أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر علي سلامة - نحو تأويل سوسيو-ثقافي لنظرية المعرفة* في مدرسة بغداد الفلسفية -القسم الأول-















المزيد.....



نحو تأويل سوسيو-ثقافي لنظرية المعرفة* في مدرسة بغداد الفلسفية -القسم الأول-


حيدر علي سلامة

الحوار المتمدن-العدد: 4385 - 2014 / 3 / 6 - 04:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تعد مسألة سيطرة وسيادة الأنماط التقليدية في نظرية المعرفة وأشكالها البلاغية في خطابنا الفلسفي العراقي، واحدة من كبرى الاشكاليات المهمة التي لازالت تلعب ادوار مختلفة في صناعة النص الفلسفي التقليدي، ذلك النص الذي اتسم بغياب البعد الاشكالي والنقد الابستمولوجي لمجمل الانساق الفلسفية السابقة، بوصفها تشكيلات ايديولوجية عملت على تكريس عادات اكاديمية ارتكاسية في كتابة النص الفلسفي؛ واختيار ثيماته الفلسفية، بل وحتى فهرسة وتداول ذلك النص. وعند تتبعنا لطبيعة تحولات النص الفلسفي من الفترة الأولى، المتمثلة في جيل الرواد المهندسين لذلك لنظام المعرفي ولنظرياته الفلسفية، سنجد أن اغلب الاجيال المتعاقبة على تلك التصورات بقيت منشغلة في نفس القضايا التقليدية للفلسفة، كقضية المعرفة التجريبية؛ والمعرفة المثالية؛ وتواريخ الفكر الفلسفي في شقيه الاسلامي والغربي. واللافت في الأمر اننا وإلى يومنا هذا نجد أن طرق ومناهج تناول "نظرية المعرفة" الفلسفية لم تتعرض إلى التغيير والنقد والتحويل، وكأنها نظرية مستقلة عن بقية الخطابات الثقافية؛ والسايكولوجية؛ واللغوية. ومن المفارقات الأخرى والكبرى في خطابنا الفلسفي السابق واللاحق، انه تعامل مع نظرية المعرفة بطريقة ارثوذكسية، بمعنى أن جيل الرواد و منذ لحظة تدشينه للنص الفلسفي، عمل على استبعاد ذلك النص من اهتمامات العلوم الإنسانية وخطاباتها، فلا يمكننا أن نجد مثلا قراءات نقدية وتحليلية لنظرية المعرفة من خلال اعتماد احدث نظريات الفسيولوجيا؛ والسايكولوجيا؛ والتحليل النفسي؛ والدراسات الثقافية ونظريات الثقافة والمادية الثقافية... الخ، بل على العكس من ذلك، نلحظ وجود حالة من الاهمال الايديولوجي في تحقيق تواصل ابستمولوجي بين نظرية المعرفة والعلوم النسبية والمتغيرة. أضف إلى ان ذلك الجيل اعتمد منذ البدء على سياسات معينة في إنتاج وإعادة انتاج النص الفلسفي، تجاوزت تحليل نظرية المعرفة تحليلا علميا، خارج كل الانماط القبلية والتجريبية والحدوسية والغنوصية، وذلك للحفاظ على سيادة مبدأ: "كمالية المعرفة وتجريد الوجود"، وبالتالي لتبقى نظرية المعرفة منفصلة عن العمليات الذهنية المتغيرة، أو سيرورة المقولات الذهنية وارتباطها "بالاطر السوسيولوجية للمعرفة". لذلك تنصب محاولتنا هذه على مراجعة الارشيف الفلسفي والميتافيزيقي ولتواريخ الرسائل الجامعية المحفوظة في ذلك الارشيف، حيث من اهم ما لاحظناه، افتقار اغلب تلك الرسائل إلى قراءات نقدية وتحليلية لبنية نظرية المعرفة من الناحية الانطولوجية؛ المنطقية؛ الثقافية؛ السوسيولوجية ...الخ، وكأن هنالك حالة اشبه بالسلفية الأكاديمية المعتمدة والمتعمدة في تكريس اشكال ارثوذكسية ولا تاريخية في إنتاج نظريات معرفة ايديولوجية، تؤسس لبقاء كل ماهو سلطوي؛ بديهي؛ شمولي؛ ميتافيزيقي، مسيطرا على صيرورة العملية الفلسفية، الأمر الذي يجعل نظرية المعرفة بعيدة عن التساؤل الابستمولوجي والانطولوجي، وقد تناول الفيلسوف الالماني مارتن هيدغر اشكالية قداسة نظرية المعرفة في الفلسفة، فرأى:(( أن الفضيحة الحقيقية للفلسفة تتمثل في اللاتساؤل النقدي لسلطوية ومركزية نظرية المعرفة في الفلسفة المعاصرة،..... ان نظرية المعرفة امتزجت في ذاتها بنظام ميتافيزيقي دوغمائي مفترض))(1).
وبطبيعة الحال أن نسيان الخطاب الفلسفي التقليدي لسؤال نظرية المعرفة الاشكالي، سيؤسس بالضرورة لنسيان الوجود والكينونة، طالما كان المنطق القبلي والغيبي هو الاساس للنظام المعرفي والانطولوجي للوجود، رغم أن ((سؤال الوجود سابق على كل اسئلة الفلسفة واشكالاتها))(2). لكن كيف يمكن لخطابنا الفلسفي الذي أستغرق منذ تأسيسه في الفلسفات الافلاطونية والارسطية أن يستأنف سؤال الكينونة والفلسفة وكيف له أن يتحرر من هيمنة تلك الأنساق الشمولية والميتافيزيقية؟ وهل ينبغي لنا أن نعود لأعمق واقدم مدونات ارشيف ذلك الخطاب بوصفها قدرنا الميتافيزيقي، الذي شطر وجودنا بين جدل الأنساق النظرية والابستمولوجية المنفصلة عن جدل المعرفة؟ ثم لماذا بقي سؤال المعرفة والوجود في خطابنا الفلسفي بعيدا عن التساؤل والنقد؟وهل تمأسست كتاباتنا ورسائلنا الفلسفية بذلك النسيان الانطولوجي للوجود وللانسان وللمعرفة؟
فعندما نعيد قراءة ارشيفنا الفلسفي، فإننا سنتناول وقائع وحقائق لازالت راسخة في متخيل الخطاب الفلسفي العراقي، ذلك الخطاب الذي لم يدرك إلى هذه اللحظة طبيعة العلاقة الانطولوجية بين نظرية المعرفة والوجود، رغم ان تلك العلاقة حبرّت لها آلاف الاوراق والكتب والرسائل والطروحات الجامعية، الا أن "اشكالية الذات العارفة" بقيت مركزية ومسيطرة على ذلك النتاج الفلسفي، كما هو الحال عليه في الفكر الغربي فهو الاخر طالما عانى من تلك المركزية، لدرجة ان ((المجتمع الغربي وضع قيمة كبيرة للذات العارفة، دون أن يضع ادنى اعتبار للذات الموجودة، ولم يخجل من حقيقة المستوى الضئيل لوجوده، بل ولم يفهم أيضا ماذا يعنيه ذلك الوجود، ولم يدرك أن معرفة الانسان تعتمد على مستوى وجوده))(3).
لذلك اتسمت اغلب كتاباتنا الفلسفية بالتجريد النظري والتعالي المفاهيمي، مما جعلها بعيدة عن طرح أي إشكالية ثقافية ذات مساس بوجود الانسان في العالم، فماذا يعني أن تزداد تلك الكتابات حجما وكما وتراكما، على حساب نسيان سؤال الوجود! فأي ((معرفة تنتج بمعزل عن الوجود، ستكون نظرية ومجردة، وغير قابلة للتطبيق العملي في الحياة، وضارة في الواقع، فبدلا من أن تخدم الناس في حياتهم وتمكنهم بطريقة افضل على تحدي الصعوبات التي تعترضهم، نراها تعمل على تعقيد حياتهم وتجلب لهم مشاكل واضطرابات وكوارث جديدة لم يألفوها من قبل))(4).
وهذا هو جوهر الخلاف والانشقاق الاكاديمي، أي الانشقاق الحاصل في تاريخ النص الفلسفي العراقي، الذي ظل يعيد إشكالية الانفصال التداولي بين المعرفة ونظرياتها؛ وسؤال الوجود المنسي. الأمر الذي جعل من المعرفة تتشكل بطريقة بيداغوجية تسيرّها مجموعة من الأنساق والاهواء التي تتحرك لصالح جهات محددة، ليتحول بذلك مفهوم الوجود الى مفهوم شخصي وليس اشكالي، طالما كان يخدم قضايا ايديولوجية وليست فلسفية. لذلك نرى أن المعرفة لم تتصل بالوجود، الذي لازال مفهوم ميتافيزيقي في النص الفلسفي العراقي، ذلك النص الذي بقي هو الاخر يشتغل ضمن مركزياته واولوياته ومصالحه التي تأسست على طرفي نقيض مع ما يتلاءم مع هموم الوجود اليومي، ((لان المعرفة الغير منسجمة مع الوجود لا يمكن لها أن تتسع بما يكفي ويتناسب مع احتياجات الانسان الواقعية. لذلك ستكون دوما معرفة بشئ واحد مجتمعة مع جهل بالأشياء الاخرى؛ أي معرفة بجزء دون معرفة بالكل؛ أي معرفة بالشكل دون معرفة بالمحتوى))(5).
مما سبق، يتضح كيف أن الإشكالية الانطولوجية وإشكالية الوجود اليومي في العالم، إلى جانب اشكالات المعرفة ونظرياتها التقليدية، ظلت جميعها محكومة "بأنساق ايديولوجية قديمة". أضف إلى أن الخطاب الفلسفي الراهن لم ينجح في تجاوز تلك الأنساق وتقويضها، الأمر الذي ادى إلى انحسار الفلسفة وتحويلها إلى تقنيات قديمة لكتابة ونشر النص الفلسفي الرسمي. والملاحظ على بنية تلك التقنيات انها عملت على شطر المكتوب الفلسفي إلى شطرين: شطر يؤسس لخطاب فلسفي نخبوي؛ وشطر يؤسس لإلغاء "تاريخية ألعامة" من على بسيطة الخطاب الفلسفي. فعوضا عن أن يكون ذلك الخطاب "ظاهرة انطولوجية"، نراه قد تحول إلى "ظاهرة وعظية اوايقونة وعظية" تعتاش على انقاض المنطق القديم وأنظمته الميتافيزيائية والاستبدادية -بحسب العلامة علي ألوردي-، فتحولت الفلسفة بذلك، إلى "بلاغة اقطاعية أو اقطاع بلاغي"، تصنف البشر وفق منطقها الفلسفي /النخبوي المتعالي.
ومن المدهش ان خطابنا الفلسفي لاسيما التعليمي منه، لا زال يعتمد على تلك "البلاغة ونظامها الابستمولوجي الاقصائي" في تأليف ونشر الكتب المنهجية، المخصصة منها للمرحلة الاعدادية. ففي الكتاب المعنون ب"مبادئ الفلسفة وعلم النفس" للصف الخامس الأدبي، الذي اشرف على اعداده مجموعة من مختصي الفلسفة، وتضمن بعض المقدمات التاريخية والنظرية لنشأة فكرة الفلسفة وتطورها عبر التاريخ، إلى جانب استعراض مناهج ونظريات العلوم النفسية والسيكولوجية والثقافية ...الخ، لفت نظرنا، أنه استعرض لبعض من التصنيفات الايديولوجية للمجتمع والمعرفة وللاطر السو-سوسيوثقافية وللطبقات الاجتماعية، تقوم على اساس الفصل الابستمولوجي بين: المعرفة العامية والمعرفة النخبوية، متخذا من مناهج العلوم التجريبية معيارا في تأسيس مثل تلك التصنيفات. فبحسب ذلك المنهج الدراسي: ((هنالك اساليب مختلفة للتفكير، فالانسان العامي له اساليبه في التعبير عن معارفه والتي تتضمن (الاساطير والخرافات) وعدم معرفة التجارب العلمية والتحقق منها...وهناك صفات للتفكير لدى الفلاسفة، فأنهم يستخدمون قدراتهم (العقلية) وما افادوه من حقائق العلم. اما اساليب التفكير العلمي فهي تعتمد (المنهج العلمي التجريبي) والطرائق المعروفة للوصول إلى صياغة القوانين العلمية. والخصائص العامة للتفكير العامي هي: ...المعرفة العاميّة: هي المعلومات والتجارب الشخصية التي اكتسبها الانسان دون الاعتماد على التجارب العلمية والدراسية المنهجية.. وهذه المعرفة عبارة عن معارف لا تقوم بينها روابط وعلاقات بل على أساس خرافي، كالربط بين الظواهر الحسية وبين الظواهر الغيبية. ان هذه المعرفة لا ترتقي إلى مستوى التعميم والوصول إلى قانون يفسر الظواهر المحسوسة. ويتصف التفكير العامي بما يأتي:1- المبالغة: صفة من صفات رجل الشارع يعبر بها عن الحوادث بطريقة مبالغ فيها ،قد تكون مختلفة تماما لما حدث فعلا. اذن، فأول ما تتصف به المعرفة العامية هو عدم الدقة التي ينشدها العالم والفيلسوف. 2- التعميم الخاطئ: أن الفرد غير علمي او رجل الشارع اوالعامي يعمم في احكامه نتيجة حادثة أو حادثتين، دون الاعتماد على الحقائق والوقائع. 3- الذاتية المسرفة: أن اراء رجل الشارع تعتمد على الذات أو العاطفة أو بما يرضي مزاجه الشخصي، ولا تعتمد افكاره على الموضوعية في الحكم على الأشياء أو الظواهر. 4-الربط الخاطئ بين الظواهر: مثلا، ينسب الشخص العامي (المرض) إلى الارواح الشريرة، أو يفسر حادثة (موت) شخص بظاهرة نعيق البوم، في حين لا توجد رابطة اوعلاقة بين الظاهرتين مطلقا. ان هذا النوع من التفكير ينسب الاحداث إلى (علل أو اسباب)غيبية، لا يمكن التثبت منها بالتجربة الحسية، فكسوف الشمس، وخسوف القمر قد ينسبها مثل هذا التفكير الى (حوت خرافي يبتلعهما) أو غيرها من العلل الوهمية الغيبية. خصائص التفكير العلمي: هناك صفات معينة يتصف بها التفكير العلمي، تجعل البحث ناجحا لانه قائم على أسس صحيحة تعتمد على اكبر جهد ممكن في سبيل جمع اكبر عدد من الظواهر التي يقوم بدراستها. 1-الشك المنهجي: أن الباحث الذي يبحث عن أليقين لابد أن يتخلص من الأفكار الخاطئة التي تفسد بحثه وتعوق من انطلاقه. ومن خلال الشك المنهجي يستطيع أن يتحرر من كثير من الأفكار الخاطئة. 2-الموضوعية: تعني الموضوعية أن يقوم الباحث بالبحث في ظاهرة ما دون تدخل ذاته وعواطفه ومزاجه الشخصي، ويتعامل مع موضوع دراسته كما هو في الواقع، لا كما يتمنى ويرغب. فالعلم يصف الأشياء وتقريرها كما هي. يرى (كلود برنار) اذا اختلف العلماء مثلا على دراسة ظاهرة من الظواهر، فأنهم يحسمون الخلاف بالالتجاء إلى الواقع، ومحك الصواب عندهم هو (التجربة) التي يمكن تكرار اجرائها للتثبت من صحة النتائج بطريقة موضوعية. 3-التكميم: أي تحويل الكيفيات إلى كمية ومقدار، فأذا درس الباحث (الصوت) رده إلى (الذبذبات)، واذا درس الحرارة ردها إلى (الموجات) الحرارية... 4-التعميم: يقصد بهذا المبدأ ان الباحث يقوم بأحصاء غير محدود من الظواهر وتعميمها.... 5-التجربة: أن العالم الذي يدرس ظواهر الطبيعة الواقعية لا يستمد حقائقه الا من التجربة الحسية. 6-التحقق: يعني التأكد من صحة النتائج التي يتم التوصل اليها عن طريق إعادة اختبارها،وذلك بالرجوع إلى التجربة في الواقع.... خصائص التفكير الفلسفي: تختلف الموضوعات التي يدرسها كل من الفلسفة والعلم، فالعلم يدرس الظواهر الحسية ويقوم بدراستها بالمنهج العلمي التجريبي الذي يعتمد المشاهدة والتجربة، اما الموضوعات التي تدرسها الفلسفة فهي مختلفة لأنها تصطنع مناهج أخرى تسمى(مناهج الاستنباط العقلي)، انها لا تدرس الظواهر الجزئية- كما تفعل العلوم ألطبيعية- بل تدرس الوجود بشكل عام-الوجود المادي، والوجود غير المادي. واهم خصائص التفكير الفلسفي هي: أولا- الشك: من الخطوات الاساسية للمعرفة الحقة، والمقصود هنا: من اجل الوصول إلى الحقيقة وعدم التسليم بكل ما يقال الا بعد التأكد منه. ثانيا-الاستقلال:أن الفيلسوف يستخدم عقله في معرفة الأشياء، ولا يعتمد في تفكيره على اجماع الناس..لأنه قد يجمع الناس على الاعتقاد ببعض الخرافات والاساطير التي لا يقبلها العقل السليم. ثالثا-المرونة: وتعني أن الفيلسوف يكون قادرا ومستعدا للتخلي عن آرائه اذا ثبت عدم صحتها..وهذا يدل على الروح العلمية الصادقة.رابعا-التجرد من العاطفة: يجب عدم ادخال العاطفة في الموضوعات التي يتم البحث فيها –أي ابعاد التأثيرات الانفعالية عن التفكير))(6).

أن بنية النصوص اعلاه، تطرح علينا إشكاليات لامتناهية. فالملاحظ على ذلك المنشور التعليمي، تبنيه لمفاهيم فلسفية ونظريات علمية وأراء كوسمولوجية وسيكولوجية، تنهل جميعها من منهل "بلاغة المنطق الفلسفي القديمة" أو بما يعرف "بصخرة المنطق القديم"، ذلك المنطق المتمركز على الفلسفات الافلاطونية والارسطية التقيليدية -بحسب رؤية العلامة ألوردي-، حيث تتجلى سيطرة "بلاغة الافندية الجدد" ولسانيات "الميث-افلاطونية" المستندة على "بلاغة الاتكال الميتافيزيائي"، في لغة واسلوب عرض الأفكار الفلسفية وتاريخها وفي خطاب تبويبها وتصنيفها لطبيعة انماط المعارف: الفلسفية؛ العلمية؛ العادية؛ النخبوية؛ العامية...الخ.
من الملاحظ على طبيعة ذلك التصنيف انه حدد لكل شكل من اشكال المعارف المذكورة أعلاه، خطابا معرفيا غير متداخل مع بقية الخطابات المعرفية الأخرى. فخطاب التفكير العلمي مثلا، جرى عزله ضمن نمطه العلمي التجريبي، فأصبح من الصعوبة بمكان، أن يتفاعل مع خطاب التفكير الفلسفي، وذلك لان بنيته المعرفية لا تتفق وبنية المعرفة الفلسفية، وهذا ينسحب أيضا على خطاب التفكير الفلسفي الذي اصبح هو الاخر غير قادر على الانسجام مع خطاب تفكير العامة، لما تتصف به بنيته بالنزعات المتعالية والنخبوية.
هكذا نرى كيف كرست "بلاغة الافندية وافندية البلاغة"، لواقع فلسفي افلاطوني يؤسس "لخطاب العزلة وسياسة النبذ والاقصاء"، (سنعود لاحقا لمناقشة هذه الثيمة خلال قراءتنا للمشروع الفلسفي المنسي للعلامة الوردي). فبحسب تلك البلاغة، تم تصنيف "انطولوجيا الوجود اليومي" بتراتبيات وهرميات ايديولوجية، عملت على اقصاء كل ما هو فلسفي اصيل في تلك الانطولوجيا، واختزالها بمصطلحات غير علمية أو فلسفية أو حتى قيمية، فتارة دعتها "بالعامية"، وتارة أخرى "بالعامة"، واخرى "برجل الشارع"، ذلك الرجل المتصف بكونه انسان "ما قبل المرحلة المنطقية" و "ما قبل الفلسفة" و "ما قبل العلم" و "ما قبل التفكير التجريبي"، بل انه مستثنى حتى من قانون الفطرة الكوني الذي تحدث عنه ذلك المنهج الدراسي. فعلى ما يبدو، ان "رجل الشارع" المنبوذ من لائحة العلم والفلسفة، لانه لم يعاد التفكير به أو اكتشافه من جديد، فهو بكل بساطة، انسان لا "يخضع للتقييس التجريبي والضبط الحسي العلموي"، وغير مشمول بنعمة وبركة "الاستنباط وسلطوية العقل والعقلانية القديمة"، التي لطالما تباهت بها بلاغة الفلسفة البرهانية المفرطة في ولائها لكل ما هو ايديو-ميتافيزيقي. الأمر الذي جعل من تاريخ الفلسفة، تاريخا يتأسس دوما على حساب العاميّ أو رجل الشارع، ذلك "الثالث المقموع من العلم والفلسفة".
واللافت أن خطاب الاقصاء والاخصاء "لكينونة العامة وانكار وجودها في العالم اليومي" ضمن ذلك المقرر الدراسي، جاء متزامنا مع اقصاء مشابه لاشكالات المناهج التاريخية والدراسات التاريخية الجديدة. بمعنى اخر ان ذلك المنشور المنهجي لم يخصص حيزا لبحث ما يعرف تقليديا في اقسام الفلسفة ب"فلسفة التاريخ"، حيث بدا ذلك المنشور مجردا عن أي رؤية تاريخية أو نقدية لتاريخ الفلسفة من جهة، ولتاريخ علاقتها مع الوجود اليومي والايديولوجي والسياسي...الخ، من جهة أخرى. الأمر الذي يثير أكثر من تساؤل عن السبب في حصول ذلك التزامن والاهمال؟ فهل كان غياب مناهج الدراسات التاريخية الجديدة والحوليات التاريخية المعاصرة، مساويا بالضرورة لغياب الوجود اليومي أو وجود الانسان العادي؟ واذا لم يتبنى المنشور خطاب "التاريخية الجديدة ومناهجها الابستمولوجية والثقافية"، التي تخرج عن مجمل فلسفات التاريخ الرسمية والايديولوجية، فهل هذا يعني بأن المنشور الفلسفي قد تبنى مسبقا، تلك الفلسفات؟

ان غياب فرضيات ونظريات الدراسات التاريخية الجديدة والحوليات التاريخية في المنشور الفلسفي أعلاه، يشير بطريقة أو بأخرى، لتاريخ التشكيلات الشمولية والايدولوجية التي وسمت عمليات تشكيل النص الفلسفي الرسمي والنخبوي، والتي اختزلت دور الفلسفة إلى مجرد وظيفة في دوائر الدولة الرسمية، تعمل على تسيير ممارسات تقديس لغة "التاريخ الشمولي". فمن خلال اعلاء خطاب المكتوب الذي يمثل بلاغة الدولة وهويتها على حساب الخطاب الشفاهي العامي، تحددت اهم ملامح مهمة الفلسفة في إعادة نشر ذلك المكتوب من خلال هيمنته الشعورية واللاشعورية على جسد لغة اليومي وتاريخه المقهور، وهذا لا يمكن له أن يتحقق دون تبخيس للغة اليومي ووصمها باللاموضوعية؛ واللاعقلانية؛ والمبالغة والتهويل؛ واللاعلمية...الخ.
فهل من الممكن أن نعتبر ذلك المنشور الفلسفي " جزء من كل"، أي انه حلقة ضمن سلسلة بسيطة من سلاسل الفكر الفلسفي الرسمي والايديولوجي، الذي لطالما احكم بقبضته الفلسفية وانظمته البلاغية والفلسفية على شكل ومضمون العملية الفلسفية المتكونة عبر التاريخ؟ حيث نلاحظ أن طرق كتابة ونشر المكتوب الفلسفي العراقي، لم تنجح في تحقيق أي قطيعة ابستمولوجية مع المنطق القديم الذي ظل مهيمن على تلك الفلسفة من جهة ،ومع فلسفات التاريخ التعبوية والشمولية الرسمية التي تم كتابة النص الفلسفي تحت كنفها.
من هنا نرى كيف أن ظاهرة التمييز بين اشكال التواريخ في الخطاب الفلسفي الراهن لم يولى لها أي عناية واهمية، ربما لان خطابنا الفلسفي لا زال خطاب النخب والموظفون الذين ينظرون إلى العالم من فوهة ابواب اقلامهم ومكتوبهم الفلسفي المقدس ونثرهم اليومي في قاعات دروس الفلسفة. هذا ما جعل التاريخ يسير بخط واحد واتجاه واحد غائي لا يحيد عنه قيد انملة، فكما توجد ايديولوجية واحدة فلابد من وجود تاريخ واحد لبطل واحد وحزب واحد، وبما ان الواحد لا يصدر عنه الا واحد، فكيف يمكن أن يكون للعامة تاريخ؟ وهل تبقى ثمة حكمة للتاريخ اذا ما ظهر العامة على سطح التاريخ؟
والمدهش الغرائبي في كتاب "مبادئ الفلسفة وعلم النفس"، انه لا زال يتبنى طروحات انتروبولوجية استعمارية وكولونيالية في تصنيف المجتمعات الإنسانية، كمصطلح "الانسان البدائي" مثلا، على الرغم من تاريخ علم الاناسة والانتروبولوجيا، إعاد النظر به وبمنطقه وثقافته منذ الخمسينيات. فعلى حد تعبير الاستاذ علي حرب، في دراسته الانتروبولوجية الموسومة "نحو اعادة قراءة لإشكالية التوحش/التمدن"، ان تلك التصنيفات((..اخذت تتزعزع منذ زمن على يد بعض الانتروبولوجيين، وبالآخص منذ كلود-ليفي ستراوس. فقد وجه هذا الاخير منذ الخمسينات من هذا القرن، نقدا صارما لفكرة التقدم وللمفهوم الغربي للتاريخ. وقد تواصل هذا الاتجاه النقدي، من بعده، على نحو أكثر جذرية واتساعا، خاصة عند بيار كلاستر الذي رأى أن النظرة التطورية إلى التاريخ لا تطلعنا على حقيقة المجتمعات البدائية، وذلك بقدر ما تعكس نظرة الغرب إلى ذاته، أي بقدر ما تنطلق في حكمها على العالم البدائي من المصطلحات والمعايير التي تستخدمها المجتمعات الاوربية....لقد سعى كلاستر الى "الالتقاء" بالاخر المتمثل بالبدائي، فقاده ذلك إلى أن يطرح مشكلة التاريخ بتعابير جديدة وان يعقل السيرورة الإنسانية من منظور جديد. مما يعني...إعادة الاعتبار للحضارات غير الاوروبية بغية إعادة تقويمها واكتشافها. وبهذا فأن الاتجاهات الجديدة في الانتروبولوجيا تفتح افاقا جديدة لمعرفة الاخر والذات معا))(7).

فأذا كانت الانتروبولوجيا الغربية، قد إعادت النظر بمفاهيمها العرقية والمركزية التي تكرس لواقع الهيمنة على الاخر البدائي الخارج عن الكتابة وطقوسها، فلماذا يلجأ خطابنا الفلسفي إلى إعادة تبني مثل تلك الاراء العرقية؟ ألم يقرأ خطابنا الفلسفي منذ الخمسينيات تهافت وسقوط مثل تلك النظريات تحت مطارق النقد الابستمولوجي والانتروبولجي الذي افسح المجال لاعادة اكتشاف "آخريتنا" المنسية والمجهولة في جينالوجيا الانسان البدائي؟ ألم يفكر خطابنا الفلسفي الراهن بوجود الاخر المغاير؟ ولماذا يحكم خطابنا الفلسفي على ذلك الاخر بالنفي لمجرد كونه انه لا يفكر على طريقة الفلاسفة والعلماء؟ أي منطق تعليمي هذا الذي يبيح لنفسه مهمة تقسيم الثقافات الإنسانية إلى عليا/سفلى؛ عالمة/جاهلة؛ متمدنة/متوحشة؛ متحضرة/بدائية!؟ وهل كانت تلك التقسيمات محض صدفة بعيدة عن تأملات النسق الشمولي الرسمي؟ فلماذا ثمة تاريخ رسمي مكتوب وليس ثمة تاريخ عامي شفاهي منطوق؟ واذا كان ذلك "المصنف الدراسي والمدرسي" قد استثنى من خطابه الفلسفي "رجل الشارع" و"العامة" و"انطولوجيا الوجود اليومي"، فإلى من يوجه خطابه؟ فهل كان ذلك المصنِف يحاكي ذاته ومورثه الفلسفي اليوناني/الغربي؟

في واقع الأمر ان ذلك المنهج الدراسي المصنِف، يطرح علينا مجموعة من الاشكالات الفلسفية والنظرية والابستمولوجية والتاريخية. فلا يمكن النظر اليه على انه منشور تعليمي منهجي فحسب، بل لابد من أن نتعامل معه، بوصفه "نص يختصر تاريخ التناص التعليمي والمنهجي المتبع في اقسامنا الفلسفية"، والذي من خلاله تم تشكيل ووضع مناهج ودروس وجداول وبرامج التعليم الفلسفي المعتمد في تدريس مقررات المواد الفلسفية لطلبة اقسام الدراسات الفلسفية في جامعاتنا. فالمتتبع لطبيعة اسلوب كتابة "المصنف أعلاه"، سيجد انه يكاد لا يختلف عن اساليب تلقين المواد الفلسفية وتاريخها في مؤسساتنا الأكاديمية. فمنذ كنا طلاب في قسم الفلسفة، كانت الرؤى الفلسفية في محاضراتنا لا تكاد تختلف في شيء عن تصنيفات المنهج الدراسي المذكور، لاسيما فيما يتعلق "بخصائص الفكر الفلسفي" المتسمة بالعقلانية والموضوعية والاستقلالية عن العامة ووجودهم اليومي. فمثل تلك النظرة هي ليست وليدة اليوم -كما ذكرنا سابقا- بل لها تاريخ طويل من "التناص الايديولوجي واللاتاريخي"، خاصة فيما يتعلق بترشيح مصنفات فلسفية اصبحت من قدماء الفلسفة المتربعين على تاريخ تدويل وتدريس الفلسفة. فعلى سبيل المثال، اعتمد قسم الفلسفة على المؤلفات التالية:"تاريخ الفلسفة اليونانية" و"تاريخ الفلسفة الوسيطة" و"تاريخ الفلسفة الحديثة"- وهي جميعا للفيلسوف الأرسطي الكبير الاستاذ الراحل يوسف كرم- كمناهج تدريسية رسمية غير قابلة للتداول في الدرس الفلسفي، لان "سياسة التلقين والتلخيص من قبل اساتذة الفلسفة لما هو مقرر"، كانت اشبه بالمنهج التدريسي المعتمد، الذي لا يحتاج إلى كبير عناء لفهم الفلسفة وتاريخها، فما عليك الا ان "تحفظ تلك المواد عن ظهر قلب حتى يحين موعد ايداعها في الامتحان"، لتكتشف انك اصبحت فيلسوف على الطريقة التلقينيةّ!!!!

لكن من اغرب المفارقات الفلسفية الكبرى التي وقعنا فيها آنذاك، اننا لم نكن نكتشف شيء عن تلك الفلسفات ومناهجها النقدية والثقافية، بقدر ما كانت تُملى على اذهاننا ومسامعنا الفلسفة الخاصة بالأستاذ كرم، أي أن الذي تعلمناه هو "الرؤية الارسطية المعممة كمنهج فلسفي وانطولوجي وتعليمي للاستاذ كرم، التي لطالما نذر لها روحه من اجل ارساء قواعدها وأطرها المنهجية والعقائدية والدينية معا". بمعنى اخر، اننا ومن حيث لا نعلم اصبحنا نقدس العقلانية الارسطية؛ والعقلانية الغربية؛ والعقلانية التومائية - نسبة إلى توما الاكويني وهي نزعة تقابل نزعة التمركز على فلسفة ابن رشد- فلم نعد نفهم الفلسفة الا من خلال ذلك "البردايم الكرمي الشمولي"، فأصبح شعار الفلسفة انذاك:ما امركم به يوسف كرم خذوه وما نهاكم عنه اجتنبوه. لقد كاد ان يكون هذا حديث قدسي لولا انه حديث موضوع من وضعنا!!!!

حاول الاستاذ كرم جاهدا تطبيق النزعة الارسطية في خطاب الفلسفة العربية الإسلامية، على اعتبار ان الفلسفة الارسطية هي الطريق الامثل للوصول إلى اعلى مراحل العقلنة والعقلانية وميتافيزيقا الحياة الروحية والدينية. واللافت في الموضوع أنه لم يفصل رؤيته الفلسفية ومنهجه المعرفي والارسطي، اللذان اعتمدهما في مؤلفاته الاساسية: (العقل والوجود) و(الطبيعة وما بعد الطبيعة)، عن كتبه المخصصة عن تاريخ الفلسفة الاوروبية المذكورة أعلاه. حيث نراه لا يتوانى في نقد المناهج الغربية وفلسفاتها التجريبية والمادية، مؤسسا بذلك لمجمل رؤيته الارسطية والميتافيزيائية، وهذا ما اشار اليه الاستاذ ناصيف نصار، حينما راى أن الاستاذ كرم طرح في مؤلفيه الرئيسيين لفلسفته الارسطية (( ... مشكل المعرفة العقلانية منتقدا التجريبية والمثالية معا، ومنتهيا الى فكرة هي أن العقل يمكن أن يعرف الواقع الخارجي في ذاته. مستعملا بالضبط منهج التجريد....لقد تصور يوسف كرم فلسفته كأنها عودة إلى الفلسفة التقليدية الصادرة عن ارسطو تلك التي طورها فلاسفة العصر الوسيط من امثال ابن سينا وابن رشد وتوما الاكويني. واعتقد ان هذه الفلسفة المنتقدة والمهملة من لدن معظم الفلاسفة المعاصرين هي وحدها الفلسفة الحقيقية. يقصد انها الفلسفة التي تستجيب إلى متطلبات العقل و متطلبات الايمان. ولذلك خصص كل جهده الفلسفي لنقد المعاصرين ولإحياء الفلسفة الارسطية التومائية، معتقدا انه يخدم قضية الحياة الإنسانية، التي لا يمكن أن تتجاوز في نظره اليقين العقلي والايمان الديني))(8).

من كل ما سبق، حاولنا أن نسلط الضوء على مسألة تداخل البردايم الفلسفي لمشروع كرم بطريقة شعورية أو لاشعورية في بنية المنشور الفلسفي العراقي الراهن، خاصة كما تجلى لنا ذلك سابقا في كتاب (مبادئ الفلسفة وعلم النفس)، حيث رأينا كيف أن ذلك المصنف حاول أن يقفز على الواقع التاريخي الراهن، بعقلانية مجردة ومتعالية ومنزهة حتى عن ملامسة اجساد العامة بوصفهم عالم ما تحت فلك القمر، أو قل أن شئت "عالم الكون والفساد". وهنا يمكن أن نلحظ لبعض من "آثار المد الكرمي-الأرسطي"، فالاستاذ كرم تجاوز هو الاخر انطولوجيا الوجود اليومي في العالم، فما كان مسيطرا على مخيلته الفلسفية هو "النموذج الانطولوجي الأرسطي الشمولي والمتكامل والمفارق لكل ما هو فاسد ومحسوس". لذلك رأينا كيف أن خصائص الفكر الفلسفي والعلمي والعامي الانفة الذكر في المنهج الدراسي المذكور أعلاه، كانت تمثل خصائص الميتافيزيقا الارسطية التي جاء بها "البردايم الكرمي"، وهي نفسها الخصائص التي استحوذت وسيطرت على مفاهيم خطابنا الفلسفي السابق واللاحق، بل وهيمنت على يوميات الدرس الفلسفي ومناهجه التعليمية. فلا اتذكر اننا خلال مراحل دراستنا في قسم الفلسفة، قد بحثنا في اشكالات الوجود اليومي وعلاقته بنظريات المعرفة؛ ومباحث الوجود والانطولوجيا؛ أو علاقة ذلك الوجود باللغة اليومية، التي لطالما اهملت هي الأخرى من البحث والنقد والتدريس، بل لا اتذكر اننا قد قمنا بإجراء مسح ابستمولوجي ونقدي لفلسفة الراحل يوسف كرم ومساءلة ارائه الميتافيزيائية التي اصبحت قدرنا المحتوم.

فعلينا أن لا نصاب بالدهشة من جينالوجيا الاراء الفلسفية الميتافيزيائية، التي تضمنها ذلك المنهج الدراسي، الذي حاول أن يعيد إلى الاذهان ما هو مكرر ومتفق عليه مسبقا. وعلينا أن لا نتعجب من استمرار مسلسل الاهمال والنسيان "لانطولوجيا الوجود اليومي وبراكسيس الفلسفة التاريخية"، فهي انطولوجيا اعتادت أن توضع في سهلة مهملات الاستذة وافندية الفلسفة الُجدد، الذين يبذلون قصارى جهدهم اليوم من اجل يتطابقوا بطريقة ارثوذكسية مع "خطاب الفلسفة اللاتاريخي"، الذي لطالما تغنى بالعقلنة والعقلانية والعقل المطلق والشمولية، التي لا تعبر في النهاية الا((....عن نزعة، عن ايديولوجيا))(9). وهنا لابد لنا من أن نميز بين "التاريخانية الأيديولوجية" و"التاريخانية النقدية"، فالأولى تعني ((...الخاصية المطلقية للخطاب التاريخي، اذ يتجاوز كل المحددات التاريخية المرحلية والموضوعية، وبالتالي فهو تاريخ يتجاوز التاريخ، يتعالى ثابتا، ابديا كونيا ومطلقا. ان حلمه أن يحقق وحدة التاريخ والوعي المطلق، هذا التحقيق خارج الممارسة، ولذلك نعتبره ايديولوجيا.هذا الوعي الكلي أو التصور الكلي أو هذه الشمولية المتعالية تستمد قدسيتها من الماضي، اقول من الماضي وليس من التاريخ.هذا الماضي الذي نحياه في كل لحظة، ففي كل لحظة نحيا الماضي ونحييه، هل هذا الفعل مجرد اعادة وتكرار ام اختلاف؟.... أن الخطاب التاريخاني هو خطاب وعي في علاقته مع ذات تاريخية هذا الوعي يعي ذاته باعتباره وعيا، كليا، كونيا ومطلقا. وتتحدد علاقته بالذات التاريخية من حيث هي ذات تتجاوز محدداتها الموضوعية. فمسألة معرفة وتحديد دور هذه الذات وطبيعتها مسألة جوهرية: ذات تاريخية مجردة ومطلقة ام ذات تاريخية ملموسة وجماعية؟ ذات تاريخية تعتبر ذاتها مجرد وعي فقط ام تحقيق تاريخي: فالجواب عن هذا السؤال هو الذي يفصل بين التاريخية–النقدية والتاريخانية الأيديولوجية: الأولى تجاوز جدلي ..ونقدي في النظرية والممارسة....والثانية اعلاء لشمولية ثابتة وازلية عبر ذات مطلقة ومجردة خارج الممارسة. هذا ما يفصل كذلك بين الرؤية الميتافيزيقية للوعي والذات والرؤية الجدلية لهما؛ بين الوعي الكلي والمطلق والوعي الملموس؛ بين الذات كنتاج لمسلسل من التناقضات التاريخية وبين الذات الخارقة المتعالية))(10).

وقد اتضح لنا مما سبق، أن خطاب التاريخانية الأيديولوجية هو الذي شكل مضمون العملية الفلسفية وتكوينها التاريخي في خطابنا الفلسفي السابق واللاحق. وقد انعكس ذلك سلبا على طبيعة التمييز بين ما هو فلسفي وبين ما هو سياسي أو بين ما هو عملي وما هو يوتوبي، لاسيما عند بعض من اساتذة الفلسفة الذين كانت لهم طروحات نظرية وفلسفية، كان يعوزها الدقة الابستمولوجية والتاريخية، التي من الضروري توفرها في مثل تلك التنظيرات فيما لو ارادت تلك التنظيرات أن تتجاوز افق التاريخانية الأيديولوجية لتتحول إلى تاريخانية نقدية. وقد كان للاستاذ الدكتور حازم طالب مشتاق تمييزا ابستمولوجيا بين "المفكر الفلسفي" و"القائد السياسي"، حيث:((...يحصر الأول اهتمامه بالغايات، ويحدد المبادئ، ويرسم الصورة الكاملة للمثل الاعلى، ويتعامل مع الحقائق المطلقة والنظريات المجردة. وينشد مجتمعا كاملا لا يمكن أن يصلح الا للملائكة. ويتطلع الثاني إلى الوسائل والاساليب التي تحقق تلك الغايات والمبادئ، ويترجمها إلى مؤسسات واعمال، ويتعامل مع حقائق التاريخ، وظروف الواقع، وطبائع الانسان. وينشد مجتمعا فاضلا يمكن أن يصلح للبشر. عظمة الفيلسوف تقوم على العلم، وتتجلى في التفكير اذا كان صحيحا. وتقوم عظمة القائد على العمل، وتتجلى في التطبيق اذا كان ناجحا))(11).

يضعنا النص السابق في قلب الاشكاليات الفلسفية والابستمولوجية التي تتطلب منا وقفة نقدية وتحليلية، خاصة في تمييزه بين المفكر السياسي والمفكر الفلسفي. فالملاحظ على ذلك التمييز انه يكاد أن يكون تمييزا ميتافيزيقيا عاما افتقر إلى التحديد الاصطلاحي والتاريخي. فمثلا تعامل الاستاذ مشتاق مع مصطلح الفيلسوف بوصفه كائن طوباوي غير قادر الا على إنتاج الأفكار الطوباوية المجردة والمتعالية. فهل ينسحب هذا التمييز على كل الفلاسفة ومدارسها وتاريخها؟ ماذا عن الفلسفات المادية والتاريخية، هل يظهر فيها الفيلسوف كما تصوره الاستاذ مشتاق، أي لا شغل يشغله سوى الأفكار المجردة التي لا تصلح الا للملائكة؟ الم يكن من الاجدى أن يصف الفيلسوف بمسمياته التاريخية المتفق عليها في تاريخ الفلسفة، كأن يكون ذلك المفكر الفلسفي هو من يمثل البردايم الأفلاطوني والابستمولوجيا الافلاطونية حصرا وليس عاما؟ وهل مثل البردايم الأفلاطوني المفكر السياق الفلسفي الذي كان سائدا انذاك أي في مرحلة بدايات تشكيل العملية الفلسفية العراقية؟ ثم الا يبدو وصف الاستاذ مشتاق لقدرة المفكر السياسي على تحويل ما هو مجرد إلى ما هو تاريخي وعملي، اقرب إلى الوصف الأفلاطوني المجرد منه إلى الوصف التاريخي الملموس؟ وهل اثبت التاريخ تحول الشعارات والايديولوجيات إلى افعال تاريخية؟
والغريب أن الاستاذ مشتاق تعامل مع خطاب الفلسفة والفيلسوف بطريقة تبدو اقرب إلى "الوعظ الفلسفي المثالي" منه إلى "النقد الابستمولوجي". لذلك ظهر نصه مجردا من أي ممارسة ابستمولوجية أو قطيعة ابستمولوجية تعيد قراءة تاريخ ما نُسي التفكير فيه في خطاب الفلسفة والفيلسوف، ومؤسسا لرؤية "تقليدية للتاريخانية الأيديولوجية" التي اعتادت أن تنظر الى التاريخ بطريقة خطية وغائية تتألف من :ماضي وحاضر ومستقبل، فيكون بذلك قد قطع الامل لولادة ما يُعرف بتاريخ للقطائع والتبعثر والتشظي في خطاب الدراسات التاريخية والحوليات التاريخية، ليبقى التاريخ نسق منتظم غير مشتت أو مبعثر محكوم بأرادة "المفكر السياسي" الذي لا تعنيه تواريخ العامة واليومي، فما يعنيه هو"التاريخ الرسمي" للدولة المسيطِرة، وهذا التاريخ هو الذي تعلمناه في دروس ومناهج التعليم الفلسفي، وكأن التاريخ راكد وثابت في خطابنا الفلسفي، لانه تاريخ منطق السلطة وسلطة المنطق، لانه تاريخ:(( لا يخبط خبط عشواء، ولا يتألف من وقائع متقطعة...واحداث مستقلة منفصلة، تتحقق عفوا أو عبثا أو اعتباطا، تحققا مشوشا جنونيا، تتحكم فيها وتسيطر عليها، دوافع غامضة أو اسباب خفية أو قوى مجهولة، هي الحظوظ والصدف والاقدار. بل يمثل وحدة عضوية وحركة دائبة وصيرورة دائمة، ويتألف من سلسلة من الحلقات المتصلة والمراحل المتعاقبة والظاهرات المتكررة، المتشابهة في خصائصها المشتركة وخطوطها العريضة على الاقل، تقود مقدماتها إلى نتائجها، وتؤدي عللها إلى معلولاتها، وتسودها قوانين عامة، تخضع لها التجارب، وتقاس بها الحقائق. وهكذا يكون الحاضر ابنا للماضي وابا للمستقبل، في وقت واحد وعلى حد سواء. ومن هنا، يكون العلم بالتاريخ شرطا ضروريا لازما للسياسة علما وعملا. ولا يستطيع المفكر أو القائد أن يفهم ظروف الواقع السياسي أو اتجاهات الصراع الفكري أو حقائق التطور القومي، الا اذا فهم التاريخ، اولا وقبل كل شيء، فهما شموليا...صحيحا، يستخلص النتائج، ويستخرج الدروس))(12).

هكذا يتحول التاريخ إلى "فعل دوغمائي"، عوضا عن أن يكون "فعل لغوي و بلاغي"، ينشأ من خلال خطاب "المفكر السياسي"، الذي يصادر "تاريخ الفاعل الفلسفي والفعل المتفلسف". وهذا ما لاحظناه من خلال التمييز المذكور آنفا للاستاذ مشتاق، فحسب تلك الثنائية صُنف التاريخ إلى تاريخ للأذهان وتاريخ للأعيان، وهذا التاريخ الاخير هو الذي يمثله السياسيون بوصفهم الفاعلين الحقيقيين واللاعبين الابديين في مسرح التاريخ، التي حكمت على الفلسفة والفلاسفة – دون أي دليل فلسفي أو تحليلي- بالتوقف عن صناعة التاريخ وإعادة كتابته من جديد، وكأن ماركس؛ ونيتشه؛ وفرويد؛ وريكور؛ وغرامشي، لم يؤسسوا جميعا لجينالوجيا التاريخ ولمساءلة القيم الثقافية واللغوية والميتافيزيقية التي شكلت تاريخ الانطولوجيا الإنسانية؟ فبحسب رأي الكاتب أن تاريخ الفلسفة قد توقف عند الفلسفة الافلاطونية التي شطرت الوجود الى نصف يتأمل ونصف يتماهى في المثل المتعالية ونصف يفكر في الالتحاق بالميتافيزيقا المجردة!
لكن ربما قد حمل تصنيف الكاتب شيئا من الصحة التاريخية، سيما وان الفلسفة في خطابنا الاكاديمي قد توقفت عند اللحظة التأملية الافلاطونية والمنطقية الارسطية منذ ايامه والى يومنا هذا. فلازالت كتاباتنا تبدع في اجراء عمليات التجميل المابعد-حداثوية لملامح وجه الافلاطونية المتحولة إلى كومة من تجاعيد فلسفية شكلت خطابنا ومناهجنا التعليمية. والا كيف يمكننا أن نقرأ خطاب التصنيف الاجتماعي والانساني والطبقي لمنهج تعليمي مثل كتاب "مبادئ الفلسفة وعلم النفس"؟
فمن اغرب ما وقفنا عليه في هذا المؤَلف التعليمي، هو "التمييز الفلسفي الجديد والمبتكر" لأنواع الفلسفة، وهو تمييز يوضح لنا مدى تغلغل بلاغة المؤسسة الايديولوجية القديمة، التي اعتادت على التصنيفات الافلاطونية والنخبوية كما مر بنا أعلاه. فإذا كنا قد اطلعنا مع الاستاذ مشتاق على ثنائية "المفكر الفلسفي" و"المفكر السياسي"، فأننا مع هذا المنهج الدراسي، سنشهد ثنائية جديدة لا تقل غرابة عن سابقتها وهي تتعلق "بأنواع الفلسفة"، حيث يقسمها :(( الى (فلسفة ساذجة) وهي التي نجدها في اقوال الناس العاديين عندما يتذمرون ويقلقون من موقف معين من الحياة ،فيعبرون عن ذلك بالكلام عن القدر والمصير...الخ، وهذه فلسفة بسيطة لا تعبر عن وعي قائلها ولا تدل على عمق افكاره. وهناك (فلسفة محترفة) وهي فلسفة تعتمد المنهج في دراستها، وتشمل جوانب متعددة في عرضها، في نظرتها للحياة والمجتمع عموما.. فهي تتصف بالوعي العميق في التفكير والشمولية في الرأي، لذلك فهي فلسفة تعبر عن فكر انساني ناضج. ويوجد عنصر مهم جدا يفرق بين الفلسفة الساذجة والفلسفة المحترفة، الا هو استخدام المصطلحات في الفلسفة المحترفة، وهي (الادوات) التي يمكن بواسطتها فهم الفلسفة، لان هناك كثيرا من الأفكار يصعب ادراكها بدون المصطلحات أو المفاهيم التوضيحية، لانها أفكار عقلية صرفة -في كثير من الاحيان- يتطلب ادراكها استخدام مفاهيم أو مصطلحات معينة متفق عليها من قبل الفلاسفة أو المفكرين في جميع ميادين الفلسفة:الاخلاقية، والسياسية، والجمالية، والمنطقية، ومابعدالطبيعة.))(13).

يبدو ان المنهج التعليمي أعلاه، لم يكتف بتصنيف الناس والمجتمعات الإنسانية إلى مجتمع منطقي ومجتمع ما قبل المنطقي (على الرغم من أن ذلك التصنيف يعود الى كلاسيكيات الاناسة والانثروبولوجيا الفرنسية خاصة لعالم الاناسة الفرنسي ليفي بريل في كتابه العقلية البدائية، الذي تعرض إلى موجات خطيرة من النقد من قبل الفلاسفة والانتروبولوجيين، وذلك لاحتواء مصنفه على اراء تحط من قيمة العقل البدائي وترفع من شان العقل الغربي الذي هو المنطقي بحسب وحهة نظر الكاتب)، أو الى انسان متفلسف وانسان الشارع...الخ، فها هو يطرح علينا تمييز آخر بين الفلسفة الاحترافية والفلسفة الساذجة. فهل يعقل مثل ذلك التصنيف اللاانساني واللافلسفي؟ أمكتوب على جبين العامة أن تُحرم حتى من ابسط حقوقها، أي من حقها في التعبير عن وجودها العرضي والعبثي والافتراضي في هذا العالم الزائف؟ هل لانها لا تتوفر على لغة مفاهيمية عالية الدقة والصرامة المنطقية، فلا يُسمح لها أن تعبر عن تراجيديا وجودها المُصادَر مسبقا؟ وهل نجحت لغة فلاسفة الاحتراف أو فلسفة المحترفين في وصف تاريخ السحق والبطش والقتل العشوائي الذي اصبح من الاقانيم الميتافيزيقية التي تُمأسس تاريخية العامة؟ ألم تكن نشأة الفلسفة الأولى نشأة مكتوبة بنثر ميتافوري بعيدا عن التمأسس المفاهيمي والتمركز الميتافيزيقي؟ وكيف قرأ كتاب "مبادئ الفلسفة وعلم النفس" المقولة الفلسفية التالية: "أن سقراط انزل الفلسفة من السماء إلى الارض"؟ فهل كانت الارض حكرا على الممنهجين والمتماهيين بترسانة اصطلاحية وعلموية مجردة، على اعتبار ان هؤلاء هم من خصهم زيوس واتباعه بنعمة التفلسف الاحترافي؟ وماذا عن مفهوم الحقيقة؟ كيف تشكل في ذلك المصنف؟ هل هو الأخر، ظل حكرا على رواد الاحتراف الفلسفي المجرد والمتعالي؟ ولماذا ذكر المصنف الفلسفي عبارة ارسطو التي تفضل حب الحقيقة على صداقة افلاطون، دون تحديد نوع وماهية الحقيقة التي دعى اليها ارسطو، فهل كانت حقيقة ملموسة وتاريخية ام كانت مجردة ومتعالية؟ ولماذا بقي مفهوم الحقيقة في الفلسفة السفسطائية غائب ومسكوت عنه كسابق عهده في خطابنا الفلسفي؟ هل لانه يقف بالضد من مفهوم الحقيقة الأفلاطوني والارسطي الداعم للايديولوجيا؟ ام لان الفلسفة السفسطائية تتعارض ابستمولوجيا وانطولوجيا مع الفلسفة الافلاطونية والارسطية؟
ولماذا غاب مبحث "الانسان بوصفه مقياس كل شيء" في الخطاب السفسطائي؟ ولماذا لم يتم التوقف عند هذه العبارة المفصلية في تاريخ الفلسفة، التي فصلت بين مرحلة التفكير الفلسفي التأملي وبين مرحلة التفكير الفلسفي التداولي المتأسس على "شرعية الوجود اليومي للعامة في انطولوجيا الخطاب والتداول الحجاجي/البلاغي الجديد"، الذي يقف بالضد من "الحجاج المنطقي الأرسطي والافلاطوني المصادِر الرسمي لبلاغة المخاطَب/المتلقي اليومي"؟ فلماذا تغافل مصنفنا الفلسفي عن مفهوم القطيعة الابستمولوجية للخطاب الفلسفي السفسطائي، ذلك الخطاب الذي تحولت الفلسفة بموجبه إلى ممارسة لغوية وبلاغية في عالم اللغة والخطابات اليومية؟ ولماذا سكت مصنفنا عن محاولات تهميش واقصاء الخطاب السفسطائي، التي قام بها كل من افلاطون و ارسطو، بهدف اقصائهم أي السفسطائيين عن "العامة" الذين تحولوا الى "مقياس كل شيء" في فلسفتهم، وبالتالي ارجاع الفلسفة إلى "بيروقراطية التفلسف الممنهَج والاصطلاحي" ،الذي أسسه كل من افلاطون و ارسطو؟
ما نريد ان نخلص اليه في تلك العجالة الفلسفية، هو ان تاريخ الفلسفة عندنا تاريخ ما قبل كل من : فلسفة الخطاب؛ والتحليل الثقافي والنقد البلاغي، أي انه تاريخ لم يتشكل الا على انقاض "المنطق القديم"، ذلك المنطق الذي لم تتعرض قداسته الفلسفية للنقد والتقويض من قبل كثير من رواد الفلسفة العراقية. ولا زال خطابنا الفلسفي حتى الوقت الراهن يعتاش على مخلفات بلاغة ومنطق اساتذة الفلسفة الاستدلالي/النظري/البرهاني بالضرورة، أو على قدماء الفلسفة، الذين لم يُحدثوا اي قطيعة ابستمولوجية على جميع الاصعدة، بدء من المنطق، الذي ظل منطق وضعي/رياضي/برهاني/صنعي، لم يضع المتكلم أو ما يُعرف ب"بلاغة المخاطب" في حسبانه واعتباراته، بل لم يولي أي أهمية الى نظريات الحجاج والبلاغة الجديدة التي شغلت الاوساط الفلسفية البلجيكية والهولندية والامريكية والالمانية منذ الاربعينيات والى يومنا هذا. فلماذا اعتمد اساتذة الفلسفة على المنطق الرياضي البرهاني وليس المنطق الحجاجي أو البلاغي؟ هل لانه منطق لا يؤمن بوجود آخر مختلف للفلسفة يستحق التفكير فيه؟ ام لان ذلك الاخر هو مجرد "رجل شارع وعامي" لا يستحق أن نضيع وقتنا الثمين معه؟ فلماذا بقيت كثير من الأفكار والنظريات الفلسفية والبلاغية والانطولوجية منسية ومجهولة منذ تأسيس خطابنا الفلسفي والى يومنا هذا؟ ولماذا يتكرر مشهد الغاء وتهميش انطولوجيا الوجود اليومي في خطابنا الفلسفي؟ أسُنة فلسفية متبعة عندنا، تلك التي تتأسس على تهميش فئة اجتماعية وتُسيد اخرى عليها؟ ولماذا لم نشهد تحولات ابستمولوجية وفلسفية كتلك التي يشهدها العالم العربي؟ ولماذا زهد اساتذة الفلسفة عن أي مشروع فلسفي وثقافي أو نقدي؟ ولماذا ثمة ادلجة وليست فلسفة في خطابنا الفلسفي؟ ولماذا ثمة عدم وليس ثمة وجود في خطابنا الفلسفي؟ ولماذا استمر منطق العداء وعدم التواصل مع حقول العلوم الإنسانية في خطابنا الفلسفي؟ ولماذا لم تتم إعادة قراءة بلاغة ارشيف الفلسفة ؟ ولماذا لم يتم إنتاج لغة فلسفية جديدة تتجاوز القديمة؟ ولماذا ثمة فلسفة محترفة وليس ثمة فلسفة ساذجة؟
تمثل تلك الاسئلة مجمل "الثيمات الابستمولوجية" التي انطلقنا منها في محاولتنا الفلسفية المتواضعة والرامية إلى فتح "ارشيف الفلسفة" للبحث فيما سُكت عنه بين متونه وصفحاته واطره الأيديولوجية التي عملت على تشكيله. لذلك كانت ولا زالت بدايتنا مع رواد الفلسفة العراقية الاوائل. ولا يفتنا هنا إلى أن نشير إلى اننا حاولنا جاهدين على إعادة تأسيس سؤال الفلسفة/الكينونة، من خلال الاعتماد على طروحات العلامة الراحل علي الوردي، لما تضمنته تلك الطروحات من "جينالوجيا مهدورة لمشروع الفلسفة العراقية"، لاسيما في تقويض "قِبلة الفلسفة الأولى وتغيير مسارها"، من خلال "نقد المنطق القديم المتمثل بهيمنة افلاطون وارسطو"، إلى جانب ثورة الوردي في مجالات "نقد الوعظ البلاغي والوعظ الانطولوجي والوعظ الثقافي"، الذي تشكل مع "خطاب الافندية المتعالي على العامة والعامية".


الهوامش

(*)للوقوف عند اهم تصنيف لتاريخ نظرية المعرفة في خطابنا الفلسفي الأكاديمي يُنظر:
أ.د. حسن مجيد العبيدي : نظرية المعرفة في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر،دراسة منشورة في مجلة دراسات فلسفية،بغداد،العدد الواحد والعشرون،2008

(1)
Charles B. Guignon: Heidegger and the Problem of Knowledge, Hackett Publishing Company, USA, 1983, P.13.
(2)
Ibid, P.14.
(3)
P. D. Ouspensky: In Search Of The Miraculous, Routledge & Kegan Paul, London, 1975, P.65.
(4)
Ibid, P.65.
(5)
Ibid, P.65.
(6)د.خليل ابراهيم رسول وآخرون:مبادئ الفلسفة وعلم النفس للصف الخامس الادبي، وزارة التربية-المديرية العامة للمناهج، العراق-بغداد،الطبعة الثانية،2010،ص26-29.
(7)د.علي حرب: التأويل والحقيقة، دار التنوير للطباعة والنشر-بيروت،الطبعة الثانية،2007،ص143.
وللمزيد حول علاقة الانثروبولوجيا والفلسفة والانسان البدائي، ينظر: الفصل الثاني (من الاثنوغرافيا إلى الفلسفة) من كتاب (كلود ليفي ستروس: قراءة في الفكر الانثروبولوجي المعاصر) لمؤلفه (د.عبدالله عبد الرحمن يتيم)،اصدارات بيت القرآن،المنامة-البحرين،الطبعة الاولى،1998.
(8)ناصيف نصار:ملاحظات حول نهضة الفلسفة في الثقافة العربية الحديثة،مجلة الثقافة الجديدة،المغرب،السنة الثانية،العدد الخامس والسادس،1977،ص62.
(9)سليم رضوان:من اجل فلسفة عربية للممارسة،مجلة الثقافة الجديدة،المغرب،السنة الرابعة،العدد الرابع عشر،1979،ص114.
(10)المصدر نفسه،ص115-116.
(11)د.حازم طالب مشتاق:الفكر السياسي والواقع التاريخي،مجلة كلية الآداب-جامعة بغداد،العدد الواحد والاربعون،1970-1971،ص161.
(12)المصدر نفسه،ص161-162. وللمزيد حول مفهوم التاريخ الجديد وخطاب الحوليات التاريخية، ينظر، جاك لوغوف:التاريخ الجديد،ترجمة د.محمد الطاهر المنصوري،مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت،الطبعة الاولى،2007. وينظر أيضا،حسن قبيسي:الفكر التاريخي والاسطورة والواقع الحنظلي،مجلة الفكر العربي-بيروت،العدد الرابع والاربعون،1986.
(13) د.خليل ابراهيم رسول وآخرون:المصدر السابق،ص11.



#حيدر_علي_سلامة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في جدل التراث والأيديولوجيا ، قراءة ابستمولوجية في فلسفة الا ...
- هيرمونطيقا الخطاب الفلسفي العراقي : في جدل اللاهوت والوجود - ...
- التأبين الفلسفي للاستاذ الدكتور حسام محي الدين الآلوسي - نحو ...
- من العقل والحرية الى سيرة حارة بغدادية، قراءات في لوحة التنو ...
- -في نقد وعاظ الثقافة والمثقفين- نحو تحليل فلسفي ولغوي للمشرو ...
- -خمسة الآف عام من أنوثة النهرين- قراءة في موسوعة الأنوثة الع ...
- خمسة الاف عام من كلام النهرين قراءة في موسوعة اللغات العراقي ...
- فلسفة الأنوثة بين الحرام السياسي والحرام الجامعي
- الثقافة العراقية، ثقافة مفاهيم أم ثقافة علاقات ؟
- محاولة لغوية لتحليل ظاهرية الخطاب الثقافي العراقي، نحو دراسا ...
- غرامشي من نقد نخبوية المثقف الى نقد نخبوية النص الديني


المزيد.....




- مصر: بدء التوقيت الصيفي بهدف -ترشيد الطاقة-.. والحكومة تقدم ...
- دبلوماسية الباندا.. الصين تنوي إرسال زوجين من الدببة إلى إسب ...
- انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض ...
- الخارجية الأمريكية لا تعتبر تصريحات نتنياهو تدخلا في شؤونها ...
- حادث مروع يودي بحياة 3 ممرضات في سلطنة عمان (فيديوهات)
- تركيا.. تأجيل انطلاق -أسطول الحرية 2- إلى قطاع غزة بسبب تأخر ...
- مصر.. النيابة العامة تكشف تفاصيل جديدة ومفاجآت مدوية عن جريم ...
- البنتاغون: أوكرانيا ستتمكن من مهاجمة شبه جزيرة القرم بصواريخ ...
- مصادر: مصر تستأنف جهود الوساطة للتوصل إلى هدنة في غزة
- عالم الآثار الشهير زاهي حواس: لا توجد أي برديات تتحدث عن بني ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر علي سلامة - نحو تأويل سوسيو-ثقافي لنظرية المعرفة* في مدرسة بغداد الفلسفية -القسم الأول-