أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - فلفلة النيل















المزيد.....


فلفلة النيل


حسين الموزاني

الحوار المتمدن-العدد: 4714 - 2015 / 2 / 8 - 21:38
المحور: الادب والفن
    


حسين الموزاني
فلفلة النيل

مقطع من رواية

كنت أعلم قبل أن أبدأ جولتي مساء الأمس، بأنني سأنتهي لا محالة إلى حانة في أطراف المدينة العملاقة التي أقيم فيها منذ أكثر من أسبوعين. وقد وضعت في حسابي أيضاً بأنني سأمضي ليلتي وحيداً، بحيث لن يبقى أمامي سوى أن أقتل الساعات أمام زجاجة كونياك مصريّ الصنع. كنت قد وقعت في السابق تحت إغراء ذلك اللون الأصهب ذي الرائحة الحرّيفة، وبالأخص عندما يكون نبيذ البطالسة قد نفد أو تكون البيرة المحلية فاسدة الطعم. وكلّ مرّة كنت أقع، قسراً، أو طواعيةً، أو بفعل الوحشة التي لا تطاق، تحت سطوة ذاك السائل ذي المذاق اللاذع، فأحتسي أحياناً ثلاثة أرباع اللتر، أو لتراً كاملاً، لدرجة أنّ هذا النادل أو ذاك كان يقف إلى طاولتي ويهزّ رأسه دهشةً وتعجباً. لكنني أكون في اليوم التالي كمن فلقت هامته من الداخل بخشبة مسنونة، فأشعر ليس بالتصدّع والانشطار وحدهما، بل بنوع غريب من التشعّب الذي يتوغل بطلاقة في تجاويف الجمجمة وقحفة الرأس.
وعندما استيقظت اليوم في ساعة مبكرة من الضحى، إثر طنين البعوض وهجماته المركّزة، وصياح بائع العسل ذي الصوت الشديد الحدّة والوضوح، كما لو أنه كان يهتف في غرفة النوم نفسها، كنت منشطر الرأس تماماً، وكأنني حمدانيين وليس حمدانَ واحداً، حمدانان يريد كلّ منهما التخلّص من الآخر؛ فتخيلت نفسي كما لو أن نادلاً قد سقاني ماء الزرنيخ لكي يجفف عظامي ويشلّ أعضائي. ففركت جبهتي، لأحرّك بقايا الأعصاب التي خدرها الكونياك المغشوش، ثم أتتني رغبة آنية في أن أضع رأسي كلّه تحت صنبور الماء. بيد أنني سرعان ما غيّرت رأيي، ووجدت أنّ من الأفضل لو أرخي جسدي ساعةً في حوض البانيو. فكان عليّ أن أنتظر السخّان أكثر من ساعتين، حاولت خلالها أن أنام من جديد، وبقيت أتقلّب في الفراش بكبد مسحون.
والآن لابدّ من القيام بعمل ما يجعلني أتحسس وجودي، كأن أحضر مثلاً فنجاناً من القهوة، أو أشم على الأقل رائحة البنّ الذي يغلي في الركوة العربية، وفكّرت أيضاً في أن أضرب قاطاً خفيفاً من الجلق، لكنني آثرت أن أفعل ذلك حال الانتهاء من البانيو، أي تحت رشاش الدوش مباشرة؛ لأنّ لذّة الخدر والارتعاش المتخلّع ستبلغ ذروتها حينئذ. أحضرت الليفة والصابون السائل وخلعت ثيابي، إذ أن الماء لابد أن يكون قد سخن الآن، وأصبحت متأهباً للدخول في البانيو الذي تسوست بعض أركانه فشطفتها بالمطهرات قبل بضعة أيّام. وفتحت خرطوم الدوش المعدني بحركة متعجلة ومتفائلة بعض الشيء، غير أنّه لم يخرج ماءً، إنما أصدر حشرجة مثل ضفدع مبقور البطن، محدثاً صريراً خافتاً، وفي الأخير قطّر بضع قطرات خنّاء، ثم انقطع. فأصابتني الهلع على الفور، وصفعت على إثرها البانيو بالليفة الجديدة، وقذفت علبة الصابون اللزج على الأرضية الأسمنتية، وأتتني رغبة عارمة في النزول عارياً إلى البوّاب، لأبلغه بأن الماء قد انقطع، وتلك هي المرّة العاشرة على الأقل التي ينقطع فيها الماء. إلا أنني فكّرت، أو في الواقع إن الفكرة نفسها هي التي اخترقتني، على الرغم من سورة الغضب التي اجتاحتني، فكّرت في امرأته التي لم تكن سحنتها مصريّة تماماً، إنما كانت ضاربة إلى السمار وإلى نوع من النحافة التي يمكن لمسها عند النساء عموماً في بلاد الحبشة، أو ربما كانت قادمة من بلاد النوبة. لكن البوّاب عبد السميع البحراوي، وهذا هو اسمه الكامل، لم يكن نوبيّاً قطّ، ليس لأن لهجته المصريّة ذات النكهة القاهرية الواضحة بدت لي سليمة، إذا ما كان يحق لي إطلاق حكم بهذا الشأن؛ وليس لأنه كان شديد الحذر منّي، كثير المجاملة في الوقت ذاته، دون أن يستقر على رأي يمكن أن أمسكه به ذات يوم، فضلاً عن أنه كان يغلّف سلوكه بإظهار أكبر قدر من الورع والتقوى؛ وربّما كان فعلاً تقيّاً ورعاً، بل لأنني حسبت نفسي قد سمعت بائع العسل يخاطبه مرّة بلقب "الحاج". وأتذكر في هذه المناسبة بأنني رجعت إلى الدار ذات ليلة شديد البرد سكرانَ، تفوح رائحة الكونياك المصري من جوفي، حامضةً، وحارةً في آن، وكنت أرتدي ثوباً مصرياً وضعت تحته صديريّ من الوجه القبلي متين الخياطة، مقلّماً بخطوط رأسية، واضعاً على رأسي قلنسوة خاكية اللون مثل تلك التي يرتديها الغفراء وعمّال التراحيل، نعم؛ أتذكر عندما أقبلت نحو السيّد عبدو منتشياً وأسناني تطقطق كالمقرور، متصنعاً إتقان اللكنة القاهرية، مادّاً حروف الجلالة بمبالغة ظاهرة، فقط لكي أعلمه بأنني ندّ له، على رأي المثل "دحنا كلّنا إخوات يا عَ السميع"، قال لي بلهجة ناهرة اختفت منها الرقّة القاهرية تماماً:
"سيبك بقى من ال ااااّه دي، وإلا حتوقع السما عَ روسنا حتة وحدة!"
كنت أردت حينها التمهيد لسؤال عمّا إذا كانت السيّدة صابرين، زوجته، نوبية الأصل، لألحق بذلك السؤال سؤالاً أشدّ خطورةً، يحتاج عادةً إلى مقدمات طويلة: "طيّب والنبي يا عبد السميع، هي صابرين مالهاش أخت؟".
لكنني أدركت، وكم كنت تعيساً في إدراكي هذا، بأنه كان يكنّ لي احتقاراً مبطّناً بارداً، ليتني وقعت يوماً على أسبابه. آثرت، على أية حال، أن أرتدي على عجل بيجامة النوم، فهبطت السلّم برأس كان يطقطق من فرط التصدّع. وفي أسفل الدَرابْزِين أبصرت صابرين، امرأة البواب وصاحب الدار أيضاً، متربعةً على حصيرة من الخوص، تقشّر الباذنجان بأناة وهدوء، فارجةً ساقيها اللامعتيّ السمار وقد التصقتا ببطتي فخذيها؛ فهتفت بها عن بعدٍ، لئلا يخالني زوجها بأنني معني بشأنها، "الميّةْ يا هانم انقطعت، يمكن انقطعت دي الوقت!" فأجابت دون أن تلتفت، أو تتوقف عن التقشير، لكن بوجه شابته ابتسامة، أو أنني تخيلتها ابتسامة: "يا أستاذ حمدان، يمكن يكون المحبس مقفول!”
فقلت: "طيّب أفتحيه، عسى الله أن يفتح عليك!" ثم رجعت إلى غرفتي، قافزاً درجات السلّم قفزاً، دون أن أستعين بالدرابزين. ألقيت ببيجامتي وسروالي الداخلي فوق الغسّالة المعطلة منذ زمن، ورمقت عميرة بنظرة خاطفة، غير أنني قررت إعفاءه اليوم من الجلد؛ إذ أن المحبس قد انفتح على حين عرّة، وانساب ماء النيل عذباً بلّوريّاً، فانسللت تحت رشاش الماء خلسةً مثل لصّ. وسرعان ما شعرت بشيء من انتعاش الصحو يغمر جسدي، فتوقف ألم الرأس لحظة، ودبّ خدر لذيذ بين مفاصلي، فأخذت أحرك ركبتي وأمسدهما، وقمت ببضع حركات سويدية، نافخاً الزفير وكأنني ألفظ حطام بدني. لكنني حالما انتهيت من الاغتسال وغادرت حوض البانيو شعرت بهبوط مفاجئ في الضغط، واضطراب خفيف في الدورة الدموية، لعلهما جاءا بفعل ارتفاع نسبة الكحول في الدم، أو نقصانها بشكل ملحوظ، مما جعل أطرافي ترتجف. وفي محاولة لإخفاء الاضطراب، رأيت أن أرتدي اليوم بذلة أنيقة، أتيت بها من بلدي البعيد، من صحراء الجليد، أو منفاي، دولة ألمانيا المتوحدة، وأشدّ عنقي بربطة من حرير حمراء، وأدعك شعري الأكرت لكي أمنحه مسحةً عصرية. هنا أدركت بأن الأناقة هذه لا تأتي إلا بعد أن تجتاحني نوبة عارمة من السويداء، أو حالة من هبوط الضغط. إذاً كان تطرفي في الأناقة لا يعني أكثر من أن إحباطي قد ازداد عمقاً ورسوخاً. كنت في تلك اللحظة على وشك أن أنسى الطريقة التي تعقد بها ربطة العنق، على الرغم من أن عمّي، الزاير رسن، كان يبيع الأربطة العتيقة في شارع الرشيد قبل نصف قرن ويهتف بين الحين والآخر: "صير أفندي بعشر فلوس، صير أفندي بعشر فلوس!"، فاضطررت إلى عقد الربطة في البدء حول ركبتي، ثم قلبتها فيما بعد، وكنت أفعل ذلك أحياناً، دون أن أعلم، ولو مرّة واحدة، فيما إذا كانت عقدتي صحيحة، أم أن فيها عُجْرَةٌ زائدة. وكنت أشعر بالحسد إزاء أولئك الذين يجيدون التأنق، والذين لهم معرفة دقيقة، منذ نعومة أظافرهم، بالأربطة والقرديلات والجوارب الملاءمة للأحذية. فجأة حلّ في نفسي هاجس غامض، أوحى لي من حيث أدري ولا أدري، بأنني، وبفضل أناقتي هذه، سوف أحظى أخيراً بامرأة ممشوقة القوام، خفيفة الظلّ، وذات لحم صلب فتيّ وشفتين قويتين، تسألني على الأقل: من أنت يا حمدان؟ أم منفيّ، أم طريد وقد تقطعت به السبل حقّاً؟
فرفعت يدي إلى الأعلى، مستغلاً لحظة التمشيط، هاتفاً في المرآة: "يا الهي، لِمَ ابتليتني بحبّ نساء مصر الفاتنات؟ ولِمَ حرمتني هكذا دفء أحضانهن؟"
وفي الأخير لمعت حذائي بخرقة، ونزلت إلى الشارع بهمّة عالية بعض الشيء، كما لو أن ذلك كان ردّ فعل على هبوط الضغط. كانت الشمس في الخارج مكتملة التفتح، والأشعةُ متوهجةً صفراءَ بيضاءَ، والأرصفةُ نظيفةً مرصوفةً من حديد، وقد رُميت حجارتها القديمة المهشمة في عرض الشارع وفي جوانبه. وكانت البالوعات مفتوحة لغرض التهوية، وقد رُدّت عليها أغطيتها بمقدار النصف، فانبعثت منها روائح عطنة وعفونة قديمة متخثرة منذ زمن الفراعنة، وقد أحاط بها عمّال البلدية، ببدلاتهم الزرق وجلابياتهم التي علاها السخام. فكانوا يجرّون الأسياخ والحبال الحديدية المضفورة، أو يكسرون الجير المتحجر بمعاول ضخمة. شممت في الهواء رائحة مياه متكلّسة ونفط محترق وتراب، ورأيت أحد العمّال يخطو في اتجاهي ويهتف بي "الزراير!"، غير أنني لم أنتبه إلى معنى العبارة هذه التي ذكّرتني بالطيور السوداء المنقطة الريش بالأزرق والأبيض؛ تلك الطيور التي كان يصطادها الجنود في معسكرات بغداد بجزوات منتوفة من ذيول الحصن، ويبيعونها تحت "نصب الحريّة" بعشرين فلساً: الزرازير كان اسمها، وكنت آنذاك شديد التعجب من تصرفات بعض الناس الذين كانوا يشترون تلك الطيور اللامعة، ثم يطلقونها حرّة في الفضاء. لم يتركني الحفّار بسلام، بل أشار هذه المرة بسبابته إلى عضوي زاعقاً بي "الزراير يا أفندم"ففهمت قصده وأغلقت على الفور نافذة سروالي.
وقبل أن أصل إلى محطة مترو الأنفاق، لكي أستقل القطار إلى قلب المدينة، شعرت بشيء من الجوع، أو أنني اعتقدت على الأقل أن من شأن الطعام التخفيف من حدّة الألم، فذهبت إلى مطعم "فلفلة الفلافل" على ضفة بحر النيل مباشرة. كنت قد تناولت إفطاري ذات مرّة في ذلك المكان، القريب من النفس لبساطته، حتّى خيّل إليّ من البديهيّ تمامًا أن أتناول الطعام في مياه النهر نفسه. كانت فلفلة النيل فارغة إلى حدّ ما، لم يكن فيها سوى بضعة زبائن جلسوا متفرقين يتأملون النهر، أو يلتهمون الفول والطعمية وشوربة الخضروات بمتعة ظاهرة. أحسست فجأة ببرودة تحت قدميّ، وبعد ثوان تأكدت من أنهما قد تنقعتا بالماء، إذ أنني رأيت بقعًا من ماء الشطف والغسيل تحت الطاولة، كانت تمرح فيها قطط بنيّة أو صفراء الشعر، تشبه نمورًا توقفت عن النمو.
جاء النادل نفسه الذي ناديته بلقب المعلّم، فوجدته كارهًا له، بحيث أنه لوى فمه امتعاضًا، فأبدلت لقبه بالمتر، بل أنني قلت له في المرّة الماضية "يا متر، يا مترين، عاوز بقى أطول من ده؟" وكررت الآن الخطأ ذاته، فاستدركت قائلاً:
"سوري، سوري يا متر، بردون، واحد شوربة عدس، وطبق فول بزيت الزيتون؛ زيت قليل لو سمحت، وشوية سلطة خضرة"، ثم سألته بمجاملة إن كان أحد المعلمين قد اغتسل هنا تحت الطاولة، أم أنّ مياه النيل فاضت ليلاً؟ فضحك المتر، واستدار محاولاً إخفاء ضحكته. لم يكن أمامي ما أفعله خلال فترة انتظار الطعام سوى أن أتأمل النهر القديم، الواسع من تلك الناحية، كالبحر، والذي بدأ في ساعة الظهيرة الساكنة كما لو أنه توقف تمامًا عن الحركة، لولا البريق الفضّي الخاطف الذي كان يتلألأ فوق صفحته المتثاقلة البطيئة الجريان. انتظرت ماعون العدس دون فائدة، فطال ترقبي، وقمت أتسلّى بمراقبة ضيوف المطعم، انصياعًا لفضول فطريّ راقد في أعماقي منذ زمن بعيد، لكي أعقد المقارنات بين تصرفاتهم وبين ما أقوم به أنا: كان هناك ضابط شرطة ضخم الجثّة، أجلح الشعر، ذو زبيبة كالحة في منتصف جبهته، يدخّن النارجيلة وينفخ الدخان الأبيض السريع في وجه امرأة بدينة جلست إلى جواره، وثمّة فتاة صغيرة جلست بثياب التلاميذ الرسمية، تأكل وحيدة وتتلفت حولها بذعر بين الحين والآخر، ثمّ ترمق الشرطي بنظرة وتبتسم؛ وكان هناك رجل خليجيّ المظهر، مقعد، بنظّارة سوداء لامعة فوق أنفه المعقوف، ولحية قصيرة مبتورة، وخلفه فتى ضخم الجثّة حتّى الترهّل، يدفع كرسيه المتحرك، في حين وقفت امرأته المنقّبة بوشاح أسود، لتحرس عملية إنزاله من عتبات السلّم. لا أعرف لأي سبب تخيلت الرجل، كما لو أنّه ينتمي إلى ذلك الصنف من الرجال الذين لم يتمكن أحد إلى يومنا هذا من الاحتيال عليهم على الرغم من رحلاتهم العديدة وثرائهم وطيبة قلوبهم. وعندما بدأت أفتش في وجه المرأة عن ملامح أميّ الضائعة، لم أعثر على شيء منها، فالتفت إلى ناحية أخرى، حيث أبصرت امرأة ثانية، بيضاء الوجه، ذات أنف طويل، وكانت ممسكةً بمنديل من قماش ناعم تمسح به أنفها بين الحين والحين. كانت تتحدث بصوت خفيض إلى ابنتيها اللتين كانتا تطاردان القطط، وقد وضعت كرسيًا فارغًا بينها وبين امرأة أخرى، أصغر منها سنًّا، ربّما كانت خادمتها، وأنّها فعلت ذلك، لكي لا ينعدم الفارق الاجتماعي الذي فصل تلك السيّدة المصابة بنزلة برد في عزّ الصيف عن الخادمة التي جلست صاغرةً تتطلع إلى النهر. رأيت السيّدة وهي تشطر رغيفًا من العيش البلدي وتدهنه بملعقتين من الفول، ثم تناوله إلى الخادمة التي كانت تنقله إلى فمها بحركة آلية، ثمّ تلوك ببطء ومتعة أيضًا.
اقتربت الفتاتان الصغيرتان منّي وأعطتني إحداهما حرفًا من الخبز المغمّس بالفول وطلبت منّي أن أناوله إلى قطّة كانت تلعب تحت طاولتي، فنهرتها أمّها بصوت خالٍ من أي نبرة. وحين تفحصت ملامح الفتاتين وجدت فيها نوعًا من الغلظة. كان ثمّة زغب أسود يجلل شفتيهما، وفي أنفيهما خسوف، فتأكد لي أصلهما الزنجي، على الرغم من بياض أديم الأمّ وأنفها الأرستقراطي الطويل.
أخيرًا وضع النادل الحساء الساخن على الطاولة، وقلب إلى جانبه ملعقةً أثريةً محكوكة الأطراف، ثم قال بصوت ناعم "شهية طيّبة" فقلّبت الشوربة الصفراء، نافخًا فيها لعلّها تبرد، ورششت عليها نثارًا رقيقًا من الفليفلة الحرّاقة لكي أقوّي به شهيتي، ثم بدأت أرتشفها على مهل دون متعة، إلى أن أخذت الملعقة تصطدم بحافة الطبق المعدني، محدثة رنينًا مبتذلاً، فرميتها جانبًا وتفرغت إلى الفول المطفطف بالزيت. ولابد من الاعتراف هنا بأن الفول كان شهيًّا حقًّا، له مذاق الفستق السوداني المطحون، ولكي أهضمه هضمًا جيدًا أوصيت بحلوى "أم علي" مع قائمة الحساب.
عندما دققت في القائمة عثرت على سهو، قد لا يكون مقصودًا، إلا أنني حين جمعتها ثانيةً تأكدت لي صحّة الحساب: (170 شوربة عدس؛ 240 فول حسنيّة بالزيت؛ 65 سلطة خضرة؛ 48 سبعة أقراص من العيش البلدي الصغير غير المدعوم؛ وفوقها 48 قرشًا أخرى للخدمة، يضاف إليها 22 قرشًا ضريبة المبايعات الخاصة، ملحقةً بضريبة البيع المحليّة والتي بلغت 285 قرشًا، وشاي أبو صنّارة إفرنجي، مع واحد "أم علي بالمكسّرات"، مع خدمة سرفيس ثانية، فأصبح الناتج الإجمالي 933، عدا البقشيش بطبيعة الحال؛ فقلت للنادل مستوضحًا:
"أنا يا متر أنا أكلت فول بزيت الزيتون، وهنا في القايمة، زي ما شايف حضرتك، مسجّل فول حسنية؟"
فأجاب على الفور، وكأنه لم يفكّر في ربع الساعة الأخير إلا بهذه الإجابة:
"لا يا أفندم، كده مش صحيح"، ثمّ أضاف بصوته الأخن الرفيع، "حضرتك أكلت فول حسنيّة، سبشل كمان، وده مقيّد هنا أهو!".
أجبته متظاهرًا بانعدام الصبر:
"يا أخي العزيز، يرحم الله والديك، هو أنا اللي أكل الفول وإلا حضرتك؟"
"لأ، حضرتك طبعًا”.
"طيب، كويس قوي، فول حسنيّة مخلوط عادة بالبيض والكريمة، مش كده؟"
"أيوه مضبوط”.
"بس أنا يا أخي ما آكل الكريمة مطلقًا، فاهم؟"
"أيوه، أنا فاهم، أمّال إيه؟ بس حضرتك لازم تسدد القائمة زي ما هي، فول حسنيّة، فول سوداني، أنا ما ليش دعوة، المشكلة دي مش مشكلتي”.
فقلت محتدمًا:
"أنتم مالكم كده غلبانين يا متر، ارحموا بالناس الآخرين كمان، وإلا هي فهلوه وبس؟"، ثمّ أضفت بلهجة عتاب، "اغلطوا يا حبيبي مرّة واحدة لصالح الزبون! بعدين هي بالعافية، إلا عشان أنا أجنبي؟"
هنا أجاب المتر بهدوء، شابه التوتر:
"أجنبي؟ لا يا أفندم، لا يا خواجة، دحنا الأجانب وأنت المصري، وابن ألف مصري كمان. الله! بس همّ مالهم المصريين عشان تقول لهم أنتم؟ عملوا لك حاجة وحشة المصريين يا أفندم أطيب ناس في الدنيا كلّها!"
فقلت حسمًا للنقاش:
"عشرة، عشرة جنيه، وخلصني”. والتفت إلى المرأة ذات الوجه الأرستقراطي، لكي أرى وقع نكتتي على محياها، لكنني وجدتها منشغلةً في تنظيف أنفها؛ فغادرت المطعم هاربًا متلفتًا يمنياً وشمالاً ووقفت على الرصيف الذي لم يفصله عن النيل سوى بضعة أمتار. كنت حائرًا، لا أعرف على وجه اليقين إلى أي شطر من هذه المدينة الهائلة سأيمم وجهي، ولم أكن قادرًا على التفكير بوضع خطّة للقضاء على ساعاتي القادمة. في تلك اللحظة أقبل نحوي صبيّ صغير قذر الثياب، ورمقني بنظرة شكّ، ثم خاطبني بصوت ضاحك "هلو مستر! هو أور يو مستر؟ فك يو!"
لقد نجحت خطّة تنكري إذًا، وأصبحت حقًّا مسترًا وخواجة. وقبل أن أنتهي من تداعيات تلك التحية، مرق من أمامي رجل يحمل حقيبةً يدويةً ضخمة، كان متأنقًا إلى حدّ ما، وترافقه سيّدة عجوز، يتحدث إليها بصوت واضح النطق، ومرتفع تمامًا بالنسبة لمحادثة بين شخصين. سمعته يقول " واخده بال حضرتك؟ مفيش حاجة في الدنيا تبقى مستخبية، خالص. حتى الأسرار حتتفضح في يوم من الأيّام. وبعدين هي الأمور كلها ماشية كده وإلا كده، وحتوقف ليه. طيّب. بنعقدها كده ليه؟ وحنكسب إيه لما نعقّد الحياة؟ ثم أخذ يلّوح بحقيبته إلى الناحية الأخرى من الكورنيش، وهتف محييًا: "يا صباح الفلّ والياسمين، يا عمّ مُرسي؛ وحشتنا والله! منوّر يا حاج!" وأطلق ضحكةً قوّيةً مجلجلة.
جعلتني تلك الضحكة متفائلاً نوعًا ما، كما لو أنني لم أعد أحفل كثيرًا بيومي هذا الذي لا أريد سوى الإجهاز عليه، وسوف أتيح للصدفة الفرصة لكي تقتل دقائقه بدلاً مني، وسأكون مستسلمًا لها، قانعًا هكذا بالنظام الذي ستصنعه لي. وشعرت بفرح داخليّ، لأنني لم ألمس أدنى رغبة في تغييره، فلم أغيره إن كان غير قابل للتوقف؟ بل كيف أغيره أصلاً؟! ثمّ إنه عالم أتاح لي فرصة العيش فيه، وهو بالتأكيد غير مسؤول عن مأساتي، إن كانت هناك مأساة! وبعدين الأمور كلها ماشية كده وإلا كده ومش حتتوقف حتى لو غادرنا الحياة. كانت تلك هي المرّة الأولى التي فكرت بها على هذا النحو، أنا الجرماني المولع بالضبط والربط! لكن كيف انطلقت تلك الضحكة الرنّانة الصافية من اللاشيء؟ ومع ذلك أصبحت الآن، وبفضل نصيحة السيّد ذي الحقيبة الضخمة، حرًّا طليقًا، حتى لو كنت أتحسس في نفسي رغبة ما في تسقّط أخبار العالم وشؤونه التي لم تعد تشغلني على وجه خاص منذ إقامتي في هذه مدينة. فاشتريت جريدة محليّة، بدت لي أخبارها تتطاير من فرط خفتها، قبل أن تتيح للبصر فرصة التطلّع إليها، فخاطبتها برقّة: "مكسوفة كده ليه؟" قرأت في صفحة الجريدة الأولى، صفحة الوفيات كما يسميها المصريون، خبرًا عن ولاية حافظ الأسد الرابعة، ولعلّها الأخيرة، ونشرت تحتها صورة تذكارية لجندي إسرائيليّ يدوس بحذائه على رأس فلسطينيّ راقد في فراشه، وصورة لاجتماع قمّة ثلاثيّة أو رباعيّة. فشعرت بخيبة أمل من شحّة الأنباء الجديدة، وأخذت أقلّب الصفحات الداخلية بحثًا عن موضوع مثير، فتوقفت عن المشي، واتكأت على سياج من حديد يحرس ضفة النيل، حيث أتتني رغبة عارمة في غسل الجريدة بماء النهر، لكي أطهرها وأخفف من حدّة رصاصها الذي سخّم يدي ووجهي؛ لأنني كنت أفرك جبهتي بين آونة وأخرى، لأضاعف من تركيزي على العناوين الصغيرة الثانوية. ودون سابق إنذار تسرب اليأس المخاتل إلى قدمي من جديد، فشعرت بهما مقيدتين وغير قادرتين على الحراك. ربمّا لم يكن يأسًا أو قنوطًا هذا الذي باغتني، إنما السويداء بعينها التي كانت تجتاحني أحيانًا بلا مقدمات، لأنّ موجة الاستقبال في رأسي وتحوّله في تلك اللحظة إلى مجرد واجهة مسطحة ومملة كتلك الواجهات الزجاجية التي تعرض البطانيات المصنوعة من النفط، فأخذت سطور الكتابة تنزلق عليها وتختفي دون أن تخلّف أثرًا: " بائع متجوّل يطعن صديقه المتسوّل ويرديه قتيلاً بسبب التنافس على اقتناء مجلّة مخلّة بالآداب"– "مصرع أفراد العائلة الخمسة مختنقين بالغاز في ليلة الحنّاء التي أعدتها العائلة لابنتها الكبرى التي بقيت على قيد الحياة" – "أربعة ضبّاط شرطة ومجنّد يخطفون سيّدة أثناء سيرها في شارع الهرم ويحتجزونها في شقّة أحد الضبّاط لمدة أربعة أيّام" – "انتشار ظاهرة الدعارة والانتحار وبيع الأعضاء الجسدية في العراق رغم تخفيف حدّة العقوبات" – "إحصائيات حديثة تؤكد نظرية فرويد حول خصوصية العلاقة التي تربط الآباء البنات، إذ يقوم أكثر من خمسة آلاف رجل ألماني كل عام باغتصاب بناتهم وهن في سنّ الطفولة" – "يقوم علماء الذرّة الهندوس بغسل وجوههم ببول الأبقار كلّ صباح، ثم يلفّون بعضًا من برازها المقدّس تحت طيّات عمائمهم!".
طويت الجريدة ووضعتها في جيب سروالي وشعرت بأن ابتسامة باهتة قد تلاشت على فمي وخلفت شيئًا خفيفًا يشبه الحرقة، وفكرت على الفور فيما لو يتبرع العرب كلّهم ببولهم وروث أبقارهم إلى إخوتهم الهنود، لعلّ أمتهم تحصل في آخر المطالف على القنبلة الذريّة، أو على وصفتها على الأقل!
تحسست قدمي، فلاحظت أنّ خدرهما قد وصل إلى بطّة الساقين، فدلكتهما، وأخذت أخطو خطوات حثيثة وقصيرة معًا، لكي أبعث فيهما الحياة من جديد. وضرطت ضرطة خفيفة عديمة الصوت إلى حدّ ما، ثم أخذت أرواح برجلّي، لأتيح للريح الانتشار في الفضاء.
إنني في الواقع أمضيت الشطر الأوّل من حياتي دون أن أجرؤ على التخلص علنًا من غازات الأمعاء، ويعود الفضل في التعامل معها حضاريًا إلى منفاي، أو في الواقع إلى الجرمان الذين علموني كيفية التخلّص من فضلات الروح، وتذكرت أن العلاّمة جالينوس قد قال ذات يوم إنّ كل ما يخرج من الأعلى يمكن أن يكون إمّا فضيلة أو سوءًا، لكنّ كلّ ما يخرج من الأسفل لهو فضيلة مطلقة ليس إلا.
وحين خطرت هذه المقولة في ذهني عنّ لي أن أحث الخطى جاهدًا بغية اللحاق بذلك الفيلسوف التطبيقي الذي وزّع قبل لحظات باقات الفلّ والياسمين بلا مقابل، وأسأله عن مدى صحة مقولة المرحوم جالينوس.



#حسين_الموزاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صور الأب
- المعركة
- النكران
- جولة الوداع
- الفجر
- ليلة القدر
- الاستجواب
- الثورة المستجدة في مصر وسقوط الجدار العربي
- الحلّاق الفرعوني
- عندما يتحوّل الدين إلى سياسة
- إرهاصات الحداثة
- مفهوم الحرب لدى زيغموند فرويد
- سياسة منح الجوائز الأدبية في ألمانيا
- هل هناك هويّة ثقافيّة مشتركة في العراق؟
- حوار مع حسين الموزاني
- مفهوم الحرب لدى فرويد


المزيد.....




- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...
- رواية -خاتم سليمى- لريما بالي.. فصول متقلبة عن الحب وحلب


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - فلفلة النيل