أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - الاعتقاد القاتل وغياب الضمير (2)















المزيد.....

الاعتقاد القاتل وغياب الضمير (2)


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 4276 - 2013 / 11 / 15 - 00:10
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لا شك ان الآلية المعتمدة للوصول الى نتائج الاعتقاد القاتل هي آلية الفهم البسيط، لكن جذورها لم تكن بسيطة. فهي تقوم على نوعين من الركائز، احدهما يعود الى التفكير البياني، فيما يعود الاخر الى مجمل التفكير الاسلامي، وكلاهما يحظى باهمية بالغة، ويتقاسمان وزر مسؤولية ما يحصل اليوم من جرائم اعتقادية على ارض الواقع. وهو ما سنعرضه كالتالي..
1ـ مسؤولية النهج البياني
لنبدأ اولاً بالركائز البيانية، فالتفكير البياني هو تفكير قائم على تتبع النصوص الدينية مع تجنب المصادر المعرفية الاخرى التي يمكن ان تؤدي دورها في التأثير على النتائج، كالمصدر العقلي وما اليه. وهو ما يمارسه الفقهاء بجدارة، حيث يحتكمون الى النصوص الدينية ويوازنون فيما بينها عند التعارض والجمع، وقد يرجحون بعضها على البعض الاخر وفقاً لعدد من القواعد الاصولية. والبحث الذي يقوم بهذا الدور من الكفاءة العلمية يعتبر داخلاً ضمن عملية الاجتهاد. ولا يسمح عادة لكل فرد ان يمارس هذا الدور ما لم يكن ضليعاً بمثل هذا التنقيب والبحث والدراية والعلم بالاصول وكيفية التوازن بين النصوص او الادلة المتعارضة. فهذه كانت طريقة الفقهاء، وهم يشددون على ان الفتوى امر خطير للغاية لا ينبغي الاقتراب منها الا لمن له صلاحية علمية ودينية من الايمان والتقوى.
لكن مشكلة هذا التفكير هو بسط النصوص واسقاطها على واقع مغاير، وهو الجانب المتعلق بالاجتهاد في الموضوع ان كان ينطبق عليه حكم النص ام لا؟. فلم يولِ الفقهاء هذا الجانب عناية من البحث، لاعتقادهم ان تحديد الموضوع يتعين بالنص او العرف الخاص بزمن الرسالة، وهو ثابت لا يتغير. وكما يرى بعض الفقهاء من امثال الشاطبي ان الشريعة ثابتة لثبات العوائد الوجودية التي تتعلق بها الاحكام غالباً1. وهذه هي نقطة ضعف الطريقة الفقهية، اذ لم يدرجوا ضمن عناصر الموضوع سياق الاحوال والظروف الملابسة له، وانما اخذوه على اطلاقه في الغالب. وبالتالي فقد تعامل الفقهاء مع الاحكام في علاقتها بالموضوعات وفقاً للنهج الماهوي او التعبدي، اذ افترضوا ان موضوعات الاحكام منقطعة عن ملابسات الواقع واحواله، ومن ثم كانت الاحكام ثابتة مع ثبات هذه الموضوعات. كما انها بحسب النهج البياني واضحة ومفصلة، الامر الذي دعا الى خلق ثقافة ما سميناه (الفوضى الاستنباطية) وخطابات التكفير والشحن والتضليل2.
وفي موضوعنا المطروح يفتش الفقيه عن عناصر موضوع الكفر والشرك الاساسية وهي منزوعة عن الواقع الخاص بعصر النبوة وفق النهج الماهوي التعبدي، ومن ثم يجد ما يماثلها لدى الفرق الاسلامية فيطبق حكم التكفير عليها بشكل او باخر. فهو يستنسخ احكام النص معزولة عن سياقاتها الخاصة ويطبقها على واقع مغاير تماماً. وقد روي انه سئل نافع: كيف رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: يراهم شرار خلق الله، انهم انطلقوا إلى آيات انزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين3.
ومع اننا نجد في نزعة التمييز بين تكفير المطلق وتكفير المعين شكلاً مخففاً للحكم، اذ يبدي هذا الحال انه يراعي طبيعة ما عليه الواقع، الا ان طبيعة الموضوع وحساسيته يجعل منه فكراً يجانب الصواب، فخطورته تنبع من الوسط الذي يتعامل معه. وقد كان ابن تيمية يورد هذا المعنى وهو بصدد الطعن في بعض المذاهب الاسلامية دون ايراده باطلاق وبمعزل عن كل فئة ودين. وبالتالي فاذا كان الاصل هو التكفير، فان من التناقض والخطأ عندما يطبق على المسلمين، وكان يمكن ان يكون له معنى فيما لو طبق على اقوام ظاهرهم يتميز بالشرك والكفر، فيكون الحكم بتكفير المطلق مع لحاظ حالات الموانع في التعيين، ومن ثم فعندما تطبق هذه القاعدة على الطوائف الاسلامية يكون الخطأ في الحكم على المطلق باعتبار ان المسألة اصبحت مجردة عن واقع الحال، وهو واقع يشهد بالاسلام جملة وتفصيلاً فكيف يطبّق عليهم ما هو نقيض ذلك تماماً؟!
صحيح ان المشرع الديني قد يفعل هذا الشيء من التمييز لدواع تربوية للجماعة الاسلامية، او لتعاليه على جميع الفرق والجماعات، او لكون الطرح الوارد فيه هو طرح غير ممنطق كالذي كشفنا عنه في (جدلية الخطاب والواقع)، لكن كل هذه الخصائص لا تنطبق على حال اصحاب التمييز. فهم خلافاً للخطاب الديني يتصفون بالتمنطق، كما انهم ليسوا متعالين على غيرهم من الفرق والمذاهب، يضاف الى ان القاعدة المذكورة موضوعة ليس للجماعة التي يتزعمونها ليكون مفعولها تربوياً، بل مطروحة للجماعات المقابلة، ومن ذلك يستشهد ابن تيمية بما ينقل عن الامام احمد بن حنبل وغيره حول تكفير بعض المذاهب الاسلامية ويأول المنقول وفق قاعدة التمييز المذكورة.
لذا كان الاولى ان تتبدل قاعدة التكفير الانفة الذكر الى الاسلمة، وهي ان يجرى التمييز بين اسلمة المطلق واسلمة المعين عوض التكفير، او ان الاصل هو الاسلام والمحبة والتعاون لا الكفر والكره والعداء.
فقد نعبر عن ظاهرة لا تخلو من الشرك وسط ممارسات المسلمين بتعبيرين يختلفان في المعنى تمام الاختلاف، مثل ان نقول حول التعلق بالاسباب غير الطبيعية: (ان من استغاث بغير الله مشرك)، وان نقول: (ان الاستغاثة بغير الله لا تخلو من الشرك). فالعبارة الاولى تحكم على الناس بالشرك حتى لو كانوا مسلمين، بغض النظر عن الحكم على المعين، في حين ان العبارة الثانية لا تحكم على الناس بالشرك باطلاق، فلو كان المستغيث مسلماً بشهادته وتقربه الى الله لما صح ان ينطبق عليه القول الاول، ولكان يعتبر من المأولين وإن تضمن الفعل للشرك. وبحسب القول الاول يكون المستغيث المسلم بغير الله مشركاً من حيث الاصل، لكن قد يرفع عنه هذا الوصف بنوع من التأويل، وهو التمييز بين شرك المطلق وشرك المعين. فهنا ان الخطأ يرد في التزام القول الاول كما لجأت اليه السلفية، فافضى الحال اليوم الى تكفير بعض المذاهب المقابلة بالتعيين لدى العديد من هذه الجماعات.
فهذه هي نتيجة فتح باب الشبهة في حق الاخرين من المسلمين المتأولين، فلسان حالهم يقول: هل كانت ممارساتهم واحوالهم تدل على الشرك والكفر المتعين ام لا؟ بعد ان ثبت لديهم شرك وكفر المطلق او العام. فخطورة هذا الموقف تأتي عند تطبيق المنهج المذكور على امور حساسة كالشرك او الكفر مثلاً.
وزاد في الطين بلة فيما نراه اليوم من فوضى الفتاوى التي لم تتقيد بالشروط العلمية الكافية، فهي وان انتمت الى النهج البياني؛ لكنها بيانية مخلة الى غاية الحدود، الامر الذي ينطبق على فتاوى من يحملون الاعتقاد القاتل. فهي ممارسات بيانية تتميز بعدد من الركائز المخلة، كما يتضح من خلال هاتين النقطتين:
أـ عدم الكفاءة العلمية: فالذين يحملون الاعتقاد القاتل هم من الشباب الذين اصيبوا بهوس الفوضى الفتوائية او الاستنباطية لكثرة ما يختلفون حولها من دون ضوابط سوى القول العام بالرجوع الى الكتاب والسنة والسلف الصالح. فهم لم يتدربوا على النضج العلمي، فيكفيهم في ذلك الاعتماد على نصوص معينة للاقرار بالفتوى ومن ثم تنزيلها على واقع مغاير اشد التغاير عما كان عليه في الماضي. فيمكن لكل مسلم قليل التحصيل ان يصل الى ما يريده في الكتاب والسنة من دون عناء، وقد يدعم ما يريده الاستشهاد بقوله تعالى: ((هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى (ال عمران-138).. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ (النحل-89)..)). وكثيراً ما تُستغل حال الاجتهادات التي تفضي الى خلاف الشرع او الكتاب والسنة كما يُنقل ذلك عن بعض اتباع المذهب الحنفي في إتباعهم اقوال زعماء المذهب ولو كان على حساب ظاهر النصوص من الكتاب والسنة. واشتهر قول بعض الأحناف: كل آية أو خبر يخالف قول أصحابنا يُحمل على النسخ أو التأويل أو الترجيح4. وزاد بعضهم بقوله: «لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أدّاه ذلك إلى الكفر، فإن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر»5.
مع انه في القبال ينقل عن بعض السلف ان تحقيق الشروط العلمية للفتوى هو في غاية الصعوبة، اذ يشترط البعض على المفتي ان يكون حافظاً لمئات الالاف من الروايات. ومن ذلك سئل ابن معين: أيفتي الرجل من مائة ألف حديث؟ قال: لا، وتكرر السؤال: من مائتي ألف.. من ثلاثمائة ألف؟ قال لا، فسئل: من خمسمائة ألف؟ فقال: أرجو6.

ب - انتقاء النصوص: حيث الاكتفاء بالتعويل على ظواهر بعض النصوص دون البعض الاخر، خلافاً لطريقة الفقهاء. وكثيراً ما يمارس الكلاميون مثل هذا النهج في القضايا الاعتقادية اعتماداً على النهج العقلي، فاصبحت الاعتقادات مرتعاً لتوارد الخاصة والعامة، العلماء والدهماء، فالكل يمارس ذات الدور، وهو الاعتماد على نوع من الادلة وترك ما يقابلها، سوى ان الفارق بين الفريقين هو ان العلماء يمكنهم تناول الادلة المعارضة والرد عليها واعتبارها من الشبهات، وهو ما لا يتمكن الدهماء من ان يفعلوا ازاءها شيئاً، فهم يكتفون بالادلة الاثباتية بمحاكاة العلماء وتقليدهم على نحو الاجمال.
وكثيراً ما يتقبل العلماء هذا الفعل الذي يقوم به الدهماء في القضايا الاعتقادية من الاستدلال بالمحاكاة والتقليد؛ لظنهم ان ذلك يكفي للتوصل الى القطع واليقين، لكنهم لا يتقبلون ذلك منهم في القضايا الفقهية، فهم يدركون ان الفقه يحتاج الى آلة الاجتهاد ولحاظ صور التعارض بين الادلة ومن ثم القيام بالترجيح فيما بينها، وهو ما لا يمكن للدهماء فعله، رغم انه لا يمكنهم فعل ذلك ايضاً على مستوى الاعتقاد وعلم الكلام7.
وبالتالي فالعمل القائم على الانتقاء هو من خاصية الدهماء او ذوي العلم الناقص، وهو الممارس اليوم لدى الصراع الطائفي، وعلى رأسهم اصحاب الاعتقاد القاتل.

2ـ مسؤولية التفكير الاسلامي وغياب الضمير الانساني
يعتبر غياب الضمير الانساني اهم العناصر التي يفتقر اليها مجمل التفكير الديني الاسلامي، سواء تعلق الامر بالمنهج البياني او بالمنهج العقلي المعياري. وهو يعبر عن غياب التفكير في الحق الانساني واعتبارات التكريم التي تلوحه، وكونه اهلاً للاحترام والتقدير كانسان وبغض النظر عن كل اعتبار اخر. فلا شيء يمكن ان يسقط عنه الاحترام والتقدير غير الجريمة الكبيرة في الفعل الذي يمارس ضد الاخرين.
لقد كان عدد من المستشرقين يتهمون الاسلام بانه خال من فكرة الضمير الاخلاقية كما تم تداولها لدى بعض الاوساط المسيحية. ومعلوم ان لدى هذه الاوساط مراكز للاعتراف الطوعي بالذنب والجريمة للتخفيف عن ازمة هذه الجوهرة المكنونة، وقد نشأت خلال القرن الثالث عشر الميلادي وما زال يُعمل بها حتى يومنا هذا. وكان البعض يستدل على غياب الضمير لدى الاسلام بخلو اللغة العربية وسائر اللغات الاسلامية الاخرى من كلمة تفي التعبير بدقة عما يُقصد من هذه اللفظة (الضمير). وهو خطأ أشرنا اليه في بعض الدراسات المستقلة8.
ان الاعتراف بملكة الضمير يتطلب قبل كل شيء الاعتراف بقيمة العقل القيمي المستقل، ونجد هذه القيمة إما انها منكرة لدى المذاهب الاسلامية، او انها معطلة الدور في العلاقة البشرية. فالعقل القيمي منحّى كلياً لدى مذهب الاشاعرة، الذي يعتبر اكبر المذاهب الاسلامية قاطبة، رغم ان فكرة مقاصد الشريعة ظهرت لدى اتباع هذا المذهب، وبحسب التحليل فان هذا الموقف المزدوج هو موقف متناقض، بل ان وسيلة الاجتهاد والاعتماد على القياس لا حجة لهما بحسب هذا الموقف ما لم يكن التوصل اليهما بطريق قطعي من جهة الشرع، وهو امر ليس بالسهل9.
ويبقى ان الاصل الذي عول عليه الاشاعرة في نفي حجية العقل القيمي، كما يتمثل في التحسين والتقبيح، يمنع تبرير قبول فكرة الضمير الانساني ما لم يتم الرجوع فيها الى الشرع ذاته، وعادة ما يختلف الفقهاء والعلماء لدى لجوئهم الى الاعتبارات الشرعية. وهي نقطة الضعف والثغرة التي لا تُسدد الا عبر الاعتماد على العقل القيمي المستقل، ومنه يمكن انتزاع فكرة الضمير لتخفيف ما يرتكبه الانسان المسلم من جرائم تتنفر منها النفوس وتستهجنها العقول.
ومع ان فكرة العقل القيمي المستقل كانت مورد اعتبار علماء الكلام خارج نطاق الاشاعرة ومن يشاركهم الرأي، الا ان فاعليتها لم تكن ضمن دائرة الحقوق البشرية المستقلة، فالجانب الميتافيزيقي يغلب عليها، بل وحتى ان هذا العقل كان منتهكاً عند ممارسة السجالات الكلامية، فالمخالف في الاعتقاد لم يكن من ذوي البشر المحترمين غالباً، وتبريرات هذا الفعل تستند الى الرواية عادة، كرواية الفرقة الناجية وسط فرق الضلال. وفي المجال الفقهي ان الرواية رغم كونها ليست دراية فانها كفيلة بأن تحطم صخرة العقل وتجعله قشة في مهب الريح. وأول من نظّر لهذا الفعل في ابطال كل ما لا يعود الى الشرع هو الشافعي عند تأسيسه لاصول الفقه، وكانت بصماته قوية لدى الفقهاء ممن جاؤا بعده، فالتعويل لدى الفقهاء في مختلف المذاهب قائم بشكل رئيسي على الرواية. ومن ثم فانها مرجحة على العقل القيمي المستقل، والشواهد على ذلك كثيرة، بل وان الرواية لدى الفقهاء الملتزمين بحجية مثل هذا العقل كافية لاقناعهم بأن لا حجية له في الاحكام بتاتاً10. وبالتالي من اين نأتي بمورد قوي للتراث لكي نثبت صلابة العقل القيمي المستقل ونؤسس عليه فكرة الضمير الانساني؟.. فالارض خصبة لاصحاب البيان سواء كانوا من اصحابه الفعليين، او ممن ارتضوا الازدواجية في الجمع بين البيان والعقل، فلم ينفعهم الاعتماد على العقل شيئاً سوى ما يتعلق بالمجادلات الميتافيزيقية.
لقد كانت نظرية ترجيح العقل على النقل عند التعارض نظرية مهمة للغاية، فهي تتأسس من منطلق كون العقل محكماً وقطعياً خلافاً للنقل الذي يتصف بالتشابه والظن. لكن مع هذا فانها مصابة بداء المفارقة والتناقض، فالذين طرحوا هذه النظرية هم ذاتهم قد انقسموا اشد الانقسام حول الاصول العقلية التي يفترض ان تكون مشتركة وقطعية. وبالتالي لا بد من طرح اخر قائم على النواحي الوجدانية الواضحة بعيداً عن الجدل الكلامي القديم. فما يهمنا بالفعل هو تفعيل دور ضمير المسلم في التزام القضايا الانسانية بشكل مستقل عن القضايا الشرعية، مثلما آلت اليه بعض الاتجاهات المسيحية، وعلى رأسها حركة لوثر الاصلاحية التي جعلت من الضمير حاكماً حتى على نص الكتاب المقدس.
فلا شيء يفوق العقل والضمير، والشرع ذاته بحاجة اليهما. ولو تخيلنا ان الشرع لا يعير اي اعتبار للعقل والضمير كيف يمكن التسليم بمثل هكذا شرع او دين؟.. فهو واضح البطلان، اذ ما يحكم بصوابه وبطلانه انما العقل ذاته لا غير. فالشيء لا يمكنه ان يقيم ذاته بذاته باستثناء العقل من خلال الرجوع الى الواضحات، وكل ما عدا ذلك انما يرجع اليها. وبالتالي فكل شرع ودين يتعارض مع الضمير الانساني هو شرع باطل تماماً. واعتقادنا بالاسلام كدين انما يأتي من منطلق كونه يدعم هذا الضمير لا ان يعارضه. ومع هذا لا نجعل الاستدلال بالشرع يتخذ الخطوة الرئيسة في الموضوع، باعتباره قد يطرح الخلافات الفقهية المعهودة رغم ركائزها الضعيفة، وكان الاولى الاعتماد على الواضحات العقلية قبل اي اعتبار اخر. ففكرة الضمير هنا تتبع ما عليه التأسيسات العقلية، وتندرج ضمن الامضاءات الشرعية من دون عكس، فهي تابعة من هذه الناحية للوجدان العقلي او لقضية الاخلاق العقلية برمتها.
وينبني على هذا الاساس ما نسميه (التدين الانساني) القائم على الضمير والمحبة والقيم الانسانية المشتركة، ويقابله (التدين العدواني) الذي يتقرب الى الله تعالى باللعن والتضليل والتكفير والقتل، حتى ان فيه من يمارس التسبيح باللعن ويعتبره من افضل العبادات، بل هو المنبع الاساس لما يسمى الارهاب. فالاخير يتغذى على هذا النمط من التدين، او هو نتاج فعل طبيعي له، وبالتالي فالحاجة تقتضي ان تكون هناك ممانعة من تغلغل هذا التدين ومقارعته فكرياً، والا فمن العبث ان نقوم بمحاربة نتائجه (كالارهاب) وتبقى اسبابها تفعل بنا ما تشاء؛ إن لم نمارس بدورنا الدعم لهذه الاسباب بلا وعي؛ فنكون كالطابور الخامس او الخلايا النائمة.
لكن ينبغي ان لا يكون النقد والمقاومة وفق ما يصاغ ضد المذهب المقابل فقط، ففي ذلك خلط للاوراق ما لا يحتاج الى بيان، لا سيما ان هذا الحال حاصل لاعتبارات ايديولوجية. بل الصحيح هو العمل على نقد الذات، بل وجلدها ايضاً، وهو ان يقوم كل منا بواحد من هذين الدورين:

أ ـ نقد توجهات هذا النمط الخطير ضمن المذهب المتبع، فهو يلازمه تقريباً، وفضح جهله وألاعيبه، مع لوم انفسنا على ما قصرنا فيه من الرضا بعقيدة فاسدة مكفرة ومضللة للعباد، الى الدرجة التي اوهمتنا بأننا ننتمي الى (شعب الله المختار) عبر مقالة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال11.
ب ـ القيام بنقد ما يرد في المذهب المتبع وما يقابله لدى المذهب الاخر بإتزان وموضوعية، فكل ما نراه هناك نراه هنا، فالتدين العدواني متغلغل في هذا المذهب مثلما انه متغلغل في المذهب المقابل، ففي كل منهما تجد التضليل والتكفير للاخر، وكأن الله لم يهد سوى هذا المذهب المضلل والمكفر.
ولنقل ان التدين العدواني هو في حد ذاته مذهب مستشر لدى جميع المذاهب، وهو ذاته الذي يمنع من حضور ما يعارضه من التدين الانساني. وعلى الصعيد التاريخي لا نجد للتدين الاخير تياراً معتداً به، بل هناك شخصيات متفرقة هنا وهناك، واغلبهم ينتمي الى دائرتي الفلسفة والصوفية. فتكاد آثاره تغيب وسط المذاهب الكثيرة التي يتحكم فيها التدين العدواني بلا منازع.
هذا ونشير الى وجود انماط عديدة اخرى للتدين لسنا بصدد ذكرها هنا، وقد استعرضناها في محل اخر، لكن ليس فيها ما يشكل خطورة على المجتمع كالتدين العدواني، مثلما ليس فيها ما يشكل صلاحاً للمجتمع كالتدين الانساني الذي تهزه مشاعر الضمير وقيم الاخلاق العامة.



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاعتقاد القاتل وغياب الضمير (1)
- الإفتراض الآخر
- موقع جديد: فلسفة العلم والفهم
- ما الذي يمكن ان يقدمه الفهم الديني للعلم؟
- أساليب التوالد المعرفي (قراءة نقدية لما جاء في الاسس المنطقي ...
- مسلمات العلم والفهم: مبدأ السببية والقصدية
- نظم العلم والهرمنوطيقا (6)
- النسق المتسق بين العلم والفهم
- نظم العلم والهرمنوطيقا (5)
- نظم العلم والهرمنوطيقا (4)
- الشذوذ والمسكوت عنه في العلم والفهم
- قواعد الكشف بين العلم والفهم
- مبدأ التكافؤ بين العلم والفهم
- نظم العلم والهرمنوطيقا (3)
- نظم العلم والهرمنوطيقا (2)
- نظم العلم والهرمنوطيقا (1)
- الدليل الصناعي وأساليب العلم والوجدان
- ثلاث بنى عقلية منتجة: المثقف العلماني والديني والفقيه
- الفضاء الكوني والعلم المعاصر
- نظرية التجاوز المذهبي


المزيد.....




- أغنيات وأناشيد وبرامج ترفيهية.. تردد قناة طيور الجنة.. طفولة ...
- -أزالوا العصابة عن عيني فرأيت مدى الإذلال والإهانة-.. شهادات ...
- مقيدون باستمرار ويرتدون حفاضات.. تحقيق لـCNN يكشف ما يجري لف ...
- هامبورغ تفرض -شروطا صارمة- على مظاهرة مرتقبة ينظمها إسلاميون ...
- -تكوين- بمواجهة اتهامات -الإلحاد والفوضى- في مصر
- هجوم حاد على بايدن من منظمات يهودية أميركية
- “ضحك أطفالك” نزل تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2024 على ج ...
- قائد الثورة الإسلامية يدلى بصوته في الجولة الثانية للانتخابا ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تقصف 6 أهداف حيوية إسرائيلية بص ...
- -أهداف حيوية وموقع عسكري-..-المقاومة الإسلامية بالعراق- تنفذ ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - الاعتقاد القاتل وغياب الضمير (2)