أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - من مثال الدولة إلى المقاومات الاجتماعية















المزيد.....

من مثال الدولة إلى المقاومات الاجتماعية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 4458 - 2014 / 5 / 20 - 11:51
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


نميل عموما إلى قياس الدولة المحققة في بلداننا إلى نموذج معياري عالمي، يبدو متحققا في بلدان الغرب، وتتلخص سياستنا تاليا في وجوب مطابقة النموذج العالمي والتماثل معه. كيف؟ بأن نتصور أن مشكلاتنا الحاضرة نتاج نقص أو غياب (نقص تبنين المجتمع، غياب الدولة الأمة، غياب الديمقراطية، غياب الطبقة العاملة أو البرجوازية، نقص العقلانية أو غيابها...)، ونسعى وراء اكتمال الناقص أو حضور الغائب. مشكلة هذا التصور أنه ينطلق من المثال الواجب بلوغه، وليس من واقع مفحوص بعناية، أو من صراعات فعلية لا يبدو أنها تسير بخط مستقيم نحو هذا المثال.
ليس هذا مسلكا فكريا أو سياسيا جديدا في عالم العرب المعاصرين، وهو يقود على نحو متكرر إلى ظهور تيارات تفكير ومجموعات سياسية تعرف نفسها بالأهداف الأخيرة التي تتطلع إليها، لا بفاعليتها الفكرية والعملية المتجددة. هناك استراتيجية فكرية سياسية راسخة، تضمن دوام هيمنة هذه المسلك: عقيدة التأخر التاريخي، وتجاوز التأخر كمطابق مع مثال ناجز. واستنادا إلى هذه الخطة يجري تصور النشاط العملي انطلاقا من الهدف المتصور، الأمر الذي يجعل عملنا تطبيقا لفكرة سابقة عليه ومستقلة عنه، وتفكيرنا مثاليا، وتصورنا للتاريخ مغلقا، وثقافتنا سياسة، وسياستنا تعبئة. نظن أننا نفعل مثل الغرب، لكن الغرب يفعل غير، ولا يفعل مثل.
ومثل هذا التكوين هو ما ينعكس في ضيق أكثرنا بأي نقد للمثال المفترض بذريعة أننا متأخرون عنه. عدا أن في ذلك تضييق تعبوي لأفق التفكير، فإن ثلاثة أجيال وأكثر من هذه الاستراتيجية لم تقد إلى "تجاوز التأخر"، بل إلى تدهور مركب ومتعدد المستويات. "المثال" لم يتوقف في انتظارنا، وبينما عيوننا مثبتة عليه، كان صار في مكان آخر.
ترى، ألا يحتمل أن تعثرنا الفكري والسياسي المستمر مرتبط بهذه المثالية المعندة؟ هذا ما نراه.
بدل تصور مثال عالمي كامل أو متطور، تشكل الدولة عندنا نموذجا "ناقصا" أو "متأخرا" عنه، نميل بالعكس إلى تصور الدولة عندنا كدولة "كاملة": قوة مسلحة تمارس عنفا بلا حدود ضد سكان تستعمرهم. دول العالم الأخرى ليست نموذجا مختلفا، فهي بدروها وكالات عنف، تمارس إكراهات مختلفة، منها ما هو عنيف وقاتل، لكن تتحدد كلها بالمقاومات الاجتماعية التي تواجه بها. ليس هناك ذاتية خاصة بالدولة تجعلها منضبطة وقانونية "شرعية" مرة، وعدوانية وغير شرعية مرة أخرى. والعنف الشرعي الذي عرّف ماكس فيبر الدولة باحتكاره، هو محصلة توازنات متغيرة، وليس معطى ثابتا لا يتبدل. كان الإعدام من عنف الدول الشرعي، وهو في كثير منها لم يعد كذلك. ولا يبعد أن ينعكس المسار يوما إذا تفجرت في تلك الدول أزمات ثورية. تظهر الدول على "طبيعتها" في أوقات الثورات والأزمات الكبرى، حين تواجه بمقاومات لم تألفها، وليس لها حلول عادية. تلجأ إلى العنف المطلق، وإلى الاستعباد.
الدولة الأسدية في سورية على نحو ما ظهرت في الثورة، هي الدولة في كل مكان من العالم، عصبة مسلحة عنيفة تتعامل مع السكان كعبيد أو أتباع. في بنية الدول في كل مكان من العالم استعداد مماثل، ولعله لذلك بالذات تجري المحنة السورية المتمادية أمام أنظار عالمية لا تكاد حتى تتعاطف. الدول لا قلب لها، وكلام الدول على حقوق الإنسان أداة لسياستها الخارجية لا أكثر ولا أقل.
الدول الأخرى "ناقصة"، لا تستطيع أن تفعل ما يفعله النظام الأسدي، لكن ليس لأن لها جوهرا مغايرا، وإنما بفعل شروط اجتماعية وسياسية وفكرية تشكلت تاريخيا، تحول بينها وبين أن تتبع غرائزها العنفية والاستعبادية. ليس بين الدول ما لها غريزة مغايرة. ما يختلف هو "تربية الدولة"، أو ترويضها. الدول كلها وحوش كاسرة، وتبقى جميعها دون استثناء كاسرة حتى اليوم، لكن بعضها تروّضت بمقدار وبعضها غير مروض. وهي كلها أيضا مقاومة للترويض، ويحصل أن تتعثر العملية أو تسجل تراجعات، وتتوحش الدولة أكثر بعد أن كانت قبل حين أقل توحشا. النازية الألمانية مثال بين أمثلة كثيرة. لكن ليس بين الدول ما ولدت دولة قانون ومؤسسات شرعية.
وما يتعين أن يشغل الأولوية في هذا المنظار ليس مثال الدولة المغاير، بل فاعلية الترويض. هو المقاومات الاجتماعية والسياسية والفكرية ضد العصبة المسلحة التي هي الدولة.
لا نقول بحال إن الدول مثل بعضها، هذا موقف عدمي يتنكر للفاعلية البشرية والتراكم التاريخي، ويؤول عمليا إلى الإرهاب. إرهاب كان يسوغ نفسه في أوربا قبل أقل من جيلين بوجوب دفع الدولة إلى السفور عن وجهها الإجرامي. ما نقوله إن الدول كلها مصنوعة من المكونات نفسها، مثلما تتكون العناصر الكيمائية كلها، من الهدورجين إلى اليورانيوم، من الإلكترونات نفسها والبروتونات نفسها والنترونات نفسها. ما نقوله أيضا إن فشل الدول المتزايد في إقليمنا هو فشل للدولة، لنموذج الدولة في العالم. وستكون له آثار عالمية حتما. منذ الآن نرى الدول الأوريية تنصب أسوارا عالية في وجه اللاجئين السوريين. من هم داخل الأسوار صاروا أكثر أمنا. فهل سيبقون أكثر حرية؟ سنرى.
ونقول فيما يخص أوضاعنا المعاصرة بوجوب التحول من مركزية المثال إلى مركزية أفعال المقاومة والترويض الاجتماعية والسياسية والفكرية، هنا والآن.
بدل الدعوة إلى المثال الديمقراطي مثلا، نعترض على أفعال العدوان والجور هنا والآن، ونعمل على وضع قواعد وبناء أوضاع تحول دونها. وبدل مثال اشتراكي في وقت سابق، نقاوم هنا والآن ممارسات التمييز والإفقار، ونعمل من أجل أوضاع أكثر عدالة. ونعيد بناء حركاتنا السياسية ومثلنا التحررية انطلاقا من عمليات الصراع الفعلية. أقدامنا على الأرض، لكن نتحرك في آفاق مفتوحة في كل حال.
يلزم أكثر من كل شيء آخر التخلص من المنظور التاريخاني الذي يُعرِّف الواقع المعاش بمستقبل مستشرف، محقق في الغرب. الأقدام في الهواء، لكن الأفق مغلق، وفقا لاستراتيجية تجاوز التأخر هذه التي بلورها الأستاذ عبدالله العروي. إنها استراتيجية امتصاص "الصدمة الغربية" (بتعبير هشام جعيط) عبر تحويلها إلى تأخر تاريخي، يجري العمل على تداركه بالفاعلية الإيجابية للمثقف والسياسي. لكن نرى أن هذه الخطة المستبطنة في عمل المثقفين في العالم العربي، كلهم تقريبا، قادت إلى تفاقم التأخر وتحوله إلى بؤس مقيم. لقد حصلنا فعلا على ارتسام البنية الاجتماعية للفكر الوافد في أفق مجتمعنا، كما يقول العروي، لكن حصل ذلك على شكل "عالم أول داخلي"، هو الذي يتصرف كعصابة مسلحة اليوم في مواجهة احتجاجات العامة المفقرة والمحتقرة، بينما "العالم الأول الخارجي" يرقبه بابتهاج خجول. أعتقد أن هناك علاقة ضرورية بين تركيز العقل في مثال للدولة أو للحزب، يجري التطلع إليه، ويؤتمن عليه المثقفون والسياسيون، وبين إشغال هؤلاء المؤتمنين المواقع العليا في نظام المجتمع، يتحكمون بغير العاقلين، ويحرسون الأوضاع التي تكفل استمرار "العقل"، والسلطة، محتكرين بأيديهم.
يلزم بقوة أكبرالتحول من تصور السياسيين والمثقفين وكلاء للتقدم (أو الحداثة أو العقل...) إلى تصورهما مكافحين ضد التمييز والاستعباد، هنا والآن ودوما، وليس في مستقبل مستشرف. والتحول تاليا من التعبئة حول هدف نهائي سبق تصوره، إلى التضامن من أجل عمل مشترك، ومن أولوية المستقبل إلى أولوية الحاضر. وعلى مستوى التنظيم التحول من الحزب/ الهدف إلى المنظمة/ العمل.
في المجمل، التحول من المثالية والمجرد إلى الواقعية والفاعلية الحية. لا نريد المزايدة على الأستاذ العروي، لكن هذا ما يمكن أن يكون نقلة في التفكير توافق روح الحداثة.
والنقد الواجب للمثالية في تفكيرنا الاجتماعي والسياسي يمر عبر نقد هذا الضرب من المثالية الحداثية التي لا تقل أثرا سلبيا عن المثالية الدينية، ولو لأنها تعرض نفسها كبديل بديهي، بينما هي في الواقع انغلاق بديل.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أبو عدنان فليطاني
- سورية تحت احتلالين، وهناك حاجة لحركة تحرر وطني جديدة/ حوار
- -القاعدة-... امبراطوريتنا البديلة
- تطور لا متكافئ مركب للأوضاع السورية
- مقاومة بالتذكر: جانب من سيرة دعوة -المصالحة الوطنية-
- الكتابة بالعين والكتابة بالعينين
- نظرة إلى اقتصاديات السياسة والحرب والعمل العام
- بصدد تحركات بشرية مرافقة للصراع السوري
- ثلاث ملاحظات على مقاربات سيمورهيرش وروبرت فيسك
- أربعة أبطال واضحين في أسطورة...
- فرصة لثقافة تحررية، ولسياسة مغايرة
- الثورة والسياسة: ميادين عمل
- سورية والعالم/ سورية في العالم
- عام رابع: من ال-مو معقول- إلى المقاومة
- نهاية جيل من التفكير السياسي السوري، وبداية جيل
- الثورة والسياسة: والنقاش السياسي
- صناعة القتل الأسدية ودور المثقفين
- الثورة والسياسة: سياسيون وغير سياسيين
- الثورة والسياسة: سياسة بلا أفكار
- أين الأخلاق في مشاريع الإسلاميين؟


المزيد.....




- أبو عبيدة وما قاله عن سيناريو -رون آراد- يثير تفاعلا.. من هو ...
- مجلس الشيوخ الأميركي يوافق بأغلبية ساحقة على تقديم مساعدات أ ...
- ما هي أسباب وفاة سجناء فلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية؟
- استعدادات عسكرية لاجتياح رفح ومجلس الشيوخ الأميركي يصادق على ...
- يوميات الواقع الفلسطيني الأليم: جنازة في الضفة الغربية وقصف ...
- الخارجية الروسية تعلق على مناورات -الناتو- في فنلندا
- ABC: الخدمة السرية تباشر وضع خطة لحماية ترامب إذا انتهى به ا ...
- باحث في العلاقات الدولية يكشف سر تبدل موقف الحزب الجمهوري ال ...
- الهجوم الكيميائي الأول.. -أطراف متشنجة ووجوه مشوهة بالموت-! ...
- تحذير صارم من واشنطن إلى Tiktok: طلاق مع بكين أو الحظر!


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - من مثال الدولة إلى المقاومات الاجتماعية