أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - نظم العلم والهرمنوطيقا (3)















المزيد.....



نظم العلم والهرمنوطيقا (3)


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 4112 - 2013 / 6 / 3 - 00:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لقد اصبحت الفيزياء اليوم اقل اتصافاً بالتجريبية، في الوقت الذي اتسعت فيها صفة التخمين، مما جعل السمة الميتافيزيقية بادية عليها، وهو الامر الذي ولّد نظاماً جديداً نطلق عليه النظام التخميني الميتافيزيقي..
النظام التخميني الميتافيزيقي
لقد اشتهرت الفيزياء بطرح مسائل تعد في السابق من القضايا الفلسفية او الميتافيزيقية التي لا معنى لها، ومن ذلك ان ارنست ماخ اعتبر فرضية الذرة من القضايا الميتافيزيقية، في حين تقبلها عالم الذرة الفيزيائي رذرفورد. وفي الوقت ذاته اعتبر هذا الاخير الفلسفة كلاماً فارغاً، لكنها اصبحت اليوم متداولة لدى العلماء كما يتداولها الفلاسفة، مثلما هو الحال مع المسائل التالية: ما هو الزمان؟ من اين اتى الكون؟ هل يمكن تخليق شيء من لا شيء؟ ما هو شكل الكون قبل عملية الانفجار العظيم؟..الخ.
لقد كان هناك من اشار الى وجود نزعتين واضحتين للعلم كما اشار اليها الباحث ماكسويل اواخر القرن العشرين، احداهما تجريبية تقوم على عنصرين في فهم العلاقات الكونية، وهما: الملاحظة والتجربة من جهة، وبناء القوانين والنظريات القابلة للاختبار والفحص من جهة ثانية. أما النزعة الاخرى فتحمل أبعاداً اخرى ميتافيزيقية، وقد مال اليها تيار من العلماء.
قديماً لم يكن هناك رفض وصدام بين العلم والفلسفة، اذ كانت الفلسفة الام الحاضنة للعلم، لكن ما ان حلت النهضة العلمية الحديثة حتى بدأ العلم يبتعد عن الفلسفة فظهر التنافر بينهما شيئاً فشيئاً. واذا كان العلماء يتحفظون من القضايا الفلسفية في اطروحاتهم، فان للفلاسفة في القبال اشكالاتهم على العلم، ومنهم هيجل وهوسرل وهايدجر وبرجسون وفخته اذ كانوا على خلاف مع العلم وطريقته الوضعية. فمثلاً ان هوسرل كان يشعر بان العلم في ازمة لاستبعاده الامور التي لا تخضع للملاحظة والتجريب كالذي ابداه في كتابه (ازمة العلوم الاوروبية).
ومع ذلك فقد تبين بان للافكار الفلسفية تأثيراً على العلم احياناً يفوق التأثير العلمي ذاته، كالذي كشف عنه كارل بوبر ضمن معرض رده على فتجنشتاين والوضعية المنطقية التي سلمت بان القضايا الفلسفية ليس لها معنى. وقد عدد بوبر عدداً من القضايا الفلسفية التي لها تأثير ملحوظ على التقدم العلمي، ولولا بعضها كان من الصعب على العلم ان يتقدم، ومن ابرزها المذهب الذري لديمقريطس، فمع بداية القرن التاسع عشر اعاد دالتون هذا المذهب ليحل بعض المشكلات المتعلقة بالكيمياء. وعند منتصف هذا القرن استعان ماكسويل بهذا المذهب وادخله في النظرية الدينامية للغازات. اما عند حلول القرن العشرين فقد اصبح التفسير الذري فرضاً علمياً بعد ما كان تصوراً فلسفياً. ومع ان رذرفورد اعتبر الفلسفة كلاماً فارغاً، الا انه تقبل التفسير الذري القائم على الاعتبارات الفلسفية كما اشرنا من قبل.
ويمتاز النظام التخميني بانه كثيراً ما يعتمد على مقررات النظام الذي قبله، كما هو الحال مع فيزياء النسبية لاينشتاين ونظرية الكوانتم، مثلما ان النظام الثاني يزيد على النظام الاول السابق له ويختلف معه في القضايا التي ليس للتجربة ان تلوحها. لكن مع ذلك فان هذا النظام يطرح اموراً تتجاوز فعلاً مسلمات النظام الثاني، وان لم تتجاوز قوانين الفيزياء المعروفة.
فقد اخذ الفيزيائيون في النظام الثالث يطرحون افكاراً لمجرد انها لا تتصادم مع قوانين الفيزياء المعروفة دون ان يملكوا عليها دليلاً. فقد اخذ التخمين يتسارع كنزعة تفوق النظر التجريبي، واخذت النظريات التخمينية توسع من مداها وهي مقبولة لدى الاوساط العلمية ومرحب بها، رغم انه من الصعب اختبارها. فاصبح الفارق بين العلم والفلسفة من هذه الناحية معدوماً، اذ صار العلم كالفلسفة غير قابل للاختبار. ومع انه في مطلع القرن العشرين كان الفلاسفة يكدحون ليحاكوا علماء الطبيعة ويجعلوا نظرياتهم دقيقة كتلك التي يعتمد عليها في العلم، لكن ما ظهر في نهاية هذا القرن هو ان العلماء هم من اخذوا يحاكون الفلاسفة في طريقتهم التجريدية غير القابلة للاختبار، فاصبحت الفلسفة هي المثل الاعلى في البحث بعد ما كان العلم التجريبي يعكس هذا المثل.
فلقد تمنى الفيزيائيون النظريون ان يصلوا الى الدرجة التي يفرضوا فيه اعتباراتهم الرياضية والعقلية المجردة دون ان يحتاجوا فيها الى التجربة. والاتجاه الذي بدأ فعله من اينشتاين عندما اخذ يخطط لنظرية المجال الموحد، ثم اخذ يتعاظم فيما بعد، وكان من اعظم تجلياته ما يتمثل لدى نظرية الاوتار الفائقة. لذلك فاننا لا نجد فارقاً بين هذا النظام والنظام القديم من الناحية المبدئية. فالحركة العلمية اصبحت دورانية، فرغم ان بدايتها وتطوراتها اظهرت اختلافها ونقضها للنظام القديم، الا انها عادت مرة اخرى لتنتصر له بعد ان استفرغت متطلباتها بما لم يستطع النظام القديم تحقيقه. لكن يظل ان الاختلاف بين النظامين هو ان النظام القديم دوغمائي لا يتقبل احتمال الخلاف، وهو ما لا يتوفر لدى النظام المعاصر الذي يتصف بكونه تخميني في مجمل ما طرحه من نظريات. لكن في جميع الاحوال فان هذه النظريات لا تختلف عادة عن نظريات النظام القديم في كونها لا تقبل الاختبار او من الصعب اختبارها.
فواقعنا الفيزيائي المعاصر منقسم بالفعل الى ثلاثة اتجاهات متنافسة هي بالفعل ما تمثل النظم العلمية الثلاثة التي طرحناها، وكثيراً ما ينشأ الجدل العلمي بين اتباع هذه النظم المتقاربة دون المتباعدة. فقد ينشأ الجدل بين النظامين الاول والثاني، كالذي جرى بين اينشتاين وبعض الفيزيائيين. كما قد ينشأ بين النظامين الثاني والثالث، ومن ذلك ما تحدث عنه ماكيويجو عندما توصل برفقة زميله ستيفن الى بعض النتائج في بحثهما حول التغير في سرعة الضوء، من انهما قد انتهيا بعد ذلك الى اتجاهين متعاكسين، احدهما يميل الى التجريد الرياضي الصرف كالذي تتبناه نظرية الاوتار الفائقة والمتمثلة في نظرية (M)، وهو الخيار الذي اختاره ستيفن، فيما عاكسه ماكيويجو لاعتقاده بان النظرية الفيزيائية تظل بحاجة الى النتائج التجريبية، وهو الاتجاه الذي يعود بنا الى النظام الثاني.
ان ابرز ما جاء من نظريات تخمينية لهذا النظام تلك المتعلقة بظروف نشأة الكون الاولى، او حتى ما قبل ذلك، وايضاً النظريات التي تعول على وجود اكوان متعددة متوازية لا تحصى؛ بعضها يجهل البعض الاخر تماماً.
وابرز ما يصادفنا حول ظروف نشاة الكون نظرية جوث في التضخم الكوني، فوفقاً لها انه خلال جزء ضئيل جداً من الثانية تضخم الكون وتضاعف بشكل عظيم. ان نسخة جوث الاولية للكون التضخمي جاءت مساوية لوصفة ترايون حول التموجات الفراغية، الا ان نسخة جوث لم تفسر لنا من اين اتت الفقاعات الاولية الدقيقة. اذ بحسب هذه النظرية فان كوننا هو فقاعة ضئيلة الحجم للغاية فتضخمت في وقت قصير جداً من الثانية ليتحول الى الكون الحالي. وبحسب هذه النظرية فان اي كون كمي جديد يتكون كتموجات فراغية يبدأ بحجم صغير للغاية فيتمدد خلال طرفة عين الى حجم كحجم الكون الحالي، كالفقاعة. ويحتمل جربين انه قد يكون الكون وكل شيء فيه عبارة عن تموجات فراغية تسمح لتجمعات الجسيمات ان تندفع بشدة من لا شيء، وتعيش لفترة ثم يعاد امتصاصها ثانية داخل الفراغ. وهي تتسق مع اعتبار الكون مغلقاً يتمدد ثم يعود ليتقلص ويختفي. وقد ظهرت هذه الفكرة بداية السبعينات ولعب جربين دوراً في ظهورها سنة 1971، ثم قدم ترايون (Tryon) عام 1973 بحثاً مطوراً اعتبر فيه فكرة الانفجار العظيم هو تموجات فراغية. ثم ظهرت نسخة جديدة جدية بعد عشر سنوات حول الموضوع، وهي النسخة المتعلقة بافتراضات عالم الفيزياء جوث.
اما بخصوص الاكوان المتعددة، فقد افترض ان واقعنا الكوني ليس هو الواقع الوحيد، كما اقترح ذلك إيفيريت عام 1956، اعتماداً على ما يعرف بتناقض قطة شرودنجر، او كما اقترحه الفيزيائي الروسي اندريه ليند من أن ظروف التمدد التضخمي قد تكررت مرات ومرات في مناطق منعزلة منتشرة في الكون مؤدية إلى عوالم جديدة منفصلة ضمن شبكة كونية لا نهائية، بحيث تتوالد ذاتياً، فقد استبدل هذا الفيزيائي نظرية التضخم لجوث بتضخم مستمر دون نهاية، فقد نقد هذا الفيزيائي الحالة غير المستقرة لبداية الانتفاخ الكوني لدى جوث، واعتبر التضخم لم يتوقف مفعوله منذ ان بدأ، هذا ان كان له بداية فعلية، والمرجح بحسب ليند ان التضخم لم يكن له بداية ولا نهاية، فهو تضخم دائم بفعل التذبذبات الكمومية المستمرة، فمن منطقة لاخرى تفعل هذه الذبذبات فعلها العشوائي وفقاً لمبدأ هايزنبرغ في عدم اليقين والتحديد، وهكذا باستمرار، فالاكوان الانتفاخية تتخلق طوال الوقت من داخل الاكوان الموجودة من قبل، وبعد ان تتخلق فانها سرعان ما تنمو كبرعم ينفصل ثم انها تلد اكواناً خاصة بها، وهكذا تتولد فقاعات كونية قابلة للتضخم باستمرار دون انقطاع. وقد تدخل بعض الاكوان ضمن هذا السيناريو في طور التقلص ومن ثم الانسحاق والاختفاء، او تخافت التضخم شبيه بما تحدثت عنه نسخة جوث الاصلية، واحياناً قليلة يزداد فعل التضخم في بعض المناطق والفقاعات نتيجة تعاظم التذبذبات العشوائية، ومن الجائز امكان وجود نوع من الشفرة الوراثية تسبب ان تكون الاكوان المتولدة شبيهة بآبائها، كما يمكن ان تكون هناك طفرات وراثية ايضاً، وقد يكون كوننا طافراً من كون اخر يحمل قوانين فيزيائية مختلفة.
ان ما يتحدث عنه ليند في التضخم الكوني شبيه بما يتحدث عنه الفلاسفة، وخاصة اصحاب المدرسة الاشراقية، من ان النظام الكلي والنوعي للعالم الدنيوي يبقى دائم التواصل دون بداية ولا نهاية رغم ان الافراد تنتهي وتزول. ففي التضخم الكوني ان الاكوان تذهب وتنتهي هنا وهناك، لكنها تولد ما يبقي حالة الفعل التضخمي دون انتهاء، فنحن امام حمام من الفقاعات التي لا تنتهي ولا تموت، كما هو وصف الفيزيائي ليونارد ساسكند.
كذلك ما اقترحه غاسبريني وفينيتسيانو - من دعاة نظرية الأوتار الفائقة - بأنه قد يكون هناك عالم لا نهائي في فضاء سابق على بداية كوننا هذا، أو في عصر ما قبل الإنفجار العظيم، وقد وصف الكون في تلك المرحلة بان العالم بدأ اساساً بارداً ولا نهائياً في الفضاء ولم يكن شديد السخونة، كما كان مجعداً بشدة، وقد تعرض هذا العالم لعدم ثبات دافعاً كل نقطة في الكون الى التباعد بسرعة بعضها عن البعض الاخر. وقد بين الباحثان بأن ذلك تسبب في تحدب اكثر للفضاء مما ادى الى زيادة هائلة في الحرارة وطاقة الكثافة. وبعد بعض الوقت تكونت منطقة ثلاثية الابعاد في حجم ملمتر داخل هذا المدى الشاسع مثل كتلة كثيفة ساخنة جداً ومنبثقة من تمدد جوث التضخمي.
كما لاحظ سمولين ان ظروف الانفجار العظيم تتشابه مع مراكز الثقوب السوداء، وعليه اقترح ان كل ثقب اسود هو نواة لعالم جديد يخرج للوجود عبر انفجار هائل، لكنه محتجب عن انظارنا للابد بواسطة افق حدث الثقب الاسود. كما ادخل هذا الفيزيائي عنصراً جديداً هو صورة كونية من التطفر الجيني، فوضع بذلك النهاية حول التقييد العلمي المرتبط بالمبدأ البشري. واقترح انه لو تصورنا عالماً يتبرعم من لب ثقب فان خواصه الفيزيائية مثل كتلة الجسيمات وشدة القوى ستكون قريبة لكنها ليست مثل تلك الموجودة في العالم الذي جاء منه. وستؤدي التغيرات الطفيفة في مؤشرات العوالم الوليدة الى عوالم اخرى فيصبح بعضها اكثر موائمة لانتاج الثقوب السوداء مقارنة باصلها، ومن ثم ستعطي عوالم وليدة اكثر. وهكذا فان اقتراح سمولين هو على خلاف المبدأ البشري. كذلك اقترح ويلر بأن الكون كله قد يكون واقعاً في ثقب اسود عملاق.
واول ما يمكن الاعتراض على الاكوان المتعددة التي لا تحصى هو انها لا تنسجم مع البساطة او حد اوكام، اذ بدل ان يكون الاهتمام منصباً على كون واحد منتظم، فانه يتحول الى اكوان مختلفة افتراضية لا تحصى. لذلك وجدت شجباً لدى العديد من الفيزيائيين باعتبارها موغلة في الخيال والافتراض دون ادنى دليل.
وعلى هذه الشاكلة من النظريات التخمينية غير القابلة للاختبار هي ان للاوتار الكونية خواص عجيبة، فهي اما ان تكون لا نهائية الطول عبر الكون، او تكون ذات حلقات مقفلة، وان الوتر اللانهائي الطول يمكنه ان يشغل من الفراغ اذا تكور باقل من حجم الذرة، وان وزنه يكون (10 40 طناً)، اي يساوي وزن كوكبة فائقة من عدة كوكبات مجرية. ورغم هذه الكتلة المهولة لا يمارس الوتر اي قوة جاذبية على الاشياء المجاورة، فرغم ان له قوة جاذبية هائلة لكن له في الوقت ذاته قوة ضغط معادلة او جاذبية مضادة.
ومن بين الاعتقادات التخمينية ايضاً الاعتقاد بالثقوب الدودية كالتي خمّنها العالم الفلكي الالماني كارل شوارتز تشيلد اعتماداً على النسبية العامة لاينشتاين، وعرفت باسمه رغم انه سبقه في ذلك الفيزيائي النمساوي لودفيج فلام، فمع ان معادلات اينشتاين لا تمانع من وجودها، لكنها لا تدل على وجودها بالفعل. وقد كان ويلر هو من صك اصطلاحات على غرار الثقوب الدودية والثقوب السوداء. ووفقاً للفيزيائي فينمان فانه يمكن السفر في الماضي او المستقبل عبر هذه الثقوب، فعلى مستوى جسيمة مفردة يمكن ان تتحرك الى الامام في الزمن ويكافؤها تحرك جسيمة مضادة الى الخلف في الماضي. وبحسب ستيفن هوكنج فان كوننا مليء بأعداد فلكية من الثقوب الدودية التي تتناوب الدخول الى الوجود والخروج منه على نحو متصل، وهي في غاية الصغر بحيث لا يمكن ملاحظتها، والجسيمات التي تصنع عالمنا تتساقط باستمرار في هذه الثقوب غير المرئية، ويحل محلها في الوقت ذاته جسيمات من اكوان اخرى، دون ان نحس بها، ففي كل حين يحدث ان احد الجسيمات - كالالكترون مثلاً - يختفي من كوننا لداخل ثقب دودي، في الوقت الذي يخرج من هذا الثقب جسم مماثل يأتي من كون اخر. وهو أمر شبيه بما يتحدث عنه صدر المتألهين من فلاسفتنا عن صور الاشياء التي تتبدل في كل آن عبر سلاسل الصعود والنزول بين العوالم الوجودية المختلفة، ومن ذلك الصور الطبيعية والنفسية، دون ان نشعر.
وقد وصف بعض الفيزيائيين الثقوب الدودية التي يمكن استخدامها للسفر في المكان والزمان وتجاوز العوالم المشهودة بانها اشبه بروايات الخيال اكثر مما تكون علمية، سيما انها اول ما ظهرت في رواية خيال علمي وليس في مجلة علمية. وتلعب روايات الخيال العلمي هنا دوراً كبيراً في الموضوع، سيما ان هذه الروايات تتحقق احياناً، ومن ذلك ان الاديب الفرنسي جول فيرن (1828ـ1905) كان قد كتب رواية تصف جهازاً من حديد قادراً على الطيران، وهو الامر الذي تحقق فيما بعد. وعلى العموم يكفي الباحثين في هذا المجال ان ما يتخيلونه لا يصادم القوانين الفيزيائية، وهم يعترفون بذلك ويقدرون الامور بحسب التخمين لا كاعتقاد جازم او موثوق.
ويتساءل البعض ضمن هذا النظام الفيزيائي (الجديد) عما اذا كان يمكن للزمان ان يجري وراءاً في كون يتقلص، خلاف الزمان الجاري اماماً في الكون المتمدد المشهود؟ وعما اذا كان يمكن ان يوجد عدد لا نهائي من الاكوان المتعاقبة؟ وعما اذا كان يمكن للبوزيترون ان يكون الكتروناً يتحرك وراء الزمان؟ بل في هذه الحالة قد لا كون في الكون سوى الكترون واحد، وما ندركه من جسيمات كثيرة – وهي التي تؤلف عالمنا كله - ربما هي نفس الجسيم الواحد المتحرك ذهاباً واياباً في كلا الاتجاهين. وهو اشبه ما يتحدث عنه العرفاء في تصويرهم لوحدة الوجود بالشعلة الجوالة.
وبالتالي فما يمتاز به هذا النظام هو انه يبحث عما يسمى (حافة العلم) لا تخومه، فهو يبحث عن الافتراضات الممكنة التي تسمح بها القوانين الفيزيائية وان لم يسعفه الدليل على وجودها. فهو في واقع الامر يرجع الى البحث الفلسفي القائم على التخمين والخيال فحسب، وهو ما يعنيه تضمن العلم للافكار الفلسفية، الى الحد الذي تناقش فيه احتمالات تجاوز قانون السببية والسفر الى الماضي، رغم الاعتراف بأن السببية هي فرض فلسفي يتأسس عليه العلم.
بل اخذ الفيزيائيون يناقشون كيفية وجود هذا الكون وما يستدي ذلك من مناقشة وجود الله. والكثير من التخمينات المطروحة تبدي سذاجة فائقة، ومن ذلك التخمينات الاسطورية التي ترى بان الله كائن مخلوق بالصدفة، ومن ثم انه قام بخلق الكون، او انه خلق القسم المنتظم من الكون فحسب كالذي اقترحه الفلكي فريد هويل والفيزيائي فرانك تبلر والكاتب اسحاق اسيموف.. او ان من عشوائية الاكوان المتعددة غير النهائية نشأ كوننا، او ان كوننا الحالي هو نتيجة مصادفات سعيدة عشوائية كالتي يميل اليها اغلب الفيزيائيين بما يعرف بالكون العبثي، او ان الكون يمكن ان يفسر ذاته بذاته دون حاجة لافتراضات خارجية او اسباب قبلية، فهو كون موجود فحسب، دفعاً لما يعرف بتسلسل برج السلاحف، ودفعاً لوجود سلحفة فائقة حاملة، اي دفعاً لكل من التسلسل اللانهائي والاصل الضروري، كما هناك الكون المتعدد اللانهائي ليفسر منه كوننا الحالي بمصادفاته العشوائية السعيدة، ويضاف اليه ما يعرف بالاكوان الدمى التمثيلية الملفقة او الحاسوبية، مثل نموذج تيرنغ ونموذج سوغاروا ونموذج تاوب نوت ونموذج كروسكا وغيرها، وهناك افتراضات حول وجود اكوان ملفقة لا نهائية، او ان هناك مزيجاً من الاكوان الملفقة وغير الملفقة دون ان يعرف من هي الحقيقية منها، وهل كوننا ملفق ضمن حاسوب ضخم ومشغل من كائنات اخرى اكثر رقي منا؟ فكل ذلك ما لا يمكن معرفته. بل ويعتقد البعض – مثل ماكس تيغمارك - بوجود كل العوالم الممكنة باي وصف كانت، فهي تحمل كل شيء وتفسر كل شيء - حتى ما يطرح حول الاكوان الملفقة غير المتناهية وقد يكون كوننا منها- دفعة واحدة مع انها لا تفسر شيئاً بهذا التعميم المطلق، مثلما انها تتجاوز الفارق بين الممكن والموجود بالفعل. كما هناك تخبطات كثيرة اخرى مطروحة حول مشكلة الالوهة وعلاقتها بنشاة الكون، وهي قد استدعت الفيزيائي ديفيز الى الاقرار بان النظريات المطروحة اما انها حمقاء او كونها ناقصة بشكل خطير. وينتهي ديفيز الى اعتبار ان مثل هذه التخمينات لا تحتاج الى نقاش لولا انها برزت من علماء مرموقين.

هل انتهت الفيزياء بنظرية كل شيء؟
لا شك ان النظام الثالث (التخميني) لا يشكل المجرى الرئيسي للعلم رغم انه آخذ بالاتساع حالياً. لكن هذا الاتساع في البحث الميتافيزيقي سيقضي على الامال والثقة التي يدلي بها الفيزيائيون بين فترة واخرى من الاقتراب من نهاية العلم الفيزيائي، وانه سيتم العثور على (نظرية كل شيء). فخلال القرن التاسع عشر اعتقد اغلب العلماء بان قوانين نيوتن قد فسرت بشكل نهائي كل ما يتعلق بالطبيعة الفيزيائية. ففي منتصف القرن التاسع عشر عبّر هلمهولتز بقوله: ‹‹نتوصل في النهاية الى ان اكتشاف ان مسألة علم الفيزياء تعود الى ارجاع كل الظواهر الطبيعية الى قوى تجاذب وتنافر لا متغيرة تتعلق شدتها بالمسافة فقط. ان حل هذه المسألة يقود الى فهم تام للطبيعة››. ثم تلى ذلك اعتقاد الفيزيائيين بان العلم قد بلغ غايته في نهايات القرن التاسع عشر، اذ اعتقد العلماء انهم قريبون الى توصيف كامل للكون، فتخيلوا ان الفضاء مملوء بوسط متصل هو الاثير، واشعة الضوء واشارات الراديو انما هي موجات في هذا الاثير، وكل ما احتاجوا اليه لصنع النظرية الكاملة هو القياسات الدقيقة للخواص المرنة للاثير. وفي هذه الفترة كان الشعور بان الفيزياء اصبحت علماً ميتاً او منتهياً، مثلما يذكر بخصوص بعض العلوم الاسلامية بانها اصبحت من العلوم المحترقة بعد نضجها واكتمالها، كعلم الفقه والحديث. ومما يذكر في تلك الفترة انه عندما دخل الشاب ماكس بلانك في جامعة ميونخ عام 1875 حاول استاذ الفيزياء فيليب جولي ان يثنيه عن دراسة العلوم مدعياً انه لم يبق فيها شيء يستحق الاكتشاف. كما تعرض ميليكان لنصيحة مماثلة اذ قال: ‹‹في عام 1894 كنت اسكن في الطابق الخامس من الشارع الرابع والستين، غربي برودوي، مع اربعة طلاب اخرين من كولومبيا، واحد في الطب والثلاثة الاخرين في علم الاجتماع والسياسة. كانوا كلهم يقرعونني باستمرار على انغماسي في شيء منته، نعم في موضوع ميت كالفيزياء، في حين ان حقلاً جديداً حياً في علم الاجتماع قد فتح ابوابه الان على مصراعيه››.
وبعد هذه الفترة تكررت المعزوفة في مطلع القرن العشرين، ومن ذلك ما توهمه كلفن الذي القى محاضرة عام 1900 امام الجمعية البريطانية لتقدم العلوم قال فيها: ‹‹لم يبق امامنا الان شيء جديد نكتشفه في الفيزياء. بقي علينا فقط ان نزيد في دقة القياسات››. وهو قبل ذلك بقليل كان يتصور بانه لا يرى سوى غمامتين سوداوين تعكران صفو السماء النيوتنية، هما الضوء والحرارة. ومثل ذلك كان مايكلسون يرى بان الفيزياء مشرفة على الاكتمال، ثم بعد ذلك توغل اكثر فاعتبر الفيزياء يمكنها ان تفسر الكيمياء، ففي عام 1912 توقع بان المستقبل القريب سيشهد اكتمالاً يضم الكيمياء والفيزياء على حد سواء.
وخلال هذه الفترة كان الاعتقاد السائد انه يمكن تفسير كل شيء عبر العلم بخواص استمرارية المادة كالمرونة والتوصيل الحراري. لكن اكتشاف التركيب الذري ومبدأ عدم الحتمية او اليقين قد وضع نهاية لذلك الاعتقاد. ومرة اخرى صرح الفيزيائي ماكس بورن لجماعة من زوار احدى الجامعات (عام 1928) بقوله: ‹‹ستنتهي الفيزياء التي نعرفها في خلال ستة اشهر››، وكانت هذه الثقة مبنية على اكتشافات ديراك للمعادلة التي تتحكم في الالكترون، وكان يعتقد بان معادلة شبيهة تتحكم في البروتون، وهو الجسيمة الثانية في الذرة في ذلك الوقت، لكن اكتشاف النيوترون والقوى النووية قد قضى على هذه الفكرة جملة وتفصيلاً.
ثم ان اينشتاين ومحاولاته للبحث عن قانون موحد للفيزياء يجمع فيه كلاً من القوتين الثقالة والكهرومغناطيسية تصب في هذا الاطار من البحث عن نهاية مكتملة للفيزياء، اذ لم يتخيل ان يكون هناك مجال لتعدد القوى والمبادئ في الطبيعة، بمعنى ان حسه الفيزيائي كان يصور له بأن الطبيعة لا بد وان تكون بسيطة ومقتصدة بحيث لا تحتمل اكثر من مبدأ واحد فقط رغم مظاهر التعدد والتكثر، وهو ما يعرف بنظرية المجال الموحد. وقد امضى ما يقارب ثلاثين سنة حتى وفاته وهو منشغل بهذا البحث النهائي دون نتيجة، رغم انه توضح فيما بعد ان اينشتاين كان يبحث في اطار ضيق، باعتباره لم يدخل في حساباته قوتين اخريين لم تكونا معروفتين ايام شبابه، وهما القوتان النوويتان الضعيفة والقوية، والتي تبين فيما بعد ان اي ادخال للقوة الثقالية معهما تفضي الى مشكلة ما يسمى باللانهائيات مع عدم القدرة على اعادة تطبيعها.
وفي منتصف الثمانينات وفي اوج ثورة الاوتار الفائقة الاولى كانت هناك امال عريضة بان الفيزيائيين سيفهمون نظرية الاوتار في فترة وجيزة وانهم سيكتشفون بانها النظرية النهائية الحتمية للكون. ولكن ذلك بدا ساذجاً فيما بعد، اذ ادت التوقعات غير الواقعية الى التراجع حيث لم تتفق النظرية مع جميع القضايا، واصيب الكثيرون من الباحثين بالاكتئاب، حتى ان البعض اقترح وقف اقامة المؤتمرات السنوية الخاصة بالاوتار، الى ان حلت سنة 1995 فظهر تجديد الامال بولادة ثورة الاوتار الفائقة الثانية.
وخلال هذه الفترة وبالتحديد عام 1992 وضع ستيفن واينبرغ كتابه الذي اطلق عليه عنواناً يشير الى ما نحن بصدده من البحث عن نظرية نهائية للفيزياء، وهو كتاب (احلام الفيزيائيين بالعثور على نظرية نهائية جامعة شاملة). واستهل هذا الكتاب بذكر اهدافه، فقال في الفقرة الاولى من مقدمته: ‹‹يروي هذا الكتاب قصة مغامرة فكرية عظيمة تهدف الى البحث عن القوانين النهائية للطبيعة. فمعظم الابحاث الحالية في فيزياء الطاقة العالية تستوحي مبرراتها من الحلم بالحصول على نظرية نهائية بهذا الصدد. ولئن كنا ما نزال نجهل الشكل الذي يمكن ان تتخذه القوانين النهائية، او عدد السنين التي سوف تنقضي قبل ان نعثر عليها، الا اننا نعتقد بوحي من النظريات التي نعرفها اليوم، اننا بدأنا ندرك ملامح اطار نظرية نهائية شاملة››.
كذلك فان ستيفن هوكنج - الذي نقلنا عنه بعضاً من هذه التفاؤلات الزائدة - يخبرنا هو الاخر بأنه على الرغم من كل ما ذكر ‹‹فان هناك اساساً لتفاؤل حذر بأننا نقترب من نهاية البحث عن القوانين النهائية للطبيعة››. وقبل ذلك قال هوكنج في خطابه بمناسبة تسنم كرسي الرياضيات في جامعة كمبردج: ان ‹‹نهاية الفيزياء النظرية اصبحت في مرمى البصر››، وذلك بموجب ما طرحته الثقالة الفائقة من امل عظيم. لكنه ادرك فيما بعد، كما في كتابه (الكون في قشرة جوز) بان الامور لا تجري بمثل هذه البساطة، فقال في مقدمة كتابه المذكور: ‹‹عندما نُشر (تاريخ موجز للزمان) لاول مرة في 1988، كان يبدو وقتها ان نظرية كل شيء النهائية تكاد تلوح لنا عند الافق. كيف تغير الموقف من وقتها.. سيصف هذا الكتاب كيف تقدمنا من وقتها لمسافة طويلة. الا ان الرحلة لا تزال تتواصل ولا تبدو نهايتها بعد للبصر.. على اني اعتقد انه لن يحدث قط اننا سنتوقف تماماً، سوف نزداد تركباً ان لم نزدد عمقاً، وسنكون دائماً محوراً لافق من الامكانات يظل يتزايد اتساعاً››. بل انه ذهب مؤخراً الى نقض ان تكون هناك نظرية موحدة لكل شيء بسبب مفارقة نظرية جودل الرياضية.

نظرية الاوتار كأمل لخاتمة الفيزياء
تتأسس نظرية الاوتار على فكرتين متصلتين، هما تكثر الابعاد الفضائية، وفكرة الاوتار. فحول تكثر الابعاد كانت جذور الفكرة تعود الى العشرينات من القرن الماضي على يد كالوزا وكلاين، اذ كان الرياضي كالوزا هو اول من ادخل فكرة الابعاد التي تزيد على اربع عام 1919، فاحتمل ابعاداً صغيرة جداً ملتفة على نفسها بشدة دون ان يكون هناك مجال للحاظها او الكشف عنها. وقد وجد كالوزا في معادلاته الرياضية انها ذات معادلات ماكسويل المستنبطة عام 1880 لوصف القوى الكهرومغناطيسية، لذلك قام بتوحيد نظرية اينشتاين وماكسويل للضوء. بمعنى ان هناك علاقة بين قوتي الثقالة والكهرومغناطيسية. فكل منهما يرتبط بتموجات نسيج الفضاء، فتموجات الجاذبية تحمل في الفضاء الثلاثي الابعاد، بينما تحمل تموجات الكهرومغناطيسية في البعد الجديد المتموج والمدمج. وقيل ان اينشتاين اعجب بنظرية كالوزا الخماسية الابعاد والتي قامت بتوحيد الجاذبية مع الكهرومغناطيسية، وكتب الاول الى الاخير عام 1919 ليخبره بانه لم يتخيل في حياته ان التوحيد بين النظريتين يمكن ان يتحقق من خلال عالم اسطواني ذي خمسة ابعاد، ثم اضاف: لقد اعجبتني فكرتك بشدة لاول وهلة. لكنه بعد اسبوع عاد وكتب اليه رسالة ثانية مشككة. ومن ثم بعد سنتين كتب اليه رسالة اخرى حول الموضوع.
ويلاحظ ان فكرة وجود ابعاد جديدة انما تستمد من قاعدة التمثيل، فمثلما ان الجاذبية محمولة في فضاء ثلاثي، لذا لم لا يكون المجال الكهروطيسي هو الاخر محمولاً في ابعاد اخرى اضافية غير مرئية؟ فهذه هي اصل فكرة الابعاد الاضافية، وهي فكرة قائمة على اساس قاعدة التمثيل.
هذا مع كالوزا وفكرة الابعاد الاضافية التي لها علاقة وثيقة بنظرية الاوتار. لكن جذور فكرة الاوتار كانت تعود الى اواخر الستينات، وبالتحديد الى اعمال الشاب فينيزيانو (عام 1968). وكان الكثير من الفيزيائيين يحاولون العثور على مغزى كثرة الهدرونات التي تظهر تباعاً في المصادمات العالية الطاقة من المسرعات الجسيمية، وكان الشيء المحير هو ان بعض الهدرونات لها فترة حياة قصيرة جداً من رتبة (10-23 ثانية)، وهو اقصر الجسيمات عمراً ويسمى بالرنين. فكان هذا الشاب يحاول فهم الخواص التجريبية المختلفة التي لاحظها للقوى النووية الشديدة، وكان يعمل كمساعد باحث في مختبر المسرعات الاوروبي بجنيف بسويسرا والمعروف بمختبر سيرن (CERN). واستمر لعدة سنوات من البحث فتوصل في يوم ما الى كشف عظيم، اذ بدا ان هناك معادلة رياضية صالحة لوصف خواص القوى الشديدة، لكن من دون معرفة احد لماذا هي كذلك؟ وقد وضعها الرياضي السويسري البارز ليونارد يولر لغرض رياضي بحت منذ حوالي مائتي سنة، واسمها معادلة بيتا الخاصة بيولر، وكانت معروفة للقلة. فمع ان فينيزيانو اقترح هذا النموذج من الاجراء الرياضي، لكنه كان يعتقد بانه يخلو من اي صورة فيزيائية. في حين اتضح فيما بعد بانه يحوي اوصاف حركة وتر كمومية. فكانت الصدفة التي بدأها هذا الشاب هي ما ادت في النهاية الى نظرية الاوتار. فاصبحت فكرة الاوتار وصفاً للقوة التي تمسك بالكواركات معاً على شاكلة الرباط المطاط، وكأن الكواركات مربوطة عند اطراف هذه الاوتار، فكلما زادت مسافته ازداد قوة وتوتراً. وفي سنة 1970 قام كل من نامبو ونيلسن وسوسكيند بالكشف عن فيزياء خفية غير معروفة في ذلك الوقت وراء معادلة يولر الرياضية التي استخدمها فينيزيانو لوصف القوى النووية الشديدة دون تفسير. وقد بين هؤلاء انه اذا وضعنا نموذجاً للجسيمة الاولية صغيراً مثل اوتار احادية البعد متذبذبة فان تداخلاتها النووية يمكن ان تصفها معادلة يولر الرياضية بدقة.
وبذلك انبثقت اول نظرية للاوتار، وكان يطلق على النواة الاولى للنظرية بنظرية الاوتار البوزونية. وتدل كلمة بوزونية على ان كل الانساق الاهتزازية للوتر البوزوني لها حركة مغزلية ذات رقم صحيح، ولا توجد انساق فيرميونية، اي لا توجد انساق ذات حركة مغزلية يختلف رقمها بمقدار 1-2 عن عدد صحيح. ويؤدي هذا الحال الى وجود مشكلتين: الاولى انه اذا كانت هذه النظرية تصف كل القوى وكل المادة فلا بد من ان تتضمن انساقاً اهتزازية فيرمونية ولها حركة سبين 1-2 ثانية. كما ان ما يدعو للحيرة هو التحقق من وجود نسق واحد للاهتزاز في هذه النظرية له كتلة سالبة سمي تاكيون.
لكن هاتين المشكلتين وجدتا حلاً مناسباً. فقد اكتشف شوارتز ونوفو نظرية وترية ثانية تحوي اوصاف الفرميون عام 1970. وفي عام 1971 نقح بيير راموند نظرية الاوتار البوزونية لتحتوي انساق اهتزاز فيرمونية. وعلى اثر هذه الابحاث وابحاث شوارتز ونوفو بدأت بالظهور نظرية للاوتار جديدة، اذ تبين ان انساق الاهتزاز تأتي في ازواج، فلكل نسق بوزوني هناك نسق فيرموني والعكس صحيح.
وفي نظرية الاوتار يتطلب ان يكون لها ابعاد اضافية اكثر من اربعة لتتماسك رياضياً. وفي البداية كان الافتراض بان الابعاد 26 بعداً ثم انخفض الى عشرة ابعاد عام 1971. فالابعاد الستة والعشرون موضوعة لتفسير البوزونات والفرميونات، فالفرميونات تظهر كذبذبات في عشرة ابعاد، في حين ان ثراء عالم البوزونات يتطلب تفسيره في ستة عشر بعداً والمجموع هو 26 بعداً. وفي الايام الاولى لنظرية الاوتار اكتشف الفيزيائيون ان حساباتهم تفضي الى احتمالات سلبية غير معقولة لانها تكون تحت الصفر وليس بين الصفر والواحد، الا انه تبين فيما بعد انه عندما تتذبذب الاوتار في تسعة ابعاد فضائية مستقلة فان كل الاحتمالات السالبة تتلاشى. لذلك اكدت النظرية على ضرورة ان يكن الكون ذا عشرة ابعاد؛ ستة منها مجعدة والوتر مغروز فيها. فبعد تطور الانفجار العظيم توارت الابعاد الستة لتعبر عن وجودها كخواص كامنة في الجسيمات والقوى، ومن علاماتها الكهرومغناطيسية والنشاط الشعاعي، خلافاً للجاذبية التي بقت الوحيدة المصاحبة لهندسة الزمكان، رغم ان جميع القوى والجسيمات هي ذات اصل هندسي.
ويرى غرين ان الكلام عن نظرية تعمل في عشرة ابعاد او اربعة ابعاد هو كلام تقريبي في واقع بنية عدد ابعادها لا نهائي.
لكن لم يمض وقت طويل قبل سقوط الوصف الوتري للقوى النووية الشديدة. ففي حوالي 1974 حصل تطوير للكهرموديناميك الكمومي وتوقف الاهتمام بالنظرية الوترية كنموذج للهدرونات. اذ كانت هناك محاولة لتطوير النظرية الوترية وتطبيقها على الثقالة كالذي قام به شوارتز وتشيرك.
وكان من ضمن مشاكل الاوتار القديمة هو ان هناك جسيمات اضافية تشبه المرسال تتضمنها مع انه لا يبدو ان لها علاقة بالقوة الشديدة. لكن في عام 1974 قام شوارتز وتشيرك بخطوة جريئة حولت هذه النقيصة الى فضيلة. فبعد دراسة النسق المحير شبيه المرسال لتردد الوتر ايقنوا ان خواصها تتفق تماماً مع الجسيمات المراسلة المفترضة للجاذبية – اي الجرافيتون -. وقد اكتشف هذان العالمان ان هذه الصفات تتحقق بالضبط بواسطة انساق اهتزازية معينة. لذا اعلنوا بان نظرية الاوتار ليست مجرد نظرية للقوى الشديدة ولكنها نظرية كم تتضمن الجاذبية ايضاً. ولكثرة المحاولات الفاشلة في ربط الجاذبية بالكوانتم فقد اهملت هذه النظرية ايضاً. واستمر الحال حتى عام 1984.
فبحلول 1977 وضعت بصيرة غليوتسي هذا الترافق والتزاوج على الطريق الصحيح فتضمنت النظرية الجديدة للاوتار التناظر الفائق والازدواج الملحوظ السابق بين الانساق الاهتزازية البوزونية والفرميونية. وبهذا ولدت نظرية الاوتار الفائقة التناظر. وقد بينت ابحاث غليوتسي وتشيرك واوليف ان اهتزازات التاكيون المزعجة للاوتار البوزونية لا تضر بالاوتار الفائقة.
تبقى المشكلة الاساسية في نظرية الاوتار وهي انها تحمل نظريات عديدة، فهي تتضمن خمس صور مختلفة، وقد كان ويتن يحاول ان يرد هذه الصور الخمسة المختلفة الى نظرية واحدة اساسية اطلق عليها مؤقتاً نظرية (M). اما المشكلة الاخرى فهي ان لها حلولاً رياضية كثيرة، ولا يعرف لحد الان اي صيغة تتلائم مع الواقع الموضوعي. وبالتالي ما بدا للفيزيائيين ان نظرية الاوتار هي نظرية كل شيء فان الحقيقة تبدي انها لم تقدم شيئاً يمكن فيه اختبارها لحد الان. بل ظهرت الاف النظريات للاوتار والاغشية المحتملة، ولهول القضية فقد كان الفيزيائي آندي آلبخت يقول مرة وهو غاضب: ‹‹ان نظرية الاوتار ليست نظرية كل شيء، بل هي نظرية اي شيء››. كما عبّر ميشو كاكاو وهو احد منظري هذه النظرية عن قلقه بقوله: ‹‹اذا كانت نظرية الاوتار نفسها خاطئة فان ملايين الساعات والاف الاوراق ومثات المؤتمرات وعدداً من الكتب ستذهب سدى. وما املنا منه ان يكون نظرية لكلشيء سيتحول الى نظرية للاشيء››.
وعموماً تتضمن نظرية الاوتار العديد من الافتراضات الميتافيزيقية المختلف حولها بين العلماء، كتلك المتعلقة بعدد الاوتار.

الفيزياء وعودة الفلسفة
لكن على خلاف هذه الامال والتكهنات يمكننا القول بان النظام الثالث، الذي عمل على الخلط بين العلم والميتافيزيقا، سوف لا يجعل الفيزياء تصل الى نهاية محتومة. فكل نهاية تسبقها بداية لبحث اخر، وهكذا.. والدليل على ذلك انه لو تم معرفة قوانين الفيزياء التي تتحكم في الكون منذ الانفجار العظيم فان ذلك سيستدعي البحث عن القوانين او الحالة التي كان عليها الكون قبل الانفجار، رغم ان البعض تحدّث عن هذا الحال فعلاً كما رأينا، وكأنه تحدث عن حال قبل اوانه. ومثل هذا الامر في ما يتعلق باكتشاف الجسيمات الاساسية، فكل اكتشاف سيجر الى البحث عما ورائه، وهكذا.. فكان من بين الاسئلة المطروحة التي لا تجد حلاً لماذا كان هناك وجود للكون اصلاً؟ ولماذا كان بهذا الشكل دون اخر ممكن؟
وعليه فالعديد من الفيزيائيين ينتقدون اطروحة نظرية كل شيء من وجهة نظر فلسفية، ومنهم الفيزيائي جون بارو، اذ اعتبر هذه النظرية ‹‹بعيدة عن ان تكون كافية للكشف عن غوامض كون مثل كوننا.. اذ لا توجد معادلة تستطيع ان تقدم كل الحقيقة وكل انسجام وكل بساطة، فلن تستطيع نظرية لكل شيء ان تقدم بصيرة اجمالية ابداً، لان ان نرى من خلال كل شيء سيجعلنا نرى لا شيء على الاطلاق››.
وسبق للفيلسوف الفرنسي باشلار ان اعتبر المفاهيم العلمية في ضوء تاريخيتها، فالمعرفة العلمية لم ولن تكتمل او تصل الى حالة نهائية. اذ ان المعرفة لديه هي تصحيح لا ينقطع في مواجهة العقل للواقع، فبهذا الاطار تتكون المفاهيم العلمية.
لقد كانت الفلسفة تشكل أم العلوم قديماً، وأصبحت اليوم ليست فقط أساساً للعلوم، بل أنها تعيد أنفاسها من جديد عبر علم الفيزياء الذي وصل إلى حد الإعتراف بأنه يحمل نظريات غير قابلة للتحقيق فضلاً عن التفنيد، فيكفي للفكرة أن تُطرح دون صدام مع قوانين الفيزياء المعروفة ولو لم يكن عليها دليل. إذ ظهرت نظريات فيزيائية كثيرة لا تحمل الطابع الميتافيزيقي فحسب، بل هي أشبه بالأساطير الدينية.
لكن لا يعني ذلك تساوي التفكيرين العلمي والفلسفي في هذا المجال، فشرط النظام الميتافيزيقي للعلماء هو انه قائم على الاعتبارات العلمية وليس بديلاً او منفصلاً عنها. فبعد استغراق العلماء الطويل والعميق في العلم اصبحوا على مشارف البحث الفلسفي، ولم يكن بالامكان التوقف او تجاهل ذلك، طالما ان الاسئلة الكونية ترد على الدوام، الامر الذي تحتاج فيه الى شيء من الاجابة، ولو على نحو التخمين والحدس المسبوق بالنظر العلمي الطبيعي.
للبحث صلة..



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظم العلم والهرمنوطيقا (2)
- نظم العلم والهرمنوطيقا (1)
- الدليل الصناعي وأساليب العلم والوجدان
- ثلاث بنى عقلية منتجة: المثقف العلماني والديني والفقيه
- الفضاء الكوني والعلم المعاصر
- نظرية التجاوز المذهبي
- الفلسفة اليونانية والمصادر القديمة
- الإتجاهات الحديثة وتوظيف الواقع للفهم الديني
- أزمة الإجتهاد الشيعي
- الدليل الاستقرائي عند المفكر الصدر (قراءة نقدية)
- المعنى ومشكلة اللغة
- العرفاء والتنزلات الالهية للوجود
- جواب على سؤال مطروح
- المصلحة ودورها في التشريع
- الواقع وضبط الفتوى
- نظرية الطوفي والفكر الإمامي
- مقارنة بين علم الكلام والفقه
- القراءة الوجودية للنص والفهم السائب
- العقل والإجتهاد
- فهم النص ومعايير التحقيق (5)


المزيد.....




- -انتهاك صارخ للعمل الإنساني-.. تشييع 7 مُسعفين لبنانيين قضوا ...
- لماذا كان تسوس الأسنان -نادرا- بين البشر قبل آلاف السنوات؟
- ملك بريطانيا يغيب عن قداس خميس العهد، ويدعو لمد -يد الصداقة- ...
- أجريت لمدة 85 عاما - دراسة لهارفارد تكشف أهم أسباب الحياة ال ...
- سائحة إنجليزية تعود إلى مصر تقديرا لسائق حنطور أثار إعجابها ...
- مصر.. 5 حرائق ضخمة في مارس فهل ثمة رابط بينها؟.. جدل في مو ...
- مليار وجبة تُهدر يوميا في أنحاء العالم فأي الدول تكافح هذه ا ...
- علاء مبارك يهاجم كوشنر:- فاكر مصر أرض أبوه-
- إصابات في اقتحام قوات الاحتلال بلدات بالضفة الغربية
- مصافي عدن.. تعطيل متعمد لصالح مافيا المشتقات النفطية


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - نظم العلم والهرمنوطيقا (3)