة
كاتب وباحث
(Nabeel Oudeh)

الحوار المتمدن-العدد: 4724 - 2015 / 2 / 18 - 01:07
المحور: الادب والفن
    

لم يكن ابراهيم يدخل الكنيسة الا في المناسبات التي لا بد منها. لم يثر ذلك انتباه أحد. حضور ابراهيم او غيابه لا يشغل بال المصلين. ابراهيم، كما يتندر بعض سليطي اللسان، هو التجسيم البشري الكامل لقانون الحاضر غائب. حضوره لا يلفت الانتباه وغيابه لا يغير من الحدث شيئا. هو أفقر سكان البلد، لكن ليست مشكلة الفقر هي السبب، بعض الفقراء لهم حضورهم ورأيهم. ابراهيم اذا حضر لا ينبس ببنت شفة. لا رأي له، لا مجموعة يقف معها، لا يتبادل الحديث مع أحد، لا شيء يتحدث به اذا شاء الحديث الا سوق الحديد الخردة الراكد، من يهتم بهذا الفرع؟ وربما لم يسمع به أكثرية ابناء البلد. حتى الخوري لم يحاسبه على غيابه، بل يظن البعض ان حضوره صلاة الأحد لا يلقى ترحيبا من الخوري أيضا، لأن حضوره نافر للأجواء الكنسية ويشبه نبتة بلان شائكة في بستان زهور.. رغم ان احدا لا يقول ذلك من منطلق ان تعاليم المسيح التي لا بد لكل من يدعي الإيمان ان يلتزم بها، تعاليم تنهي عن التمييز بين الناس وأن تطويبات المسيح المشهورة بدأت ب: "طوبى لفقراء الروح فان لهم ملكوت السماوات".
كان ابراهيم تاجر خردة، يتاجر بكل ما هو قديم وبال، يجمع ما يجد بالشوارع من قطع حديد او صاج بال، ليبيعه لتاجر من المدينة يحضر مرة كل شهر.
بالكاد يربح ابراهيم ما يسد رمق اولاده الثمانية، زوجته حسب أقوال نساء الحارة: "امرأة في حبل مزمن". رغم ضيق ذات اليد، الا ان الله باركه بزوجة لا تلد الا الصبيان، ربما هو الأمر الوحيد الذي يحسده علية أهل البلد. لكثرة الأولاد مستعدة زوجة ابراهيم دوما للقيام بأي عمل يطلب من بيوت البلدة الموسرة، تنظيف، تعشيب الأرض، شراء احتياجات النساء من السوق، طبعا مقابل بضعة قروش وبعض الأرغفة والملابس القديمة.
عدا الثمانية أولاد، أطال الله عمرهم ووهبهم الصحة والطعام، فقد ثكل ابراهيم وزوجته اربعة أطفال، يقال ان سبب موتهم قلة التغذية، الأمر الذي حرك عواطف الجيران، من يومها لم يتوقف الجيران عن ارسال ما تيسر من طعام زائد، او بعض الخضار والفواكه التي بدأت بالذبول الى زوجة ابراهيم لتقيت اولادها.
لا يعرف أحد سببا لقلة مشاركة ابراهيم وزوجته صلاة أيام الأحد. كان هناك شبه اتفاق بالصمت بأن لا يحثوا ابراهيم على ضرورة الاهتمام بالمشاركة بصلاة الأحد من أجل اكتمال دينه. حتى الخوري الذي لا يمل من القول ان الله يحب كل ابنائه بالتساوي، لا فرق بين غني وفقير قوي وضعيف، لم يحاول حث ابراهيم على التواجد في الكنيسة أيام الآحاد.
كان أكثر ما يخيف الخوري ان يؤدي تواجد ابراهيم بينهم بثيابه الرثة ورائحة عرقه المثيرة للإمتعاض والضيق، الى مشكلة يتوقعها بتفكيره، مثل انفضاض المصلين من الجلوس بقربه، ربما عدم عودتهم لصلاة الأحد، الأمر الذي سيترك أثره الكبير على صينية التبرعات النقدية يوم الأحد.
كان الخوري يجد الجواب لنفسه بقوله:" لعل في ذلك حكمة ربانية". ان مصروفات الكنيسة تتزايد مع ارتفاع الأسعار، حتى سعر الكهرباء صار يحتاج الى "لمة" يحث عليها الخوري في موعظته كلما تلقى وصلا جديدا.
مع ذلك والتزاما بتعاليم المسيح، كان الخوري لا يستثني ابراهيم وعائلته من زياراته لبيوت أبناء الطائفة، لمباركة البيت وأهله والدعاء لهم بالصحة والفلاح، حمايتهم من كل مكروه، وان يبارك الله بيتهم بالذرية الطيبة والوفرة والوفاق.
لم تكن زيارة الخوري تسبب الفرح للسيد إبراهيم، لكنه يخفي ضيقه، يستقبل الخوري بكل ترحاب، بل ويجمع أولاده ليباركهم الخوري، ثم يبحث في جيبه عن بضعة قروش ليضعها بيد الخوري، الذي يمتنع من أخذها في البداية من منطلقات معرفته لواقع هذا البيت. لكن ابراهيم يصر ان لا يخرج الخوري مفشلا، ان المسالة ليست بقيمة ما يقدم لأبونا الخوري والكنيسة، انما هي تعبير رمزي عن التقدير الكبير لجهود الخوري في ايصال رسالة للمخلص يسوع المسيح ان يشمل ابراهيم وأولاده بعطفه ومحبته وخيراته.
صحيح ان الخوري كان يزور بعض البيوت أكثر من غيرها، يقيم صلوات أطول مما يقيمها في بيوت أخرى. الأقاويل تتردد ان السبب هو التبرعات السخية التي ترد لصندوق الكنيسة من أصحابها.
هكذا مضت الأيام، الأشهر والسنوات برتابة ونظام لا تغيير فيه.. وكأن الرتابة هي قانون لهذه الحياة.
ما عدا موسم الزواج الذي يحل كل عام مع حلول الربيع، وبعض الوفيات، لا شيء يشغل الخوري إلا الحفاظ على رابط مع جميع رعيته في البلدة.
لكن الرتابة كسرت.
في ظهر أحد الأيام استيقظ الخوري من قيلولة الظهر على صوت بكاء وصراخ غير بعيد عن كنيسته.
سارع الى الخارج ليعرف ما حدث، وجد ابراهيم ملقى على الأرض والدم ينزف من أنفه، يبكي ويصرخ بحرقة بشكل هستيري يصعب فهم ما جرى له. تجمع حوله العديد من عابري السبيل وأصحاب المحلات المجاورة، يحاولون ايقافه على قدميه، مسح الدم عن وجهه وهو يجلس مذهولا يبكي بحرقة وألم.
- ما الحكاية؟ سال الخوري.
- بعض الزعران اعتدوا عليه وسرقوا نقوده وهربوا.
قال الخوري بشيء من الغضب مجيلا نظره بمن حوله :
- ولم يساعده أحد ؟
لم تكن ضرورة للجواب. الصمت كان جوابا مجلجلا. مد يده لإبراهيم :
- تعال يا ابني.
استجاب ابراهيم ليد الخوري وقام ذليلا باكيا وقاده الخوري الى غرفته الملاصقة للكنيسة.
أسعفه ببعض الماء ومسح الدماء عن انفه ووجهه، غاب للحظات في غرفة ثانية، عاد ليدس بيد ابراهيم بضع ليرات. ملمس النقود أجفل ابراهيم فتراجع رافضا المال. لكن الخوري أصر مذكرا اياه ان وظيفة الكنيسة رعاية الفقراء والفقر ليس عارا. قال له:
- هذه النقود من أجل اولادك وليسامح الله اولئك الزعران لأنهم لا يدرون ما يفعلون.
بعد تلك الحادثة دخل ابراهيم في صباح أحد الأيام، القى التحية بهز رأسه على الخوري والمصلين، ركع لدقائق طويلة امام أيقونة للسيد المسيح معلقا على الصليب، كان يبكي بمرارة مخفيا صوت بكائه، وقف وقام بالتصليب ثلاث مرات، خرج كما دخل لوحده ومن بعدها اختفى إبراهيم من الحارة ومن البلد.
حتى نساء الحارة لم يلاحظن اختفاء ابراهيم وزوجته وأولادهما الثمانية.
تناقل المصلون أقاويل كثيرة عن اختفاء ابراهيم بعد ان قام بالصلاة لمرة واحدة في الكنيسة قبل اختفائه، تمنى الجميع ان لا تكون مصيبة قد نزلت به هي السبب وراء اختفائه.
مضت الأيام وبدأت تتوارد معلومات عن ابراهيم، من الصعب ربطها بابراهيم ابن بلدهم، البعض يقول انه شاهده في المدينة القريبة يجلس بجانب سائق شاحنة كبيرة محملة بالحديد الخردة. قالوا ان ابراهيم كان يرتدي ملابس جديدة ويبدو أصغر من عمره بعقد كامل. شك البعض بأن الحديث لا اساس له وان ما تناقله البعض عن رؤية ابراهيم من المؤكد انه شخص آخر.
يبدو ان قصة ابراهيم قد طويت. لم يعد يذكره أحد. عادت حياة البلدة الى مسارها الطبيعي وكأن ابراهيم لم يكن له وجود بينهم في يوم من الأيام.
ذلك النهار الربيعي كان عاديا. الخوري يجلس على شرفة منزله يقرأ كتابا وأمامه صحن فواكه. تمطى تحت شمس الربيع الدافئة حين سمع قرعا خفيفا على باب منزله. لم يتأكد من ان احدا يقرع باب بيته، أنصت ولم يسمع القرع من جديد. عاد يقرأ في الكتاب، لكنه لم يكد يقرأ كلمتين حتى عاد يسمع القرع من جديد وهذه المرة كان القرع أقوى. قام متمهلا ليرى من الطارق.
فتح باب منزله على شخص ببدلة من الجوخ الإنكليزي الفاخر، تفوح منه رائحة عطر ذكية، نظر اليه من رأسه الى قدميه، لاحظ حذائه الأسود اللامع، بالتأكيد من نوع فاخر كملابسه. كان الطارق يقف هادئومبتسما ابتسامة خجولة. لوهلة خيل للخوري ان الوجه مألوف له. بل مألوف جدا. لا ليس من المترددين للصلاة يوم الأحد. هل هو قادم جديد للبلدة؟ الوجه قريب جدا من الوجوه المألوفة للخوري. لكنه متأكد ان فيه تغيير ما.. وفجأة لمعت الصور جيدا بذاكرته، سأل مترددا:
- ابراهيم..؟
- أجل يا أبونا انا ابراهيم نفسه
- تفضل يا ابني أدخل... أهلا بك في بلدك وبيتك.
مليون فكرة التمعت بثوان في ذهن الخوري. ما تناقله بعض أهل البلد عن ابراهيم الذي شاهدوه في المدينة القريبة يبدو انه صحيح. ربما هذا ابراهيم آخر؟
- قل لي يا ابني، انت ابراهيم نفسه ابن بلدنا الذي غادرنا قبل سنة؟
- انا ابراهيم الذي مددت يدك له بالمساعدة حين وقف الجميع متفرجين على زعران يعتدون علي ويسرقون ثمن خبز الأولاد. جئت ارد اليك الدين الذي في رقبتي.
- انها قروش قليلة يا ابني.. والمصلين لا يبخلون على صندوق الكنيسة.
- انه دين كبير يا ابونا.. تفضل.
مد يده بورقة شيك للخوري.
- يا ابني ما ساعدتك به ليس دينا، انه واجبي...
صمت الخوري وهو يتأمل المبلغ الذي كتب على الشك.. اجال نظره بين ورقة الشك وابراهيم عاجزا عن ايجاد كلمات يعبر فيها عن الموقف الذي وضعه فيه ابراهيم بورقة الشيك. بعد صمت قصير وجد جملة مناسبة:
- انه مبلغ كبير.. كبير جدا.. عشرة الاف ليرة مرة واحدة؟
- انه ديني للكنيسة.. ولأهل البلد الذين لولا ما تكرموا علينا به لمات اولادي من الجوع.
- من أين كسبت هذه الأموال؟
- منذ ركعت في الكنيسة لوداع البلد فتحها الله بوجهي، أصبح الحديد الخردة تجارة مربحة، اليوم لدي عدة شاحنات وعدد من العمال، اشتريت بيتا، المسيح فتحها في وجهي بعد ان رجوته في صلاتي الوحيدة ان يتطلف بي وبالأولاد.
- انا كاهن واصلي يوميا بإخلاص عدة مرات.. لكني لم احلم ان اكتب يوما شيكا بقيمة عشرة الاف ليره..؟ بالكاد نسدد اثمان الكهرباء والماء والتنظيف.
- واوصيت للكنيسة على مكيفات هوائية سيحضر الفنيون لتركيبها غدا.
- كيف من صلاة واحدة ورجاء واحد وصلت الى ما وصلت اليه، وانا الخوري المؤمن والذي يصلي كل نهاره وليله ويطلب ان يفتحها الله بوجه كنيسته لا نحصل على ما يساعدنا في تغيير مقاعد الكنيسة مثلا ؟
- الصلاة ليست بالكم، ولا بالصراخ والصوت المرتفع، ليست بالشكل الذي نظهر به في الشارع بملابس غريبة عجيبة. الصلاة يا أبونا الخوري من القلب والقلب لا يغير شكله ولا قوة دقاته. اذا كان الله كما تصفونه فهو قادر على سماعنا وقراءة تفكيرنا.. وسأغير مقاعد الكنيسة على حسابي.
- لكني اصلي بصمت ومن القلب وعدة مرات كل يوم؟
- يبدو انك ملحاح يا ابونا الخوري وتظن ان الله لك وحدك... ليس بالصلاة فقط يفتحها الله بوجه الناس!!

[email protected]

#نبيل_عودة (هاشتاغ)       Nabeel_Oudeh#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات