عبد الحليم مستور
الحوار المتمدن-العدد: 4296 - 2013 / 12 / 5 - 20:14
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
"خرج بواخا ورجع بنسيت"
إن المتأمل في بنيتنا المجتمعية ، سيلاحظ على أنها غنية من حيث الإرث والمخزون الثقافي في شقيه المكتوب والشفهي. وما يشد انتباهنا هو الحضور المتميز والقوي للأمثال الشعبية، باعتبارها بوابة ثقافية يمكن بواسطتها العيش في أحضان المجتمع، وكشف أسراره ،فضلا عن كونها الوجه المشرق في بناء حضارة ثقافية راقية. ومن بين الأمثال التي استدرجت فضولي المعرفي هو القول التالي "خرج بواخا ورجع نسيت" فما دلالات هذا المثال ؟ وما هي أبعاده ؟ وما هو الجانب الخفي فيه؟
لا يختلف اثنان، في كون مسألة تقدم المجتمعات رهين بمدى وعيها بثقافتيها المحلية وذلك بإستعاب دلالتها وفهم مغزاها، علاوة عن استنطاق ما هو مرائي بغية كشف ما هو خفي والمثال الماثل أمامنا "خرج بواخا ورجع بنسيت" .يحمل في طياته دلالات ومعاني متعددة نذكر على سبيل لا الحصر عدم مطابقة القول للعمل ، الكذب ،الخيانة ... والطابع الطاغي على كل هذه الدلالات يأخذ منحى سلبي خصوصا في بعده الداخلي ،أما على المستوى الخارجي فربما يقصد من وراء المثال طابع التعاطف وتقبل طلب الأخر ودعوته إلى المشاركة الفعالة في تدبير شؤون الحياة ، الشيء الذي يكمن بموجبه الإقرار بوجود بعدين اساسين في هذا المثال بعد سلبي وأخر إيجابي ،بيد أن الجانب الأكثر تجلي هو العامل السلبي وخصوصا في ظل التلاقح القائمة بين المجتمع وثقافيته من جهة ،وعلاقة الأفراد بهذه الامثال من جهة ثانية. وتجدر الإشارة إلى أن سلوكاتنا وممارستنا الأخلاقية ،غالبا ما يحضر فيها هذا المثال سواء في صفته المباشرة أو غير المباشرة ،في علاقتنا بذواتنا أو بذوات الآخرين،بالرغم من كون هذا المثال يحمل في أحشائه نوعا من النفاق الذي يتجلى في الإقرار بتقدم خدمة معينة بنية مسبقة في عدم تقديمها. الأمر الذي يستدعي الحديث عن النفاق في بعديه الذاتي والجماعي نظرا لكونه صورة معكوسة لهذا المثال. ففي البعد الذاتي ،نأتي على ذكر النفاق الشخصي وهو غياب الانسجام بين فكر الإنسان وسلوكه ،أو بتعبير أدق عدم مطابقة القول للعمل والأخطر منه النفاق الاجتماعي ،الذي غالبا ما يؤدي إلى أفول الأمة وطمس هويتها ووحدتها الثقافية والاجتماعية . والمتمثل أساسا في ممارستنا وقيمنا الأخلاقية وتصرفاتنا التي نجد فيها النفاق كالحديث عن محاسن الإنسان في حضوره ولكن بمجرد اختفائه عن الأنظار حتى نتكلم عن عكس ما قلناه في وجوده،أو في اللقاءات التي نعقدها مع زملائنا في العمل، ونتخلف عنها بدون مبررات معقولة ومقبولة،والأمثلة في هذا الصدد كثيرة .
وحتى يتسنى لنا الغوص أكثر في أعماق هذا النفاق ودائما في علاقته بالمثال نأتي على ذكر ما يقع في أحزابنا السياسية فعادة ما نسمع عن الترحال السياسي وهو تخلى رجل سياسي عن حزبه والانغماس في احضان حزب جديد كما هو الشأن بالنسبة لوزير التربية الوطنية سابقا محمد الوفا، الذي تخلى عن حزبه السابق " الاستقلال " بالرغم من كونه لم يرتمي إلى حد الآن في أحضان حزب جديد. وما يقع في المجال السياسي يقع في مجالات متعددة كما هو الحال بالنسبة للمجال الرياضي، والانتقالات التي يقومون بها اللاعبين وأنا اكتب هذه الأسطر يحضرني اللاعب سعد فتاح الذي صرح يوما أنه لن يتخلى عن فريق الرجاء البيضاوي، وأنه لن يلعب لأي فريق ماعدا الرجاء واليوم نجده يدافع عن الوان فريق الوداد البيضاوي ، محسن ياجور الذي ثار على الوداد كما قام بذلك مع الرجاء ،سفيان العلودي،أيت العريف... وما يبرر هذه الانتقالات هو الارتقاء المادي، وتحسين المستوى المعيشي ،وبالتالي تسلق السلم الاجتماعي. وما تم قوله حول هاته المجالات فهو ساري المفعول في باقي المجالات الآخرى اقتصاديا واجتماعيا...، بل الأكثر من ذلك يمكن أن يقع داخل المجال الواحد.
وكل هذه الأشياء تقع بسبب الإرث الثقافي ، الذي تغلغل في بنيات أفكارنا . بل يمكن القول أنه عوض أن نرضع حليب الأم الطبيعي الخالي من الشوائب أضحينا نقتات على هذا الفيتامين الذي يطلق عليه الإرث الثقافي . وهذا ليس عيبا ولكن العيب هو عدم إخضاع هذا الإرث لمنطق المساءلة والاستنطاق ، الشيء الذي يؤدي إلى الارتماء في عالم النفاق الذي نهى عنه رسولنا الكريم في خضم كلامه عن آيات المنافق الثلاثة وهي إذا حدث كذب؛ إذا وعد اخلف وإذا أؤتمن خان مما يعني أن النفاق يتأرجح بين الكذب وما أكثره فينا، وعدم الالتزام بالمواعيد فضلا عن خيانة الأمانة. واعتبر شخصيا النفاق الاجتماعي بمثابة مرض يستدعي التدخل الفوري للحيلولة دون السقوط في شرك ثقافة عرجاء وذلك بالاعتماد على منهج عقلي بهدف تصفية وغربلة هذا الإرث ، قصد ترسيخ وتدعيم ما يخدم تقدم وتطور مجتمعنا من جهة ومن آخرى القيام بمسح ذهني لكل الأمثال التراثية التي لا تتماشي وطبيعة النظم المجتمعية في أبعادها المختلفة سياسيا اجتماعيا ثقافيا اقتصاديا.
غني عن البيان إذن، أن الإرث الثقافي يمثل دعامة أساسية في تقدم وتطور المجتمعات.وذلك بتقديم خدمات ثقافية ومعرفية حول هذا الإرث للأجيال الصاعدة وتكوين النشء ،غير أن الأمر يتطلب تضافر الجهود بين مختلف الفاعلين الاجتماعين والمتخصصين في الشأن الثقافي من أجل إلقاء نظرة متأنية وناقدة لهذا المورث بغية إشراق جديد وميلاد مجتمع جديد.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟