أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدين بوركة - تسبيح الباتول















المزيد.....

تسبيح الباتول


عزالدين بوركة

الحوار المتمدن-العدد: 4505 - 2014 / 7 / 7 - 18:22
المحور: الادب والفن
    


« لقد سئمنا-ألم تسأم أنت؟- من هذه الكامرة الخفية.»
كان جدي صوفيا قبل كل شيئ.

« الحياة كامرة خفية »، قال وهو يَنُشّ الذباب من على المنضدة. لم يكن المْعَلم محماد، إلا بناءا، يعرف الطوب، ويعرفه الطوب. بنى مسجدا وأنشأ قربه حماما شعبيا، بيديه الخشنتين، اللتين تليقان لأن تكونا "بَالَا" (مِعْول) أحيانا. تقول جدتي أنه سرق من بيت الشيطان أمتارا ليُهديها لبيت الله.. لهذا هو داخلٌ للجنة فاتحا عيناه، لا محال. لازلت أتذكره وهو يقرأ، رباعيات سيدي عبد الرحمن المجذوب، واضعا أمامه براد الشاي النحاسي. كان حاد الملامح، بتجاعيد الوجه كأرض تمّ حرثها للتو، ببشرة ترابية اللون. وعينان بنيتان مائلتان للسواد. لا يعرف المُزاح، دُغْري، مند صغره، كما تقول جدتي. جالسا فوق سريره، المهترئ، ذي ثلاثة أرجل، كجندي سابق مبتور الرِجْل، يقاوم الزمن. واضعا قربه صندوقه الحديدي الأزرق، الصدئ، بقفل نحاسي، يرجع لزمن ما قبل الحرب العالمية الثانية، عام البون، اشتراه مقابل ثلاث خبزات وشيئا من السمن. يحتوي على كل أشكال الورق، حتى ورقة السفر بالحافلة لعام 1945 إلى وارزازات.
*****
وأنت هناك، جدي، وأنا هنا، أمام شاهد قبرك، سأتحدث دون أن تقاطعني، سأتحدث دون خوف، من جحود عينيك عندما تغضب، أو من عصاك التي دُفنت معك كما أوصيت. هل فكرت يا "معلم محماد"، في الانتحار يوما؟ طبعا لا! ما هذا السؤال الغريب. أ تعلم؟ كم فكرت، أنا، في الانتحار من مرة؟ لدرجة إني أنتحر كل ليلة في منامي. و هذه المرة اخترت أن أنتحر بجرعة مضاعفة من الشعر، مثلا. إنني أخاف من ضحكاتهم، جدي، التي يُسمع دويها على بعد مليون سنة ضوئية من مجرتنا، حتى تظهر عقولهم وأضراسهم الخلفية، وتهتز مؤخراتهم المحشوة ب"الخوا الخاوي"، حينما يعلمون أني لازلت أمارس العادة السرية، سريا عن نفسي. سيضحكون عاليا، إلى أن تهتز السحب وتمطر، حين يكتشفون أن وزني لا يتناسب مع طولي. سيضحكون جدي، حينما يعلمون أني أكتب!، أكتب قصصا عن الصحراء-بلادك جدي- وعن الرمال و بوبريص الذي يُمدد جسده كأُمليطْ على صخرة، من زمن ما قبل التاريخ. وأنا عارٍ تماما، من كل شيء، حتى من نظراتهم.
*****
« لم يترك للورثة، إلا خصيتيه. » تقول أمي.

لم يفارقه، أبدا مذياعه القديم، قدم الحرب العالمية الأولى. يقول أنه يسمع فيه روح المناضلين الحقيقين، الذين لا يظهرون في التلفاز ولا تـُكتب أسماؤهم في الجرائد. فأرواحهم تحب أن تسكن المذياع. لأنه هادئ، كالهدوء الذي يسبق العاصفة. لا أعرف عن أي عاصفة كان يتحدث، لكنه كان يُكرر هذه الجمل، عادة، كلما أشعل "سَبْسيه"، أو دَخَن سيجارة من نوع "كازا" الرديئة. لم يترك لهم إلا مذياعه وهذا المكعب من الطوب، تقول أمي، وهي تتنهد. كان شيخا طيبا، يُحبّ الله و يُحبُّه الله. لم ألقى منه إلا الخير "الله ارحمو". ***** وأنت تنظر إلي، من بُعدٍ خامس، أو سادس، ما الحقيقي هنا ؟ وما الزائف هناك ؟ هل لازلت تستمع لأغاني الحياني قبل أن تنام ، على أمواج الإذاعة الوطنية ؟ من يُعدّ لك الشاي صباحا ؟ هل وجدت وُجوهٌّ أخرى يائسة وخائفة، تصرخ عليها؟ وتوبخها إن لم تستيقظ باكرا، ولو كان يوم أحد ؟ هل من أيام أحادٍ هناك ؟ وهل من عطل لمشاهدة كرة القدم مثلا؟ وكيف هو طعم النبيذ هناك؟ هل كما كنت تحبه معتقا وبارد؟
*****
« لم يبتسم قط إلا للشمس، كأنه يودع أحدهم في السماء. » يقول أحدهم.

يُقال أن الباتول كانت تأتي من وارزازات، إلى كاريان سونطرال، مشيا على الأقدام. "مسخوطة" تضيف زينب. لم تكن تحبها جدتك، إنها "لْوِيسْتها" (أخت زوجها). سبق لها أن حرضت أخاها على تطليقها، لأنها أنجبت ثلاثة ذكور توفوا متتالين، بسبب فقر الدم، سنوات السيبة، وأعوام "البون". الباتول لا تقول بهذا، ف"لالة فاطمة"، بالنسبة إليها، كانت منحوسة من قبيلة بني ويدان، الحوز، جنوب مراكش. فالله يغضب عليهم دائما، ويسلط عليهم الفياضنات...
تقول « لالة بريكة » زوجة « السي بريك »، "ريحت الشحما في الشاقور"، هي لي جمعت بين لالة فاطمة والمعلم محماد. الذي كان يشتغل عند الطبيب "ميسيو جاك"، كمساعد في نقل الأوراق وتوظيب العياذة ومراقبتها، ويضيف سي بريك (لقد كان مسيو جاك جاسوسا للفرنسيس، والله أعلم). أما لالة فاطمة علال (نسبة لأبيها علال)، فقد كانت تدرس أبناءه اللغة العربية والقرآن.. فقد أعلم إسلامه بمعية زوجته بعد خمسة عشر عام من المكوث في "بلادنا".. للصدفة أن أم لالة فاطمة تنحدر من قبيلة المعلم في "طاطا"، على الحدود مع الجزائر.. حينما علم هو بذلك ، تحفز لأن يقترب منها أكثر، والتودد إليها. إلى أن اصطادها، وهمس في أدنها يوما أنه ينوي أن يتزوجها.
بارك مسيو جاك زواجهما، بعد أن خطبها منه.. لم يكن لبنت علال عائلة بعد موت أمها قبيل سنوات "السيبة"، بعام أو عامين.. وأبوها قُتِل بسبب غزو قبيلة مجاورة لقبيلتهم.. أما الباتول فلم توافق على هذا الزواج، الذي يجعلها تتناسب مع "مقطوعة من شجرة"، كما تقول.. إنها نحس على العائلة.. لم يكن محماد يعلم عن أي عائلة تتحدث، فد قاطع هو، أباه مند سنوات عدة، حينما قرر أبوه أن يتزوج من "أعرابية" من وارززات، ويترك أم المْعلم، وأبناءها وحيدين.. حينها قرر محماد أن يستقر في مراكش لترتيب حاله.. ويساعد إخوته.

*****

« خير ما تركت الباتول تسبيحها ». قالت جدتي

. كلما كانت تسبح بمسبحتها ، بيدها اليمنى. وأنا في عمر الخامسة والنصف أو السادسة من عمر طفولتي، قبيل التحاقي بالمدرسة الإبتدائية. كنت أتساءل: بماذا تهمس جدتي، وهي تعدّ حبات التسبيح الملونة؟ لعلها تحب أن تتأكد دائما من عدم نقص أي حبة من تسبيح الباتول، لكي لا تغضب عليها وهي في عالمها الآخر، الآن. بعدما أن أوصتها أن تحتفظ به كعهد تصالح وتسامح بينهما، وهي تُحتضر. مدته لها وهي تعاهدها على ألا ترحل قبل أن تسامحا، ولطيب قلب جدتي سامحتها، وعاهدتها أن تموت هي أيضا وبيدها، هذا التسبيح. كنت كلما قمت بأخطاءٍ طفولية، أهرب إلى الطابق السفلي، حيث اختارت جدتي السكن- بعدما فرق أبناءها المنزل بينهم، إلى طوابق.. وفرقوا "الكَاميلة"، كما تقول تقول عمتي.. وهي تقصد أن إخوتها الذكور بعد موت جدي، لم يعودوا يجتمعون كسابق عهدهم على مائدة واحدة. خوفا من أبي الذي كان قاسيا في تربيتي، أنا بالخصوص، عكس باقي إخوتي، خوفا من انحرافي، مثلما انحرف أخي الأكبر.. لم تكن في غرفتها حينما ركضتُ هروبا إليها. نسيَت تسبيحها، فوق السرير القديم، وهذا ليس من عادتها. امتلكني خوف طفولي، من أن تعاقبها الباتول إن ضاعت حبة من حباته. فجلست أعدّ الحبات، وكلما وصلت للرقمٍ أعيد العدّ، بعدما أنسى الرقم الذي يليه. 1..2..3..4...15..20.. إلخ. دَخَلَت على غرة، جدتي، دون أن أسمع خطواتها المثقلة، أمسكت كتفي وهي تقول مبتسمة: " تبارك الله على وليدي.. تَعَلّمت كيف تُسبّح لله، لوحدك.."



#عزالدين_بوركة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحلاج مأساة عاشق
- أسئلة الثقافة وتدبيرها: الرمزي والتنموي في المجتمع المغربي *
- أوثار بور
- الأثر الفكري للمهدي المنجرة
- المثقف و الحركة والصورة الكاذبة : ردا على صورة
- قاتل هليودي
- قفطانك محلول:
- حزن عمودي
- جينالوجيا الأخلاق : دراسة في أصل الأخلاق و قلب القيم
- جيهان
- مشهد لا يتوجه اللوفر
- على باب الجامعة
- الجدار
- يغادرني العالم
- شعر الشمس
- تصفيات صغيرة
- جدتي
- حضرة
- دم بارد
- محمد عرش: مُبعث هيباتيا ديك الجن*


المزيد.....




- ماذا قالت الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز بشهادتها ضد ترامب؟ ...
- فيلم وندوة عن القضية الفلسطينية
- شجرة زيتون المهراس المعمر.. سفير جديد للأردن بانتظار الانضما ...
- -نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا ...
- فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...
- قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع ...
- -روائع الموسيقى الروسية-.. حفل موسيقي روسي في مالي
- تكريم مكتب قناة RT العربية في الجزائر


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدين بوركة - تسبيح الباتول