السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 4592 - 2014 / 10 / 3 - 14:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
وجود "رؤية" ترسم ملامح الوطن، أي وطن، في المستقبل المنظور هو "البوابة الذهبية" لطريق الارتقاء بأحواله ككل وبرفاه من ينتمون اليه كأفراد. الا ان عبور هذه البوابة لا يكون بفصاحة الصياغات ولا بلاغة الكلمات التي تعبر عن الرؤية، ولكنه يكون بوضع الاستراتيجيات ورسم السياسات التي تحول مضمون الرؤية الى واقع معاش. ولقد عرضنا في المقال السابق (السيد, 2014) لرؤية مستقبلية للمجتمع المصري مؤداها: "ان يكون المجتمع المصري بحلول سنة 2030، مجتمعا معرفيا يعلي من شأن الابتكار وتشكل المعرفة العلمية القوة المحركة لعمليات انتاج السلع والخدمات وتتوقف مكانة الفرد فيه على قدر ما يحوزه من معرفة. مجتمع يمتلك ويسيطر على اقتصاد ديناميكي قائم على المعرفة، ويوفر مستوى رفاه مقبول لأفراده على الصعيد الداخلي، وقادر على المنافسة على الصعيد العالمي". ونقطة البداية في عملية تجسيد هذه الرؤية، او أي رؤية، هي تحويل مضمونها الى غايات Goals واهداف Objectives تأخذ في اعتبارها الوضع الراهن ويمكن وضع استراتيجيات لتحقيقها.
ونظرة خاطفة الى أحوال المجتمع المصري الحالية ستبين ان انتقال هذ المجتمع من وضعه الراهن الى الوضع المأمول الذي يحدده بيان الرؤية ليس بالعملية السهلة وتقف امامها العديد من العقبات. ومن اهم هذه العقبات الثقافة السائدة على مستوى المجتمع ككل وعلى مستوى الكيانات الاقتصادية كل على حدة. ومن أبرز ملامح هاتين الثقافتين نفورهما من الابداع (او الخروج عن المألوف) وتجنب المخاطرة والاعلاء من شأن الحفظ على شأن الفهم وشيوع أنماط مختلفة من التفكير الخرافي (السيد, 2010). وهي ثقافات لا تحد فقط من قدرة المجتمع على انتاج معرفة بل تحد أيضا من قدرته على استخدام ما يتوفر لديه من معرفة. لذا يقتضي تجسيد هذه الرؤية المستقبلية تحقيق غايتين Goals رئيسيتين هما "تحديث الثقافة السائدة"، و"إقامة اقتصاد معرفي يقوم على الابتكارات".
وبالطبع فان وضع استراتيجيات مكتملة لبلوغ هاتين الغايتين هو امر يفوق قدرة أي فرد ويتطلب فريق عمل يضم خبراء من مختلف التخصصات. الا اننا سنقترح اربعة استراتيجيات نرى أهميتها في هذا السياق وهي:
1. نشر وترسيخ "الثقافة العلمية" على المستوى القومي.
2. إشاعة وترسيخ "ثقافة الابتكار" على مستوى الكيانات الاقتصادية والتنفيذية.
3. تنمية "رأس المال الفكري القومي".
4. إقامة "المنظومة القومية للابتكار" (السيد, 2011).
وسنكتفي هنا بعرض موضوع كل منها تاركين للخبراء مهمة التفصيل. وموضوع أولى الاستراتيجيات هو كل ما يتعلق بنشر وترسيخ "الثقافة العلمية" بأبعادها الثلاث: "التعريف بالمنتجات"، "التعريف بالأدوات" و"التعريف بالتداعيات" وذلك على المستوى القومي. وأول هذه الابعاد، "التعريف بالمنتجات"، يعني بتعريف غير المتخصصين وعموم أفراد المجتمع بمنتجات العلم من نظريات واكتشافات وبتجسداتها المتمثلة في المنجزات التكنولوجية أو التنظيمية أو الخدمية. وهو البعد الذي يطلق عليه اسم "تبسيط العلوم" ويعتبره الكثيرون مكافئا للثقافة العلمية وليس أحد ابعادها. اما ثاني الابعاد، "التعريف بالأدوات"، فيهتم بتشجيع عموم أفراد المجتمع على معرفة أدوات انتاج المعرفة العلمية، ومن ثم على شيوع "روح" منهج التفكير العلمي بينهم، بما ينطوي عليه هذا المنهج من وضوح ودقة في عرض الأفكار والمفاهيم واستخدام لأدوات التفكير المنطقي Logical Thinking في مناقشتها ومراجعتها. وأخيرا يهتم البعد الثالث، "التعريف بالتداعيات"، بتوعية افراد المجتمع بتداعيات المعرفة العلمية، المتجددة دوما، على رؤية الإنسان للواقع الذي يعيش فيه.
اما الاستراتيجية الثانية فتتعلق بالعمل على نشر وترسيخ "ثقافة الابتكار" لتحل محل "ثقافة الوضع الراهن" وذلك على مستوى الكيانات الاقتصادية والتنفيذية. و"ثقافة الابتكار" هي الثقافة التي تقوم على "رفض الوضع الراهن" Status Quo، وتشجع "الخروج عن المألوف" في عملية السعي لإيجاد حلول لمشاكل المجتمع. انها الثقافة التي توفر بيئة عمل تشجع العاملون باستمرار على التفكير الإبداعي، وتيسر من عملية تجسيد أفكارهم الجديدة على هيئة ابتكارات. فالقدرة على "الإبداع"، أو إنتاج الأفكار غير المسبوقة، وحدها لا تكفي لوصف أي كيان بصفة "المبتكر". إذ يقتضي إطلاق هذه الصفة على كيان ما قدرته على تجسيد هذه الأفكار على هيئة سلع أو عمليات أو خدمات. اما "ثقافة الوضع الراهن" فهي الثقافة المحافظة التي تميل للإبقاء على ما هو مستقر ومتعارف عليه. هذا ويوضح الجدول التالي موجز الملامح العامة لهاتين الثقافتين.
والاستراتيجية الثالثة هي المتعلقة بتنمية "رأس المال الفكري القومي" National Intellectual Capital الذي يمكن تعريفه بأنه "مجموع الموارد غير المادية التي يمتلكها أفراد ومؤسسات مجتمع ما وتسهم إسهاما إيجابيا في تقدمه على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي". أو بعبارة أخرى يعبر رأس المال الفكري القومي عن "الموارد الذهنية والثقافية" للمجتمع كما تتمثل في مجمل "الإنتاج الفكري والثقافي" للمجتمع سواء أكان هذا الإنتاج في مجالات العلوم والتكنولوجيا أو في مجالات الفنون والآداب، وفى "أدوات" هذا الإنتاج، سواء تمثلت في أفراد مبدعين أو فى مؤسسات الإبداع بشتى أنواعها من جامعات ومراكز بحوث ومؤسسات فنية وأدبية، وفى "التقنيات والآليات" الداعمة لهذا الإنتاج مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وقد اتفق العديد من علماء الإدارة والاقتصاد على أن رأس المال الفكري لمجتمع ما يتكون على الاقل من ثلاثة مكونات هي: "رأس المال البشرى" Human Capital، "رأس المال الاجتماعي" Social Capital و"رأس المال البنيوي" Structural Capital. ويعتبر "رأس المال البشرى" من أهم مكونات "رأس المال الفكري القومي". ويقوم هذا المكون على مفهوم "المواطن الثروة" ليحل بذلك محل مفهوم "المواطن العبء". ويعرف الباحثون رأس المال البشرى لمجتمع ما بأنه "مجموع ما يمتلكه أفراد هذا المجتمع من معارف ومهارات. هذا بالإضافة إلى منظومة القيم التي تحكم أسلوب قيامهم بالأعمال". فعلى سبيل المثال تحتل قيم من قبيل "احترام العمل أيا كان نوعه"، "تقدير القدرة على الإنجاز"، و"احترام الوقت" مكان الصدارة في منظومات قيم المجتمعات الأكثر تقدما. وثاني مكونات رأس المال الفكري القومي هو "رأس المال الاجتماعي" الذي يعرف بأنه "القيمة التي تنشأ نتيجة لعلاقات الثقة المتبادلة بين الافراد والمجموعات والتي ترفع من قدرتهم على التعاون سويا لإنجاز المهام". أما المكون الثالث، "رأس المال البنيوي"، فيشمل "كافة البنى التحتية، مثل وثائق الرؤى والاهداف والسياسات، منظومات الاتصالات، أدلة العمل، مواد التدريب، براءات الاختراع، قواعد بيانات "أفضل الممارسات"، التي تمكن الكيان، شركة او مجتمع، من تحقيق أهدافه".
ورابع هذه الاستراتيجيات هي تلك المتعلقة بإقامة "المنظومة القومية للابتكار" التي يمكن تعريفها بأنها "مؤسسات القطاعين العام والخاص، كبيرة كانت أو صغيرة، والجامعات والهيئات الحكومية التي تتفاعل مع بعضها البعض بهدف إنتاج المعرفة العلمية والتكنولوجية داخل حدود الدولة. وتتنوع التفاعلات بين هذه الكيانات ما بين تفاعلات تقنية وتجارية ومالية وقانونية ومالية واجتماعية تعنى جميعها بتطوير وحماية وتمويل وتنظيم كل من المعرفة العلمية والتكنولوجية" (Niosi, et al., 1993). وهي المنظومة التي تهدف الى زيادة القدرة الابتكارية للدولة من خلال إقامة روابط بين الفاعلين في مجالات إنتاج وتوزيع واستخدام المعرفة ليشكلوا سويا منظومة متكاملة للتعامل مع المعرفة على المستوى القومي.
الخلاصة
إن تهيئة المجتمع المصري لدخول عصر الاقتصاد المعرفي لم يعد خيار مطروح بل هو ضرورة تفرضها ندرة الموارد الطبيعية ومعدلات الزيادة السكانية المرتفعة وطبيعة العصر الذي نعيش فيه. ولم يقتصر الجهد المبذول لإقامة اقتصاد معرفي على الدول الساعية لرفع رفاه سكانها، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا، بل امتد ليشمل الدول المتقدمة.
ان ما ورد في هذه الورقة، في جزئيها الأول والثاني، هو اولا تذكرة لمن يهمه الأمر بانه لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة في غيبة رؤية مستقبلية لمستقبل الامة المصرية. وهو ثانيا دعوة لمن يهمه الأمر، من أحزاب سياسية او جهات تنفيذية او منظمات مجتمع مدني او جامعات ومراكز بحثية، لمناقشة ما طرحته هذه الورقة وتصحيحه وتطويره ليخرج من فضاء الكلمات الى فضاء الأفعال.
المراجع
Niosi, J., Saviotti, P., Bellon, B. and Crow, M., (1993). National Systems of Innovation: In Search of a Workable Concept . Technology in Society, 15 (2):207-227.
السيد, ا.ن., (2010). ثقافتنا المعاصرة: التحديث أو الكارثة. القاهرة: دار المحروسة.
السيد, ا.ن., (2011). الإبتكار وإدارته. القاهرة: المكتبة الأكاديمية.
السيد, ا.ن.ا., (2014). البكسل الحائر والصورة الغائبة: الرؤية (1/2) . الحوار المتمدن, 4587 (28 سبتمبر):http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=434871.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
