أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - عبد الحسين شعبان - نحو رؤية عقلانية للحركة العربية لحقوق الإنسان















المزيد.....



نحو رؤية عقلانية للحركة العربية لحقوق الإنسان


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 4469 - 2014 / 5 / 31 - 10:53
المحور: حقوق الانسان
    



مقدمة
واجهت الحركة العربية لحقوق الإنسان تحدّيات جديدة في السنوات الثلاث ونيّف الماضية، وخصوصاً بعد حركة الاحتجاج الواسعة التي شهدها العالم العربي والتغييرات الكبيرة التي عصفت بالعديد من الأنظمة العربية، منذ مطلع العام 2011 ورحيل الرئيس زين العابدين بن علي عن تونس وتنحّي الرئيس محمد حسني مبارك في مصر، وبعدها ما حصل في ليبيا بالإطاحة بنظام القائد معمّر القذافي، خصوصاً وقد جاء التغيير مترافقاً مع التدخل العسكري لحلف الناتو وما تركه من انعكاسات لا تزال تأثيراتها السلبية قائمة لحد الآن، ولاسيّما الفوضى والعنف اللذان لا مثيل لهما، ثم اضطرار الرئيس اليمني علي عبدالله صالح إلى التخلي عن موقعه لصالح نائبه بفضل تدخّلات مجلس التعاون الخليجي، وأخيراً الحرب المستمرة والمستعِرة في سوريا، التي بدت وكأنها مصارعة على الطريقة الرومانية، دون أن تجد حلاًّ منظوراً لها، سواءً في جنيف 1 أو جنيف 2، باستمرار الارهاب والعنف والحرب الأهلية، وكل ذلك دفع الوسيط الدولي الأخضر الإبراهيمي إلىتقديم استقالته لشعوره بعدم جدوى استمراره.
ولعلّ تلك التطورات السريعة والدراماتيكية وجدت طريقها إلى الحوار والجدل وربّما الاختلاف في إطار الحركة العربية لحقوق الإنسان، ويعود بعضها إلى خلفيات الحركة ومرجعيتها وعلاقتها وموقفها من قضية التغيير ومن موضوع استقلاليتها ومهنيتها ودورها الحالي والمستقبلي، أي أن بعض التحدّيات القديمة أو السابقة تموضعت لدرجة الإشكالية متخذة شكل تحدّيات راهنة ومستقبلية، وخصوصاً العلاقة بين السياسي والحقوقية وبين السياسي والاجتماعي، ثم في جدل الداخل والخارج والخاص والعام من حيث الأهداف والوسائل، إذ لا يمكن فصل الغاية عن الوسيلة، وهي حسب الزعيم الهندي مهاتما غاندي فإن الوسيلة من الهدف مثل الشجرة من البذرة، ولكي تكون الغايات شريفة، فلا بدّ من وسائل شريفة للوصول إليها .

إرهاصات تاريخية
الحديث عن قضايا حقوق الإنسان وبخاصة في الوطن العربي، هو حديث ذا شجون فحتى وقت قريب لم يكن هناك حركة عربية معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان من زاوية مهنية وحقوقية، رغم التطور العالمي في هذا الميدان والذي توّج بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948 والعهدين الدوليين بخصوص الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن الأمم المتحدة العام 1966 ودخولهما حيّز التنفيذ العام 1976 وصدور ما يقارب 100 اتفاقية دولية تشمل قضايا حقوق الإنسان المختلفة، لعلّ أهمها الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري والاتفاقية الدولية حول المعاقبة على جرائم الفصل العنصري والاتفاقية الدولية حول القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق السياسية للمرأة واتفاقية حقوق الطفل والاتفاقية الدولية والبروتوكول الملحق بها بخصوص وضع اللاجئين وغيرها.
وإذا كان التنظيم الدولي بشأن حقوق الإنسان قد بدأ بتأسيس منظمات وهيئات برزت في بدايات القرن العشرين حيث تأسست الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان في باريس في العام 1922، وبشكل خاص منذ نصف القرن الماضي، حين تأسست منظمة العفو الدولية في لندن في العام 1961، فإنه قد تأخّر كثيراً في عالمنا العربي، سواء على الصعيد الحكومي أو على الصعيد الشعبي. ولم تهتم القوى والفاعليات الحزبية والسياسية والبرلمانية بقضايا حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني الاّ في نطاق ضيق ومحدود، فالحكومات ظلت تتجاهل الحديث عن انتهاكات حقوق الانسان الاّ في سنوات متأخرة واستغرقت فكرة إعداد ميثاق عربي لحقوق الإنسان 23 عاماً، حين أقرت جامعة الدول العربية عام 1971 إعداد المشروع، الاّ أن الفكرة كانت تنام وتستيقظ لتغرق في نوم عميق حتى اعتمد على نحو مفاجئ مجلس الجامعة الميثاق المنتظر في أيلول (سبتمبر) 1994.
ويوم أعلن الميثاق الذي كلّفت صياغته النهائية قرابة العامين حمل معه منذ اللحظة الأولى بذرة ضعفه إنْ لم يكن عجزه، إذ كان هدفاً لتحفّظات 7 بلدان عربية، ناهيكم عن الثغرات الجدّية التي حملها المشروع، حتى استكمل بعد حوارات وتعديلات ولجان خبراء واجتماعات، وتمت المصادقة عليه في 15 آذار (مارس) العام 2008، مع إن بعض الدول لا تزال تتحفظ عليه.
أما القوى الشعبية، فإنها لم تكن معنيّة بقضايا حقوق الإنسان، حيث كانت تنظر إليها أحياناً بارتياب شديد في ظل الصراع الآيديولوجي العالمي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وتعتقد غالبيتها إنها جزء من هذا الصراع وأحد أدواته، الأمر الذي أخّر ظهور منظمات مهنية مدافعة عن حقوق الإنسان، وكان أول منظمة قد تأسست في العراق في العام 1960 باسم " جمعية حقوق الإنسان في العراق" وساهم في تأسيسها نخبة متميّزة من الحقوقيين والناشطين، لكنها هي الأخرى ظلّت محدودة التأثير وخضعت للصراع السياسي الدائر آنذاك.
مظلّة عربية
وشهد ميلاد المنظمة العربية لحقوق الإنسان العام 1983 أول تحرك شعبي (غير حكومي) اتّخذ منحى "قومياً" بعد تشكيل بعض المنظمات الحقوقية " القطرية" وبخاصة في المغرب العربي، لكنه من جهة أخرى استنفر الجهات الحكومية والرسمية التي سارعت لتطويقه ومحاصرته، مما حدى بنخبة المثقفين التي بادرت لتأسيس المشروع، وفي المقدمة منهم فتحي رضوان وأديب الجادر وعبد الرحمن اليوسفي والدكتور عينبتاوي ومنصور الكيخيا والدكتور خير الدين حسيب ومحمد فايق وزملائهم إلى عقد الاجتماع الأول في ليماسول (قبرص) بعد أن رفضت البلدان العربية جميعها الترخيص بعقده.
لكن الأمر لم يبق على هذه الصورة، خصوصاً وقد اتّسع نطاق العاملين في ميدان حقوق الإنسان وانتشرت عشرات من المنظمات القطرية ومراكز الأبحاث والدراسات وميادين التخصص المختلفة في أرجاء الوطن العربي وفي المهجر. وحتى بعض الدول المغلقة (الثورية أو المحافظة) لم يكن بإمكانها تجاهل موضوع حقوق الإنسان، حتى وإن قصدت الغير، أي اتهام خصومها وأعدائها بالانتهاكات، وتوظيف ذلك في صراعها السياسي.
وبعد نحو 17 عاماً، على تأسيس المنظمة أخذت بعض البلدان والحكومات تتعامل معها كأمر واقع Defacto، لكن التطور المهم الذي حدث لاحقاً ويشكّل انعطافاً جديداً للحركة العربية لحقوق الإنسان، هو ما أقدمت عليه وزارة الخارجية المصرية العام 2000 حين وقعت اتفاقية مقر مع المنظمة بما أكسبها الصفة الشرعية والقانونية والاعتراف بها كمنظمة دولية غير حكومية لها حصانتها وفقاً لما هو متعارف عليه دولياً.
إن هذه الخطوة المهمة والإيجابية عكست المكانة التي أخذت الحركة العربية لحقوق الانسان تحتلها رغم الأمواج المتلاطمة التي حاولت العصف بها، ورغم الحملات التي تعرّضت لها سواء بما يتعلق بقضايا التمويل والعلاقة مع الخارج والقيود التي فرضت تحت عناوين الخصوصية والتغريب وقوانين الجمعيات وهو ما كان موضوع نقاش جاد في إطار مؤتمر دولي حمل عنوان الحركة العربية لحقوق الإنسان، انعقد في كازابلانكا " الدار البيضاء" في العام 1999 بمبادرة من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
وعلى الرغم من التطور الحاصل في ميدان حقوق الإنسان الاّ أن الكثير من المفاهيم ما زالت تسبح في مياه الحركة العربية وتحلّق في فضاءاتها، بين ما هو مهني وحقوقي من جهة وبين ما هو سياسي ومصلحي من جهة أخرى، وتضاريس حقوق الإنسان على الخارطة الواقعية ما زالت وعرة وغير سالكة نظرياً، أو من خلال الممارسة، وهي تستوجب التدقيق في منطلقاتها وأهدافها، وهي بحاجة إلى إعمال الفكر وإمعان النظر في زواياها المختلفة، فالغذاء والتعليم وفرص العمل والخدمات الصحية والضمانات الاجتماعية لدى المواطنين هي الشغل الشاغل، في حين تركّز النخبة على قضايا مثل حرّية التعبير وإغلاق صحيفة أو تغييب مفكر أو سجناء رأي أو إعلان حالة الطوارئ أو استمرار الأحكام العرفية، وقد وجدت حركة التغيير التي انطلقت في موجة ما سمّي بالربيع العربي، هذا التداخل العفوي ولكنه العضوي بين الأهداف والمنطلقات، فحملت شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي الشعارات العامة التي كانت مشتركاً لجميع حركات الاحتجاج في العالم العربي.
ولذلك فالنظر إلى حقوق الإنسان والوعي بأهميتها والإحساس بها يختلف من رجل الشارع إلى أحد أفراد النخبة، وهو يختلف من وجهة نظر الحكومة إلى وجهة نظر المعارضات السياسية، وهي تختلف من قيادة هذا الحزب إلى قاعدته، مثلما تختلف الحقوق الفردية عن الحقوق الجماعية، وتختلف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن الحقوق المدنية والسياسية.
والجدير بالذكر الإشارة إلى أنه حتى وقت قريب كان دعاة حقوق الانسان يُعدّون على عدد أصابع اليد إلاّ أن أعوام الثمانينيات شهدت انعطافاً مهماً ترافق ذلك مع انهيار الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية واضمحلال نظام القطبية الثنائية، وينشط الآن عشرات الآلاف في العديد من البلدان العربية وخارجها للدفاع عن قضايا حقوق الإنسان بعيداً عن الحكومات من جهة وبعيداً عن المعارضات السياسية من جهة أخرى، وإنْ كانوا يشتركون مع الأخيرة بالدعوة إلى احترام حقوق الإنسان وإطلاق الحريات ومنع التعذيب وغيرها، الاّ أنهم يختلفون عنها في الأساليب والأهداف، فمنظمات حقوق الإنسان لا تستهدف الوصول إلى السلطة وتمتنع عن القيام بأعمال عنفية مهما كانت المبرّرات، وليس لديها ميليشيات مسلحة أو تنظيمات سرّية، وهي حركة سلمية (لا عنفية) مدنية تستهدف حماية وتطوير منظومة حقوق الإنسان بكل أبعادها،
إنها تسعى كلّما كان ذلك ممكناً ومتاحاً ولو بحدّه الأدنى لرصد الانتهاكات وإعداد التقارير ومناشدة الحكومات ونشر الوعي الحقوقي وقيم الحوار والتسامح والتعايش وسماع الرأي الآخر واحترام حقوق المجاميع الثقافية الدينية والإثنية واللغوية المعروفة بمصطلح "الأقليات" وغيرها.
ورغم أن الحركة العربية لحقوق الإنسان حاولت أن تميّز نفسها الاّ أن بعض الحكومات والكثير من الجهات السياسية المتنفّذة تعتبر أن مجرد الحديث عن حقوق الإنسان إنما هو "ابتداع غربي" و"اختراع مشبوه" لتحقيق مآرب سياسية، وللأسف الشديد ينسى هؤلاء أو يتناسون أن مفاهيم حقوق الإنسان التي تعّمقت على مرّ العصور هي نتاج تطوّر الفكر البشري الذي لا يقتصر على قارّة أو أمة أو شعب أو جماعة، بل هي مزيج من التفاعل الحضاري للمفاهيم الإنسانية عبر التأريخ، وقد بشّر الإسلام ببعض المفاهيم الخاصة بحقوق الإنسان التي كانت مفاهيم متقدمة، في حين كانت أوروبا تغرق في لجّة الظلام وعهد الاقطاع.
وتتظاهر بعض الحكومات على النطاق الدولي بالالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان وتوقّع وتصدّق على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وهذا أمر إيجابي ولكنه يستهدف أحياناً صرف الأنظار فعلياً عن انتهاكات حقوق الإنسان على المستوى الداخلي وتجميل الصورة خارجياً، ولعلّ هذه الدول تحاول أن تمهل نفسها أطول فترة لتسويف القضية والالتفاف عليها. وقد تجسّد هذا الأمر على نحو أكثر إلحاحاً في التسعينيات، وفي ظل النظام الدولي الجديد، واتساع المطالبة باحترام حقوق الإنسان واضطرار بعض البلدان إلى مسايرة الموجة العالمية للتغيير بهذا الخصوص، وهو ما واجهته الأنظمة التي كشفت عن كل ترسانتها الفكرية البالية، لاسيّما إزاء حركة الاحتجاج والانتفاضات في السنوات الثلاث ونيّف الماضية.
إشكالات راهنة
هناك إشكالات داخلية وأخرى خارجية، فيما يتعلق بتوصيف حركة حقوق الإنسان، وبعضها ينطلق من داخل الحركة، أما لقصور فهم إزاء دورها أو محاولة توظيفها واستثمارها من جانب بعض قياديها أو المتنفذين فيها لحساب جهات سياسية أو دينية أو مذهبية أو طائفية أو غير ذلك، لاسيّما وأن الوعي الثقافي العام لا يزال متدنياً وبشكل خاص الوعي الحقوقي والديمقراطي، ولهذا ظلّت الكثير من التأثيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مجتمعاتنا قوية، بما فيها العناصر التقليدية، حيث لا تزال مؤثرة بل ومهيمنة أحياناً، وهذه تجد لها أرضية داخل حركة حقوق الإنسان، التي تسعى لتوجيهها بما يتناقض أحياناً مع أهدافها كحركة مدنية، مثلما هناك مسعى لا يزال قائماً ولم ينقطع من جانب بعض الحكومات التي تريد فرض هيمنتها المباشرة أو غير المباشرة على حركة حقوق الإنسان وتسخيرها للدفاع عنها أو للتخفيف عن انتقاداتها لانتهاكاتها، بما يلحق ضرراً بصدقية توجهها ويضعفها إن لم يؤدي إلى تصدّع مهنيتها، يضاف إلى ذلك فإن هناك محاولات خارجية للتوظيف السياسي لأهداف خاصة.
وبشكل عام فإننا يمكن أن نرصد خمس اتجاهات أو خمس مخاطر تحاول النيل من حركة حقوق الإنسان على مستوى سلطة الدولة ومعارضتها أو القوى الخارجية أو السلطة الثيوقراطية (الدينية) التي لها سطوة خاصة، فتقوم بالتحريم والتأثيم أو التجريم أحياناً أو السلطة الاجتماعية، وخصوصاً العادات والتقاليد البالية.
الإتجاه الأول- التسييس
يتردّد كثيراً من داخل حركة حقوق الإنسان ومن خارجها، اتجاه يدعو إلى تسييسها، وحسب رأيه أن مهمتها إذاً اقتصرت على الرصد وتقديم الشكاوى وملاحقة بعض القضايا المتعلقة بالانتهاكات والتجاوزات بما فيها نشر الثقافة الحقوقية فلا فائدة تُرجى منها، لأن الأمر يحتاج إلى زمن طويل، وبهذا المعنى، فهي إذاً حركة إصلاحية وليست ثورية وما هو مطلوب "تغيير المجتمع " وليس إصلاح بعض عيوبه ونواقصه وكونها تقف على مسافة من الانخراط في العمل السياسي الروتيني من خلال أسلوب عملها، فهي حسب هذا التصوّر حركة توفيقية وغير مجدية!!
ولا يتورّع أصحاب هذه الدعوة من إقحامها أو دفعها للانخراط بمواقف سياسية ليست من اختصاصها بما يعدّ خروجاً على طابعها وطبيعتها. وسواءً كان الأمر يتم على نحو معلن أو غير معلن في الغالب، فإن مثل هذه النزعات صادفتها الحركة العربية لحقوق الإنسان في عملها من داخلها حيث يوجد نزوع داخلي أحياناً، ومن خارجها من جانب قوى وتيارات سياسية تريد توظيف الحركة لصالحها.
إن حركة حقوق الإنسان ضمن أسلوب عملها وتوجهاتها لا ينبغي لها اتخاذ مواقف مسبقة إزاء هذه الحكومة أو تلك أو إزاء هذه الجماعة أو تلك، بل لا بدّ لها أن تقف بقوة مع حقوق الإنسان، أينما وحيثما وكيفما خرقت وانتهكت ومُسّت، وهو واجبها باتباع وسائل عمل تنسجم مع أهدافها المدنية السلمية، وهو ما ينبغي تحقيقه في إطار متوازن ودون تردّد أو مجاملة، وهي في دفاعها عن الضحايا لا ينبغي النظر إلى أفكارهم وآرائهم ومواقفهم وانحداراتهم السياسية والقومية والدينية.
الاتجاه الثاني هو اللاتسييس أو الأدق الابتعاد عن السياسة
ولعلّ المقصود بذلك هو إبعاد الحركة العربية لحقوق الإنسان من التماس مع قضايا سياسية والتحوّل إلى جهة فنّية جامدة ليس إلاّ، بحيث تكون أقرب إلى حلقة موظفين لديهم كفاءات خاصة وإلمام بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية، سواءً كانوا في دائرة حكومية أو دولية، والمطلوب منهم التذكير بالقوانين والمواد القانونية التي تتضمنها البروتوكلات واللوائح الدولية.
إن الدعوة لإبعاد حركة حقوق الإنسان عن السياسة تقوم على مبررات الخوف من ردّ فعل هذه الحكومة أو تلك منها أو العاملين على أرضها وعلاقاتهم، والاقتصار على لغة ناعمة بالنقد مصحوبة بكثير من البروتوكولية والدبلوماسية، دون تسمية الأشياء بمسمياتها وعدم التوسع في عملها والإبقاء على عمل "النخبة" بما يبعدها عن الوقوع في المشاكل، وبخاصة ذات الطابع السياسي ويساعد ذلك في الرقابة على العاملين في إطارها.

الاتجاه الثالث - عدم التوازن
اعتقدت بعض الأوساط داخل الحركة أنها يمكن أن تكون بديلاً عن الأحزاب والقوى السياسية، طالما هذه الأخيرة فشلت في عالمنا العربي، سواء كانت قومية عربية أو ماركسية أو إسلامية، ولهذا فهي بإمكانها أن تكون وريثاً عنها وحاولت أن تأكل من جمهورها، وهو ما أثار حساسيات قديمة وجديدة بخصوص دور القوى والأحزاب والعلاقة مع المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، وجرى صراع داخل منظمات حقوق الإنسان على خلفية الاتجاهات السياسية المتصارعة ومحاولة طرف جرّ الحركة باتجاهها وفرض الهمينة عليها. وبطبيعة الحال فإن ذلك ألحق وسيلحق أضراراً بالغة بالجميع، ويجعل الحركة عرضة للتوجهات السياسية وللصراعات الحزبية، في حين ينبغي لها أن تأخذ مسافة واحدة من الجميع .
وبين هذا وذاك، فإذا أرادت الحركة أن تتقدّم فلا بدّ لها أن توازن حقاً بين ما هو حقوقي وما هو سياسي، فحقل السياسة للسياسيين، وحقل الحقوق مشترك للجميع، لكن أداء الحركة ينبغي أن يكون مختلفاً عن آداء السياسيين على هذا الصعيد.
وكلما استطاعت تحقيق ذلك فإنها ستتجه للتوازن ولوضع مسافة واضحة مع الجميع فلا تتحول إلى حزب سياسي أو منظمة معارضة أو تكون واجهة لها مباشرة أو غير مباشرة، لكن عليها أن تصوغ خطابها على نحو صريح وواضح ومبدئي، لكي تؤثر في جمهور واسع، وبالتالي يمكن أن تلف حولها حركة جماهيرية تضم أنصاراً ومؤيدين واعين، يستطيعون بثقلهم وبما تعتمده الحركة من أساليب عمل ومرونة وحصانة، فرض الاعتراف بوجودها، وبالتالي الاضطرار للتعامل معها.
الاتجاه الرابع- النظرة التجزيئية أو المفاضلة في الحقوق
وفي إطار الحوار والجدل الدائر داخل الحركة وخارجها هناك اختلاف أيضاً بين النظرة الشمولية والنظرة الجزئية لحركة حقوق الإنسان، فتارة تقدّم الحقوق الفردية، المدنية والسياسية، وأخرى يجري التركيز على أولوية الحقوق الجماعية وبخاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في حين أن حقوق الإنسان ينبغي معاينتها على أساس شمولي ومن زاوية كلية، فالمفهوم الذي ركّز على الحقوق الفردية لم يكن بإمكانه تجاهل الحقوق الجماعية، لاسيّما خلال الأزمات، فاستعان بدور الدولة والقطاع العام وهو ما يتطلب إيلاء اهتمام أكبر حالياً في ظل خطر تلوّث البيئة وحماية السلام وتوظيف نتائج الاكتشافات العلمية – التكنولوجية الكبيرة، التي تحتاج إلى طاقات هائلة وإمكانات ضخمة كما هي غزو الفضاء ومحاربة الأمراض والأوبئة وقضايا التصحّر وغيرها.
أما المفهوم الثاني، فهو الذي ركّز على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وقد أثبتت التجربة أن التخلي عن الحقوق الفردية المدنية والسياسية أو إهمالها قاد إلى أنظمة شمولية استبدادية (توتاليتارية دكتاتورية) ولم يساعد في خلق التوازن المطلوب والتنمية المنشودة، وهكذا انهار الاتحاد السوفييتي بعد أكثر من (70) عاماً على الثورة الاشتراكية التي ركزت منذ بداياتها الأولى على حقوق الإنسان الجماعية وبخاصة حق الشعوب والأمم في تقرير مصيرها، فضلاً عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كحق العمل والتعليم والتطبيب والضمان الاجتماعي وتوفير الفرص الثقافية للمواطنين وغيرها. لكن تلك المفاهيم اصطدمت بالتجاوزات على حقوق الانسان الفردية وحرياته الأساسية وبالتالي لم تخلق التوازن المطلوب، وحدث هذا للعديد من أنظمة التحرر الوطني.
إن أي محاولة لإهمال أي جزء من حقوق الإنسان تؤدّي إلى نتائج وخيمة، فلا ينبغي بحجة عدم إكتمال المقدّمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تأجيل إحلال الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الفردية بشكل عام. وإذا كان الإقرار النظري بهذه الحقوق أمرٌ لا مفرّ منه، فالعبرة بالتنفيذ. أما بالنسبة للحقوق الاقتصادية والثقافية، فالمسألة أكثر تعقيداً ولا يمكن بالطبع إهمال حق أصيل وأساسي من حقوق الإنسان، كحق تقرير المصير، بالنسبة للشعوب والأمم التي ما تزال تعاني من التبعية- وهضم حقها في تكوين كيان سياسي (دولة) مثلما هو الشعب الفلسطيني مثلاً، ومثل هذا الحق يتعلق بالجماعة، الشعب، الأمة، وهو حق أصيل لا يمكن بتجاهله الحديث عن الحقوق الفردية.
الاتجاه الخامس انخراط بعض نشطاء حقوق الإنسان في العمل السياسي وهو ما أعقب التغييرات الأخيرة التي حصلت في العديد من البلدان العربية وكان قسم منها قد أدى إلى فقدان توازن بعض إدارات حركة حقوق الإنسان، فقد ترك بعضهم العمل الحقوقي وانخرط كليّاً بالعمل السياسي ونسي الكثير من الانتقادات التي كان يوجهها للحكومات، بل إن بعض ممارساته لم تكن لتختلف عن ممارسات حكومات سابقة، أو تبريرات لها، وهو الأمر الذي أثار غباراً من الشك حول صدقية الحركة وصدقية العاملين فيها، وهو أمر غالباً ما يواخذه المجتمع على حركات سياسية أو اجتماعية أو فكرية، بمدى انسجام إداراتها مع ما تدعو إليه، لاسيّما بعض التناقضات الحادة التي عُرفت بها الحكومات.

تحدّيات الحركة العربية لحقوق الإنسان
وتواجه الحركة العربية لحقوق الإنسان اليوم أربع تحدّيات رئيسية هي:
التحدّي الأول:- محاولة الحكومات تدجينها أو احتوائها أو تبهيت لونها. وهذا هو التحدّي الأساسي من خارجها، وهو أخطر تحدّي لأنه يتعلق بصدقيتها.
التحدّي الثاني:- محاولة الحركة والقوى السياسية احتوائها لكي تكون واجهة سياسية ضيّقة لهذه الجهة أو تلك أو لهذا الحزب أو التيار أو ذاك، وإن كانت بعض المعارضات تحاول توظيفها بالاتجاه الذي يخدم أهدافها السياسية، الاّ أنها لا تدرك خطورة هذا النهج حتى وإنْ شكّل كسباً سياسياً آنياً لها، الاّ أنه يجعلها تفقد صدقيتها ويعطّل طريقها لكي تكون مرجعية ذات حيدة ونزاهة، يمكن التعامل معها تدريجياً على أساس ذلك، باعتبارها مرجعيات حقوقية لا علاقة لها بالمعارضات والتيارات السياسية، وإنما هدفها الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان ضد أي انتهاكات تحصل سواء من جانب الحكومات أو من جانب بعض الحركات المسلّحة التي تعتمد على العنف كأساس في تعاملها لتحقيق أهدافها السياسية وفي ظلّ غياب الحريات وانعدام فرص الحوار وسماع الرأي الآخر.
التحدي الثالث: انتحال دورها، وهو ما تسعى بعض الحكومات والمعارضات القيام به وذلك بتشكيل هياكل منظمات وجماعات ومكاتب باسم حقوق الإنسان تكون تابعة وتهدف هذه إلى نشر أفكارها والترويج لها ولدعايتها السياسية بما يؤدي أحياناً إلى التشويش على حركة حقوق الإنسان وخلط الأوراق.
التحدي الرابع: محاولة بعض القوى الأجنبية توظيفها بما يخدم أهدافها ومصالحها الدولية والإقليمية، سواء عن طريق التمويل أو بعض الأجندات الخاصة.
وفي هذا المضمار تبرز بعض المحاولات لإغراء بعض العاملين في ميدان حقوق الإنسان وممن يحتّلون بعض المواقع، لكي يبرّروا أو يخفّفوا النهج المناوئ لحقوق الإنسان للحكومات والجماعات السياسية التي تحاول التأثير عليهم، بما فيها للجهات الدولية، بحيث تأتي نبرة النقد خافتة وغير مؤثرة، وفي ذلك إحدى التحديات التي تؤثر على صدقية الحركة.
وبقدر حفاظ الحركة العربية لحقوق الإنسان على هوّيتها المستقلة وعلى وضع مسافة مناسبة بينها وبين الجهات المتصارعة وعدم خضوعها للضغوط من أي كان حكومات أو جهات سياسية أو جماعات تمويل خارجية تستطيع أن تقدّم خدمة لقضايا حقوق الإنسان وتكون جهازاً حقيقياً للمراقبة والرصد. ويمكنها أن تنشط في إدارة حوار فكري معرفي بين التيارات المختلف تحت راية حقوق الإنسان. وأعتقد أن جميع الأطراف يمكن أن تلتقي وتتحاور عند نقطة حقوق الإنسان.
ورغم وجود خلافات حول محتوى وجوهر حقوق الإنسان من حيث عالميتها ومحليتها، خصوصيتها القومية والثقافية وشموليتها، بمعنى المعايير التي يمكن اعتمادها، الاّ أن الحوار سيكون مفيداً بهذا الميدان أيضاً. ويمكن للحوار أن يشمل الحكومات أيضاً، إلى الفاعليات الفكرية والسياسية والثقافية، وأعتقد أن الحوار هو السبيل الوحيد لإنضاج مواقف تحمي جميع التيارات بإقرار تعايشها وبالإقرار بالتعددية وتنوّع الاتجاهات وبحق الجميع بالعمل والدعوة لأفكاره، ويحق للجميع بالانتقال السلمي إلى مواقع الحكم ومغادرتها بصورة سلمية بحيث يكون صندوق الاقتراع هو الفيصل في شرعية أي حكم، ولعلّ ذلك سيصب في عملية التنمية المستدامة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والتشريعية وغيرها.
إن المتأمل في إشكاليات الحركة العربية لحقوق الإنسان ومشكلاتها يلاحظ أن بعض إشكاليات ومشكلات المؤسسات الرسمية والحكومات، بدأت تنتقل إلى حركة حقوق الإنسان، بل أن بعض «الأمراض» أخذت تنتشر عدواها أحياناً في حركة حقوق الإنسان العربية الحديثة النشأة.
ولعلّ الهدف من طرح ذلك ليس الجهر ببعض النواقص والثغرات والأخطاء وكشفها على الملأ، وإنّما التفكير بصوت عال وجماعي بتلك الإشكاليات، لتقديم قراءة نقدية للواقع ومحاسبة للذات من خلال الشفافية، ذلك أن «النقد الذاتي» وكشف الأخطاء والنواقص وتشخيص الثغرات والعيوب، يساهم في تعزيز دور الحركة العربية لحقوق الإنسان ويشارك في الجدل والنقاش والحوار العلني حول إشكالياتها ومشكلاتها، إذْ لم يعد بالإمكان إغفالها أو غضّ النظر عنها، بحجة استفادة الأعداء منها، بل أن بحثها ومناقشتها يساعدان في وضع المعالجات للتخلص من تلك المثالب وآثارها وهو ما يقوي ويعمق الدور الذي يمكن أن تقوم به مؤسسات المجتمع المدني في مجابهة التحديات والمعوقات التي تواجهها.
ولمواجهة هذه التحدّيات تبرز أربع اتجاهات تتفاعل وتتفق وتختلف، من حيث الشدّ والإرخاء، بحيث تستمر في تجاذب حركة حقوق الإنسان العربية وهي على النحو التالي:
الاتجاه الأول:
ويمكن أن نطلق عليه «الاتجاه التصادمي»، إذ تميل بعض المؤسسات إلى اتخاذ مواقف حادة داعية إلى المواجهة والقطيعة (بين الحكومات وحركة حقوق الإنسان) وهو بتقديري اتجاه انعزالي يغلب عليه طابع التسييس، أي التأثّر بالمواقف والخلفيات السياسية، وهذا الاتجاه أقرب إلى اتجاهات بعض المعارضات أو يخضع لبعض تأثيراتها.

الاتجاه الثاني:
وهو ما يمكن أن نطلق عليه «الاتجاه التساومي» أو "التخادمي"، حيث تسعى السلطات لاحتواء أو تدجين المجتمع المدني، كما يسعى بعض العاملين في هذا الميدان وبحجة «الواقعية» إلى التخلي عن بعض المنطلقات المبدئية كالاستقلالية والحيادية وغيرها بحجة الابتعاد عن السياسة، فينصرف إلى تأييد مواقف الحكومات ويبرّر لها بعض الانتهاكات، وغالباً ما تبتلع الحكومات مثل هذه المؤسسات التي يضعف تأثيرها على المجتمع. ويمكن أن نطلق على مثل هذا التوجه بالاتجاه التخاذلي الذي يريد الانصياع للحكومات، بحجة عدم إمكانية تحقيق أهداف الحركة الاّ بالتفاهم معها.

الاتجاه الثالث: يتراوح بين التغريب والتقليد، ففي حين يميل البعض إلى كل ما هو غربي باعتباره ينسجم مع حقوق الإنسان، ينغلق البعض على الماضي رافضاً كل ما يأتي منه، بحجة الاستتباع.

الاتجاه الرابع:وقد برزت وهو ما يمكن أن نطلق عليه الاتجاه التصالحي أو " الاتجاه التفاهمي" أو " التوافقي" الذي يسعى إلى فتح حوار مع الحكومات وصولاً إلى المداولة والشراكة، وذلك بعيداً عن التصادم أو التخاذل والتخادم. وبتقديري فإن هذا الاتجاه هو الأقرب إلى العقلانية والمهنية والنظرة الإستراتيجية البعيدة المدى، وهو يقوم على النقد والتعاون، أي التطوير عبر التدرّج والتراكم وصولاً للتغيير في المجالات المختلفة. فمؤسسات المجتمع المدني وحركة حقوق الإنسان بطبيعتها لا تسعى للوصول إلى السلطة، كما هي ليست جزءًا من الصراع السياسي وهدفها ينحصر في تطوير المجتمع والدفاع عن حقوقه.
في الفترة الأخيرة محاولات تدعو وتشجع على الاستقواء بالخارج وأحياناً بالترويج للتوافق بين مشروعها والمشروع الخارجي، ولعلّ حساسية الحكومات شديدة إزاء أي محاولات للارتباط أو الاستقواء بالخارج، مثلما هي حساسية الشارع العربي إزاء الاملاءات الخارجية والدعوات الأجنبية حتى وإن كان بعضها إيجابياً، إلاّ أنها ستكون مشوبة بالكثير من عوامل الارتياب والشك.
وزاد الأمر التباساً أن بعض الحكومات تحاول عزل أية دعوة للإصلاح أو التغيير أو الاحتجاج بحجة أنها من صنع الخارج، الأجنبي، المشبوه. وقد واجهت الحكومات العربية جميعها الاحتجاجات العارمة التي انطلقت في تونس ومصر، بتهم جاهزة بأنها من تحريك أيادي أجنبية وأن هناك بعض المندسين والمدسوسين يقومون بأعمال تخريبية تريد إشاعة الفوضى وغيرها من التبريرات، ومع أن القوى الخارجية يمكن أن تستثمر الوضع لصالحها وأن تدفع بالاتجاه الذي يخدم مصالحها، لكن المشكلة هي داخلية بامتياز.
أما أهم المشكلات الفكرية والعملية التي تواجه الحركة العربية لحقوق الإنسان فهي:
أولاً – انصراف بعضها للتصدي لمهمات سياسية بما يخالف طبيعتها ودورها التنويري، خصوصاً وأن هناك العديد من المنظمات التي تم تأسيسها في السنوات العشر الماضية كان واجهة أو امتداداً لتيار أو حزب سياسي أو ديني أو عقائدي أو غير ذلك، وذلك لمعرفة الجهات التي تقف خلف إمكانية التأثير على أوساط مختلفة عبر يافطة حقوق الإنسان.
ثانياً– ضعف الثقافة الحقوقية، بل أن هناك نقصاً شديداً وفادحاً في الوعي الحقوقي والديمقراطي في المجتمع بشكل عام وفي بعض أوساط الحركة العربية لحقوق الإنسان بشكل خاص.
ثالثاً– غياب أو ضعف المبادرة على المستوى الفكري والعملي، وخصوصاً عدم التوجّه لدراسة الظواهر الجديدة كالعولمة، والإرهاب الدولي، والتدخل الإنساني، والإصلاح والديمقراطية، والخصوصيات الوطنية والدينية والثقافية.
رابعاً– تغليب الحقوق المدنية والسياسية على حساب الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لدرجة أن هذه الأخيرة غالباً ما تُهمل أو ُتنسى. والقليل من منظمات حقوق الإنسان والحركة الحقوقية العربية بشكل عام تبحث في حق العمل، والتعليم، والصحة، والضمان الاجتماعي، وحق السكن، والتمتع بمنجزات الثقافة إضافة إلى الحقوق الثقافية، تلك التي لا تقل أهمية عن حرّية التعبير وحق المشاركة السياسية والحقوق الأخرى.
خامساً– إن الغالبية من أطراف الحركة العربية لحقوق الإنسان اتجهت إلى أن تصبح «قوة احتجاج» وقد آن الأوان لتتحول إلى «قوة اقتراح» وتنتقل من «قوة اعتراض» إلى «قوة اشتراك» ومثل هذا الدور يمكنه أن يؤثر على مسار الأحداث ويزيد من هيبة المنظمات ومكانتها خصوصاً بعد فترة من التجريب.
سادساً– التناقض الذي تقع فيه العديد من أطراف الحركة العربية لحقوق الإنسان، لاسيّما إزاء القضايا الحساسة مثل الخصوصية والشمولية، المحلية والكونية، الوطنية والعالمية، وغيرها ... ومثل هذه الموضوعات تثير جدلاً وتباعداً بين بعضها، خصوصاً في ظل غياب الحوار أو ضعفه أو عدم الأخذ باستحقاقاته، مما يتطلّب تعاوناً وبحثاً وتوافقاً بينها لتقديم رؤية منسجمة أو متقاربة إزاء القضايا والتحديات المطروحة على بساط البحث.
سابعاً– الارتياب أو الاغتراب وهو ما تقوم به بعض منظمات حقوق الإنسان في العلاقة مع الأخر سواء كان أوروبياً أو أمريكياً، غربياً أو عالمياً أجنبياً، بحجة أنه يريد نشر الرذيلة وكأن مجتمعاتنا مثالاً للفضيلة فكل شيء أجنبي غريب وكل غريب مريب، بل هو اختراع مشبوه حسب بعضهم. وبعضهم الأخر يرى في كل ما هو وارد من الخارج حالة تقدمية وحضارية متطورة حتى وإن كان الوارد هذا يسيء إلى المقدسات والمثل والقيم.
صحيح أن العالم أصبح قرية صغيرة وأن هناك المشترك الإنساني لكنه الصحيح أيضاً أن هناك مقدسات وخصوصيات لا يمكن التجاوز عليها أو التحلّل منها تحت أي سبب كان، وبخاصة تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف والرسالات السماوية، وإن كان علينا تأكيد الحق في الاختلاف وإقرار التنوّع والتعددية بروح التسامح وقيمه.
ثامناً– ضعف أهلية بعض القيادات التي ظلت متشبثة بمواقعها والتي تريدها مخلدة وكأن بعض المؤسسات أقرب إلى الشخصانية التي تجمع الأتباع والمؤيدين على حساب حيوية وديناميكية هذه المنظمات. ويتعلق الأمر أيضاً بنضوب الجاهزية الفكرية لدى بعض القيادات والمنظمات التي تحتاج إلى دماء جديدة أكثر حيوية وشباباً.
تاسعاً– ضعف الهياكل والتراكيب التنظيمية للعديد من مؤسسات حركة حقوق الإنسان وضعف نظام المعلومات والاتصال والوسائل التقنية، وفي أحيان غير قليلة تندلع منافسات وعداوات بين بعض القيادات والمنظمات بعيداً عن الاعتبارات المشروعة، بل أن بعضها يقوم على أساس الحساسيات والأمزجة.
عاشراً– إشكالية التمويل التي ظلت محصورة في المراوحة بين القبول المطلق والرفض المطلق بعيداً عن الضوابط ومعايير الاستقلالية والحياد. وهناك بعض المنظمات تأتمر بأوامر من الخارج وهو ما يضعف دورها أمام الحكومات التي تستغل هذه القضايا لاتهام الحركة العربية لحقوق الإنسان بكاملها أحياناً، وربما تخوينه وتجريمه. كما أن هناك ضعفاً في التمويل العربي لمؤسسات حقوق الإنسان، ولعلّ بعض القوانين المحلية والعالمية تحول دون ذلك، خصوصاً وأن هناك الكثير من التخوّفات لتقديم مساعدات أو تبرّعات لمؤسسات خيرية أو مدنية بعد حملة مكافحة الإرهاب الدولي وأحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة، وكذلك أعمال الإرهاب التي استهدفت العديد من البلدان العربية وبلدان العالم أجمع.
والملاحظ من خلال ما تقدّم أن بعض الإشكاليات والمشكلات التي يعاني منها المجتمع المدني العربي كانت قد انتقلت عدواها من الحكومات وبعض المؤسسات الرسمية، وهو الأمر الذي يتطلب المكاشفة بهدف وضع الحلول والمعالجات لكي تقوم الحركة العربية لحقوق الإنسان بدورها في تعزيز وتطوير المجتمع ككل وفي تقديم العون والمساعدة للدولة للمساهمة في عملية التنمية والنهوض وذلك من خلال تعميق دورها لتكون قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، وقوة انسجام وتواؤم وليس قوة اعتراض أو رفض فحسب على أن تتجنب الانخراط في الصراع السياسي والإيديولوجي ووضع مسافة واضحة ومحددة بينها وبين الحكومات والمعارضات السياسية وتمسكها باستقلاليتها وحياديتها وسلمية وتدرجية المجتمع الذي تريد تطويره وتفاعلها مع كل فعل إيجابي.
ومن أهم الثغرات والمثالب في الحركة العربية لحقوق الإنسان هي:
1. غياب استراتيجيات عمل محددة وواضحة، وعدم توفر معايير الحد الأدنى من الفهم المشترك لطبيعة عمل حقوق الإنسان وفلسفته وأهدافه ووظيفته.
2. ضعف الهياكل والتراكيب التنظيمية، بل استصغارها أحياناً، خصوصاً ما يتعلق بدور المؤسسة، ومحاولة التسلق عبرها أحياناً للحصول على وظيفة سياسية أو مركز حزبي أو حكومي.
3. عدم وجود تخصص في العمل، الذي من شأنه أن يمنح القوة والفاعلية، فمعظم مؤسسات حقوق الإنسان تعمل في مجالات قطاعية متعددة فهي: ترّوج للديمقراطية، وتدعو لحقوق الإنسان، وذلك من خلال تعليم حقوق الإنسان أو التربية عليها وبثقافة حقوق الإنسان وإعلام حقوق الإنسان، وترصد الانتهاكات، وتكتب الدراسات والتقارير، وتهتم بنفس القدر بحقوق المرأة والطفل، وفي مجالات العمل الخيري والإنساني، والإغاثة، والمعوّقين وذوي الاحتياجات الخاصة وغير ذلك، مما يجعلها منظمات مركزية تهتم بكل الجوانب لكنها لا تختص بجانب منها مما يضعف قدرتها في تراكم الخبرة.
4. غياب الخبرة العملية وعدم وجود كوادر متخصصة أو مدربين، والافتقار إلى المهارات والدراسة والخبرة بعمل مؤسسات المجتمع المدني بشكل خاص والعمل العام بشكل أوسع، ويعود الأمر إلى حداثة العمل في هذا الميدان وعدم وجود معرفة نظرية.
5. ضعف المهنية والحرفية، خصوصاً في ظل انحيازات واستقطابات طائفية وإثنية، مما يؤثر على صدقية الكثير من المنظمات، والكثير من القيادات ظلّت محكومة بمعادلات غير مهنية سياسية أو طائفية أو حزبية أو دينية أو عشائرية أو جهوية أو غيرها.
6
إن غالبية المؤسسات الحقوقية سواءً الناشئة حديثاً أو الموجودة قديماً فضلاً عن أن قياداتها وكوادرها جاءت من الوسط السياسي وبشكل خاص الراديكالي: يساري، قومي وفيما بعد إسلامي، أتقنت ثقافة المعارضة والثقافة الاجتماعية والانتقادية والمطلبية والتوظيف السياسي في أحيان غير قليلة، لكنها لم تتقن الثقافة الاقتراحية، البرنامجية، المنهجية، ولهذا ظلّت حركتها أو ممارساتها أقرب إلى الأداء السياسي المعارض أو الرافض، مما أوقع بعضها في إطارات انعزالية أو ساهم في تقريبها من بعض الأوساط السياسية بما فيها تلك التي تتعارض مع فكرة فلسفة المجتمع المدني.
لعلّ حركة الاحتجاج والتغيير التي انفجرت في العالم العربي منذ مطلع العام 2011 تستوجب من الحركة العربية لحقوق الإنسان دراسة عدد من الظواهر والإشكاليات الجديدة، منها العلاقة بين الدين والدولة في الدساتير العربية الجديدة، ومسألة اللامركزية والفيدراليات المطروحة في عدد من البلدان العربية، وعلاقة الجيش بالمؤسسة المدنية ودوره اللاحق، والدور المزدوج للمؤسسة الدينية ارتباطاً بقضايا حقوق الإنسان سلباً وإيجاباً، دور التربية والتعليم في تعزيز الثقافة الحقوقية، ودور الإعلام في نشر وتعميق الوعي الحقوقي.
وما السبيل للحفاظ على الحقوق والحريات، والتفريق بين العمل السياسي والأعمال الإرهابية والعنفية، وبين العمل الحقوقي والعمل السياسي، وبين المهني والوظيفي؟ وكذلك البحث في أهمية إجراء انتخابات حرّة ونزيهة وترسيخ قاعدة الحق في التنظيم وبناء القدرات، وخصوصاً بعد رفع الحظر عن السياسة التي كانت مؤممة لسنوات طويلة، وكل ذلك يحتاج إلى نقاشات معمّقة ودراسات موسّعة وحوارات جادة على مستوى عربي للبحث في القاسم المشترك، وعلى المستوى القطري في كل بلد مع مراعاة خصوصياته.
وهنا لا بدّ من رفد الحركة بدماء جديدة، فجيلنا قدّم ما لديه بما له وما عليه، وعلينا نقد تجربتنا موضوعياً، لكي يستفيد منها الجيل الجديد، ولاسيّما الشباب وبشكل خاص لا بدّ من إعطاء دور متميّز للمرأة في إدارة المنظما الحقوقية، كما ينبغي الاهتمام بالحقوق الثقافية التي ظلّت خارج دائرة الاهتمام، أو أن الاهتمام بها كان محدوداً، لاسيّما حقوق المجاميع الثقافية الدينية والإثنية واللغوية والسلالية وغير ذلك انطلاقاً من فكرة العيش المشترك، وتساوقاً مع التطورات الاجتماعية، وإعادة اللحمة الوطنية للهويّات المتنوّعة والمختلفة.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محاضرة ألقاها الباحث في القاهرة في المؤتمر الإقليمي الذي نظمه مركز التأهيل والمعلومات لحقوق الإنسان (تعز) ومؤسسة المستقبل الدولية (التي مقرها عمان ) والمنظمة العربية لحقوق الإنسان (القاهرة) والبرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان (القاهرة) في 19-20 أيار (مايو) 2014.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من مذبحة ماي لاي إلى سجن أبو غريب!
- ما بعد الانتخابات العراقية: حقل الألغام الطويل!
- 4 تحدّيات و4 اتجاهات في حركة حقوق الإنسان
- فضاء الشيوعية وهواء الصندوق!
- روسيا وأوكرانيا.. حزام الأزمات
- أوكرانيا وانزلاق الهوية
- - سبايا- بوكو حرام!
- تدمير الهوية الثقافية العربية
- ضوء على رسالة جاسم الحلوائي- شبح عامر عبدالله ومكر التاريخ !
- هل ثمة مفاجآت في انتخابات الجزائر؟
- للانتخابات “فلسفة”
- المياه والسلام: الأمن المائي في الشرق الأوسط
- المبادرات الكونية والحوار الحضاري
- ماركيز: عزلة أمريكا اللاتينية وعزلتنا
- تراجيديا اختفاء المطرانين اليازجي وإبراهيم
- زمن الانتخابات!
- هيروشيما: الألم والجمال!
- - حالة حقوق الإنسان لا تسرّ أحداً-
- ديون العالم الثالث!!
- المصالحة الوطنية وتجربة إيرلندا


المزيد.....




- مغني راب إيراني يواجه حكماً بالإعدام وسط إدانات واسعة
- -حماس- تعلن تسلمها ردا رسميا إسرائيليا حول مقترحات الحركة لص ...
- تحتاج 14 عاماً لإزالتها.. الأمم المتحدة: حجم الأنقاض في غزة ...
- اليمنيون يتظاهرون في صنعاء دعماً للفلسطينيين في غزة
- عائلات الأسرى تتظاهر أمام منزل غانتس ونتنياهو متهم بعرقلة صف ...
- منظمة العفو الدولية تدعو للإفراج عن معارض مسجون في تونس بدأ ...
- ما حدود تغير موقف الدول المانحة بعد تقرير حول الأونروا ؟
- الاحتلال يشن حملة اعتقالات بالضفة ويحمي اقتحامات المستوطنين ...
- المفوض الأممي لحقوق الإنسان يعرب عن قلقه إزاء تصاعد العنف فى ...
- الأونروا: وفاة طفلين في غزة بسبب ارتفاع درجات الحرارة مع تفا ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - عبد الحسين شعبان - نحو رؤية عقلانية للحركة العربية لحقوق الإنسان